في إثبات ذاته تعالى.

التصنيف


مقالات في الفكر الإسلامي

عبدالجبار الرفاعي
في إثبات ذاته تعالى


طرق الوصول إلى الله تعالى عديدة، ويمكن إيجازها بما يلي:
الطريق الأول:
طريق القلب والوجدان والفطرة، فإن في جوانح كل انسان نزوعاً فطرياً غريزياً نحو الباري تعالى، وهو ما أفصح عنه الذكر الحكيم (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/ 30.
غير أن الفطرة ربما تتعرض للمسخ والتشويه، أثر عوامل متنوعة، فينحرف الإنسان ويزيغ ويتردى في متاهات الشرك والإلحاد. لكن الله تعالى بعث إليه الأنبياء لينتشلوه من تلك المتاهات ويعيدوه إلى توحيد الفطرة، إن شاء أن يستقيم.
الطريق الثاني:
طريق الخَلق والآثار، فإن له تعالى في كل شيء آية تدل عليه:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ويمكن إجمال هذا الطريق فيما يلي:
1 ـ المخلوقات مرآة تتجلى فيها للإنسان مظاهر عظمة الله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الأنعام/ 75.
2 ـ النظم المدهشة في كل شيء في هذا العالم (صُنعَ الله الذي أتقن كل شيء) النحل/ 88.
3 ـ الهداية في الموجودات أو قانون الاهتداء واستبصار الطريق (والذي قدّر فهدى) الأعلى/ 3. (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) طه/ 50.
الطريق الثالث:
الطريق العقلي الفلسفي، وهو الأسلوب الذي اشتهر بين الحكماء في الاستدلال على وجوده تعالى.
ومن المعلوم أن هذه الطرق مترتبة في درجة شيوعها، فأولها أقربها للوجدان وأكثرها شيوعاً بين كافة الناس في كل زمان ومكان، فمهما تباينت مستوياتهم واختلفت عصورهم، لا يمكن أن تتعطل أو تموت فطرتهم.
ويأتي الطريق الثاني الذي يعتمد على الخلق والآثار في الوصول إليه تعالى، باعتباره طريقاً ميسراً للناس كافةً أيضاً، وإن كان العلماء يصلون قبل غيرهم عبر هذا الدرب، لأن بصيرتهم نافذة في إدراك آيات الله في مخلوقاته (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) فاطر/ 28.
أما الطريق الثالث فيظل في دائرة أصحاب النظر والتحقيق والتأمل العقلي، وقد يتعذر سلوكه لعامة الناس. وفيما يلي بيان لنموذجين من أدلة هذا الطريق:
البرهان الأول ـ برهان الصديقين:
ذكر هذا البرهان ابن سينا، وقد قرر ملا صدرا هذا البرهان بنحو آخر، بحيث أضحى الاستدلال به تعالى عليه ((يا مَن دل على ذاته بذاته)) ولذلك يسمى برهان الصديقين، لأنه ليس هناك واسطة لإثبات وجوده سوى حقيقة الوجود، يكتب ملا صدرا في الأسفار الأربعة ج6، ص13: (أسد البراهين وأشرفها إليه هو الذي لا يكون الوسط في البرهان غيره بالحقيقة، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود، وهو سبيل الصديقين الذين يستشهدون به عليه).
يقول الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة:
(كيف يستدل عليك بما هو في وجوه مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فارجعني إليك بكوة الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجع إليك).
وقد بيّن ملا هادي السبزواري في حاشيته على الأسفار ج6، ص16 هذا البرهان بتقرير نوجزه فيما يلي:
1 ـ حقيقة الوجود مرسلة، بمعنى أنها صرفة ومطلقة غير مقيدة بأي قيد وحد، لأن حقيقة الوجود بسيطة، ولا شيء من البسيط بمحدود، ولا شيء من المحدود ببسيط، لأن المحدود مركب من وجدان وفقدان.
فالإرسال هنا هو اللا بشرط، والإطلاق. أما الصرافة فهي بشرط لا من الأغيار، بمعنى هي التجرد عن الأغيار. نعم الحقيقة المرسلة عين الصرفة مصداقاً لكنهما متغايران مفهومً.
2 ـ حقيقة الوجود الصرفة تأبى العدم في ذاتها، ويمتنع طروء العدم عليها بذاتها، لأن العدم نقيضها، فطرؤه عليها يعني اجتماع النقيضين.
3 ـ إذاً الوجود بذاته من المحال طروء العدم عليه، وهذا هو معنى الوجوب.
أما ملا صدرا فقد أوضح برهان الصديقين بتقرير آخر، وهو ما ذكره الطباطبائي في نهاية الحكمة، وفق ما يأتي:
1 ـ التسليم بالواقعية، وإن هناك موجوداً ما.
2 ـ هذا الموجود إما ماهية أو وجود، أي أن الأصيل أحدهما، وقد تبين أن الوجود هو الأصيل.
3 ـ الوجود حقيقة واحدة بسيطة.
4 ـ حقيقة الوجود الواحدة لها مراتب متعددة، أي أن التعدد والكثرة هو في مراتب الوجود، فهو حقيقة مشككة ذات مراتب من الشدة والضعف والكمال والنقص.
5 ـ إذاً حقيقة الوجود واجبة وليست ممكنة، لأنها إن كانت ممكنة تستند إلى غيرها ولا غير للوجود.
أما وجود الممكن فهو من حيثُ هو ليس بوجود، لأن حيثيته تعني الفقر والحاجة، فهو وجود بحيثية واعتبار آخر، أي باعتباره قائماً بغيره ومفاضاً من الواجب، وبما أن حقيقة الوجد لا ثاني لها، فإنها لا تقوم بغيرها وإنما هي قائمة بذاتها، فهي واجبة.
وببيان آخر أن حقيقة الوجود الواحدة الأصيلة صرفة لا يخالطها غيرها، لأنه لا غير للوجود، فهذه الحقيقة تعادل الوجوب الذاتي الأزلي. يعني أن حقيقة الوجود من حيثُ هي تعني وجوب الوجود.
أما وجود الممكن فقد يقال: إن الممكن أيضاً موجود فلماذا لا يكون واجباً؟
الجواب: إن وجود الممكن من حيثُ هو ليس وجوداً صرفاً خالصاً، وإنما وجود الممكن ظل وتجل لوجوده تعالى، لأن وجود الممكن هو وجود باعتبار ارتباطه بوجود الواجب، أي إن وجود الممكن من حيثُ هو وبذاته لا يعتبر وجوداً، وإنما هو وجود باعتبار وحيثية أخرى، لأن حيثية وجد الممكن أنه محدود، ومتأخر في وجوده، ووجوده وجود ضعيف فقير، وهذه المحدودية تنشأ من كونه معلولاً، أي إن مرتبة وجد الممكن مرتبة تتصف بالحاجة والفقر والإمكان والمحدودية. وبالتالي فإن حقيقة الوجود هي الوجود الواجبي دون وجود الممكن.
البرهان الثاني ـ برهان الإمكان:
ويمكن إيضاحه بهذه الخطوات:
أولاً: إن هناك موجوداً ما، أو قل هناك موجودات في هذا العالم. وهذه مسألة بديهية، فالعالم ليس عدماً محضاً وخيالاً، وإنما في هذا العالم موجودات وأشياء كثيرة.
ثانياً: الموجود بحسب الحصر العقلي، إما أن يكون واجباً أو ممكناً لأن المواد ثلاث، أما وجوب أو إمكان أو امتناع، فالموجودات قطعاً ليس بممتنع، فهي إذا إما واجبة أو ممكنة.
ثالثاً: الممكن من حيثُ هو بحاجة إلى علة توجب وجوده، فالممكن من حيثُ هو يستوي وجوده وعدمه. فكلي يُوجَدَ الممكن لابد من علة توجب وجوده، لأن الشيء ما لم يجب لا يوجد.
رابعاً: هذه العلة إما أن يكون وجوبها بالذات أو بالغير، فإذا كانت بالذات فهو، وإذا لم تكن بالذات فلابد أن يكون وجوبها بالغير، فإذا كان وجوبها بالغير احتاجت إلى علة لإيجادها، لأن الشيء ما لم يجب لا يوجد، وهكذا الذي يوجبها إما واجب بذاته، فهذا يعني إننا وصلنا إلى الواجب بالذات، أو ليس واجباً بذاته، فيكون واجباً بالغير، فحينئذ ننتقل إلى الرابعة، وهكذا، وبالنتيجة لابد أن نقف على واجب بالذات، لاستحالة الدور والتسلسل.
--------------------------------
* المصدر :دروس في الفلسفة الاسلامية
شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: