الجابري يمارس النقد هنا ويكتفي بالتسليم هناك.. كتابه الأخير يشكل قطيعة وانتهاكا لآرائه في نقد العقل العربي.إدريس هاني

التصنيف







الجابري يمارس النقد هنا ويكتفي بالتسليم هناك.. كتابه الأخير يشكل  
قطيعة وانتهاكا لآرائه في نقد العقل العربي



مجلة منتدى الحوار المغربية - 7.02.2007 - 08:10 pm
المفكر المغربي إدريس هاني

خصصت مجلة منتدى الحوار المغربية عددها الأخير (39) دجنبر 2006 لحوارين مطولين مع الكاتب المغربي ادريس هاني وكذا مقتطفات من كتابه" محنة التراث الآخر" وذلك في إطار مناقشة للدكتور محمد عابد الجابري على خلفية الجدل الذي أثاره كتابه الأخير :" مدخل إلى القرآن الكريم" ، الذي نفى فيه أمية الرسول واتهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن ورفضه ترتيب القرآن وقضايا أخرى... وفيما يلي نص الحوار :



س ـ أنتم من الأوائل الذين انتقدوا الجابري من خلال مشروعه نقد العقل العربي، كيف تنظرون إلى الأفكار التي أثارها في الآونة الأخيرة ؟
ج ـ لا أخفيك أنه كان أول نص أغراني بالنقد.. ولهذا الكلام معنى؛ إنني لا أنتقد إلا نصين: أحدهما يمتعني بلياقته وبراعته التحليلية والتركيبية لكن تنتابه نوبات معرفية تنال من تماسكه نيلا معتسفا..والثاني يستفزني أيديولوجيا..والحق أن مشروع الجابري كان قد جسد بالنسبة إلي الأمرين معا..فهو نص راقني بقدر ما استفزني..فمن الناحية المعرفية مارس الأستاذ الجابري جهدا معرفيا كبيرا على الرغم من كل الهنات والكبوات التي قد يحصيها عليه ناقض هنا أو هناك..أعني مسألة الشمول والبناء النسقي ..أما من الناحية الأيديولوجية فهو مستفز بالنتائج التي انتهى إليها أو لنقل بالافتراضات التي انطلق منها، وهي التي تتعلق بالتراث الآخر..الخلاف الأيديولوجي هنا ليس بالجملة بل في بعض التفاصيل..وإلا لا أحد يختلف حول الموقف العقلاني ومشروع النهضة ومذمومية التخلف..المشكلة في التفاصيل وكما يقال أن الشيطان يكمن في التفاصيل..قد أكون متفقا مع الجابري في مواقفه مجردة عن كل هذا البناء، الذي جعل ضريبة تخلف العقل العربي يتحملها أولئك الذين شكلوا طلائعه الحضارية..أزعجني أن يكون طابور أزمة العقل العربي هو الرازي و ابن سينا والغزالي و الشيعة والعرفان وعموم المشرق الذي بدا في خطاطة الجابري متهرمسا عن بكرة أبيه..قد يكون الجابري من الناحية السياسية رجلا ديمقراطيا ، بمعنى آخر ليس استئصاليا على مستوى العمل، لكن قراءته أسست لضرب من الاستئصال في النظر..لكن ما هو أساسي هنا ، أن الجابري الذي كان مطوقا بنتائج نقد العقل العربي هو اليوم أقل وفاءا لنتائجه، بل هو أكثر تحررا منه معرفيا وكذا أيديولوجيا.. لذا يبدو أنه دخل مرحلة ثالثة، سمتها التخفيف من وطأة الأيديولوجيا، وهذا معناه منح مزيد من الأهمية للمعرفة..والدليل على ذلك ما صدر عنه مؤخرا من خلال كتابه "مدخل إلى القرآن"..الخطأ الذي وقعنا فيه سابقا أننا حاكمنا الجابري أيديولوجيا، وهذا المنهج خاطئ..لأن الصراع سيكون أيديولوجيا عقيما من الناحية المعرفية..ومع أنه بالإمكان أن نبرر له أيديولوجيا لكننا لا نبرر له معرفيا ، أنه وجد في بيئة كانت ولا زالت تجهل الكثير عن التراث الآخر.. والوقوف على المصادر الكاملة ليس أمرا ميسرا..وهذا ما وقع مع مستشرقين كثير، خانتهم المعطيات فكملوا من عقولهم كما يقال..وحينما كتبت محنة التراث الآخر ، وهو في الأصل رد على جانب من نتائج نقد العقل العربي، لم أكن لأوفق في ذلك لو أنني استندت للمعطيات المتوفرة حينها في بيئتنا..لقد كلفني ذلك هجرة سنوات والوقوف على المصادر في مجالها الطبيعي..وهو أمر لم يكن متيسرا حتى بالمقارنة مع أيامنا هذه..لذا وجب أن لا نحمل نقد العقل العربي أكثر ما يتحمله كمشروع ومحاولة، لا يفيد معها النقد الأيديولوجي بقدر ما يفيد معها النقد المعرفي، لأن نقد العقل العربي هو نفسه وبالنسقية المحكمة يفرض أن يكون عرضة للانهيار متى أمكن وضع اليد على جملة المعطيات الخاطئة أو الغائبة في هذا المشروع..

س ـ كيف تنظرون إلى هذا الكتاب وإلى الأفكار التي أثارها الكتاب في المشرق والمغرب؟
ج ـ إنه شيء مهم هذا الذي توصل إليه الجابري..بغض النظر عن كثير من الآراء التي تناولها الكتاب المذكور ، لكن لدي ملاحظات كثيرة، منها على سبل المثال، إذا كان من خصائص المنهج، الشمول ؛ حيث ما من تجزيء ولا من انتقاء إلا ويخل بمصداقية المنهج، اللهم ما كان استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يتم إلا بدليل معقول وإلا كان ضربا من العبث، فإننا نجد في المحاولة الجابرية بعضا من الانتقاء..أي أن الباحث يمارس النقد هنا ويكتفي بالتسليم هناك..يعارض ما شاء و متى شاء ويسلم بما شاء ومتى شاء.. لذا أقول ؛ إن كان الجابري يمتلك كل هذه الشجاعة ليرد ما بدا محل إجماع أو مورد تسليم القدماء والمحدثين بخصوص قضايا تتعلق بالقرآن ، فلماذا كان في نقد العقل العربي يبني آراءه على ضرب من التسليم..تسليمه بكل النتائج التي وجدها كما يقول بعظمة لسانه، في مصادرنا السنية ، دون أن ينحو منحى التحقيق للنص الكامل كما يجسده التراث الرسمي والتراث الآخر معا ..مثلا لقد سلم بخرافة عبد الله بن سبأ، وبنى عليها كل أحكامه وقراءته للتراث الآخر ، وأعاد إنتاج كل الأحكام المللية التي تجعل كل ما له صلة بالتراث الآخر ، بمثابة كفر وخروج وزندقة..ففي تكوين العقل العربي وبنيته يكون كل من تعرفن أو تبرهن على خلاف مقتضى الرشدية قد تزندق..وفي العقل السياسي كل من عارض خرج وتزندق..ما الجديد عن ما كتبه أصحاب الملل والنحل؟!
لم نقف إذن على نقد جذري وشمولي للتراث، بل وقفنا على نقد تجزيئي وانتقائي للتراث ، وكنت من أوائل من وصف الطريقة الجابرية بالتجزيئية والانتقائية..أما ما حدث من إثارات في المشرق والمغرب فالمسألة تتعلق بأناس يقعون في المدارك الدنيا للفكر ولا يتابعون، بل هناك من يتعامل مع الفكر تعامل العوام..ما حدث في المشرق تقصدون به ما حدث في مصر..ومثل ذلك حدث مع حسن حنفي وقبله مع نصر حامد أبو زيد..أذكر يوم قامت الضجة ضد نصر حامد أبو زيد كتبت مقالا تحت عنوان: لنكفر الجميع أو لا نكفر نصر حامد أبو زيد..وكان مثالي على ذلك بعض آراء الجابري..قلت بأن هناك مما يذكره الجابري لو كان في مصر لتعرض إلى مثل ما تعرض له نصر حامد أبو زيد..لم يكن ذلك اتهاما لما كتب الجابري، بل كنت ممتعضا من الطريقة التي يتم التعامل بها مع الفكر والمفكرين..أي التجزيء والانتقاء حتى في أحكام التكفير..نكفر من نشاء ونسكت عمن نشاء..فالمسألة جزافية، أنت وحظك أن يمر تصريحك أمام محترف من محترفي قانون الحسبة ، وإن كان فعل التكفير يأتي وفق حسابات دقيقة..وطبعا كان منها الطريقة التي تعامل بها عبد الصبور شاهين مع نصر حامد أبو زيد..وسنكون ضد كل من يهاجم المفكرين من أعداء الفكر..ولذا لا أهمية لما يأتي من زعيق هنا أو هناك..فللتفكير حرمة حتى وإن لم نعترف للفكر بهذه الحرمة..لا ننتقد المفكر من حيث يفكر بل ننتقد المفكر من حيث أفكاره..أي من حقك أن تفكر كيف تشاء لكن ليس من حقك أن يسود فكرك كيف يشاء..وقد تبين أن الذين كفروا يومها نصر حامد أبو زيد ، اتهموه بتهمة الاستناد إلى نصوص ابن عربي وأفكار الشيعة والمعتزلة..لقد كفروا ابن عربي والمعتزلة والشيعة قبل أن يكفروا نصر حامد أبو زيد..ومن الممكن أن يكفروا الجابري بالتهمة نفسها..وهم إذ يكفروه "عملا"، فقد مارس هو التكفير "نظرا"..وأخرج مدارس ومذاهب وشخوصا عن مقتضى الإسلام الصحيح..نقد العقل العربي هو في وجه من وجوهه مشروع تكفير نظري ، وهذا على الأقل ما يناقض محاولة أركون التي لم يمارس هذا الضرب من التغليب والتجزيء للتراث ، حيث انفتح عليه في كليته مهما كانت نتائج الإسلاميات التطبيقية..وهذا تحديدا ما جعل الكثير من السلفيين يجدون مرادهم في مشروع الجابري ليس لأنه نحى نحو الفكر السلفي في الجملة بل للنكتة المذكورة، أنه خير مشروع يستدل به على مشروعية تكفير خصومهم ، إنه قام بما قام به الكثير من الأيديولوجيين العرب ، أنهم يعيدون إحياء الفكر السلفوي التكفيري بتقنيات حجاجية معاصرة ، وهذا ضرره على الفكر الإسلامي كبير..لقد شط الجابري عند هؤلاء الذين كفروه أو أنكروا عليه ، بعيدا وتجاوز حده ، لكن في نظري لقد حبا حبوة صغيرة أول مرة خارج منظومة المسلمات..محاولة جريئة ، لكنها مع الجابري لها نكهة خاصة!

س ـ يشكك الجابري في أمية الرسول (ص) ، وبذلك يكون قد خالف إجماع المحدثين وأهل السيرة والمؤرخين المسلمين، كيف تنظرون إلى موضوع أمية الرسول(ص) وهل كان النبي (ص) بالفعل غير أمي ؟
ج ـ في مجال التحقيق التاريخي لا مجال للحديث عن الإجماع..نحن هنا لسنا أمام حكم من أحكام الفروع الشرعية ولسنا أمام منطق التوافقات السياسية..فأن يخالف الجابري الإجماع هنا هو حق طبيعي للناقد..هذا مع أنني لا أرى في ذلك ما يخالف الإجماع..والغريب أن هناك من يوحي بأن تلك الآراء جديدة وجريئة كما لو أنها قيلت لأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي..الذين يقولون ذلك ويشيعونه في الصحافة وغيرها يؤكدون على أنهم ليسوا محترفي معرفة وغير متابعين لحركة الفكر..شخصيا وقبل تسع أو عشر سنوات تحدثت في كتابي: محنة التراث الآخر، الذي هو نقد لجانب من نقد العقل العربي، نفيت فيها أمية الرسول رأسا دونما تردد..وحينما فعلت ذلك كنت قد استندت إلى إشارات ونكات وجدت في تراثنا وهي قديمة جدا..ليس ثمة جديد في الموضوع..ومع أنني أهنؤ الجابري على هذه الفكرة وأرى أنه لأول مرة يفكر بتجرد عن النسق الذي تورط فيه في نقد العقل العربي، حيث كنت أرى في خروجه من مقتضيات النسق المذكور يأتي بنتائج مفيدة ، إلا أنني أرى موقفه الأخير يؤسس لتقويض كل المباني التي أقام عليها نقد العقل العربي..بمعنى آخر إنه ضرب من التهافت الذي ينسف الأسس والمسلمات التي ابتنى عليها نقد العقل العربي..فحينما نجد الموقف الرشدي والخلدوني والشاطبي والتيمي والحزمي كلها مواقف تجعل من الأمية مسألة أساسية ، حتى أن الجابري أبرز في نقد العقل العربي أهمية منظور الشاطبي لأمية الرسول وكذلك اعتبرها ابن خلدون نوعا من الإعجاز..بل تتقوم مقدمات نقد العقل العربي وتاريخية تشكل البيان والتدوين على خاصية أمية الجيل الأول للرسالة وعلى رأسهم صاحب الدعوة..إذن نحن أمام تقويض حقيقي لمباني ونتائج نقد العقل العربي ولسنا أمام تتميم للمشروع النقدي كما يرى أو يرى غيره..ولكنها في نهاية المطاف ليست النهاية السيئة أو التهافت ، بل أراها قطيعة مع نقد العقل العربي..وهي في نظري قطيعة مطلوبة ومحمودة في حقه..بل هذا ما كنا نتمناه دائما ، أن يكبر الجابري على مسلمات المذاهب ، ويمارس تفكيره بعدالة ومن دون مسبقات..

س ـ يشير الجابري في كتابه الأخير إلى مشكلة التحريف ، ويؤكد تورط مصادر السنة والشيعة في تأكيدها ، لا سيما وأنه يستشهد بالمعتدلين من الشيعة كالشيخ النوري وليس بالغلاة؟
ج ـ ليس في ذلك جديد..وللمرة الأولى يكون الجابري منصفا حينما يتحدث عن وجود ما يشير إلى التحريف في المصدرين معا ويحيل بعدالة لوجود أخبار في كتب الفريقين..ففي صحيح البخاري هناك من الأخبار والأحاديث ما هو ظاهر في القول بالتحريف، وطبعا ليس الحديث هناك عن النسخ، لا تلاوتي ولا حكمي ، بل هي ظاهرة في التحريف والسقوط ..والموضوع هنا قد يطول ، لكن ما أحب أن أؤكد عليه أن الحديث عن التحريف تم فهمه خطأ ، إذ في رأيي لم يوجد في القدماء سنة وشيعة من عنى بالتحريف النص القرآني المركزي ، بل قصدوا بذلك التأويل.. فقد كان الكثير من الأوائل يعتبر التأويل قرآنا ويطلق على تأويله إسم القرآن انطلاقا من قوله تعالى:" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه"..بمعنى لا تعجل بتأويله..يتعين علينا اليوم أن نتحدث عن ما بعد إشكالية التحريف..أي كيف نوجه فلسفة النص ونحتوي بها إشكالية التحريف باعتباره إشارة إلى شكل من أشكال الإكمال والاستبدال والتناص الذي اعتاد عليه بعض القراء المسلمين..وكل ذلك بسطنا الحديث عنه في كتاب : محنة التراث الآخر ، وهي بالمناسبة دعاية مقصودة لكي نقرأ بدل أن نكتفي بالاتهام..فالدعاية لما ينفع المعرفة أمر مستحب..
لكن دعني أعود معك إلى قصة الشيخ النوري الطبرسي صاحب كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، وهو الكتاب الذي طالما أوتي به كحجة على قول الشيعة بالتحريف..ولا أريد أن أدخل من مدخل تحرير مفهوم الحرف والتحريف الذي استعمل كثيرا لدى بعض القدماء، حيث قصدوا بذلك حرف المعنى وتحريف الكلام عن مواضعه..بل دعنا نختصر الطريق لنقول بأن ثمة مقدمة لا بد من استحضارها..أولا إن الشيخ ميرزا حسين نوري الطبرسي ليس من المعتدلين كما توهم الجابري وأمثاله بل هو من الأخبارية التي تذهب إلى وقوع النقيصة في الكتاب، ولهذا رفضوا القول بحجية الكتاب.. ولجمهور الأصوليين والمحققين الإمامية مئات الكتب التي تصدت لهذا الزعم قبل أن يدركه غيرهم، وكلها تؤكد على أن القرآن المعتبر هو ما بين أيدي المسلمين، المصحف العثماني وقد صح ما بين دفتاه .. ووجب حينئذ أن نحقق فيمن هو المقصود بالاعتدال عند الإمامية من غيره..والمعتدل ليس بالضرورة هو المعترف بقدره والموصوف بالصلاح ، فذلك ما لا علاقة له بالاعتدال، حيث يراد بالمعتدل من الإمامية المحققين الأصوليين المجتهدين..وكذا من الأخبارية من راموا الاعتدال والتحقيق كما هو حال بعضهم كصاحب الحدائق قدس سره.. وغير الملمين بالتراث الشيعي يخلطون بين أصناف العلماء الإمامية فلا يميزون بين الأخبارية والأصوليين..فبالأحرى أن يميزوا بين طبقات الأخبارية وطبقات الأصوليين..ومن يؤخذ بإجماعاته من الأصوليين أنفسهم من غيره..فالمسألة ليست بهذه البساطة والمدرسة الشيعية هي من التعقيد بحيث لا تسمح بمن يمر على متونها مرور الكرام أو يمارس نزهة سريعة بين بعض مصنفاتها حتى يقف على مداركها..أما الملاحظة الثانية ، فإن منزلة الشيخ النوري وجميع هذه المصنفات الأخبارية لا تتنزل منزلة الصحيح عندهم..فهذه مقايسة ساذجة لم يقل بها محققوا الامامية، ولا كافي الكليني يضارع منزلة صحيح البخاري عندهم كما قال الجابري وقال الكثير من السلفيين قبله..فالمطلع على الرجاليين كالطوسي والغضائري ونظرائهما وصولا إلى السيد أبي القاسم الخوئي لا يوجد فيهم من قال بقطعية صدور أخبارهم.. ففيها ما هو ضعيف وواضح الضعف ..فالشيعة لا تؤمن بوجود مدونات صحيحة بالجملة بل تؤمن فقط بوجود أخبار صحيحة قد توجد في هذا المصنف أو غيره ، والعمدة في التصحيح والتضعيف هو ضابط الدراية وعلم الرجال .. لكنني أقول لك ليتك اطلعت على رأي أعلام الشيعة الإمامية في روايات وكتب الشيخ النوري الطبرسي ، فلقد نبهوا إلى هذا الحشو وإيراد أخلاط من الروايات كما لو كان الشيخ النوري في وارد تحشيد كل ما وصله من روايات عجيبة وغريبة ، لكونه اشتهر بكتابة الموسوعات كما هو حاله في مستدرك الوسائل..وما رواه حول سورة النورين هو نفسه يحيله على كتاب "دبستان مذاهب" وهو كتاب منسوب حسب بعض المحققين لداعية زرادشتي إسمه كيخسرو بن اسفنديار..وطبعا الكتاب لم يكن صاحبه معروفا حيث تمت النسبة إلى كيخسروا بعد التحقيق الذي قام به رحيم رضا زاده ملك .. وقد نبه النوري إلى أن هذه السورة لم يجدها في مصادر الشيعة..وكان من المفترض أن يستحضر خصوم الشيعة رأي النوري وشهادته بأن روايته تلك عثر عليها في هذا الكتاب الذي اختلف المحققون حول كاتبه قبل أن يحقق رحيم رضا في الموضوع..وأعتقد أن الحاج ميرزا حسين النوري ربما ظن أن صاحب الكتاب هو من المخالفين للشيعة وأراد أن يستدل به ما دام يخبر عن وجود سورة ساقطة فيها ذكر صريح بالولاية..وهذا من الغرائب حتى أن الكثير من الأعلام الإمامة ومتأخريهم كالإمام الخميني يتعجب كيف أن المعاصرين للشيخ النوري لم يردوا سخف هذا القول ، وكيف أنه ومع جليل قدره ذهل كما ذهل المعاصرون له عن استبصار تناقضات هذا الكلام ، حيث لو صح ما في هذه الرواية إذن لما لم يحتج به الأئمة والصحابة الموالون ضد خصومهم..المشكل هنا ليس في كتاب الحاج ميرزا النوري الذي لا يؤخذ كلامه مأخذ الصحيح ، والشيعة الإمامية تؤمن بالاجتهاد وهي من المخطئة ولا تقبل بالخبر إن ورد من غير طريق صحيح على الضابطة المقررة في علم الدراية والجرح والتعديل..فوجودها لن يكون معتبرا كما لو وجدت مثلا في صحيح البخاري..ولذا لزم أن نأخذ رأي الشيعة من مداركهم الرسمية، بمعنى آخر، ليس المقصود بالمدارك الرسمية كل ما هو معتبر في خزائن الكتب، بل مما أجمع عليه أهل التحقيق المعتبرين عند الإمامية ، فوجب أخذه من مصادره الرسمية ولن يوجد بإطلالة فضولية في هذا البحر المتلاطم من مصنفاتهم..علينا أن نميز ما هو الشاذ النادر في تراثهم ومن يمثل الاجماع ومن المعتبر دون غيره، وكيف يفهم الاجماع عندهم ، فوجود رواية في الكافي أو رواية في الكتب الأربعة ، لا يعني أن مذهب الشيعة على هذا الرأي تماما كما أن وجود روايات التحريف في البخاري وغيره لا يعني أن رأي السنة على القول بالتحريف..أقول هذا مع أن لي رأيا خاصا في الموضوع، أرى فيه بأن القول بالتحريف بهذا المعنى لم يقل به أحد ولا استساغه عقل مسلم، بل ثمة حلقة مفقودة في البين ترى أن التحريف هو مساوق للتأويل ، وبأن الحرف والتحريف هو تقنية من تقنيات التأويل ، فحرف المعنى من الحقيقة إلى المجاز مع وجود القرينة الصارفة ، سياقية أو عقلية و حالية متصلة أو منفصلة وما شابه كله يأتي بمعنى الحرف بتعبير القدامى، وكما الحرف ينقسم إلى ما هو صحيح كحرف المعنى بصرفه من الحقيقة إلى المجاز مع وجود القرينة، وإلى ما هو فاسد كحرف الكلام عن المعنى بعد عقل الكلام كصرف المعنى من الحقيقة إلى المجاز من دون قرينة معتبرة..فإن التأويل الذي هو غاية الحرف ينقسم إلى قسمين : التأويل الصحيح الذي مدح في القرآن إلى جانب التأويل المذموم الذي ذم في القرآن..فليس الحرف والتأويل هما المذمومان في ذاتهما ، بل لعارض يصرفهما عما يتعين التقوم به في الحرف الحسن والتأويل الصحيح..وأحسب أن المسألة تتطلب نقاشا وبحثا صناعيا طويلا لا يتسع له المقام..

س ـ ماذا ترون في أن الفاتحة لم تنزل مع السورة ، بل كما يعتقد الجابري أنها مجرد فواصل بين السور ؟

ج ـ نحن نتحدث عن فاتحة السورة أي البسملة..وأنا أحب أن أقول البسملة ـ وهذا هو الإطلاق المتداول ـ بدل الفاتحة لسببين: الأول، تمييزا لها عن الفاتحة التي تنصرف إلى السورة الخاصة( سورة الفاتحة)، والثاني لأن الحديث عن كونها فاتحة ينبني على خلفية اعتبارها مجرد فاتحة للفصل والتبرك وليست آية..والحق أن هذا إشكال ، على الأقل فيما يتعلق بالفقه الإمامي، حيث تعتبر البسملة آية..أتعلم ما الثمرة من هذا النقاش؟ أجل، لو اعتبرنا البسملة مجرد فاتحة للسور ، يمكن الإتيان بها من دون نية مستقلة، لكن لو كانت آية خاصة تتعلق بكل سورة بنحو من الاستقلال على الأقل التعبدي، تعين أن تشمل في نية الإتيان بالسورة المخصوصة..فلا يجوز أن أنطق بالبسملة ثم أنوي الإتيان بالسورة..هذا إشكال فرعي مترتب على الإشكال الأول..وحسب اعتقادي وتصوري أن البسملة هي آية وليست مجرد فاتحة للفصل بين السور، والسبب هو وجود نصوص معتبرة في المقام في ما ورد من الأخبار عن النبي (ص) وآل بيته (ع)..فالمسألة تعبدية فلا مجال لإقحام التأمل فيما حسم نصا..

س ـ وماذا عن انعدام وجود الفاتحة في سورة التوبة، لا سيما والجابري يؤكد على ما ضاع من سورة التوبة؟
ج ـ هو ذا بيت القصيد..لماذا غابت البسملة عن سورة التوبة؟ فلو أنها كانت مجرد إجراء عفوي اختياري للفصل بين السور، لما استثنيت براءة؟!..الجابري يأتي برأي ضعيف يرى أنها ذهبت ضمن ما ذهب من فواتح سورة التوبة .. فهل ما أكلته النعجة من هذه السورة أو تلك أكل من صدور الصحابة الذين كان فيهم من يحفظ القرآن..هذه إهانة للصحابة..ليس لجهة تقديس لشخوصهم فقط بل لجهة وضعهم الموضوعي كحفظة للقرآن..والحق أن عدم وجود البسملة في سورة براءة مما أدركه جيل التنزيل نفسه..فثمة نص للإمام علي بن أبى طالب يعلل عدم وردود البسملة في براءة، حيث قال بأن البسملة أمان، وليس في براءة أمان. لأنها بدأت ببراءة من المشركين وقد كان علي بن أبي طالب هو من بلغ براءة وقرأها على الحجيج..هذا نص منطقي ووجيه ، ويكفي لرد كل الأخبار المبنية على تكهنات فضلا عما فيها من ضعف في المعنى والإسناد..

س ـ اعتمد الجابري في ترتيب المصحف على أسباب النزول، بخلاف الترتيب الموجود الآن، ماذا عن مسألة الترتيب في القرآن ؟
ج ـ الترتيب في اعتقادي أمر مؤكد وتوقيفي ما دام صاحب الدعوة قد قرأه كذلك وقرء عليه كذلك وسارت على ذلك المتشرعة جيلا بعد جيل..يمكنني القول أن القراءة تعبدية في هذا المجال..لكن طلب المعنى أمر آخر ويخضع لاعتبارات أخرى..أي ليس ثمة ما يمنع من أننا نعيد ترتيب الآيات بحسب عملية العرض المطلوب، عرض القرآن بعضه على بعض لتحقيق المعنى المطلوب..وأعتقد أننا حتى لو اقتفينا أسباب النزول نفسها ورتبنا القرآن على وفقها كما فعل الجابري ، فلا يقدم ولا يؤخر ذلك شيئا بالنسبة للمعنى..فالتفسير الموضوعي لا يتجاوز فقط الترتيب التوقيفي للنص ولا الترتيب الموردي له ، بل ينتج علاقة جديدة بين النصوص، تحقيقا للمطلوب، أي أن نقرأ القرآن بعضه في بعض، حيث من فعل ذلك هدي إلى المعنى الصحيح..من هنا استنتجت أن ثمة اعتبارين في المقام: القراءة المعنوية للقرآن ، وهي مفتوحة على ضرورات الصيرورة الموضوعية للمعنى وجدل النص مع الواقع وجدله الداخلي ، وهذه قراءة توفيقية ..وهناك القراءة التعبدية وتأتي على الترتيب المتداول بدليل الأخبار المؤكدة على قراءة صاحب الدعوة للقرآن على الترتيب المذكور..وقراءة جبريل للقرآن على الرسول(ص) على الترتيب نفسه ، بالإضافة إلى سيرة المتشرعة أيضا ونحوهم القراءة على الترتيب المذكور..شواهد حية على أن الترتيب معتبر في المقام..هذا مع أنني لا أعتقد بأن عملية جمع القرآن تمت في العصور المتأخرة، بل ما تؤكده الأدلة والقرائن والشواهد أنه جمع واكتمل في زمن الوحي..ومن هنا لا أعتقد أن عصر الرسول (ص) عصر أمية ولا النبي كان أميا بالمعنى المتبادر من الأمية، وهذا مما عالجناه بتفصيل تحت عنوان : محنة توحيد القراءات، من كتاب: محنة التراث الآخر..

س ـ في حوار مع أسبوعية الأيام العدد 254 ، 11-17 نونبر 2006 ، اعتبر الجابري أنه رغم وجوده في بيئة سنية ويصعب عليه أن يكون شيعيا أو خارجيا ، إلا أنه يتعامل بكيفية محايدة مع ما قاله الشيعة وما قاله الخوارج، كيف تنظرون إلى هذا الكلام؟
ج ـ هذا ليس صحيحا، على الأقل فيما يتصل بنقد العقل العربي..لقد تجنب الموضوعية بصورة فاضحة..وتحامل على التراث الآخر وحاكمه بكل المسلمات التي اختلقها التراث الرسمي..ربما في الكتاب الأخير حصل هذا النوع من الاجتهاد في تحري الموضوعية إلى حد ما..أما قبل ذلك فهو مما تطرقنا له وبينا مواضعه، فراجع..

س ـ في الحوار السابق مع أسبوعية الأيام ، شكك الجابري في حديث خذوا نصف دينكم عن عائشة..معللا ذلك بأن الرسول(ص) مات عنها وهي لا تتجاوز سن 18 بعد أن تزوجها وهي في سن 12 أي لم تلازمه إلا مدة 6 سنوات فكيف يعقل أن يروى عنها كل هذا العدد..؟

ج ـ هذا صحيح.. فحديث خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء ، يعارض منطوق القرآن كما يعارض محتواه نفسه بدليل إكمال الدين وإتمام النعمة..ولكنني أعتقد أنه جانب الحقيقة لما قال بأن الحديث وضع لتضخيم دور عائشة مقابل ما فعل الشيعة في تضخيم شأن فاطمة..هذا كلام يخلوا من التحقيق، وليس فيه سوى المقايسات العقيمة..قد يكون ذلك الخبر من وضع البكرية أو غيرها..لكن فاطمة لم تعط المكانة التي تستحقها، على الرغم من أنها كانت ملتقى العلم والدين كله، فهي بنت نبي وزوج إمام وأم للأئمة..ألا يجعلها ذلك في مكانة غير المكانة التي وضعت فيها في تراثنا الرسمي حتى صدقنا قولة اليسوعي لامانس وهو مطرب الأمويين كما وصفه ماسينيون ، الذي صورها كشخصية ليس لها من المميزات سوى الحزن والإصابة بفقر الدم..لكنني أدعو الجابري وأي منصف أن يقرءوا خطبة فاطمة بعد وفاة أبيها وبعد أن منعت من إرثها لنقف على زبدة الفقه الفاطمي الكبير..لماذا نستكثر على فاطمة أن تكون فقيهة وهي ملتقى العلم كله..وأحسب أن علي شريعتي كان صائبا لما قرأ قيمة فاطمة من حيث كفاءتها لا من حيث هي فقط بنت نبي أو زوج إمام وأم أئمة ، حينما قال: فاطمة هي فاطمة! مع أنني أرى أن قيمة فاطمة الذاتية يعززها أيضا أنها بنت نبي كان يقول: "فاطمة أم أبيها". وإذا كان يقول : "خيركم خيركم لأهله"..كيف لا يهتم ببضعته لتكون سيدة نساء العالمين وأعلم الناس ؟!..وإذا كان قد استفاد وصف التراث الآخر بالهرمسي من كوربان الذي أفادها بدوره من ماسينيون، فلماذا لا يقف عند تأملات ماسينيون لشخصية فاطمة ؟! وأتفق مع الجابري بخصوص العملية الحسابية التي استند عليها وقبله فعل صاحب شرح الملحمة التترية الذي كان قد أشار إلى استبعاد روايتها تلك ، مؤكدا على حساب تاريخ زواجها بالرسول (ص) وتاريخ وفاته عنها وعدد الأيام التي قضاها عندها وغيرها من الاعتبارات الأخرى ليخلص إلى أن عدد الأخبار التي نسبت إليها فيه مبالغة كبيرة..ليس ثمة جديد ، لكن أعتقد أن ما نسب للسيدة عائشة كان من قبل وضاعين لا يجدون طريقا أسهل من نسبة الأخبار لزوجة الرسول (ص) ، فكما استغلوا وضعها سياسيا في حرب الجمل ، أرادوا استغلالها أيديولوجيا في إسناد الأخبار الموضوعة إليها، وهذا أمر لم يكن غريبا على سلوك الوضاعين في ذلك الزمان وكل زمان..، فينسبونه لعائشة لأنها امرأة وكان اللقاء بها وسؤالها خلف حجاب يتيح للوضاعين أن ينسبوا لها ما شاءوا ، حيث يصعب تكذيب ذلك في كل حين..

س ـ ذكر الجابري أن الشيعة أضافت كلمة وعترتي إلى حديث تركت فيكم كتاب الله.. ما رأيكم في ذلك؟
ج ـ هذا كلام لا وجه له ، ويخلو من التحقيق..الخطأ الأول أنه لا يوجد حديث مبتور بهذا الشكل ،أي: تركت فيكم كتاب الله..والحق أن المروي هو كتاب الله وسنتي..ومع ذلك أقول أن التحقيق يجعلنا نعتقد بأن الخبر الثاني حاكم ومقيد للأول..هذا ناهيك عن أن راوي حديث العترة هو مسلم في الصحيح وكذا يذكره النووي في رياض الصالحين باعتباره متفق عليه وهو حديث ابن أبي الأرقم والنسائي في خصائصه والترمذي في صحيحه ويستحسنه وهلم جرا..فكيف يقول أن الشيعة هي من زاد ذلك..بل لو شئت التحقيق ، فإن حديث الكتاب والسنة نفسه بهذا العموم هو من بلاغات مالك في الموطأ كما يؤكد ذلك ابن عبد البر ، ولم يصح، فكيف نتهم ما صححه أعلام السنة بالوضع ونصحح ما جاء في الموطأ مرسلا ضعيفا..بينما خبر العترة يورده النسائي في الخصائص وكذا الترمذي واصفا إياه بأنه حديث حسن صحيح وغيرهما من أعلام السنة.. هذا ناهيك عن أن الجابري تحدث عن حديث يفرد القرآن دون السنة ، لم يرو قط بهذه الصيغة لا عند السنة ولا عند الشيعة..اللهم إلا أن يكون الخطأ هنا مطبعيا؟!


س ـ يعتبر الجابري أن مفهوم النبوة والإمامة عند الشيعة والمتصوفة يجد أساسه في الهرمسية؟
ج ـ قلت قبل قليل أن إحدى الملاحظات على الطريقة الجابرية استناده إلى منهج لا يفي به دائما حتى النهاية..وإلا لن يكون في الإمكان بلوغ هكذا نتيجة إلا توسلا بأسلوب الأشباه والنظائر..وهو الأسلوب الذي لو طبقناه على النص القرآني لوجدنا فيه الكثير مما نسبه الجابري إلى الهرمسية..إن الجابري يسلك هنا مسلك طائفة من المستشرقين اتبعت هذا المنهاج، وهو منهاج يقوم على قلة المعطيات وقلة الاستئناس بالتراث في كليته.. لكنه تغاضى عن رأي طائفة أخرى من هؤلاء المستشرقين الذي وقفوا على عمق آخر من التراث..هناك إذن الكثير من الانتقاء..الحديث عن هرمسية التشيع هي مأخوذة حرفيا وبانتقائية عن هنري كوربان..لكن الجابري لا يستطيع أن يتبنى كل نتائج هنري كربان بخصوص التشيع..فهنري كوربان وهو من أبرز المتخصصين في الإسلام الشيعي بعد ماسينيون ، لم يقصد ما قصد الجابري ، بل إنه انتهى إلى نتيجة ، هي أن الإسلام الشيعي الإثني عشري أصيل في التعاليم الاسلامية وهو يمثل التوازنية والتكاملية الاسلامية..لكن الجابري يأخذ ما يريد ويترك ما يريد..لأن هنري كوربان وقبله ماسينيون كانا قد اعترفا بأصالة الكثير من الأفكار الشيعية واجدين جذورها في التعاليم الاسلامية..هذا ناهيك عن وجود خلط كبير في تقدير هذه المفاهيم بين فرق شيعية كثيرة .. إن منحى الأشباه والنظائر لا يثبت شيئا ولا يسلب شيئا، لأنه منهج عقيم وساذج..لأننا لو طبقناه على جميع الأديان والمذاهب والآراء الدينية سنجدها هرمسية بصورة أقل أو أكبر..

س ـ وماذا عن القول بأن التأويل الشيعي لا يستقيم مع قواعد اللغة أو قواعد العقل كما يرى نفس الكاتب؟

ج ـ الجابري هنا يحاول أن يحاكم بعض أشكال التأويل الشيعي لبعض النصوص بقواعد المنهج الظاهري العقيم في مجال فهم النصوص..إنه بتعبير آخر يحاسب المعنى الباطن بالمعنى الظاهر..ويحاكم التأويل بقواعد التفسير..بينما لكل مجاله وحقله وأطواره في استكشاف المعنى..بعض هذه التأويلات هي مجاز أكثر منها حقيقة..واحتمال بعض المعنى من بعض النصوص لا ينفي احتمالها للمعاني الأخرى بما فيها الظاهري..إنها قصة فن التأويل الذي لم تستأنس به الطريقة الجابرية فوقعت في أحكام من هذا القبيل وتوسلت بمواقف ظاهرية ليست على كل حال جديدة على تراثنا..بل حتى النظرة الضيقة للعقل، إن هي إلا نظرة متجاوزة..وبهذا العقل الضيق بدت له المساحات الأخرى في العقل الموسع واقعة تحت العقل، في الوقت الذي تبدو العقلانية البرهانية هي ذلك الحيز الأولي والصغير في مساحة العقل الواسعة..وهذا أمر قيل حوله الكثير..وعموما لقد تطرقت إلى ما أسميته بسر تضخم النزولات التأويلية في الأئمة العلويين من كتاب محنة التراث الآخر ، ففيه بسط لهذه النكتة..دون أن ننسى التذكير بأن الجابري اعتبر أن فارس المنهج الشيعي أو الصوفي المتهرمس هو مبدأ المثال والممثول الفيثاغوري ،مع أنه لم يفعل هنا سوى التوسل بمنهج المثل والممثول..ومنطق المماثلة في حكمه بالهرمسية على العرفان الشيعي والصوفي لمجرد الأشباه والنظائر..

س ـ يقول الجابري بأن انتقاله مباشرة من بحث النبوة و الإمامة عند الشيعة والمتصوفة إلى بحث اليهودية والمسيحية ، سببه وجود نفس التقاطعات مع الموروث الهرمسي..كيف تنظرون إلى ذلك؟
ج ـ إذا كان الجابري بموجب مغالطة الأشباه والنظائر يتحدث عن تقاطعات من ذاك القبيل،مع الموروث الهرمسي واليهودي والمسيحي تأسيا بطائفة من المستشرقين وليس جميعهم، فلماذا لا يوسع من وظيفة هذه المغالطة ليقول كما قال بعض المستشرقين بالفعل ، إن وجود بعض الأفكار المتشابهة بين الإسلام وأهل الكتاب دليل على أن الإسلام ما هو إلا نقول من الكتب السماوية السابقة..حتى إذا وجدوا بعض الاختلاف في تلك التعاليم قالوا بأنها ناتجة عن نقول خاطئة لنصارى هرطقيين أو منحرفين كالذين هاجروا إلى الجزيرة العربية، مثل ما فعل بروكلمان وغيره..سيكون الإسلام كله والقرآن كله ميسر لمثل هذه التقاطعات.. مسألة التقليد والانتقاء سمة بارزة في مثل هذه الأحكام..والمطلوب أحيانا أن لا نبني على ما وقعت عليه أيدينا من أفكار دون أن نكلف أنفسنا التحقيق فيها والبحث عن مزيد منها..أو أن ننتقي أحيانا دون ترجيح إلا ما كان ينسجم مع النسق الذي نرتضيه..مثل ذلك مثل إنسان يصنع هيكلا فارغا ثم لا يهم بأي محتوى يملؤه بعد ذلك..أي هو في النهاية هيكل مغر في الظاهر لكنه مليء بمادة خسيسة ، وأحيانا ملفقة من مختلف المعادن النفيسة والخسيسة..

س ـ يرى الجابري أن الشيعة وجدوا في نظرية الفيض الأفلاطونية ما يؤكدون به تلقى الإمام للوحي ؟
ج ـ لا أدري حقيقة، أي تشيع هو المعني بهذه الأحكام ؟ ربما هذا من تأثير آراء أهل الملل والنحل بخصوص الفرق التي يسمونها ضالة.. وإذا كنا نسعى لفهم عقائدهم من خلال بعض متفلسفتهم كإخوان الصفا وابن سبنا ، فالأمر سيكون مدعاة للأسف، لأن رأي السنة لا تمثله الرواقية الفلسفية التي تمثلها الرازي ونظراءه..قسم كبير من الآراء و التعاليم التي بنى عليها الباحث هذا الحكم لا تعبر عن ما أجمعت عليه هذه المدرسة..بمعنى آخر يمكن أن يستدل شخص ما بحديث صحيح أو غير صحيح من البخاري ومسلم على أن عقائد أهل السنة هي كيت وكيت..لكن المعتبر في المدارس والمذاهب هو ما أجمعت عليه المدرسة في آخر طبقاتها وإجماعاتها ..ولا نكتفي بالشاذ النادر كما أن قسما من الشيعة الذين أخذ عنهم الجابري أمثلة عن الغلو وهم طائفة من الأخبارية مثلا ، هم ممن يرفضون الفلسفة وينكرون على من قال بالفيض ومع ذلك بين أيديهم نصوص تثبت تميز علم الإمام..هذا التميز من وجهة النظر العقائدية لا يثبت استمرار الوحي بالمعنى الخاص الذي هو من وظيفة الرسول ـ ص ـ.. بل الحديث هنا فلسفيا عن أن علم الإمامي هو من جنس العلم الحضوري الذي تفيده الآية:" لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم" ، حيث علمهم بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء وذكر علمهم في سياق ما علموهم حضوريا يفيد هذا التميز، وليس ذلك من جنس الوحي بالاصطلاح الخاص ، بل العلم الحضوري مقابل العلم الحصولي الذي هو علم سائر الناس..ولما أقول الاصطلاح الخاص وأقرنه بالوظيفة ، لأقول بأن العلم الحضوري بالمعنى العام هو ضرب من الوحي،لأنه حدوس وكشوف..وهذا من جنس "أوحى ربك إلى النحل" وما شابه..ومن هنا أحب أن أقول بأن الوحي ليس ميزة بها استحق الرسول مقام النبوة، بل الوحي وظيفة للتبليغ يمكن أن توجد فيمن هم أدنى مقاما من الإمام نفسه متى اقتضت مشيئة الله..ونحن نعتقد أن الوحي بالمعنى المذكور توقف مع وفاة الرسول ـ ص ـ ، لأن ما بعدها ختم للرسالة، ولكنه بدء التأويل ، الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم..والقضية لا تحتاج إلى فلسفة الفيض ولا إلى شقاوة الأشباه والنظائر التعسفية..وتفصيل ذلك يطلب في محله..

س ـ تتهمون الجابري بعدم معرفته بالمعطيات التاريخية ووقوعه في الخلط، كيف ذلك؟
ج ـ ليس الجابري وحده متهما بذلك، بل ربما لأنه حاول أن يقدم قراءة صحيحة لما هو سائد في معتقدات السواد الأعظم من الناس..ثمة مستشرقون كما قلت وقعوا في هذا النوع من الخلط ، لأنهم استهانوا بالتراث الآخر ولم يكلفوا أنفسهم بتوزيع الجهد على كل التراث..ليس غريبا أن ترى مونتسكيو مثلا في رسائل فارسية يترجم عبارة الإثني عشر إماما عند الإمامية بالأنبياء الإثني عشر ـ douze prophetesـ..أو مثل غولدزهير حينما يعتبر زواج المتعة هو ذلك الزواج الذي يترخص فيه الشيعة في ظروف خاصة مثل الحج، وهو هنا يخلط بين متعة الزواج ومتعة الحج..أو اعتبار دو غوبينو كتاب الأسفار لملا صدرا كتاب رحلات جغرافية..أو إدوارد براون الذي اعتبره بمعنى الكتب الأربعة ، السفر بمعنى كتاب..مثل هذا يقع من مستشرقين ومن باحثين عرب ومن مترجمين..وفي تصوري أن مرد ذلك كله إلى الإهمال..قد تجد شريطا سينمائيا هوليوديا لا يكاد يهمل صغيرة أوكبيرة في تفاصيل التصوير السينمائي..لكن حتى اليوم لا زلت تجد الممثل الأمريكي الذي ينتحل شخصية مسلم ، لا يكاد يبدل من الجهد لكي يتعلم كيف يقدم صورة الصلاة الاسلامية أمام الكاميرا، فتراه يسجد مباشرة بعد تكبيرة الإحرام بدل أن يركع أو يرفع يديه معا إلى الأعلى وينزلهما بصورة مكررة كما لو كان من قبيلة أباتشي..أرى أن الذين اكتفوا بالموجود من معطيات ، يسلكون المسلك نفسه..لذلك تصور أي فضيحة تكون لما تكن أنت ممن استأنس بتلك المعطيات..كما قلت قبل قليل ، إن الوقوع في الاشتباه والخلط أحيانا يكون عفويا وأحيانا يتحول إلى عطب بنيوي..وفي مثل هذه الحالة يصبح خطيئة وليس خطأ ..وما كنا نرجوه دائما من كل باحث غيور على المعرفة أن يتثبت أكثر في الأحكام..وفي ظني أن فيما تطرق إليه الجابري في كتابه الأخير يوجد الكثير من الأفكار ، بعضها يحتاج إلى تأمل وبعضها الآخر مهم وجدير بالتقدير..

س ـ كلمة أخير حول كتاب الدكتور محمد عابد الجابري؟
ج ـ أقول بالنسبة لكتاب السيد الجابري : بحث مشروع وتفكير مشروع ..ومع أن ما قاله ليس فيه جديد إلا على بيئتنا ، فإنني رأيت في كتابه الأخير قطيعة موضوعية ولو صغرى مع الكثير من آرائه في ملحمة نقد العقل العربي..وأقول أيضا بالمناسبة ؛ إن وجود أخبار عند الفريقين رويت على نحو من الشذوذ مطمئن بعدم صحتها، فالقول بصحة ما بين دفتي المصحف العثماني ومحفوظيته يتفق عليه المحققون من الفريقين كما لا يخفى..ومع ذلك نعتقد أن ثمة توجيه لمعنى الحرف ، يجعله مصداقا للتأويل الذي حورب في التاريخ الإسلامي تحت أكثر من عنوان..وأن يكون القرآن تبيانا لكل شيء ، ليس بالتوقف عند ظواهره أو الاستناد إلى ما جاد به المورد الأول ، بل إن تبيانه لكل شيء مشروط بالتأويل ، أي الخروج بالنص من زمن التنزيل إلى زمن التأويل..ومن النزول الواحد بلحاظ المورد الأول إلى النزولات المتجددة برسم الموارد المحتملة والنوازل المفترضة؛ فالقرآن كما يقول صدر المتألهين: مجدد الإنزال على قلوب التالين له!


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: