قضايا للتفكير، ضمن سلسلة أقرأ لكم.
المقالة رقم : 1
هذه
بداية سلسلة من مقالات ، بعنوان " أقرأ لكم"، توثّق للصراع الفكري
والسياسي بين التيار العلماني والتيار الديني الأصولي، على خلفية أن الصراع
الفكري والسياسي هو تجسيد لصراع طبقي،حسب ألتوسير، وعند البعض تجسيد ل"
التدافع". كلّ هذا يضع المقولة الماركسية التالية "الثقافة السائدة للطبقة السائدة"، في مِحكّ مدى مِصداقيتها.فلكل جِدال أو صراع أو اختلاف رهان ظاهر أو مسكوت عنه.
أقرأ
لكم في هذه الحلقة موقفا لمفكّر علماني لبناني هو " علي حرب" الذي يقوم
بتشريح طريقة اشتغال العقل الأصولي من منطلق الفكر المُخالف أي الفكر
العلماني، وفي حلقة قادمة نستحضر نصا لمفكّر أصولي يُوضّح فيه رأيه من قبيل
ما فكّر فيه المُخالفون من العلمانيين لتصوراتهم.
(مقتطف من كتاب :المصالح والمصائر.على حرب.ص 31-34.ط 2010.منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون).يقول علي حرب:
" تشريح العقل الأصولي.
داء الاصطفاء وفخ الاستثناء.
داء الاصطفاء وفخ الاستثناء.
من
وقائع العصر الكبرى، أن الأصولية الدينية،وبخاصة، الإسلامية، أمست االيوم
لاعبا أساسيا على المسرح وفاعلا قويا في المشهد العربي والعالمي.من هنا فهي
مدار لقراءات وتأويلات مخنلفة ومتعددة....بماذا نفسّر عودة الدين على
المسرح بهذه القوة ؟ وإلى أين تقودنا المشاريع الأصولية؟ وكيف يتشكّل
النموذج الأصولي ويعمل؟ أو كيف يصنع عقل المتديّن في مجتمع تعدّدي ...؟
*- الهويّة العنصرية:
1- أولها (المعتقد الاصطفائي)
الذي يزرع في عقل المسلم منذ النشأة، شعورا عارما بالنرجسية التي تجعله
يؤمن بأن أهل ملّته وفرقته ليسوا كبقية الناس،لأن الله اختارهم لكي يكونوا
ناطقين باسمه أو يجسّدون كلمته...ولهذا فهم في نظره وحدهم أهل الإيمان
الصحيح والسائرون على الصراط المستقيم والنهج القويم، وما عداهم في ضلال
مُبين.إنه( داء الاصطفاء وفخّ الاستثناء.)
2- والوجه الآخر للمعتقد الاصطفائي،هو (اليقين الدوغمائي) الذي يُهم كل مُتديّن، وبخاصة المُسلم... بأنه ينتمي إلى جماعة هم وحدهم مالكو مفاتيح الحقيقة والاستقامة والهداية والسعادة.هذا
الوهم المزدوج يتجسّد في نهاية المطاف في (هويّة عنصرية) تجعل أصحابها
يرون إلى أنفسهم بأنهم الأحق والأصدق والأكمل والأشرف والأنظف علما وخُلقا
أونسبا ومكانة أو عملا،ومالا،كما تملآ السمع والبصر الخطابات من جانب
الدعاة على الشاشات.هذا هو الأساس الذي ينهض عليه المشروع الأصولي ويُفجّره
في آن...
3- الوجه الثالث للإصطفاء واليقين، هو( الفكر الأحادي)..
ويترتب عن ذلك نفي أي إمكان وجودي للتعدد والتنوع أوللالتباس والإشكال
والتوتر والتعارض أو للحركة والصيرورة...هكذا تُقرأ النصوص : المعنى واحد،
والحقيقة مطلقة،واليقين قاطع،والحقّ بيّن لا لبس فيه ولا يقبل الجدال، نحن
هنا إزاء ديكتاتورية الحقيقة وإمبريالية المعنى.
4- الوجه الرابع لدعوى الاصطفاء والوثوق والوحدانية، هو(المبدأ السكوني).فالأصل
عندهم ثابت...إنه يقع خارج الزمان والمكان بقدر ما هو متعال على التاريخ،
ولذا فإن أصحابة يعتبرون بأنه ينسخ ما قبله ويلغي ما عداه بقدر ما يعتبرون
بأن ما يأتي بعده ينبغي أن يكون محرّد تجلّ له أو امتداد أو تطبيق وإلا
كان مجرد انحراف وفساد أو زيغ وبطلان.
...ولذا فالأصولي لا يُمارس فعل
التفكير الحيّ والخلاّق...إنه يفكر بصورة مُغلقة أو أحادية، بقدر ما تتحكّم
في تفكيره المقدّسات والمسلّمات والمسبقات.فهو إذن ليس ذاتا مفكرة، بل
مجرّد جهاز إيديولوجي..بقدر ما يعتبر أن هناك مَن فكّر عنه وما عليه إلاّ
الامتثال والطاعة، وتلك عقلية الحشد والقطيع." انتهى حديث علي حرب.
المقالة الثانية
تشريح العقل العلماني.
سنختار كنص محاور لموقف المفكر العلماني علي حرب، مفكّر من طينة خاصة، وهو المفكر محمد عمارة من خلال كتابه" الإسلام والعلمانية الغربية"، ومعلوم أن المفكر محمد عمارة خبر الفكر اليساري تجربة وممارسة قبل الانتقال إلى الطرف النقيض.يقول محمد عمارة:" إذا كانت الشريعة الإسلامية هي المنهاج الإلهي لرعاية وتدبير الاجتماع الإنساني، في مختلف دوائر هذا الاجتماع : الفردية والأسرية، والاجتماعية والسياسية،والاقتصادية والقيمية، وفي دوائر النظم والحكومات، وفي العلاقات والدوائر القومية والإقليمية والدولية..ومع ذلك في شؤون الدار الآخرة...أي في سائر مناحي عالمي الغيب والشهادة. ولأنها عقد وعهد الاستخلاف الإلهي للإنسان،كي ينهض بأمانة استعمار الأرض وفق ضوابطها وعلى هدى معالمها :"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون."(الجاثية 18)." قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيّما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين(161) قُل إن صلاتي ونُسُكي ومَحياي ومماتي لله ربّ العالمين (162) لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أول المسلمين." (الأنعام).
إذا كانت هذه هي فلسفة الشريعة الإسلامية،ومقاصدها، فإن العلمانية الغربية هي على النقيض من ذلك، فهي عزل السماء عن الأرض،وتحرير العالم والإنسان والاجتماع الإنساني من التدبير الإلهي ومن حاكمية السماء
بدعوى أن العالم مُكتف بذاته، وأن الإنسان هو سيد هذا الكون،يُدبّر حياته ب" العقل " و" التجربة " دونما حاجة إلى رعاية أو تدبير من وراء الطبيعة وخارج العالم الذي يعيش فيه.
وإذا كانت أمتنا الإسلامية قد عاشت قرونا ما قبل الغزوة الاستعمارية الحديثة في ظل الحاكمية الوحيدة والفريدة للشريعة الإسلامية..ولما كانت العلمانية الغربية- إذا هي طُبّقت في المجتمعات الإسلامية – عزل الإنسان المسلم عن هويته الإسلامية، وانفلاته من حاكمية شريعته الإلهية، وتحويل قبلة الأمة عن تراثها التشريعي الفقهي إلى حيث تصبح قبلتها القوانين الوضعية الغربية، وفلسفتها التشريعية النفعية الدنيوية،ومنظومة قيمها التي تحرر " المصلحة" من الاعتبار الشرعي..لما كان الأمر كذلك، كانت العلمانية الغربية من أولى كتائب الاختراق الاستعماري لعالم الإسلام وثقافة المسلمين.." ص 7/8.انتهى حديث محمد عمارة.
السؤال كيف يُفكّر العلماني الغربي وصنوه العربي، في مقابل ما عرضناه بخصوص طريقة تفكيرالأصولي؟ يُجيبنا المفكر محمد عمارة بما مفاده، أن العلماني المُلحد ينكر جملة وتفصيلا التدخل الإلهي في تدبير الكون، يقول محمد عمارة:"أما العلمانية الأوروبية (ولها أنصار في العالم الإسلامي) المؤمنة بالله من أمثال هوبز ولوك وليبنتز وروسو وليسينج..الذين قاموا بالتوفيق بين الإيمان بوجود إله خالق للعالم، وبين العلمانية التي ترى العالم مُكتفيا بذاته..وكان هذا التوفيق مؤسسا على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية ..فالله في التصور الأرسطي ، واحد مفارق للعالم، وخالق له..لكنه قد أودع في العالم والطبيعة الأسباب التي تدبّرهما تدبيرا ذاتيا دونما حاجة إلى تدخل إلهي،أو رعاية إلهية بعد مرحلة الخلق " فالحركة توجد في الشيء ذاته ولذاته ، لا من حيث أن شيئا خارجيا هو الذي يحدث فيه هذه الحركة، وعناية الله موقوفة على ذاتها ولا تدخُّل له في الأحداث الجزئية في العالم والطبيعة.(عبد الرحمن بدوي.أرسطو) ...كصانع الساعة الذي أودع فيها أسباب عملها ، دون حاجة إلى وجوده معها وهي تدور.!
إذن نحن أمام مقولة :دع ما لقصير لقيصر،المسيحية المنشأ،إضافة إلى مقولة "الدين لله والوطن للجميع"، وهي من آليات التفكير العلماني في استبعاد العناية الإلهية من خلال تحييد الشريعة الإسلامية وربطها بما هو فردي شخصي، ضمن مقولة أخرى تُدافع عن حريّة المعتقد.هل هذا التصور العلماني يعني بتعبير مرسيل غوشي" الخروج من الدين"؟ وهناك من يفُرق بين التعبيرين الخروج من الدين) و(الخروج على الدين) يمكن تلخيص تشريح العقل العلماني من خلال الحكم التالي :"العلمانية جهاد في سبيل الدنيا، كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة، ليُصبح العالم بتعبير عبد الوهاب المسيري :"مادة نسبية لا قداسة لها، لتصبح العلمنة هي الترشيد المادي ، أي إعادة صياغة الواقع المادي والإنساني في إطار نموذج الطبيعة / المادة بالشكل الذي يحقق التقدم المادي، مع استبعاد كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية..بحيث يصبح كل مجال خاضعا للقوانين المادية الكامنة فيه."
ولا يفوتني في نهاية المقالة الإشارة إلى موقف المفكر محمد عابد الجابري من إشكالية العلمانية، كان جوابه على سؤال: يرى العلمانيون العرب أن لا إمكانية حقيقية لنهضة عربية إلا بتكرار تجربة أوربا في فصل الدين عن الدولة، كيف تنظرون إلة مثل هذه الدعوات؟(مواقف ع 26)كالتالي:"مصطلح " علمانية" أو ما يقابله في اللغات الأجنبية له تاريخ ويدل على شيء معين. فإذا أردنا نقله إلينا فعلينا أولا أن نعي معناه في مجاله الأصلي. العلمانية في الفكر الغربي لا معنى لها بدون الكنيسة، العلمانية هي إخراج السلطة الخاصة بشؤون الدنيا من الكنيسة ونقلها إلى الدولة. نحن لا توجد لدينا كنيسة، وفي الإسلام لا توجد كنائس. وشؤون الدنيا في يد الحاكم، هذا الحاكم مسلم، لأنه ينتمي إلى مجتمع إسلامي، سلوك يوزن بمقياس الدين. وفي نظري أن استعمال مصطلح العلمانية بهذا المعنى ( فصل الدين عن الدولة) والترويج له في الأوساط الشعبية عمَل ستكون نتائجه معكوسة تماما. لأنه سيفهم منه فصل الدين عن المجتمع وسلب الناس دينهم. لا توجد كنيسة تجسد هذه السلطة التي يجب أن تعزل أو تنعزل. فحين نقول بفصل الدين عن الدولة، فقد يعني أننا نفصل الدين عن المجتمع، والمجتمع هو الناس، وبالتالي نفصل الناس عن دينهم. هذا الطرح يشكل خطرا كبيرا على مجتمعاتنا لابد أن ننتبه إليه.
وفي المقابل فإننا يمكن أن نأخذ من العلمانية الغربية ما نحتاج إليه في مجال الحداثة، في ميادين التعامل على مستوى الفكر أعني الديمقراطية والعقلانية إذا استطعنا الأخذ بهذين الأمرين كأساس نبني عليه فأعتقد أننا سنكون قد أخذنا ما نحتاج إليه بالفعل من العلمانية.
الشعارات والمفاهيم هي كالأدوات، ما دامت تنفع وتساعد على التوضيح فهي مفيدة وضرورية، أما إذا كانت تزرع البلبلة وتثير ردود فعل معاكسة فيجب أن ستبعد."
المقالة الثالثة
عبد الكبير الخطيبي والموقف من مُرتكز الحركات الإسلامية.
من الإمكانات التي سيطرحها الربيع العربي، تكمن في تقييم بعض الأطروحات التي تتصارع في الساحة السياسية من أجل الظفر بالسلطة بغاية تطبيق المشروع الفكري والسياسي لأطراف الصراع. ومن هذا المنطلق يُمكن الرجوع إلى أدبيات مختلف أطراف الصراع، وقد قدّمتُ موقف كل من على حرب ومحمد عمارة، كواجهة لصراع طبقي بواجهات الإسلام السياسي – الحركي في ص...راعه مع العلمانية، وقد برز التيار الإسلامي السياسي ( نفصد التيار الذي يسعى إلى تسييد الإسلام عن طريق اللعبة السياسية) وهذا يمرّ عبر امتلاك السلطة من أجل تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية التي يعتبرها المرجع الأساسي والوحيد للدولة. ما الذي يُدعّم الحديث عن هذا الصراع حول السلطة ومن ثمة السيادة؟ إن ما أفرزته الثورة في تونس (حزب النهضة )ومصر( حركة الإخوان المسلمين وبعض فصائل الحركة السلفية الجهادية..) وليبيا ( ثوار مصراطة كبذرة جنينية لقيام حركة إسلامية كنسخة من حركة الإخوان المسلمين بمُباركة دولة قطر راعية الفكر الوهابي الحديث) وأكيد أن نفس البوادر تظهر في اليمن وسوريا وربّما في الجزائر مع إمكانية عودة جبهة الإنقاذ...هذه الوضعية تخلط الأوراق من خلال التعتيم على الثورة باعتبارها كما يقول المفكر مهدي عامل:" تحويلا لعلاقات الإنتاج المادية الخاصة بنمط الإنتاج المسيطر في بنية اجتماعية محددة، وهي بالتالي انتقال من هذا النمط من الإنتاج إلى نمط آخر ، وذلك من خلال طبقة مُهيمنة كالبرجوازية في الثورة البرجوازية، والطبقة العاملة في الثورة الاشتراكية.." ( نقد الفكر اليومي).إذن يبدو الصراع في الواجهة بين التيار العلماني والتيار الإسلاموي، لكنه صراع يخفي جوهر المشكلة الحقيقة المتمثلة في طبيعة مُقدّرات البلاد التي يطمع فيها الغرب كمستودع هائل للخيرات، وبالتالي تقديم الصراع على أنه سياسي أو إيديولوجي هو من قبيل التستّر على حقيقة الاستغلال الذي ستتعرض البلاد لفترات طويلة من الزمن، من قبل الباطرونا الكولونيالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيةـ التي أبانت عن قدرتها في سرقة الانتفاضات الشعبية العفوية، وما تقديم التيار الإسلاموي نفسه للغرب الحليف ،على أنه وسطي سوى دليل على أنّ الحسابات السياسوية مع الغرب الإمبريالي واردة.
أسئلة بعيدا عن تعقيدات المثقفين:
ما يهمّني في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تطور المجتمع العربي، هو البحث في مصير مرجعيات الطرف النقيض للحركات الإسلامية، والتي تُشكّل الأداة الفكرية التي تؤسس للتنابذ والفُرقة مع الخصم الإيديولوجي.لكن السؤال المطروح هو : لماذا نجحت الحركات الإسلامية في استمالة الناس وإقناعهم بمشروعها في الوقت الذي انهزم فيه التيار الحداثي واليساري في جل البلاد العربية إبّان الربيع العربي وبعده؟أين تكمن قوّة المشروع الإسلامي الحركي ( ونُميزه عن الدعوي والوعظي من مثل تجربة حركة الدعوة والتبليغ التي لا تشترط المرور عبر جهاز الدولة لإشاعة الإسلام الصحيح بين الناس، فهي تتصل معهم مباشرة وعلى أرض الواقع من خلال " الحَرْكات" والولائم... )؟ ولنا في تجربة تونس النموذج والذي يُمكن أن يتكرر في كثير من الدول، بالرغم من التلويح بتقليد النموذج الإسلامي التركي برعاية الولايات المتحدة الأمريكية كما سنوضّح في مقال مُستقبلا.وهذا سيطرح بالضرورة مشكلة مأسسة الإسلام ، التي سيترتب عنها الزجّ بالإسلام ضمن حقل الصراع الطبقي ومن ثمة الانحياز إلى طرف ضد الآخر تماشيا مع ضوابط اللعبة السياسية، وفي هذا الإطار نورد نصّا للمفكر عبد الكبير الخطيبي كنموذج لحقيقة الصراع بين الحركات الإسلامية ونقيضها من مختلف التيارات التي تُنعث بكثير من المسميات إلى حد الخلط : العلمانيون والحداثيون واليساريون والديمقراطيون...لكن هل أخطاء الحداثيين واليساريين هي السبب في فشلهم في فرض أطروحاتهم في عزّ فوران الربيع العربي؟ إذن ما هي هذه الأخطاء؟ وهل استفاد الحداثيون واليساريون الذين ربما يشتغلون تحت راية العلمانية من أخطائهم وقاموا بمراجعات على غرار مراجعات كثير من الحركات الإسلامية بخصوص العنف (عند البعض الإرهاب) وخاصة ما يُسمى باليسار الجذري والعلمانيين الذين يتبرّؤون من التكاليف الشرعية تحت حجة الحق في ممارسة العقيدة؟ كيف يستطيع اليسار الجذري الذي يزعم الدفاع عن " الجماهير الكادحة" إقناع هاته الجماهير المُستغلَّة،التي تُشكّل الطبقة العاملة والفلاحون عمودها الفقري، باعتناق فكر سياسي يتم الزعم بأنه في صالحهم من أجل تحقيق وجودهم كمواطنين أحرار لا مجرّد عبيد لغيرهم ( مُستغَلّين)؟هل بالفعل وصلت الجماهير الشعبية إلى وضعِ تُفرّق فيه بين الخطاب السياسي الدنيوي وبين الخطاب الديني المُتعالي؟ بين ما هو اجتهاد تترتّبُ عنه مُحاسبة، وبين تلبيس ممارسة دنيوية نسبية صفة القداسة بحيث تستتبعها الطاعة والخضوع؟ كيف نحلّ مُعضلة الإشكال الذي طرحته مُتدخلة في ندوة على السيد عبد الإله بنكيران متُسائلة: لو أصبحتَ رئيسا للحكومة، هل كلّما اختلف معك شخص في الأمور السياسية الدنيوية ستقول قال الله تعالى؟ إنها إشكالية الفهم بين المطابقة( كثيرون من التيار الإسلامي يخلطون فهمهم واجتهادهم مع مضمون النص المقدّس ، غير عابئين بالقاعدة المنهجية التالية: هنالك فرق بين الشيء ومعرفة هذا الشيء، وبالتالي هنالك فرف بين الفكر الديني كفكر بشري في الزمان والمكان، وبين النص المقدّس الذي يبقى هو هو)أما الطرف النقيض للتيار الإسلامي فيطالب بالحق في التأويل المولّد للاختلاف رافضا مفهوم المطابقة بين الفهم الإنساني والنص المقدس حسب تفسير محمد أركون..
سأقرأ عليكم مُقتطف من حديث مفكّر يُعتبر أحد مرجعيات الفكر الحداثي الداعي إلى القطع مع تراث الماضي العربي الإسلامي( من خلال مفهوم النقد المزدوج) يتعلق الأمر بعبد الكبير الخطيبي، والنص عبارة عن مداخلة في ندوة : التراث وتحديات العصر في الوطن العربي ( الأصالة والمعاصرة) وهي ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في أواسط الثمانينات من القرن الماضي. والكتاب مُجلد من 878 ص طُبع سنة 1985 وشارك في الندوة معظم أطياف المثقفين العرب.سؤالي هل مضمون ورهان حديث الخطيبي ومثله حديث عبد الله العروي حول القطع مع الماضي( التراث )، هل هو من أجل النخبة فقط أو هو موجّه لعامة الناس، لكن إذا لم يكن مشروعا قابلا للتطبيق فما الغاية من طرحه أصلا؟ وإذا كانت الغاية منه التطبيق فهذا سيمسّ بالضرورة طريقة عيش المواطنين المتديّنين، وبالتالي تُطرح إشكالية إقناع " العوام بالقطع مع تراثهم ( إقرأ موقف الجابري في المداخلة الثانية حول العلمانية). .وكما سنرى النص صادم لو تمعّنا في رهاناته الحقيقة. وهو نفس الرهان الذي أسقط التيار الحداثي في تونس حين طالب بالقطع مع الماضي،واعترفت الأحزاب الحداثية في تونس بخطإها في تقدير الهوية الإسلامية للشعب التونسي ،ليستغل تيار النهضة هذا الانزياح عن هوية العامة التي هي المحك الحقيقي لمصداقية أي خطاب، هذا إذا تجاوزنا أطروحة استغفال العوام واحتقار مواقفهم مما يجري.هذا الأمر جعل المفكر والفيلسوف التونسي " يعقوب المرزوقي" المنتمي لحركة النهضة يصف العلمانيين التونسيين ب"النخبة المزمرين" .
هذا مقتطف من نص طويل، ولا مناص من الرجوع إلى النص لفهمه في كليته، حتى لا نُتّهم بتشويه موقف المفكر عبد الكبير الخطيبي الذي نُقدّره ونحترم مواقفه الجريئة في نقد فهم السلفية للتراث.والنص عبارة عن تعقيب ر قم 6 حول موضوع :الفكر الغربي والتغيير في المجتمع العربي، للمفكر أحمد صدقي الدجاني، ضمن إشكالية : الأبعاد الرئيسية لمشكلة الأصالة والمعاصرة.ص . 355/303.
يقول المفكر عبد الكبير الخطيبي:" ينبغي علينا أن نبحث عن شيء مغاير في تقسيم الوجود العربي والإسلامي، وأن نتخلص من وهم الأصل المطلق والهوية السماوية والأخلاق العبودية. شيء مغاير وبكيفية مخالفة- وفق فكر متعدد- في خلخلة كل ما هو متعال، ومهما كان ن تحديده، إنه الآخر الذي ليس وجودا متعاليا،وإنما مواجهة خارجية لا متماثلة : في الحياة والموت.
هذا الخارج وهذا الغير من شأنهما أن يهزّا ميتافيزيقا عالم أبقت عليه الثيولوجيا وصانه الطغيان، كلاّ إننا نأبى أن نكون حطام نهاية هذا القرن، إذا اعتبرنا هذه النهاية في حركة اكتساحها.
وحدها مغامرة فكر متعددة ( متعددة اللغات والحضارات والبناء التقني والعلمي) تستطيع على ما يبدو، أن تؤمّن لنا الوجود في منعرج هذا القرن على الساحة الكونية. ولا خيار لأي منا في هذا الأمر، إنه عالم لن يعود إلى أسسه الميتة.
...لقد انهزم البعض منا وخضع لقهره اليومي وعبوديته، بينما استمر البعض الآخر في النضال السياسي، رغم كل شيء، سواء في إطار حزب أو النقابة أو أي تنظيم سرّي، ومات آخرون أو ما زالوا يقهرون التعذيب. ".
إن هذا ال" نحن "الذي نُعمل فيه فكرنا لا يوجد داخل مجال الميتافيزيقا، بل على هامشها، وهو هامش واع يقظ...لنقل بأن أي إله لن يحضر موتنا بعدو لا أي ملاك، بل ولا أي شيطان. لقد سبق أن بيّنا في مكان آخر أن نقدنا يريد أن ينزل الجنة والنار في فكر مغاير، لا يواجه إلا المرئي..."
0 التعليقات:
more_vert