المشهد الفلسفي بين الانعزالية وسؤال
العمومية.
من المفارقات التي تُواكب تدريس الفلسفة ،
مقارنة مع التجربة الفرنسية على سبيل المثال وسأعود إليها لاحقا،تكمن في انحسار
الانشغال الفلسفي داخل جدران الأقسام سواء بالثانوي أو الجامعة، الحجة في ذلك غياب
تفعيل التفلسف في الحياة اليومية، وهذا يطرح سؤال الجدوى من تعليم وتعلّم
الفلسفة.فإذا كانت مرحلة أواسط الستينات وطيلة فترة السبعينات حتى أواخر
الثمانينات تتسم بحضور الفلسفة في اليومي للطلاب والمدرسين، بحجة أن المفاهيم الفلسفية كانت رائجة في
الخطابات اليومية للتلاميذ والطلاب من قبيل : الصراع الطبقي والتخلف والنمو ونمو
التخلف والتفكك والمركز والمحيط، والجبر والاختيار،وهل النقل أولا ثم العقل أم
العقل أولا ثم النقل....، وأشهر المفاهيم الفلسفية الرائجة آنذاك وإن حملت في
طيّاتها مضمونا سياسيا هو مفهوم الالتزام وعلاقته بتحمّل المسؤولية ( وهو مفهوم
كان رائجا بالتساوي لدى الطلاب اليساريين أو طلاب الشبيبة الإسلامية آنذاك ومعها
حليفها الفرع النقابي التابع لحزب الاستقلال"لوجيم" مع اختلاف في توظيف
المفهوم طبعا..) وقد كانت لكتابات ماركس وسارتر وألتوسير والمعتزلة والأشاعرة وابن
رشد....تأثيرا قويا على السلوك اليومي للتلاميذ والطلاب.كان لا يمر يوم دون أن
تسمع لحظة تحليل طالب ما لقضية ما،بعض المفاهيم الفلسفية كالجدل الهيجلي والجدل
الماركسي والمثالية والمادية،والبرجوازية والبروليتارية والاستغلال الطبقي، والجبرية
وما يرافقها من مفاهيم ذات حمولة سياسية
مثل الرجعية والتقدمية، والتنوير والظلامية...بالمحصلة كان الحضور الفلسفي
والسياسي حاضرا في اليومي للتلاميذ والطلاب، وأذكر كيف كانت العروض داخل القسم
تتسم بالنقاش الراقي والصراع المكشوف بين الاختيارات المذهبية للتلاميذ والطلبة،
وأستحضر وأحن إلى نسيم الفلسفة في تدريس أساتذة الثانوي : بديع الزمان اليماني(
وأذكر لحظة حضور المرحوم أحمد السطاتي كمراقب تربوي لكفاء أساتذتنا لنتشرف بالجلوس
معه كتلاميذ في مدرج ابن خلدون بكلىة الآداب بالرباط) والأستاذ الباز والأستاذ عبد
العالي... وأتمنى لهم الصحة والعافية وطول العمر.
كانت الفلسفة تحيا معنا في كل خطوة نخطوها
حتى في البيت نتجادل مع آبائنا وإخواننا بخلفيات فلسفية. وهذا يدل على مدى الحاجة
إلى الفلسفة آنذاك. السؤال :ما الفرق بين الأمس واليوم؟ كثيرة هي الأسباب وقد نتفق
في بعضها ونختلف في البعض الآخر، ولكن السبب الذي قد يبدو مركزيا ، يكمن في
أن" إبستيمي" الفلسفة آنذاك اتسم بمرحلة الصراع بين قوة التغيير وقوى
المحافظة، وهذا يفسر سبب شيوع البنية المفاهيمية السالفة الذكر والتي لخصها
ألتوسير في قولته : الفلسفة صراع طبقي على مستوى النظرية."
قد يكون لهذا الواقع كثير من السلبيات
نَحت بالفلسفة في اتجاه تغليب المدارس الفلسفية ذات الخلفية السياسية ( ماركس،
غرامشي، سارتر، ألتوسير ، بولتزير....) وذلك على حساب فلسفات واجتهادات أخرى كُنّا
نقيسها بمقياس الفلسفة " المًسيّسة" منها كل الفلسفات الرافضة للنزعة
الإنسانية وتنحو منحا بنيويا من أمثال أعمال ميشيل فوكو وكلود ليفي ستروس ....أما
الفلسفات التقليدية: من أفلاطون حتى هيغل، فكان حضورها هي الأخرى بارزا ولكن على
ضوء " فلسفة حركة التحرير لما بعد الاستقلال" إن جاز التعبير، لأنها هي
الزاد الإيديولوجي لكل قراءة فلسفية.
ربما نحتاج إلى تقييم خاص لهذه المرحلة،
بإيجابياتها وسلبياتها،وبالموازاة تقييم تجربة الكتب المدرسية التي رافقت المراحل
المتنوعة لتدريس الفلسفة (وأتعالى على التصنيف الذي يميز بين مرحلة إيديولوجية...
وأخرى بيداغوجية...لما لهذا التقسيم من تشويه لمسارات تدريس الفلسفة وخاصة في
اللحظة التي غاب فيها التدريس بالنصوص الفلسفية.. وهي ليس موضوعنا الآن، وما نحن
بصد لفت الانتباه إليه هو عمومية الفلسفة لدى المتعلمين مقارنة مع المرحلة
الحالية، بغض النظر عن مضمون تلك العمومية ومرجعياتها ورهاناتها..المهم كانت مشروطة
بعواملها الموضوعية الخاصة بتلك المرحلة. السؤال:هل تدريس الفلسفة اليوم نحج في
تعميم وجودها في الوجود اليومي للتلاميذ
وطلاب الجامعة وحتى لدى عامة الناس؟ ما هي الشروط الموضوعية للإبستيمي الحالي
والتي نفترض أنها أقبرت الميل الفلسفي نحو المساءلة والنقد والحجاج..؟أجابني أحد
المدرسين المتقاعدين بكون شروط الصراع انتفت من الوجود المغربي وحل محلها الانبطاح
والاستسهال الفكري بدعوى الانتقال الديمقراطي. هذا الحكم أذهلني، لأنه قد ينطبق
على الفعل السياسي والنقابي باعتبارهما عملين للتوعية في أفق تحصين المكاسب والمطالبة
بتحسين الوضعية الاجتماعية موازاة مع النمو الاقتصادي...لكن الفلسفة طريقة في
التفكير والوجود تتعالى على ما هو خاص وظرفي نحو الكونية دون تجاهل الخصوصية،
وكأني بصديقي المتقاعد ذهب ضحية كيفية استغلال الحاكمين للفلسفة في حروبهم ضد
" أعدائهم " وأشير هنا إلى أسطورة استغلال الفلسفة ضد الحركات الإسلامية
التي تُنعتُ بالظلامية، أو في فترات أخرى استغلال الفكر الإسلامي لهاته الحركات ضد
قوة اليسار التقدمي الجذري الذي يُشاع أن الفلسفة أحد قلاعه العتيدة، وبالتالي
يخضع مدّ وجزر الفلسفة لحساسية الطقس الفكري في دهاليز السلطة السياسية
وحلفئها.وكلنا يذكر أسباب إحداث شعبة الدراسات الإسلامية في كليات الآداب وما
رافقها من انتفاضات طلاب شعبة الفلسفة، وأذكر أن أول درس افتتاحي للدراسات
الإسلامية للمرحوم المهدي بنعبود قال فيه بالحرف: َمن اختار شعبة الدراسات
الإسلامية فقد اختار طريق الجنة.!!!هنا فُهمت الرسالة على أن شعبة الفلسفة طريق
لجهنّم، ونسي المرحوم بنعبود أنه لعقود طويلة كان محسوبا على شعبة الفلسفة، قسم
علم النفس المرضي.وبقية القصة تعرفونها، وما رافقها من جدالات حامية حول مصير
الفلسفة، مع العلم أن حزب الاستقلال أقام حفلا بمقره بباب الحد بالرباط بمناسبة قبول مشروع الدراسات الإسلامية والذي
تبنى أبوته.ونفس الأمر شهدته كلية الحقوق والعلوم الإنسانية حين تم في السابق
إحداث دار الحديث الحسنية...تلك كانت لعبة النظام السياسي في خلق توازنات من شأن يقوم
بتدبيره لما يراه مناسبا لديمومته وهذا شغل خاص به.
هذه أسباب تتعلق بالنظام السياسي ولكن
يُحسب للمرحوم الملك الحسن الثاني أنه رفض طلب مجموعة من كبار العلماء ذوي التكوين
الفقهي تنحية الفلسفة نهائيا من المدرسة المغربية وهذه الواقعة أوردها الأستاذ
والمفكر محمد مصطفى القباج في إحدى كتاباته الحوارية...ولكن ماذا عنا نحن كمدرسين
بللفلسفة، ما هو دورنا في إشاعة الفكر
الفلسفي بين طلبتنا؟إن على المستوى الثانوي التأهيلي أو الجامعي؟ هل بالفعل
الفلسفة حاضرة في المشهد العمومي المغربي؟ لنرجع إلى التجربة الفرنسية منذ الستينات،
كل الفلاسفة الكبار حضروا وبشكل قوي ولافت عبر كل وسائل الإعلام السمعية والمرئية
والمكتوبة، حتى أصبحت الفلسفة تقليدا يوميا يطّلع عليه التلاميذ وعامة الناس كما
يطلعون على نشرات الأخبار ويستدمجون الرؤية والمنظور للفلسفي في يوميهم العادي،
لكن الفلاسفة لا يحضرون حصريا في موائد نخبوية خاصة بالفلسفة، بل يحضرون في مناقشة
كل المواضيع الساخنة، وأعطي مثالا: هناك فيديو حول حركة نقابة تضامن البولونية
بحضور مبشال فوكو والممثلة سيمون سينيوري.تخيلوا حوار بين ممثلة سنيمائية وفيلسوف
كبير ، أين نحن من هذا في المغرب؟ لو حدث ما حدث في العيون في فرنسا لاصطف العشرات
من الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الإجرام يفسرون لماذا تم القيام بذبح قوات الأمن
والتبوّل عليهم. التفلسف من خلال مدرسي الفلسفة والفلاسفة في فرنسا شعبي حتى
النخاع، لا يمكن أن تشاهد طيلة الأسبوع قنوات فضائية دون أن تجد فيلسوفا يتكلم في
جميع المواضيع. أين مدرسينا نحن من هذا حتى لا أقول أين فلاسفتنا وهم بدأوا يرحلون عن الدنيا تباعا ،ومن التلاميذ من
لا يعرف حتى وجهه أو صوته وهذا غير مقبول من طرف كل مكاتب الجمعية المغربية لمدرسي
الفلسفة بالمغرب، حيث لم تقم بأرشفة بالصوت والصورة لكبار فلاسفتنا ومدرسي
الفلسفة:الحبابي / الجابري/ بنعبد العالي/ العروي/ سالم يفوت/ السطاتي/...ومنهم
الكثير.أما الإذاعة الوطنية صوتا وصورة هي الأخرى لم تكلف نفسها برمجة برامج خاصة
بالحوار مع فلاسفة مغاربة، أو مناقشة
مواضيع عامة بحضور فلاسفة حتى تكون الفلسفة عمومية ما دامت لها شرعية ومصداقية في
المقررات الدراسية. كيف يُعقل وجود برامج دينية وأدبية وفنية وسياسيةلكن المفروض
أن تحضر فيها أيضا التمثيلية الفلسفية،ولكن بالقابل لا نجد برامج خاصة بالفكر
الفلسفي وكأن الفلسفة غريبة عن الوطن المغربي.
هذا الغياب العمومي له نتائج سلبية على تعلم الفلسفة بالمدرسة
المغربية.لقد أصبح هذا الحضور من حقوق مدرسي الفلسفة والتلاميذ ما دامت الفلسفة
مادة شرعية بحكم تدريسها، وبحكم كونها حق من حقوق التعبير في الواجهات العمومية.
وسيكون حضور الفلسفة في القنوات العمومية دعامة لإمكانية بناء درس فلسفي من خلال
مقاربة الفلاسفة في الإعلام العمومي حول قضية من القضايا.مثلا يمكن جعل مدونة
السير الحالية من بين اهتمامات الفلسفة. وأذكر أنني دُعيت في سنة 2006 للمشاركة في لقاء حول
السلامة الطرقية بالثانوية...فشبّهتُ الطريق على أنه يُشبه عالم اللغة من جهة أنه
حامل لرموز وعلامات تقتضي منا قراءتها حتى يمكن لنا تحقيق وجود سليم داخل
الطريق.فالطريق ليس " زفتا" نسير فوقفه، بل الطريق طريقة في
الانوجاد من خلال فك رموز وعلامات
المرور، نحن كبشر لا نسير في الطريق بل نقرأ الطريق، نعم الطريق مثل كتاب ممتع كله
انعراجات والتواءات في المكان وسير في الزمان بحثا عن معنى هو في أساسه احترام
النظام أثناء تنقل الجسد في المكان، الجهل بثقافة الطريق معناه التعرض لخطر ضرر قد
يكون مزمنا أو مميتا...وآخذتُ على تلامذتي سيرهم وسط الطريق عوض الممر الخاص
بالراجلين، فتموضعهم ناتج عن جهلهم بعلامات المرور، وكيف يعقل أنه في النص
المكتوب، يقف لحظة القراءة عند الفاصلة والنقطة، ويفهم السؤال من علامات الاستفهام
والتعجب من علامته ... كذلك هي الطريق كتاب مفتوح على كل الإمكانات....هذا نموذج
من مقاربتي كمدرس للفلسفة لإحدى اليوميات.التفت إليّ الدركي الذي كان بجانبي وسبق
أن ألقى كلمة تتعلق بالسلامة الطرقية وقال بالحرف:أنت الذي تكلمت عن معنى السلامة
الطرقية.لقد فلسفتَها بالفعل.
إن جعل الفلسفة من اليومي للناس يمر عبر
قنوات عديدة ولكن بمنهجيات مضبوطة.وأعيد طرح السؤال: لماذا يغيب
"فلاسفتنا" عن المشهد العمومي ومن خلال مختلف قنواته المعروفة، وأنا لا
أطمع في " مقاهي الفلسفة "باعتبارها تأتي بعد " التخمة "
الفلسفية أما نحن " فجوعى" لحضور فلسفي يومي ولكن وازن.افتحوا
"اليتوب" أو "الدايلي موسيون" لتجدوا أشرطة صوتية وصورية
لمئات من الفلاسفة الغربيين، بالمقابل نادرا ما تجد شريطا لفيلسوف عربي، أما المغاربة
فصمتهم لم يعد له أي مرّر، فالظهور العلني من واجبهم، لأن لهم قراؤهم وهم جمهور
ينتظر منهم تأكيد عشقهم لهم من خلال مساندة هذا العشق بالتواجد بالصوت والصورة بدل
الاختباء وراء مكاتبهم- كما كان يفعل ديكارت- ليطلعوا علينا بإصدارات أصبحت لم تعد
تفي بغرضها وكأنها تستهدف جيوب القراء فقط. نعم لدينا الحق في مجانية الفلسفة عبر
وسائل الإعلام السمعية والبصرية، لأنها فلسفة اليومي ستُعيد تحيين التفلسف في
موضوعات آنية كمان يفعل سارتر وفوكو وجيل دولوز...وحاليا " لوك فيري"
و" ميشال أنفراي" وغيرهم، وهذا سيمكّننا نحن وتلامذتنا من مواكبة تجدّد
الفلسفي واختبار مدى فاعليته في مقاربة الموضوعات المتعلقة بالحياة اليومية للمواطنين.نعم هذه مجرد " واجهة
" أو نافذة من إمكانات متعددة لانفتاح الفلسفة على اليومي، وأكيد أن هذا
الحضور الفلسفي في الوسيط الإعلامي، وإن بدا في المكتوب أكثر حضورا وحظا، سيكون
دعامة بيداغوجية ومنهجية ومعرفية لنا نحن المدرسين والتلاميذ، وأفقا للارتقاء
المعرفي لعامة الناس، لأن التحليل بخلفية فلسفية يختلف حتما عن التحليلات "
السياسوية "، من حيث التأسيس المفاهيمي والحجاجي مقارنة مع " البولميك "
السياسي.
إنني أخجل وفي نفس الوقت أنبهر لمّا أشدّ
الرحال إلى القنوات الفرنسية،كي أصادف أحد الفلاسفة وهو يُعمل العقل في موضوع آني
يهم الفرنسيين، وآخر الحدوثة حضور الفيلسوف " لوك فيري" في برنامج خاص
عن إصلاح نظام التقاعد بفرنسا.أخجل لأنني أرتهن بموضوعات ليست من يومي أنا، أنبهر لأنني
أستفيد من منهجية المقاربة، لأن المذيع يسأل أسئلة دقيقة وحسب المرجعية، كأن يقول: أنت كعالم
اقتصاد...وأنت كنقابي..وأنت كفيلسوف...هنا يتم الحديث عند انشغالات المواطين
بحضور المقاربة الفلسفية لما يجري، لأن
الفلسفة شعبية في فرنسا بالقفل.السؤال : أين العروي وأين سالم يفوت وأين عبد
السلام بنعبد العالي....أين حضوهم ضمن
ضرورة التواصل اليوم بآلية الشبكة العنكبوتية ( ومنها المنتديات ) ووسائل
الإعلام..لم يعد الناس اليوم يكتفون بقراءة مؤلف فلسفي فقط، بل يحتاجون إلى سماع موقفه
بالصورة من قضايا همومهم اليومية كما يفعل الفلاسفة في الدول الغربية .فكيف نفسّر
إعجابهم بفوكو ودولوز وبول ريكور وكلود ليفي ستروس وكارل بوبر...ولا يُعجبون
باقتحام كل هؤلاء للمجال السمعي البصري حيت يُطلون من على الشاشة على المواطنين.كم
سأكون سعيدا حين يسأل أحد التلاميذ بخصوص- على افتراض- تدخل عبد الله العروي حول
موضوع ما وقع في العيون ليكشف بعينه الثاقبة جوهر الإشكال وأسباب عنف البعض ضد
قوات الأمن، والأسئلة التي تطرحها الحادثة وما تأثير مشاهدة عملية ذبح رجل أمن، ا،
ولما بحضور عبد السلام بنعبد العالي باعتباره
فيلسوفا..بدل أن نشد الرحال إلى برنامج مصطفى العلوي لنعيش " التبخيس السياسي
والفكري " ليوميات المواطنين المغاربة.
كم أحِنُّ لبرامج قديمة أذكر منها برامج
نور الدين الصايل حول السينما، حيث استدعي في أحد البرامج كلاّ من عبد الله العروي
والمرحوم عبد الكبير الخطيبي. ناقش الأول الفرق بين الزمن الواقعي والزمن
السينمائي وتأثير الفرق على المتلقي.وناقش الثاني أن السينما أولا صناعة ، وهذه
الواقعة تحدد الهوية الحقيقة للسينما وعلى أساسها نناقش فنيّة السينما وليس العكس.
كان أساتذتنا (مدرسي الفرنسية والفلسفة،
بحكم أنهما كانا من منشطي الأندية السنيمائية بالمدينة كل يوم أحد)يتلقّفان بعض
الإشكالات من البرامج ويتم التفكير فيها.أذكر كذلك أنني في مرحلة الباكالوريا مع
الأستاذ الباز حفظه الله بمدينة آسفي أنني جلبتُ إلى القسم شريطا سمعيا للمرحوم
مصطفى محمود حول مفهوم التناقض ،وسمعه كل القسم عبر المسجلة ليتم فتح نقاش عرف
صراعا بين طرفين: طرف يُدافع عن التناقض بخلفية دينية وهي أطروحة مصطفي محمود،وبين
من يدافع عن الصراع والتناقض من وجهة نظر المادية التاريخية.وأتمنى من يطلع على
هذه الورقة من أصدقائي في تلك المرحلة أن يُفيدنا بالنقاش الذي وصل حد العراك
اللفظي.
يقول مصطفي محمود في تلك المحاضرة
الصوتية:"لو سألنا لماذا خلق الله الحشرة؟ ربما لو أخذنا برأي الحشرة لقالت
ولماذا خلق الله الإنسان؟فالإنسان ضار بالنسبة للحشرة كما أن الحشرة ضارة بالنسبة
للإنسان.
ولكن المسألة هي أكبر من ذلك ، وهي متعلقة بقانون يسري في الحياة كلها، فالله
خلق لكل شيء آفة تعتدي عليها، خلق القطن وخلق دودة القطن، وخلق النبات وخلق
الجراد، وخلق الأسنان وخلق السوس، وخلق الحديد وخلق الصدأ، خلق الأنف وخلق الزكام،
خلق الإنسان وخلق جيشا من الأعداء لاغتياله من بعوض وديدان وميكروبات وسلّ
وجدام....إلخ
والله لم يحاول إخفاء هذه الحقيقة، وإنما
أعلنها في كتابه الحكيم على أنه أمر مُراد مقصود. فقال تعالى:" لقد خلقنا
الإنسان في كبد." أي مكابدة وعناء. فالله لم يًرد بالدنيا أن تكون دار سلام،
وإنما أرادها أن تكون دار عناء وكفاح وشدّ وجذب بين الأضداد، فأراد أن يمتحن كل
شيء فيسلط عليه ضده وأن يبتلي كل شيء بنقيضه.وهناك آيات قرآنية كثيرة في الموضوع
:" وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوا".
وهو نفس القانون الذي قرأنا عنه بعد ذلك
بعد أكثر من ألف سنة من نزول القرآن، قرأناه موسعا في فلسفة هيجل باسم الديالكتيك
أو المنطق الجدلي المثالي وكان ظن هيجل أن هذا القانون يعمل فقط في عالم الفكر،ثم
جاء ماركس ليقع في ضلال آخر فيتصور أن هذا القانون لا يعمل إلا في المادة....إن
الله هو الذي يُجري هذا القانون... والقانون الجدلي مجرّد سبب أي أداة مخلوقة
مُسخّرة ...قال الصوفي أبو العزائم عن الروح والجسد، أنهما كالثلج والنار قد جمعا
برحمته، الشيء وضده، الشيء ونقيضه، وهو يقول عن نفسه:" مجمع الضاد ختمي
أوّلي."يعني بها بدايتي كنهايتي، جئتُ من الله وإلى الله أعود.والذي من بين
ما يق
فهذه النظرة الجدلية والدياليكتيكية هي
مسألة قديمة، فالشاعر قال:
لكل شيء آفة من جنسه .....حتى الحديد سطا
عليه المبرد." انتهى حديث مصطفى محمود.
والمحاضرة الصوتية طويلة وشيقة بالرغم من
اتفاقنا أو عدم اتفاقنا مع مضمونها. المهم أنقل لكم تجربة تدريس الفلسفة في
السبعينات بطقوس نفتقدها اليوم، وعلى رأسها " عمومية الفلسفة" وانفتاحها
على اقتراحات التلاميذ. لم يرفض أستاذي |"الباز" فكرة الاستماع لصاحب
المحاضرة بنفسه وليس مكتوبة وتعرض على التلاميذ بالنيابة.وأذكر أن التلميذ آنذاك
"المختاري" وهو مدرس لمادة الاجتماعيات بآسفي إن لم يلتحق
بالإدارةّ!!!كان قد قام بعرض مضاد للمفكر " جلال العظم" كرد فعل لتفسير
مصطفي محمود للتناقض من الوجهة الدينية، مع أن فكرتي كانت تتعلق بالخروج من النمط
التقليدي للإنصات إلى الاستماع للمفكرين أنفسهم، ولا علاقة لي بمدى اقتناع أو عدم
اقتناع بما يقوله مصطفى محمود.لم ينته الأمر في القسم، بل استمر النقاش لأسابيع في الساحة وحول فضاء
ثانوية ابن خلدون، وغير هذا الجدل حول الموضوعات كثير افتقدناه فيما بعد ونحن
ندرّس الفلسفة.
بالفعل أحاول قدر المستطاع الانفتاح على
اليومي ومساءلته. فمثلا لما نكون بصدد فعل الدهشة ضمن منطق الفلسفة أو لماذا
التفلسف ونمط اشتغاله (لا فرق)، نشتغل على نص شوبنهاور والذي من بين ما يقول
فيه:" إن امتلاك الروح الفلسفية يعني القدرة على الدهشة أمام الوقائع
الاعتيادية وأشياء الحياة اليومية، ويعني طرح أكثر الأشياء عمومية واعتيادية
للدراسة"(تمنّيتُ لو طبّق هذه المقولة فلاسفتنا وحضروا لوسائل الإعلام
وأخضعوا أشياء الحياة العادية للمساءلة والنقد وما أكثرها في زمن
شعبية كشوفات رشيد نيني). من بين
أشياء الحياة اليومية التي أشتغل عليها إضافة إلى اقتراحات التلاميذ، مثال إزالة
قطعة خبز من الطريق وتقبيلها ووضعها في مكان آمن. أسأل التلاميذ: لماذا يتم القيام
بهذا الإجراء تُجاه الخبز حصريا؟ الجواب الشائع طبعا لدى عامة الناس هو أن الخبز
نعمة من الله؟ نقبل بهذا الجواب في البداية، وأسأل ماذا نعنى بالنّعمة؟ أليس الجزر
والبطاطيس المرمية في الطريق نعمة؟ يكون الجواب نعم. هنا تنتصب المفارقة ليُفصح
الإشكال عن نفسه مستفزا تفكير التلاميذ : لماذا الخبز وحده دون سائر نعم الله.
لينتهي التفكير بنا في كل دلالات مفهوم الخبز في التمثل العامي : نصوّر طرف ديال
الخبز، كتاب ليّ الخبز هنا،وكلّها وبخبيزته ، وحاد الخبيزة على الله....
ليتحول الخبز من مادة حيوية للأكل إلى
مفهوم يحمل كل تجليات الحياة......
وأمنيتي أن نفكّر جدّيا في إعادة الحياة
للدرس الفلسفي، وبدون هذه العلاقة الوجودية أساسها في الأصل حب وصداقة ما دامت
الفلسفة محبة للحكمة.
هل نحن فعلا نحبّ الحكمة فكرا وسلوكا؟
فكرا من حيث هي بحث عن معنى الوجود ،
وسلوكا من حيث حضورها في اليومي عبر مساءلته ونقد صيرورته اللامتناهية..
0 التعليقات:
more_vert