في نقد الحاجة إلى الفلسفة محاورات بين جميل حكيم ورشيد بوطيب

التصنيف




في نقد الحاجة إلى الفلسفة
محاورات بين جميل حكيم ورشيد بوطيب
الفلسفة والسلطة، الفلسفة والمرأة، والفلسفة والآخر. 


في نقد الحاجة إلى الفلسفة
محاورات بين جميل حكيم ورشيد بوطيب
  نص الملف الذي نشرته إيلاف في موقعها القديم في كانون الثاني 2004،
أليست الفلسفة في موقع الملك لير في مسرحية شكسبير، الذي تخلى عن كل ممتلكاته لبناته وطرد هو نفسه إلى الشارع على أنه رجل عجوز لا فائدة منه ومثير للمتاعب؟
هكذا تساءل فيلهلم فندلباند، مؤسس مدرسة بادن الكانطية الجديدة، في زمن كثر فيه الحديث عن موت الفلسفة، خصوصا مع صعود المذهب الوضعي، الذي اعتبر أن كل مشكلات الفلسفة هي مشكلات وهمية. لكن حملة الوضعيين هذه، انتهت بهزيمة منكرة. لقد تبين أن الأسئلة التي تطرحها الفلسفة، أسئلة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للانسان.
وتاريخيا، بدأت الفلسفة كقطيعة "ابستمولوجية" و"انطولوجية" مع الفكر الأسطوري. والأسطورة، كما يرى هيغل، تعبير عن عجز الفكر وتبعيته. إن ميلاد الفلسفة مثل بداية الصراع مع الإيمان الدوغمائي والعقل التقبلي. وما صرخة كانط الشهيرة في "جواب عن السؤال: ما الأنوار؟" :!
sapere aude (لتكن لديك الشجاعة على استعمال فهمك!) إلا تعبيرا عن هذه القطيعة ورفضا لوصاية الأموات على الأحياء. وفي ضوء صرخة كانط هذه، نفهم أيضا دعوته في "صراع الملكات" إلى إخضاع الملكات اللاهوتية والقانونية والطبية لسلطة العقل.
إن الانتقال من الأسطوري إلى العقلاني في الثقافة الاغريقية، مثل أنسنة أو دنيوة للفكر الانساني. واللاهوت أو الدين لم يلعبا أي دور في الفلسفة اليونانية القديمة، التي عملت في شجاعة على تجاوز التصورات الفاسدة والأحكام المبتسرة للفكر الأسطوري.
لكن أية مكانة احتلتها وتحتلها الفلسفة في الثقافة العربية ـ الاسلامية؟
انطلاقا من هذا السؤال بدأت محاوراتي الثلاث مع المفكر المغربي جميل حكيم حول الفلسفة والسلطة، الفلسفة والمرأة، والفلسفة والآخر.



1
جميل: إذا ألقينا نظرة على الفلسفة العربية ـ الاسلامية، سنقف على أمرين أساسيين: أولا، انقتاح الفلاسفة المسلمين على الفلسفة اليونانية، اهتمامهم الكبير بها، ترجمة وتعليقا وإضافة. حتى أن الغرب الحديث لم يتعرف على جزء كبير من تراثه القديم إلا عن طريقهم. ثانيا، لا بد أن نشير إلى انحصار الاشتغال الفلسفي العربي في إطار ديني. قد يبتعد عنه أحيانا، دون أن يستقل عنه نهائيا. ومن هنا يفرض السؤال نفسه: هل يمكن الحديث عن الفلسفة في الثقافة العربية ـ الاسلامية، أم فقط عن تأريخ للفلسفة، لم يتجاوز إلا نادرا التفسير الفيلولوجي للمؤلفات اليونانية؟
رشيد: تريد أن تقول بأن الفلاسفة العرب والمسلمين لم يكونوا أكثر من شراح وناقلين. وأنهم لم يؤسسوا مذاهب فلسفية، وأن الفلسفة عندهم افتقدت ذلك البعد الانساني والعالمي الذي نجده عند الاغريق القدامى أو عند الأوروبيين في العصر الحديث. وبلغة أخرى: أن الفلاسفة المسلمين لم يجرؤوا على الدهشة لأنهم كانوا قد استسلموا للايمان!
جميل: أجل، لقد كانت الدهشة هي القشة التي قسمت ظهر البعير في الثقافة اليونانية. ودولوز في معرض حديثه عن الفلسفة اليونانية بكتابه "ما الفلسفة؟" يقول بأنه لا سماء للمفاهيم. إن الفلسفة في الاسلام لم تكن أكثر من حاجب في بلاط الحقيقة الدينية، إنها لم تدخل، إلا فيما ندر، في صراع مع السلطة الدينية والزمنية. لكن الفلسفة ليست شيئا آخرا غير هذا الصراع، هذا الرفض للوصاية. لا هوية للفلسفة سوى أسئلتها، والسؤال رغبة الفكر، يقول بلانشو. إنني أعتبر أنه من المضحك والمحزن في آن، الحديث عن فلسفة اسلامية أو عقل عربي، وما إلى ذلك من الشطط الميتافيزيقي حول الهوية والخصوصية.
رشيد: صدقت. فالالتقاء بالآخر كان من اللحظات المؤسسة للفلسفة. وكل ربط للفلسفة بمفاهيم الهوية القومية أو الخصوصية الدينية هو تعطيل لحركتها وحجر على طبيعتها الانسانية والنقدية. إنه فهم أعرابي لدور الفلسفة، ولا عجب أن ينتشر هذا الفهم أو هذا الربط المرضي للفكر بالهوية في زمن انتشار أنظمة قومية فاشية أو حركات اصولية تكفيرية. لكن من يتتبع رأيك حتى النهاية، يجد أنك تشك كل الشك في إمكانية قيام فلسفة بالعالم الاسلامي.
جميل: إن الفلسفة تأسست على الشك. ولا يمكن لنا أن نطالب اليوم المحلل النفساني بضرورة التشاور مع عرافة في سوق جامع لفنا بمراكش من أجل تحليل شخصية مريض نفسي، كما أنه لا يمكننا أن نتفلسف أو نتحاور مع فكر يحكم على العصر الحديث بالجاهلية. إن منطق الهوية هو منطق الشبيه
exemplar إذا استعملنا لغة دريدا في "سياسات الصداقة"، أما منطق الفلسفة فهو منطق يقوم على الهدم والبناء. إن الفكر اللاهوتي يسيطر على كل مجالات الابداع عندنا، والفلسفة الغربية خرجت عن سلطة اللاهوت عن طريق التنوير. أما العالم العربي فإنه لم يعرف تنويرا، لذلك فارتباط الفلسفة بالدين وتبعيتها له يزداد استفحالا.
رشيد: إن العالم العربي اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الفلسفة. ففي زمن يسود فيه التكفير لا دواء لنا سوى التفكير. وقد تحدثنا للتو عن علاقة الفلسفة بالسلطة الدينية، ولا بأس أن ننتقل لتفكيك علاقتها بالسلطة الزمنية في العالم العربي. وكما تعرف، فإن هذه السلطة هي استمرار بشكل أو بآخر للسلطة الدينية، استغلال لرأسمالها الرمزي، تأويل أحادي البعد امبريالي المعنى للموروث. وأول ما سنقف عليه في هذه العلاقة، هي قرارات منع الفلسفة وطردها من الجامعة كما هو الشأن في المغرب. رغم أن المغرب، مقارنة ببقية الدول العربية، يظل البلد الأكثر انفتاحا على الفلسفة واشتغالا بها. ولكن، ونحن نعيش في بلد الفلسفة: المانيا، وفي أعرق المدن الفلسفية في العالم: ماربورغ، التي اشتهرت بمدرستها الفلسفية التي تحمل اسم المدينة، وبفلاسفتها الكبار أمثال فولف وكوهين وهايدغر وغادامر... نشعر بالأسى والغبن حين نتذكر حال الفلسفة في الوطن. لكأنما قدرها عندنا هو الغربة والتغرب على حد تعبير ابن باجة.
جميل: لقد كانت للمغرب بعيد الاستقلال كل الامكانيات المادية والمعنوية لتطوير خطاب فلسفي حديث. لكن وهم الاستقلال أجهز على كل تلك الإمكانيات. ففي ظل سلطنة تيوقراطية يصبح كل نقد أو تفكيك لبنية المجتمع الخرافي خطرا محدقا على الأسطورة الرسمية. لذلك أنادي بلا ـ سلطنة لتاريخ المغرب، وبلغة أخرى، بتحرير تاريخنا من قبضة الكرونيكور الرسمي. وهو عمل يجب أن تشارك فيه الفلسفة جنبا إلى جنب مع التاريخ الاجتماعي. فالتاريخ غير المدروس يطفو دائما على السطح. ومهمة الفلسفة في نظري طرح أسئلة على التاريخ. لقد علمنا اليونان القدامى أن النظر أعلى درجات البراكسيس، وكما أشار إلى ذلك جان بيير فرنان في "أصول الفكر الاغريقي":" لم يتكون العقل عند اليونان، ولم يعبر عن ذاته، ولم يتخذ شكله النهائي إلا على المستوى السياسي. لقد أمكن للتجربة الاجتماعية أن تصبح عند الاغريق موضوع تأمل وتفكير وضعي، وذلك لأنها خضعت داخل المدينة لجدال عمومي. وقد بدأ أفول الفكر الأسطوري يوم وضع الحكماء الأوائل التنظيم البشري موضع نقاش".
رشيد: إن فكرة لا ـ سلطنة التاريخ تذكرني بالعمل المهم لعبد الله حمودي "الشيخ والمريد"، الذي يفكك انتقال بنية الشيخ والمريد (الخطاطة) من المجال الديني إلى المجال السياسي، أو يفصح عن عملية اغتصاب الزمني للديني. هذا الاغتصاب أو الانتقال يعني أول ما يعني استغلال السلطة للدين وشرعنة حكمها به، أي امتدادها فيزيقيا وميتافيزيقيا: المخزن والدين. إن الرحلة الطويلة والشاقة من المريد إلى الشيخ، لا تمر إلا عبر طريق واحدة وهي الخضوع. هذا الخضوع الذي يعني تقبل الجوع والعمل الشاق وقلة النوم وما إلى ذلك من طرق الإذلال التي تصل حد اللقاء الجنسي بالمريد. والخضوع هذا، تتم ترجمته سياسيا، في إطار أكبر، إطار السلطان والرعية. فالرعية لها دور واحد وحيد وهو الخضوع. والمسلم في ظل هذا المجتمع مواطن ـ جمل على حد تعبير الصادق النيهوم. إن هيغل في فلسفة الحق يؤكد منذ مطلع كتابه على العلاقة الصميمية بين الحق والحرية، وعلى أن الإرادة الانسانية حرة، وأن الحرية بمثابة طبيعة ثانية للعقل. ولكن الحق في منطق الشيخ والمريد يدخل في علاقة صميمية مع الخضوع. الخضوع والامتثال للسلطة.


2
رشيد: لننتقل الآن إلى قضية العلاقة بين الفلسفة والمرأة في العالم العربي. لا غرو أنك تعرف أن المرأة لم تحتل مكانة طيبة في الفلسفة، وأنه حتى كبار الفلاسفة الألمان مثل كانط وهيغل نظرا إليها نظرة دونية، واعتبراها عاجزة عن التفلسف. وهنا تلتقي الفلسفة نهارا جهارا مع الرؤية الدينية في احتقار المرأة والشك بقدراتها العقلية. فكيف تفسر هذا الخطأ الفظيع للفلسفة؟
جميل: بل هو خطأ فظيع للفلاسفة. إن كانط وهيغل لم يستطيعا البتة رغم روحهما الثورية، التخلص من بعض رواسب التقاليد البروسية. لكن لا بد من الإشارة إلى أن ذلك لم يكن البتة بموقف الفلسفة الدائم. ولربما سوف تشعر بالدهشة لو علمت مثلا أن ابن رشد كان له رأيا مغايرا وتقدميا فيما يخص المرأة. ولربما تكون محنة المرأة في العالم العربي أشبه بمحنة الفلسفة، فكلتاهما ضحية الثقافة الأورثدكسية السنية. ففي الوقت الذي شكك فيه أفلاطون بقدرة المرأة على التفلسف، وفي الوقت الذي منحها الفارابي كل الحقوق في مدينته الفاضلة وحجب عنها حق التفلسف، يرى ابن رشد في "جوامع سياسة أفلاطون" أن طباع الرجال والنساء واحدة، وأنه فيما عدا الأعمال الشاقة، باستطاعة المرأة أن تقوم بكل الأعمال التي يقوم بها الرجل، ومن بين ذلك التفلسف، بل إنه يرى أنها قد تتفوق على الرجل في بعض المجالات، كالموسيقى مثلا.
رشيد: لربما سمعت بالدراسة المهمة للمصري منصور فهمي:"أحوال المرأة في الاسلام"، التي ظهرت سنة 1913 باللغة الفرنسية. أعلن فهمي أن قيم التقليد هي المسؤولة عن وضع المرأة الاسلامية، لكنه أشار أيضا في كتابه المتأثر بمنهجية عالم الاجتماع دوركهايم، أن بحثه يهدف إلى التأكيد على حقيقة أن عزل المرأة ليس نتيجة للعامل الديني فحسب، بل هو أساسا نتيجة السلوك الاجتماعي والفروقات الطبقية.
جميل: ولذلك أرى أن الكلام عن حقوق المرأة لا يجب أن ينسينا أن الرجل أيضا في مجتمعاتنا العربية لا يملك حقوقا. وإنني جد متأكد بأنه لو كان الرجل يملك حقوقا لما كان وضع المرأة عندنا بمثل هذا السوء. إننا جميعا ضحية ذلك التحويل المستمر للخرافة إلى تقليد، بكل ما يعنيه التقليد من عسف وتسلط.



3
رشيد: بقي أن نطرح قضية العلاقة بين الأنا والآخر في الفلسفة. وقد اخترت لافتتاح هذه المحاورة نصا لابن رشد اقتبسته من كتابه "فصل المقال". يقول ابن رشد:"وإذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم."
كما ترى، إن نص ابن رشد أكبر دليل على فكرة التسامح التي سادت العصر الأندلسي. وهي فكرة نفتقدها حتى في فلسفة الأنوار. فيكفي أن نلقي نظرة على كتاب فولتير حول التسامح، الفصل 18 لنتحقق من ذلك. إن فولتير يتحدث في وقاحة عن شرعية عدم التعامل بتسامح مع اليهود والأتراك (المسلمين). لقد كان ابن رشد سواء في نظرته إلى المرأة أو في فكرته عن التسامح، ونظريته عن الحقيقة المزدوجة
duplex veritas التي يمكن اعتبارها التأسيس الفلسفي للعلمانية، سابقا لعصره بكثير.
جميل: إن المرء حين يقرأ نص ابن رشد يشعر بالأسى والحزن العميق. فلو قلبت الفكر العربي المعاصر فلن تجد له شبيها. إننا نعيش فعلا زمن التكفير. وهو زمن لا مكان فيه للآخر المختلف والمغاير. وحيث لا مكان للآخر لا مكان للديمقراطية. فلا ديمقراطية بدون حق في الاختلاف. وثقافة التكفير لا ترتبط بالحركات الأصولية فحسب ولكن أيضا بالطبيعة الدينية للأنظمة العربية.
رشيد: إن السؤال عن الآخر في الفلسفة عموما قد سقط لقرون طويلة في النسيان. فجان كلود فريس مثلا في كتابه الرائع
Philia الصداقة في العصر اليوناني، يرى أن الفلسفة الوسيطة والحديثة لم تعرف هذا السؤال. ودريدا في سياسات الصداقة يفكك سيطرة الشبيه والواحد ad unum vertere على هذا الخطاب. ويرى أن فكرة الصداقة عند أرسطو والتي يمكن أن نلخصها في الجملة الشهيرة:"صديق هو أنت، لكنه بالشخص غيرك"، سوف تتكرر في كل الخطابات الفلسفية حول الصداقة، سيسيرو، التوحيدي، مونتين، مالبرانش، كانط الخ...
جميل: ومع ذلك فإني أرى أن قراءة دريدا لأرسطو قراءة أحادية البعد. فلا يجب أن ننسى ربط أرسطو في "أخلاق نيكوما" بين الصداقة والديمقراطية. فالمجتمعات الأبوية والدينية لا تسمح بالصداقة بل تخشاها. بل إن أرسطو يرى أنه حيث تسود الصداقة لا يحتاج المرء إلى العدالة. لكني أريد أن أشير إلى شيء آخر لفت نظري، هو غياب أي اهتمام في الثقافة العربية المعاصرة بأعمال الفيلسوف الفرنسي الكبير إمانويل ليفيناس، هذا الفيلسوف الذي بعث سؤال الآخر من جديد في الفكر الغربي.





شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: