مجرد اندهاش فلسفي.
كثيرة هي المقالات الفلسفية التي " تلوك" وتجتر ما تم استهلاكه من فهم أو تفسير أو تأويل نفس الفلاسفة المنتمين للقارة الأوروبية بالخصوص، وكأن الفلسفة لم تعرف طريقها إلى بقاع العوالم شرق وغرب وجنوب أوروبا. في كل مرّة تنكشف حقيقة لم يتم الانتباه إليها حتى من قبل مبدعها الفيلسوف ذاته، وبالتالي أصبحنا أمام تفسير وإعادة تفسير لما قيل، وربما سقط البعض في دوامة " حدّثنا"و" رُوي عن "...طبقا لمنهج إسنادي لبس عباءة الفلسفة، وهذه الأخيرة كما تعلمنا من الفلاسفة أنفسهم،هي أشبه بتعلم السباحة لكن شريطة ممارسة السباحة وليس الحديث عن ونفسير السباحة....
والحالة كيف تكون قراءة الفلاسفة تدعيما وسندا لإبداع فكر وفعل يكونان في منزلة المنارة التي نسترشد بها في الإبحار تجنبا للكارثة، وترحالا لاستكشاف المجهول.
بالمناسبة،قال مصطفى النجار في كتابه " العلاج بالفلسفة": برغم أن عُشّاق الفلسفة النظرية موجودين في كل عصر،وهم كثيرا ما يتوقون إلى قراءة تأمّلات الفلاسفة حول قضايا الوجود والخير والجمال، وهم عادة ما يحبون العيش في دهاليز مذاهب الفلاسفة، ينعمون بفكّ رموزها واصطلاحاتها ويشعرون بالسعادة الغامرة مع القدرة على تفسير آراء هؤلاء الفلاسفة وفهم أبعادها ومقارنة أراء هذا بأراء ذاك،حول هذا الموضوع أو ذاك من الموضوعات التي تناولوها في مذاهبهم.فضلا عن إدراك مَنْ تأثّر بمَنْ!!!! ومن أثّر في مَنْ؟!!! ( وبالرغم من أهمية البحث النظري..) بدأ التساؤل عن جدوى الفلسفة بهذا المعنى النظري وعن جدوى المذاهب الفلسفية المجردة، وعن جدوى العيش بين المصطلحات المجرّدة للفلسفة....مثلا في مجال الفلسفة السياسية لم تعد أسئلة فيلسوف السياسة تهتم بالمعنى الأمثل للدولة والتصور الأمثل للعدالة والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين ، لم تعد هذه الأسئلة المعيارية التي ترتكز على ما ينبغي أن تكون عليه الدولة الصالحة،ومكوناتها موضوع الاهتمام،بل أصبحت فلسفة السياسة التطبيقية الآن معنية بحقوق الإنسان. في ظل أيّ دولة وفي ظل أي نظام للحكم،أن الفلسفة السياسية الآن لم تعد مبحثا قيميا موضوعيا بقدر ما أصبحت ترتبط بالبحث في مصلحة المواطن في ظل أيّ دولة. وأصبح تقييم النجاح في عالم السياسة مبنيا على المصلحة. فما لم يوجد شخص صاحب مصلحة فلا توجد مصلحة من ثمة لا توجد قيمة لخدمتها كما يقولون." ص16.
إنها إشكالية ردم الهوّة بين النظري وتوظيف النظري في امتلاك الحياة اليومية ومن ثمة الارتقاء بإنسانية الإنسان.لأن سؤال : ما قيمة الفلسفة في الحياة، سؤال جوهري بالنسبة للشعوب التي تعرف تأخرا حضاريا، ومن النصوص التي تؤرّقني، نص لإبراهيم زكريا يقول فيه :"تختص الفلسفة بكونها روح البحث المستمر، والحرية الفكرية، والتسامح العقلي، والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين. والحق أنه لا تكون ثمة فلسفة ما لم يكن هناك شعور بالحرية، وإيقان بأن الحق فوق القوة، واعتراف بأن العلاقات البشرية ينبغي أن تقوم على التفاهم والتسامح، لا على التخاصم والتنازع. ولعل هذا ما قصده أحد المعاصرين حين قال :" إن الفلسفة لا تبدأ إلا حينما يتهيأ البشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدّة، لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودّة".
إذا كان للفلسفة اليوم، أن تقوم بدور فعّال في مجتمعنا المعاصر، فلا بد لكل منّا... أن يفهم أنه مواطن حرّ، وأن حرّيته لا تعني الانطواء على نفسه، أو قطع وشائج التواصل بينه وبين الآخرين، بل هي تعني الحوار مع غيره من أبناء الجماعة، وتحقيق المزيد من أسباب التفاهم بينه وبين الآخرين. وما دامت الفلسفة حديث الإنسان، وحوار المواطن الحر مع المواطن الحر، فلا يمكن للروح الفلسفية الحقّة أن تقترن بالتعصّب أو العداء أو الاستبداد بالرأي، بل لا بد من أن تكون حليفة الحرّية والتسامح والانفتاح وسعة الأفق.(مشكلة الفلسفة. ص 159/158) بالرغم من النفحة المسيحية التي تسكن بين كلمات المفكر زكريا إبراهيم، قد استطاع ربط الفلسفة بالحياة.
ما لم يُعنق الوعي الوجود، سنبقى مجرّد مُردّدين وشارحين ومفسّرين. على الأقل آن أوان ترجمة الفكر الفلسفي إلى واقع يظهر في ممارستنا الاجتماعية والسياسية واليومية ولو في الحدود المعقولة ( احتراما لمبدأ النسبية، بحيث لاوجود للمطلق في مستوى المتخيّل) على الأقل ترجمة ما قاله هيجل إلى ممارسة حياتية، وإلا ما الجدوى والحاجة إلى الفلسفة. قال هيجل :" إن أشياء الطبيعة لا توجد إلا وجودا مباشرا وبكيفية واحدة، أما الإنسان فإن له، إذ هو روح، وجودا مزدوجا : فهو يوجد من جهة مثل أشياء الطبيعة، ولكنه من جهة أخرى يوجد من أجل ذاته، يتأمل ذاته ويتمثلها ويفكر في ذاته. إذ أنه لا يكون روحا إلا بهذا النشاط الذي يُشكّل وجودا لذاته. ويكتسب هذا الوعي بالذات في صورتين: أولا في صورة نظرية، لأن عليه أن ينكفئ على ذاته من أجل أن يعي كافة ثنايا باطنه البشري وميولاته. وبصفة عامة أن يتأمل ما يمليه عليه الفكر بوصفه ماهية، و أن يتعرف على ذاته على وجه آخر سواء فيما يستخرجه من أعماقه الخاصة ومما يتلقاه من معطيات العالم الخارجي. ثانيا في صورة عملية لأن الإنسان يكون ذاته من أجل ذاته بواسطة نشاطه العملي، لأنه مدفوع إلى أن يجد ذاته ويعرف عليها فيما يُعطاه مباشرة ويُعرض عليه من خارج. وهو يبلغ ذلك عن طريق تحويله للأشياء الخارجية التي يطبعها بطابع داخلته، والتي يعثر فيها على تعييناته الخاصة.إن الإنسان يسلك على هذا النحو- بما هو ذات حرة –من أجل أن ينزع عن العالم غرابته القاسية."(الاستيتيقا.مختارات).
المفارقة ، كيف أقرأ لمفكر يدعوني إلى الاستفادة من العمق الفلسفي، والتجربة النضالية التي تحدث عنها " لينين " لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"، والبعض منا لا يتعدى عتبة السرد والرواية والسند. مثلا ، كيف أستفيد من قول " أنطونيو غرامشي" في ممارستي الحياتية؟وكيف أنتقل من ممارسة التفكير إلى عقلنة علاقتي بذاتي وبالآخرين وبالطبيعة.قال غرامشي "عندما نطرح السؤال ما هو الإنسان ؟ فنحن إنما نريد أن نقول: ماذا يمكن أن يصير الإنسان؟ أي هل يستطيع الإنسان أن يسيطر على مصيره الخاص، وأن يخلق حياته؟ إن السؤال ما الإنسان متولد من تفكيرنا في ذاتنا وفي الآخرين، ومما نحن ومما يمكن أن نصير،
وذلك لنعرف في الحقيقة ، وضمن أية حدود نحن صانعو ذواتنا، وصانعو مصيرنا؟ يجب أن نتصور الإنسان من جهة ما هو سلسلة من علاقات فاعلة ( وهي عملية وإن كان فيها للفردية أهمية كبيرة إلا أنها ليست مع ذلك العنصر الوحيد الذي يجب الأخذ به) لأن الإنسانية المترسمة في كل فردية مؤلفة من عناصر مختلفة هي :1) الفرد ذاته،2) الناسالآخرون،3) الطبيعة... إن علاقة الفرد مع الآخرين ليست علاقة تجاور وإنما علاقة عضوية، كما لا تقوم علاقة الإنسان بالطبيعة على مجرد كونه هو أيضا طبيعة، بل تقوم على كونه فاعلا صانعا ... وإذا كانت فرديتنا هي جملة تلك العلاقات ، فإن إبداع الشخصية يدل على اكتساب الشعور بتلك العلاقات ، ومعنى تغييرنا لشخصيتنا الخاصة هو تغيير مجموع تلك العلاقات.(غرامشي.مختارات .).
لقد تم تدريس الفلسفة بالمغرب بُعيد الاستقلال،وملايين من المتخرجين من الدراسة سكنوا لمدة بين أحضان الفلسفة، فماذا جنوا من دراستهم للفلسفة؟ مما يعني أن مدرس الفلسفة معني في مهمته التربوية بالحمع بين النظر والفعل حتى تكتمل حقيقة الإنسان كما بيّن المفكرون أعلاه.وأتمنى أن يساهم مدرسوا الفلسفة في مناقشة هذه القضية : ما هي قيمة الفلسفة في الحياة؟
هذا جانب من القضية، وأكيد لباقي المواد الدراسية الأخرى أيضا دور في ردم الهوة بين النظر والعمل، خاصة وأن الآخر يتهم الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة " كلام"!!! قالها نزار قباني :...العنتريات التي ما قتلت ذبابة....لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية..."
وأنا على وعدي بفتح نقاش حول دور مادة الفلسفة في تغيير فكر وسلوك المتعلمين من خلال بناء الدرس الفلسفي‘ علما أن الأطر المرجعية ذاتها تنص على ذلك.لهذا سأطرح تجربتي الفصلية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، كتجسيد على ما أنا بصدد إثارته، حتى لا يكون مجرد كلام، مع أني طرحتُ هذه القضية في منتدى الحجاج وفيلوصوفيا وفيلو مغرب.
0 التعليقات:
more_vert