الدرس الفلسفي والربيع العربي.( من يوميات مدرس مادة الفلسفة 2012)

التصنيف


الدرس الفلسفي والربيع العربي.

( من يوميات مدرس مادة الفلسفة 2012)


مَنْ مِنّا يستطيع أن ينكر مدى تأثير ما يجري من تحولات سياسية – وطنية وعربية -على مسار الدرس الفلسفي للدورة الثانية بالخصوص؟ بحجة أن مجزوءة السياسة تجعل التلميذ يبحث في ثنايا أطروحات الفلاسفة عن أجوبة لإشكالات تنبُع من صدى أحداثٍ لم يعُدْ من المقبول تجاهُلها لِما تفرضه من أسئلة يحملها جلّ التلاميذ إلى حوزة الفصل باحثين لها عن أجوبة، بعد أن أعيتهم مُفارقاتُ السياسيين ومُزايدات النّخب بمُختلف مشاربها السياسية والمذهبية ناهيك عن المواقف المتضاربة للأحزاب كلّ حسبَ ما تُشكّله له هذه الأحداث من غنيمة أو كساد. هذا الحِراك مبسوط في المواقع الاجتماعية التي أضحت جزءا من هوية غالبية التلاميذ، من منطلق أن واقع " الشات " مع مُختلف الجنسين هيمنت عليه راهينة الأحداث الثورية لكثير من البلاد العربية، لكن في حصة الفلسفة يجد التلميذ نفسه في مواجهةٍ مُباشرةٍ مع مُدرّسه ومع مواقفَ فلسفيةٍ وكأنها تفكير" مُباشر" في ما يجري في المغرب وبقية البلدان العربية التي تعرف حِراكا نحو التغيير إمّا بمطلب إصلاحي ( تعديل الدستور ) أو مطلب التغيير الجذري ( نُريد تغيير النظام ).هذا لا يعني أن مدرسَ الفلسفة غير واعٍ بهذا القلق الوجودي لدى التلاميذ، قلق الذات من مطلبِ فهم ما يجري، وقلق مدى إمكانية المُشاركة في هذا الحِراكِ الاجتماعي بدعوةٍ من حركة شبابية هو مُعنيٌّ بها في نهاية المطاف،لأنها تشتعل بالقرب منه، ويصل إليه صداها إمّا وهو مُنسحب فكريا حين يتفرّج على عويل المُحتجين تحت ضربات أجهزة الأمن، ولا يُعير الاهتمام للشعار:" أيّها الواقفون كُلّكم معنيون"،أو هو منسحب إلى  منزله،غير عابئ بما يجري، ومع ذلك يحمل في داخله أسئلة المايحدثُ لأن هذا المايحدث يُطارده في كل القنوات التلفزية وأحاديث المقاهي وتعليقات أصدقاء الحومة في زاوية من " الدريبة"، والأهم يُطارده داخل الفصل الدراسي من خلال إستفزازت بعض نصوص المفكرون، بحيث يجد التلميذ نفسه مُجبرا على "إسقاط "الحراك الاجتماعي العربي على فهمه للنصوص الفلسفية.
من بين مؤشرات استفزاز الوعي السياسي الأوّلي للتلميذ ، كون درس الفلسفة يعمل على رصد العديد من المفارقات المتعلقة بالممارسة السياسية للدولة ومن ثمة إمكانية إسقاط التلميذ لهذه المفارقات على ما يجري في الواقع.وبالفعل نجد توتّرا بين المعيار من وجود الدولة ومُمارستها الفعلية ( المقصود هنا في السياق الجمع بين الحق والعدالة من جهة والعنف من جهة ثانية). هذا التوتر هو الذي يدفع التلميذ إلى طرح المزيد من الأسئلة على ما يجري في الواقع.وكثير من تلامذتي كانوا يتساءلون : هل واقع التعاقد نسبي أم مُطلق؟ لماذا في كل مرّة نتعاقد من داخل التعاقد على تعاقد جديد؟ عادة ما نتحدث عن تعاقد نقل الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع المُنظم في مؤسسة الدولة وانتهى الأمر!!!.مع العلم أن التعاقد آلية مُستمرة كلّما دعت الضرورة إليه ولو من داخل تعاقد سابق،بسبب تطورات ومُستجدات نوعية تستدعي تجديد التعاقد..وهكذا دواليك وهذا ما يُجسّده مطلب تعديل الدستور أو تغييره.


بالمقابل، يطمح التلميذ إلى معرفة الموقف السياسي لمدرس الفلسفة من ما يجري.مثلا ،كثير من تلامذتي سألوني عن رأيي الشخصي في الخطاب الملكي لتاسع مارس، عن موفقي من حركة 20 فبراير.بل الكشف عن  انتمائي السياسي.ترجع هذه الأسئلة إلى  مُقاربتين لنصين ضمن محور العنف في التاريخ والعنف والمشروعية.النص الأول للمفكر الماركسي إنجلز، والنص الثاني للفيلسوف كانط. وكلا الموقفين أثارا في التلاميذ الرغبة في إسقاط موقفيهما على ما يجري في المغرب، وبقية الدول العربية التي تعرف ثورات سلمية وأخرى عُنفية.
في إطار إشكالية رصد أسباب قيام العنف تاريخيا، دافعت الماركسية عن كون أصل العنف في التاريخ مُرتبط بالعامل الاقتصادي، بمعنى ، أن الأنظمة الاجتماعية الطبقية التي ظهرت بعد المشاعة البدائية (وهي تنظيم اجتماعي لاطبقي انتفى فيه الاستغلال بسبب الملكية المُشتركة)، هذه الأنظمة الطبقية هي التي عرفت العنف بسبب الملكية الخاصة، نقصد :أنماط الإنتاج العبودي، والإقطاعي والرأسمالي) ...السؤال ما هو الحل للقضاء على العنف المُرتبط بهذه الأنظمة الطبقية؟ يبدو أن الجواب مُتضمن في السؤال، وهو ما سيستفز التلميذ ويجعله يُسقطه على ما يجري حاليا. يكمن الجواب الماركسي في القضاء على المِلْكية الخاصة، بإحلال الملكية الجماعية كمرحلة أولى في مجتمع اشتراكي مرحلي في أفق القضاء النهائي على الطبقات في المجتمع الشيوعي، بل والقضاء على الدولة نفسها لأن كل دولة هي دولة الطبقات الحاكمة، قياسا على أن الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة... والمصيدة تكمن في التموقع دون

إرادة واعية للتلاميذ  في أحد الاختيارات السياسية المطروحة على الساحة. لنفهم القصد من لحظة بناء جزء من الدرس وعلاقته بتمثلات التلاميذ اليومية ولما يجري على الساحة السياسية، وظّفتُ قولتين لإنجلز، وبالمناسبة وظُفتهما منذ سنة 2007، أي مع أول تجربة المقرر الحالي.وهذا مُثبت في دروسي المنشورة بالمنتدى.لكن إعادة تحيينها في هذا الظرف تحمل حمولة أكثر إثارة منها في سنة 2007.يقول لإنجلز في كتابه " ضد دوهرينج:" إن المخرج الوحيد والممكن للكادحين هو تبديل النظام الاجتماعي الرأسمالي ثوريا عن طريق قلب الرأسمالية بصورة ثورية." من خلال التفسير أُظهر أن إنجلز يتحدث عن ديكتاتورية البرولياتريا ، لأن عُنفها مرحلي وضروري لإزالة عنف الطبقة البرجوازية والمتمثل في الاشستغلال الاقتصادي للطبقة الكادحة...هنا يتدخل بعض التلاميذ  مُتسائلا:هل هذا يجوز ضد الطبقة البرجوازية " الفاسية " بحيثُ رُفعت شعارات في مسيرات 20 فبراير تُطالب بإزاحة العائلة الفاسية من السلطة .لكن السؤال الذي فاجأني تعلق بموقف الملك من هذه العائلة الفاسية، لماذا تستمر في السلطة بالرغم من كل ما يُشاع عنها؟!!! عندها أحسستُ بأن الأطروحة الماركسية قلبت عليّ الطاولة وتمنّيتُ لو لم أطرحها للتحليل، إلا أنني فضّلتُ الاشتغال على النص كما في الكتاب المدرسي"الرحاب " ص 149، وأشفقتُ على مدرس فلسفة اشتغل هو الآخرعلى نص ماركس " الصراع هو محرك التاريخ" في الكتاب المدرسي " مباهج الفلسفة ص 145، لكن الزملاء الذين يشتغلون على الكتاب المدرسي " منار الفلسفة "كان حظهم أوفر لأن لجنة التأليف لم تستشهد بالموقف الماركسي الثوري، وارتأت الاشتغال على كل من :هوبز وتولرا وفارنييه ثم جيدنر.هذا لايعني إمكانية اختيار الأطروحة الماركسية بدلا من أطروحة جيدنز التي تتحدث عن العنف الذكوري ضد المرأة حصريا، مع أن هذا العنف الذكوري بالنسبة للماركسية لا يرجع إلى الرجل كرجل[ بل إلى العلاقات الاجتماعية التي ترجع بدورها إلى نمط الإنتاج...
المؤشر الثاني على استفزاز تمثلات التلاميذ لما يجري ، والتي من الصعب التحكّم فيها بسبب قوّة ما يجري من فضائع في حق المُتظاهرين، هو نص " كانط " في محور "العنف والمشروعية"، والنص من كتاب الرحاب ص 151. يقول كانط:" كل مُعارضة للسلطة التشريعية العليا، وكل تمرّد للرعية بغرض التعبير عن غضبها، وكل عصيان يُعتبر، في الحكم الجمهوري، جريمة خطيرة، ينبغي إدانتها، لآنها تُهدّم
أسس الحكم ذاته." والحل الذي يقترحه كانط يتمثل في :" إن من يحسم هو من يملك الإدارة العليا للعدالة، وهو بالضبط رئيس الدولة، فهو وحده يستطيع القيام بذلك، وبالتالي فلا أحد في الجمهورية يملك حق الاعتراض على هذه المِلكية" يبدو أن هذا الموقف مخالف تماما للموقف الماركسي،وهذا شي طبيعي ، بل هو جزء من طبيعة الدرس الفلسفي: الأطروحة والأطروحة المضادة. لكن هذا التضاد هذه المرة له خصوصية فريدة تختلف مثلا عن التضاد بين إمكانية معرفة الغير أو استحالة معرفته... فالظرف حاليا جدّ حسّاس والتلميذ أصبح معني به من خلال دعوته في المشاركة الميدانية من أجل الإصلاح أو الاحتجاج ، وهو يعيش هذه العملية نظريا في حصة درس الفلسفة.إن مشروعية العنف عند الماركسية والمتمثل في ديكتاتورية البروليتاريا ضد استغلال البروجوازية كحل جذري لأزمة العنف،هو ما يرفضه كانط، أي رفضه ممارسة العنف من قبل الأفراد ضد الدولة ( دون الدخول حاليا في مُلابسات مفهوم الدولة عند كلا المُفكّرين وهو ما نناقشه مع التلاميذ مع الأسبقية التاريخية لكانط على إنجلز)، سيكون لها انعكاس مزدوج:قد يتعاطف من التلاميذ من لهم ميول يسارية بسبب كونها هي مرجعية الأسرة أو غيرها،مع الطرح الماركسي- وهذا مجرد افتراض-، وقد يتعاطف من التلاميذ مع كانط من له ميول يمينية أو وسطية، لنفس السبب أعلاه(مع أنه لا يُمكن إسقاط اليمينية واليسارية على كانط،، والإشكالية التي يُناقشها لا علاقة لها بما يجري في العالم العربي بالرغم من موقف كانط من الثورة الفرنسية، لأن " الدولة" العربية الحالية بعيدة عن الحكم الجمهوري الذي يتحدث عنه كانط، وهي في حقيقتها كما وصفها عبد الله العروي:تنظيم قبلي استبدادي لا يرقي إلى مفهوم الدولة إلا شكلا، وكثيرا ما يسألني التلاميذ هل الدولة برئاسة القذافي دولة؟ ما الفرق بين الدولة والجماهيرية؟!!!، ولكن تمثلات التلاميذ هي التي تجعل الفيلسوف يساري أو يميني من خلال اصطفاف المحللين السياسيين الذي يُشاهدهم على التلفاز.فقوّة الأحداث الراهنة هي التي تفرض على التلاميذ مثل هذه التأويلات وعلينا نحن المدرسين الانتباه لمثل هذه الانزلاقات والحسم فيها في الفصل من خلال التمييز بين مجال الفلسفة السياسية ومجال العلوم السياسية ) بحجة أنه يوجد في الساحة الفيسبوكية دعاة للتغيير ودعاة الاستقرار،وأكيد أن الفئة الأخيرة هم من شباب الأحزاب اليمينية المشكلة للأغلبية الحكومية، وطبعا من حقهم الدفاع عن الوضع القائم لأنه في صالحهم.
وسيجدون في موقف كانط ما يُدعّم موقفهم السياسي.يقول إسماعيل المصدق من خلال تأملاته حول فكرة السلم الدائم عند كانط:" يُراهن كانط على التغيير السلمي من خلال مُسلسل إصلاحي تدريجي. فتغيير الدولة الذي يكون أحيانا ضروريا ، لا يُمكن أن يُباشر إلاّ من طرف الحاكم عن طريق الإصلاح ، لا من طرف الشعب عن طريق الثورة."(مجلة مدارات فلسفية.ع 10.ص 33)
والحالة هذه لا يمكن لمدرس الفلسفة أن يمنع تأويلات التلاميذ، وهم يُفكّرون في موقف كل من إنجلز وكانط ،من أن تُسقط على ما يجري في العالم العربي، وإلا سيُصبح مدرس الفلسفة كمن يُقدّم أوهاما لتلامذته،لكن بالمقابل يتم توجيه هذه التمثلات وفق مسار الأشكلة التي تمّ التعاقد عليها، بالعلاقة مع الكفايات التي تمّ تسطيرها  في أفق ربط الدرس الفلسفي بالواقع المعيشي للتلاميذ. شخصيا سطّرتٌ مجموعة من الكفايات منها ما هو ُمستقى من المنهاج من مثل:" تعديل الاتجاهات والسلوكات الفردية بالشكل الذي يجعلها مُواكبة للتطورات الحاصلة في مُختلف الميادين والمجالات.(التوجيهات ص 4 )
أو من قبيل:" إقامة الذات لعلاقة إيجابية مع الآخر أساسها الاحترام المُتبادل والتسامح والتضامن والحوار واحترام الاختلاف والحفاظ على الكرامة."
بالمحصلة هذه مجرّد يومية من يوميات مدرس مادة الفلسفة ،بالعلاقة مع ما يجري في محيط هذا الدرس. فهل يُمكن لغيري أن يحكيَ عن إحدى يومياته؟هكذا نكون بفتح حدائقنا الخلفية نبوح بما يعتصر فكرنا من مُفارقات وإحراجات علينا أن نعرضها للعموم في أفق إنصاف الدرس الفلسفي والاعتراف بما يُعانيه مدرسي الفلسفة في صمت. فتحية إلى كلّ مدرسي الفلسفة وخاصة الجدد، أمّا أمثالي فأقول: لقد هرمنا ، وأتمنى من شباب الفلسفة أن يُحقق ما عجزنا عن تحقيقه وسنكون لهم من الشاكرين.


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: