هل هناك فـلاسـفة عـرب معاصرون؟ برهان شاوي

التصنيف





هل هناك فـلاسـفة عـرب معاصرون؟

 نص الملف الذي نشرته إيلاف في موقعها القديم في كانون الثاني 2004،


 بُـرهـان شـاوي

الحلقة الرابعة.

* لدينا كليات للفلسفة، ولدينا باحثون في الفكر الفلسفي، ولدينا شراح نصوص ومؤرخون، لكـن أين مشـرعـنا الفلسـفي؟
* هل صـار عرض فلسفات الآخرين، والتعليق على نصوصهم، هو فلسفتنا؟
* كم كتابا في الفلسفة يصدر عن دور النشر العربية سنويا؟
* لماذا يؤرخ عبد الرحمن بدوي لنفسه فقط في الموسوعة الفلسفية، وهل ننتظر مفاجئات في الانتاج الفلسفي من العراق بعد سقوط الحكم الدموي فيه؟

* هـل الواقــع العربي المعاصـر معـاد للفلسفة ولإعمال الفكـر بشكل عام؟

 قـد يبدو غريبا أن نحـاول هنـا مناقشـة قضية شـائكة وعميقة، كانت، ولاتزال،ابعد ما تكون عن وسـائل الاعـلام العربيـة، بكل أشكالها المقروئة والمسموعة والمكتوبة. قضية كان تراثنا القديم يطلق عليها لفظ (الحكـــمة)، وأسس لها علوما سميت (علوم الحكمــة) رغم أن بعضهم أطلق عليها أنذاك ايضا نفس الاسم الذي يطلق عليها اليوم في في الفكر المعاصر، ونقـصد هنــا (الفلســـفة)!!.
للفـلسـفـة في جامعاتنا العربية، وفي جامعات العالم العريقة، كليات وأساتذة مختصصون، حيث تُدرس على مدى أربع او خمس سنوات، كما تُمنح فيها الشهادات الجامعية والشهادات العليا، بل ان أعلى شهادة الدكتوراه في مجال الدراسات الانسانية تمنح تحت لقب(دكتورفلسفة)، ثم يعلن عن مجال التخصص الدراسي والأكاديمي!!. لكن الفلسفة ليست مهنة أو حرفة، أو وظيفـة إدارية، أوإجتماعية، فلماذا تُدرس إذن؟ وهـل هناك وظيفة لفيلسوف؟ بل وهل هناك مهنة أسمها: التفلسف؟ ثم، أكل من درس الفلسفة وتخرج من كلية الفلسفة هو فيلسوف بالضرورة؟ وهل ان دراسة الفلسفة هي حكر على الجامعات؟
من الواضح، من عنوان المقال، اننا لا نريد هنا أن نخوض في حوار حول تراثنا الفلسفي،  لنرد على طروحات البعض الذين ينفون وجود فلسفة عربية إسلامية، من حيث ان مؤلفات  الكندي، والرازي، والفارابي، وان سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، والطوسي، وصدر الدين الشيرازي، والطباطبائي، وغيرهم، خير شاهد على حضور هذه الفلسفة، حتى وان كانت  أسئلتها غير صافية فلسفيا، من وجهة النظر الفلسفية المعاصرة، إذ كان السؤال الفلسفي فيها يتداخل مع المنطق من جهة ومع اللاهوت من جهة اخرى، لكننـا نسعى هنا الى ان نقرب الفلسفة من الواقع العربي المعاصر، من خلال تفحص السؤال التالي: لقد كانت لدينا فلسفة عربية إسلامية،( سواء كان هؤلاء الفلاسفة عربا ام من الأعاجم، فالبلاد كانت بلاد الاسلام، فالاسلام كان هو الهوية، وليست القومية، كما هو الحال اليوم..!!) فهل لدينا اليوم فلسفة عربية إسلامية؟ أو بدقة أكبر: هل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟ رغم ان غير المسلمين من العرب، والذين يعشيون في البلاد العربية مع العرب المسلمين، لا يمكنهم الخروج بسهولة من فضاء  الاسلام، إذا ما اعتكفوا على السؤال الفلسفي، أو غيره من أسئلة الفكر!!
 فيما يخص الشعوب الاسلامية غير العربية مثل الايرانيين والهنود والبنغال، والباكستان، و شعوب أقاصي آسيا المسلمة، يمكن الأجابة على هذا السؤال بنعم، إذ لديهم فلاسفة ومتفلسفون، ونتاج فلسفي مرموق. فحسب علمي ان مؤلفات الفلاسفة الايرانيين المعاصرون امثال (داريوش شايغان) و(سروش) و(مطهري) و(حسين الطباطبائي) والبنغالي الهندي (محمد اسد) تدرس في بعض الجامعات الاوربية والآميركية،لا سيما في أقسام الإستشراق، وما كشفه المفكر الالماني (يورغن هابرماس) في الاعلام الالماني، واثار ضجة في الاوساط الفكرية الألمانية والاوربية، عندما تحدث عن حواراته مع المفكرين الشباب المعممين في ايران، واتجاهات الفكر الاسلامي. هناك، بغض النظرعن تقييمه الشخصي لها، تؤكد وجود تاسيس فلسفي واثق الخطى هناك.!!  وكدلك تحدثت مرارا، بل وكتبت المستشرقة الألمانية الراحلة (آناماري شيميل) مرات عديدة عن مثل هذا النشاط في اللغات التركية والأوردية والبنغالية التي كانت تجيدها،( بينما نتعالى نحن على هذه اللغات ونلهث وراء اللغات الاوربية فقط؟ مجسدين بكل وضوح عقدة النقص فينا امام الفكر الاوربي، رغم اننا لو نظرنا، وامعنا النظر، وبحثنا قليلا في الثقافات الاسلامية الشرقية،لازدادت حدة هذه العقدة!!)، لكن السؤال المهم هنا هو: هل لدينا، نحن في البلدان العربية، مسلمين ومسيحيين، فلسفة عربية، وهل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟
 صحيح ان لدينا كليات للفلسفة في معظم جامعاتنا، الا أن معظم دراساتنا وبحوثنا، ومعظم الاسماء التي كتبت، ولازالت تكتب، في مجال الفلسفة، سواء من داخل الحرم الجامعي أو من خارجه، تشرح النصوص الفلسفة، وتبين إتجاهات الفكر الفلسفي، وتؤرخ لفلسفات الاخرين، وتبحث فيها، لكن دون أن تطرح هي مشروعها الفلسفي، ودون ان تنتج فكرا فلسفيا خاصا بها، او تؤسس مقدمات نظرية فلسفية، سواء في رحاب الفلسفة الاسلامية السابقة، او على أعتاب الأسئلة الفلسفية التي أنجزها الفلاسفة الغربيون!! فهل صار الاشتغال على تاريخ الفلسفة هو الفلسفة؟
 ربما سيجيب البعض بنعم، أي ان الاشتغال على تاريخ الفلسفة صار جزءا من الفلسفة والعمل الفلسفي، وربما سيجيب آخرون بانه منذ( ماركس)، الذي اعلن في رده على(فويرباخ) بان الفلاسفة سابقا إكتفوا بتفسير العالم بينما المهم هو تغيره، تحولت الفلسفة الى وسيلة فكرية جبارة للتغيير الاجتماعي والتاريخي، ونزلت من عليائها الى أرض الواقع الانساني المرعب. وبالتالي صار الأعتكاف على السؤال الفلسفي الوجودي والكوني يفهم كشكل من الترف الذهني، ولأُتهم صاحبه بالنزوع البرجوازي الصغير، وبانه دليل على أزمة الفكر البرجوازي في العالم  الراسمالي في صراعه مع الماركسية، آيديولوجية الطبقة العاملة. رغم ان فجاجة هذا الطرح إختفت منذ الانهيار المذهل للاتحاد السوفياتي، الذي كان حامل لواء الماركسية الللينينية، والذي  قدم بسقوطه خدمة جليلة للفلسفة الماركسية، وذلك برفع الوصايا الأبوية والعقائدية عنها من جهة، وفتح الأفاق أمام المفكرين في روسيا وبلدان الطوق الاشتراكي سابقا ان يعيدو طرح الاسئلة الفلسفية القديمة والجديدة التي توقفت منذ هيمنة الحزب الواحد على السلطة، وصار رقيبا  ووصيا على الفكر الحر، كما حرر المفكرين الاوربيين من عقدة التطبيق الفج للحلم اليوتوبي بالخلاص ومن تحمل آثام القمع الفكري والسياسي في البلدان التي حكمها الشيوعيون،.  وربما من المفيد هنا ان نذكر، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، بانه كانت في روسيا وحدها قبل الثورة الاشتراكية تيارات فلسفية مهمة، كانت تمزج بين الفلسفات الاوربية والروح الشرقية، وكان هناك فلاسفة مرموقون امثال: سولوفيوف، ستراخوف، دانيليفسكي، ليونتف، رزانوف، شيستوف، برديايف، وغيرهم!
وعودة للدرس الاكاديمي الجامعي للفلسفة، تُرى ماهو شعور الطلبة الذين يدرسونها لسنوات ثم يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، يبحثون عن أية وظيفة فلايجدون، بل نجد ان دراستهم تصير أحيانا بابا للتندر عليهم كان يقولون: جاء الفيلسوف، وذهب الفيلسوف، وقال الفيلسوف.
 ولو بقينا في الحرم الجامعي وواصلنا الأسئلة: تُرى أين هي مؤلفات وكتب هؤلاء الاساتذة والعاملين في مجال الفلسفة؟ اين مجلاتهم الفلسفية؟ أين مؤتمراتهم الفكرية؟ ولو خرجنا من  الجامعة وواصلنا الأسئلة، لكن في نفس المجال،: تُرى كم كتابا في الفلسفة ينشر سنويا؟ وما هي عدد النسخ عن الطبع؟ ومن يقرأه هذه الكتب؟
 إننا كلما توغلنا في الأسئلة سنجد انفسنا أمام السؤال الفلسفي نفسه: تُرى اين هي حدود الفلسفة؟ وما هي علاقتها بواقعنا السياسي الرسمي المباشر؟ واين هي من حياة الناس اليومية؟  ولو تجرأنا أكثر لنبش مثل هذه الأسئلة لما ترددنا في السؤال: أين أختفت ياتُرى الحركة الفكرية الفلسفية التي بدأت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في القاهرة، وبيروت والمغرب العربي؟ لماذا توقفت حركة ترجمة للتراث الفلسفي العالمي الى العربية؟ ولماذا إختفت الاسماء العديدة التي إنهمكت في الفكر الفلسفي ترجمة وشرحا وتعليقا؟ ولماذا يؤرخ  المرحوم (عبد الرحمن بدوي) بشكل موسع، في (الموسوعة الفلسفية)، لنفسه فقط؟ أتُرى هل يستطيع ( مطاع صفدي) ومن معه في مجلة (الفكر الفلسفي) و(عبد السلام بن عبدلعالي) في مجلة ( فكر ونقد) ان يؤسسا لفلسفة عربية معاصرة حاليا؟ ولماذا ياتُرى توقف الفكر الاسلامي في رفد الثقافة العربية الاسلامية بفلاسفة؟ وهل هناك أعمال فلسفية غير منشورة للمفكر الاسلامي الشهيد (محمد باقر الصدر) تواصل جهده المرموق في تأصيل فلسفة اسلامية
معاصرة، غير رده الشهيرعلى الماركسية في كتاب (فلسفتنا)؟ وهل ستكشف لنا الأيام والأشهر والسنوات القادمة مفاجئات تأتي من النجف وكربلاء في مجال الفلسفة، سواء في الكشف عن  اعمال فكرية وفلسفية لم تنشر بسبب الحكم الدموي الفاشي البعثي في العراق، أو من خلال الحرية التي ستتيح للكثير من العلماء ان يقتحموا الحقول الفلسفية التي كانت اية خطوة فيها تكلفهم حياتهم وحياة أقاربهم سابقا؟ بل وهل ستعيد كليات الفلسفة في الجامعات العراقية النظر في برامجها، وتنفض عن نفسها غبار الأيام السوداء، لتكون ورشة للفكر وللوهج الفلسفي؟
 إنها أسئلة جريحة، وليس اكثر..! أسئلة تقودنا الى أسئلة أخرى أشد إيلاما ووجعا، فياتُرى، هل ان الواقع العربي المعاصر معاد للفلسفة ولإعمال الفكر بشكل عام؟ هل لا زال واقعنا  العربي، كما كان في بعض مراحل تاريخنا الماضي، يعادي التفكير الحر، ويعادي كل علم فلسفي ومنطقي، كما ذهب الى ذلك الغزالي، وابن تيمية، والذهبي، وابن الصلاح، والصنعاني، وغيرهم، من الذين وقفوا بكل قوتهم ضد الفلسفة والتفكير الفلسفي، بل وحرضوا الحكام على معاقبة كل من يمتهن التفكير الفلسفي، ويطرح أسئلة فلسفية مقلقة، مثلما حرضوا العامة من الناس لإيذاء كل من يتهمونه بالهرطقة الفلسفية، وبالزندقة؟

 ولو لم يكن واقعنا العربي المعاصر كما كان سابقا، فلماذا أغُتيل العلامة الشيخ الجليل صبحي الصالح، وهو صاحب البحوث المهمة في علوم القرآن وفقه اللغة العربية! ولماذا ياتُرى لم ترحم المسدسات، الكاتمة للصوت، شيخوخة المؤرخ الفلسفي والمفكرالاسلامي الشيخ حسين مروة، ولم لم تتردد طلقات القتلة وهي تخترق جمجمة المفكر اللبناني حسن حمدان المعروف ب( مهدي عامل )، الذي رحبت به كل الاوساط الفكرية، النخبوية، العربية في بداية السبعينيات باعتباره مشروعا لفيلسوف عربي جديد، ولم توجهت رصاصات القتلة الى رأس فرج فودة الحر؟

 ألا يشبه يومنا المخضب بدماء مفكرينا، أمسنا الذي فيه زُج بالأمام ابوحنيفة في أقبية سجون أبي جعفر المنصور مؤسس بغداد، وقُتل فيه الأمام موسى الكاظم في سجون الرشيد، وألقي فيه أبن المقفع في التنور الملتهب وهو حي يرزق، ولوحق فيه الامام الرضا الى مشهد ليقتل بالسم من قبل المأمون صاحب العلم والمجالس الثقافية، وُجر فيه ابن حنبل مثقلا بالسلاسل ليقف أمام المتوكل، وخوزق فيه العشرات من المفكرين في ظل الحواضر والامصار تحت رايات الخلفاء العثمانيين؟ بلى والله، لقد صار يومنا اشد لعنة من أمسنا،لا سيما بعد إعتمادنا على وسائل القتل المتطورة، وتوفر وسائل الاغواء الأشد سحرا، وسهولة الرصد، والتنصت، والقتل اذا اقتضى الأمر..!!
 ولو إبتعدنا عن هذا السؤال المعذب، ودخلنا الى صلب الفكر الفلسفي، وتطبيقاته النظرية في الفكر العربي، فسوف نواجه بإشكالية (المصطلح الفلسفي) على مستوى الفكر العالمي، وتحديد دلالاته، ونحت مصطلح رديف له في الفلسفة العربية الاسلامية، قديمها وحديثها؟ ولواجهنا ايضا إشكالية اخرى مرتبطة بامكانياتنا الحضارية لانتاج فكر فلسفي أصيل نستطيع من خلاله مواجهة  واقع التبعية الفكرية والفلسفية للآخر!!
 إن وسائل الاعلام الجماهيرية،العربية، من صحافة وتلفزيون وراديو وسينما، كلها ساهمت في تقديم صورة مشوهة عن الانسان المثقف عموما، والانسان المفكر خصوصا، وكأنه انسان خيالي، غير واقعي، ليس له علاقة بالواقع أو بما يدور حوله، وقدمت له الفلسفة وكأنها نوع من  الثرثرة، والتشدق اللفظي، واللغو الفارغ، واختلاق مشاكل وهموم لا يفكر الانسان العادي فيها، وهو في غنى عنها، لذلك فهي وجع رأس وليس اكثر..!!
 ومن هنا فان هذا المقال يعتز بانه يلقي حجرا في بركة راكدة، ومن خلال احدى وسائل الاعلام الجماهيري، ليثير السؤال من جديد: هل هناك فلاسفة عرب معاصرون، أم لدينا مشتغلون في الحقل الفلسفي؟ لدينا مفكرون، فلماذا لا نستطيع ان نطلق عليهم لقب( فلاسفة)؟ أليس لدينا نجيب محفوظ، وهو أديب يقف عند أقانيم الفلسفة بمعناها الدلالي الحقيقي والمباشر؟  واذا ما ذهبنا مع بعض الطروحات التي تؤكد بان الفلسفة العربية الاسلامية نشأت في عصر كان العرب، والمسلمون عموما، أقوياء، واثقين من انفسهم، لا يخافون الانفتاح على الاخر، ولا تقلقهم إشكالية فقدان وضياع الهوية، واننا اليوم نعيش واقعا على عكس كل ما تقدم وصفه، فهل هذا يعني باننا عاجزون ولا فائدة ترجى منا، لاننا لا نملك الا ان نكون هامشا لمتن ينتجه غيرنا، وصدى ضعيف لصوت عميق واثق القرار ياتينا من آفاق رحبة يبعدنا عنها شرط الحرية؟
إنها مجــرد أسـئلة بريئة..بريئـة جدا..!



شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: