البعد التربوي لآراء ابن رشد الفلسفية

التصنيف



البعد التربوي لآراء ابن رشد الفلسفية


  الزبير مهداد
 (عن موقع الدكتور محمد عابد الجابري)



(بالرغم من استمرار موقع الدكتور محمد عابد الجابري، إلاّ أن كثيرا من المقالات ضاع رابطها والالتماس من ذوي الحقوق إعادة تحيين الروابط لتعميم الفائدة)

  ابن رشد، فيلسوف قرطبة وقاضيها: ولد محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد عام 520 للهجرة بمدينة قرطبة في الأندلس. في بيت اشتهر بالعلم والفقه. درس الشريعة والفقه ثم الطب والرياضيات والحكمة. في عام 547 دعاه عبد المومن الموحدي إلى مراكش ليعاونه على إنشاء معاهد العلم هناك. فتعرف مذهب الموحدين وعقيدتهم، وسره أن يجد منهم العناية بالعلم ومؤسساته ورجاله. ثم كان له لقاء ثان بالدولة الموحدية من خلال اتصاله بالخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن الذي كان مولعا بالفلسفة والعلم. وقد تم هذا الاتصال عن طريق ابن طفيل صاحب حي بن يقظان. وتلبية لرغبة هذا الخليفة الموحدي قام ابن رشد بترجمة وتفسير وتلخيص كتب أرسطو لتصحيح التصورات الخاطئة السائدة في وسط العلماء حول أفكار هذا الفيلسوف الكبير ودفع الشكوك التي كانت تحوم حولها. لقي ابن رشد العناية نفسها من السلطان أبي يوسف المنصور، الذي تولى حكم الدولة الموحدية بعد وفاة أبي يعقوب، فأثار ذلك غيرة العلماء وحسدهم. فسعوا لدى السلطان يتهمون ابن رشد بالزندقة والكفر، فحوكم ونفي إلى إحدى القرى بضواحي قرطبة وأحرقت كتبه. وعند عودة السلطان إلى مراكش قاعدة حكمه استقدم ابن رشد وعفا عنه وأعاده إلى سالف نعمته وأذن له بالعودة إلى قرطبة. إلا أن المنية وافته بمراكش، فمات عام 595 ونقل جثمانه إلى مدينته قرطبة[1]. وابن رشد فقيه كبير وفيلسوف مبرز وطبيب لامع. أكثر آثاره في الفلسفة والمنطق. إذ ترجم آثار الفلاسفة الإغريق كأرسطو وأفلاطون. وفي الطب خلف كتبا وشروحا مهمة وفي الكلام وفي الفقه والأصول وغيرها من العلوم[2]. آثاره التربوية: عاش ابن رشد في عصر سادته الصراعات السياسية والمذهبية والنزاعات العسكرية، سواء في المغرب أو الأندلس. وظروف مثل هذه تحرك همم المفكرين والعلماء وتدعوهم للتأمل في أسبابها وتلمس حلول لها. وقد اهتم ابن رشد الفيلسوف بهذه الظروف وأولاها عنايته. وعبر من خلال اهتمامه عن انشغاله بقضية التربية والتعليم كعامل أساسي من عوامل تشكيل شخصيات الأفراد وتحديد قنوات لإيجاد مسارب التوافق والتكيف الاجتماعي والذاتي. تتوزع آراء ابن رشد في التربية ضمن مؤلفاته المختلفة، وأهمها: 1 ـ تهافت التهافت الذي رد فيه على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة. وكان رد ابن رشد من أهم ما صنف في الرد على الغزالي وإبطال مزاعمه. بحيث إنه أثار الجدل الواسع بين الفقهاء والحاكمين والخاصة والعامة؛ لأن ابن رشد رام في كتابه الدفاع عن الفلسفة وبيان أهميتها في الإصلاح السياسي والاجتماعي التربوي. 2 ـ جوامع سياسة أفلاطون، وهو ترجمة وتلخيص وشرح لكتاب جمهورية أفلاطون. وفيه تعرض لشروط المجتمع الفاضل وسبل بنائه ووقايته وطرق سياسته وتدبيره، ووظائف أفراده. 3 ـ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وفيه فصل القول عن قضايا مهمة تحتل مكانة في فلسفة التربية. منها واقعية المعرفة، ووجوب النظر العقلي والفلسفة وغيرها. كما تعرض لحكم تعلم الفلسفة، وحكم علوم غير المسلمين، والقدرة البشرية على الإحاطة بالعلوم، والتأويل، وتصنيف العلوم، رادا في فصول كثيرة على كلام الغزالي وآرائه. 4 ـ شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، حيث عمد ابن رشد إلى الحديث عن نمو الجنين والعناية به وميلاده وتدبيره ورعاية نموه النفسي والبدني. وكتب أخرى كثيرة، عبر فيها عن آراء في التربية مؤسسة تأسيسا فلسفيا إسلاميا، تنم عن سعي ابن رشد الفيلسوف الطبيب لوصف بلسم شاف يعالج أسقام أمته وعصره. والمقالة المتواضعة التالية تحاول الاقتراب من ابن رشد واستعراض ملامح فكره التربوي. أسس فلسفته: 1 ـ يقول ابن رشد في تعريف العقل: "هو إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها… فالصور المادية إذا تجردت في النفس من مادتها، صارت علما وعقلا، ولما كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء، كان العقل هو إدراك المعقولات، أي إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها وأسبابها"[3]. ويتفق ابن رشد في تعريفه العقل مع مفكري اليونان الذين اعتبروه ملكة خاصة بإدراك المجردات وبمعرفة الكلي في مقابل المحسوس الجزئي. فالعقل بهذا التعريف هو منهج في النظر، وطريقة في تحصيل المعرفة تسعى لإدراك أنظمة الموجودات وترتيبها وأسبابها. وهذا النظر العقلي يرى ابن رشد أنه واجب في الإسلام. قال في كتابه فصل المقال: "إن الشرع قد أوجب النظر العقلي في الموجودات واعتبارها"[4]. واستعرض آيات من القرآن الكريم ونصوصا من الحديث الشريف لتأكيد قوله. وإذا كان التفكير العقلاني يعني عرض المرء أفكاره بطريقة منطقية تنم عن قدرته على كشف أسباب وجواهر الظواهر، فإن هذا لا يمكن أن يتحقق في ظل تربية متخلفة تعتمد إرهاب الصبيان وسيلة للتحكم فيهم وتوجيههم وتنشئتهم. يقول في جوامع سياسة أفلاطون "لا يجب أن نعلم النشء أن هناك جنونا تهدم الجدران على الناس، ولا يحيل بينهم وبينهم أي حائل. وأنهم يرون ولا يرون، ويوجدون أينما يريدون، وأنهم ينتحلون ما شاءوا من الصور"[5]. فهذه الخرافات تأثيرها السيء على التكوين النفسي للصبي قوي بحيث يلازمه طيلة حياته، وقد يحول دون توافقه الذاتي السليم، ويعرقل اندماج الفرد في مجتمعه ويمنعه من أداء وظيفته الاجتماعية "إذ تمنع هذه الوليد من أن يكون جنديا قويا وتنمي الخوف في قلوب الناشئة"[6]. فأمر الشرع بوجوب استخدام العقل قد ينقضه هذا الأسلوب التربوي الخاطئ. إن الحصيلة الضخمة من المعارف المتمثلة في العلوم المختلفة هي وليدة النظرة العقلية التي همها البحث عن الحقيقة في كل أرجاء الكون. ويؤكد ابن رشد أن المعرفة الإنسانية والعلم البشري أصلهما من الواقع: "العلم اليقيني هو معرفة الشيء على ما هو عليه. والعلم المخلوق فينا إنما هو أبدا شيء تابع لطبيعة الموجود"[7]. فالواقع هو مصدر المعرفة والمؤثر فيها بمتغيراته. كما أن الواقع نفسه يعكس التغيرات والتطورات التي تطرأ على العلم والمعرفة: "فكل علم معرفة، جزئية كانت أو كلية، لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بالواقع ونابعة منه"[8]. بل حتى القضايا الكلية المجردة المؤلفة – بواسطة العمليات العقلية الذهنية المعقدة- من الجزئيات، هي موجودة في الواقع قبل أن توجد في الذهن. يتمثل وجودها الواقعي في أشكالها الأولى وجزئياتها التفصيلية قبل أن تتبلور في الذهن[9]. ومع اعتراف ابن رشد بمكانة العقل في التمييز والتحصيل والوصول إلى المعرفة، فإنه يرى أن قدرات العقل محدودة، ثم إنها تختلف من شخص لآخر، والعقل عاجز عن تحصيل جميع العلوم، فهناك أمور لا يستطيعها ولا يمكنه أن يستقل بمعرفتها بمفرده. وكي يستطيع الوصول إلى ما غمض عليه من العلم لا بد من الاستعانة بمن سبقوه والاستفادة من اجتهاداتهم. والمعرفة متنوعة بقدر تنوع هذا العالم المحيط بالإنسان. لذلك كان مستحيلا على الإنسان الفرد الإحاطة بكل العلوم كما يستحيل على فرد منفرد أن ينشئ علما مبتكرا كامل القواعد من دون الاستعانة بتجارب من سبقه. فالعلوم لا يكمل النظر فيها إلا بعد زمن طويل من البحث فيها[10]. والمعرفة تمثل تراثا إنسانيا عالميا تثريه التراكمات الناتجة عن إسهام وعطاء الشعوب المختلفة. فلذلك يصعب استغناء المتأخرين عن أعمال المتقدمين[11]. وهذا يوجب الاستعانة بما انتهى إليه البحث العلمي والاسترشاد باجتهادات العلماء السابقين حتى ولو كانوا مختلفين معنا دينا مثل اليونان. فنأخذ منهم ما نجده موافقا للحق ونعذرهم على ما هو ليس موافق له[12]؛ لأن آثارهم تتحدد قيمتها بحسب الشروط التي أوجدتها. فما توصلوا إليه ليس ملزما للأمة الإسلامية وليس واجبا على الفلسفة من حيث كونها فلسفة؛ لأنها مجرد تأويلات اضطروا إليها حسب المقام والمقال، لأن الفلسفة هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع[13]. 2 ـ ويؤكد ابن رشد العلاقة الضرورية بين السبب والمسبب كخطوة نحو إرساء دعامة الفكر العلمي في الثقافة العربية. وذلك برد كل شيء في العالم إلى أسباب تدرك بالعقل. يرى ابن رشد أن الأشياء الطبيعية متصل بعضها ببعض اتصالا ضروريا بأسباب محسومة مشاهدة، وأن الأسباب فاعلة والمسببات منفعلة. والدليل على ذلك أن لكل موجود فعلا يخصه لأن له طبيعة تخصه، ومعرفتنا بهذه الطبيعة وهذا الفعل هي التي تسمح لنا أن نطلق على كل شيء اسما واحدا يخصه[14]. لم يجد ابن رشد حرجا في تقرير علاقة السببية على الاعتقاد والإيمان الديني العميق بوجود الخالق الفاعل في هذا الكون لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وخلق القوانين والسنن التي لا سبيل إلى خرقها وتبديلها، فعلى حين تحرج الغزالي في تقرير علاقة السببية لم يتحرج فيلسوفنا في تقرير العلاقة السببية باعتبارها من سنن الكون وقوانينه[15]. لم يقبل ابن رشد موقف الغزالي القائل بعقم التصور الفلسفي للضرورة السببية، واعتبر ابن رشد أن رفع الأسباب إنما هو رفع للعقل نفسه ورأى إلى جانب ذلك أنه ليس يلزم من العلم ليكون علما أن يكون قائما على الضرورة السببية[16]. فالعلم الحقيقي الذي يستند على العقل هو العلم بالأسباب والمسببات. فالعقل هو الذي يدرك الأسباب والموجودات الطبيعية. وإذا رفعت الأسباب والمسببات رفع العقل. وإذا رفع العقل بطل العلم وحلت الظنون محل العلوم الحقيقية العقلية[17]. فكرة السببية كما شرحها ابن رشد تؤكد العلاقة بين الأسباب والمسببات وهي تتعارض مع فكرة التواكل التي لعبت دورا أساسيا في التخلف العربي في العصور الوسطى. لأن الإيمان بفكرة السببية يثمر الاعتقاد بحرية الإنسان واختياره، وبأن للأشياء في ذاتها وبطبيعتها نفعا أو ضررا وحسنا أو قبحا[18]. 3 ـ وكان ابن رشد فوق كل ذلك فيلسوفا مسلما وفقيها مالكيا مجتهدا. لم يخرج عن الإطار العام للفلسفة الإسلامية على مستوى إشكالياتها أو موضوعاتها، أو من حيث المفاهيم التي وظفها في التحليل والتناول. وتفرده يرجع إلى إثباته العلاقة بين الحكمة والشريعة، خلافا لرأي الفارابي الذي يرجع أولوية الحكمة على الملة إلى الأولوية الزمنية. إلا أن ابن رشد نظر إلى المسألة من زاوية الفقيه المفتي المجتهد المتحمل مسؤولية القضاء التي تلزمه أن يتمسك بحياده، ويلتمس الحكم من داخل الشرع لا من خارجه[19]. فأدت آراؤه إلى تغيير نظرة الفقهاء خاصة وعامة المسلمين إلى الفلسفة. كما غيرت موقف الفلاسفة من الدين. وهذا الموقف لا يستغرب من رجل جمع بين الفقه حتى بلغ فيه درجة الاجتهاد، والفلسفة حتى وصل إلى رتبة الأستاذية فيها. والجمع بين الفلسفة والشريعة وتقليص حدة التناقض القائم بينهما لا يتم إلا بضبط حدودهما بشكل محكم. ووسيلة ذلك الالتزام بالشروط التربوية لتعلم الفلسفة والشريعة وتعليمهما. فانتقد كثيرا الفكر الفلسفي الذي لا يعبر عن احترام قواعد الإسلام وثوابته وقيمه الراسخة. كما دعا في الوقت نفسه الفقهاء للاقتراب من الفلسفة، لأن ضررها العارض، الناتج عن أخطاء الخطابات الفلسفية السائدة، لا ينفي نفعها بالأصل[20]. وبسبب آرائه الإسلامية، اعتبره فلاسفة أوروبا في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث الممثل الأكبر للفلسفة الإسلامية واشتدت الحملة عليه وعلى آرائه وكتبه[21].   غاية التربية مجتمع فاضل: لاحظ ابن رشد أن من أعراض الأزمة السياسية والفكرية تخلي الطبقة الحاكمة المتألفة من القادة والأئمة والعلماء عن مبادئهم العقلية، واتخاذهم موقفا معاديا للعلم والعقل. كما لاحظ أن مواطنيه لم يلتزموا وظائف اجتماعية محددة، بل لم يشتغلوا بصنعة واحدة، وانساقوا وراء أغراض مختلفة متناقضة، وانشغلوا بصنائع متعددة. ولرصد غاية التربية رجع ابن رشد إلى الإرث الفلسفي اليوناني، وهو به خبير. بل وأكثر من ذلك فقد كان ابن رشد يرى أن شروط تأسيس مدينة فاضلة كما حددها أفلاطون يمكن إقامتها في بلاد المغرب، لأن بلاد المغرب في عصره توفرت على الشروط نفسها التي كانت تتوفر في بلاد اليونان زمن أفلاطون. ولعل عقيدة المهدي هي التي أغرته بذلك، فالمهدي بن تومرت، زعيم الدولة الموحدية شرح عقيدته في كتابه أعز ما يطلب، ووضع العلم في مقدمة الدولة، وكذلك فعل أفلاطون في جمهوريته، الأمر الذي أغرى ابن رشد وجعله ينظر لشروط المجتمع الفاضل في ظل الدولة الموحدية، ويتخذ مرجعيته من آثار أفلاطون[22]. فرأى ابن رشد رأي أفلاطون، أن غاية التربية هي بناء مجتمع عادل يتآلف من مواطنين أصحاء البدن والنفس. والفيلسوف المربي هو الذي يوجه الأفراد نحو الوظائف المناسبة لهم حتى يقوم كل فرد بما هو أهل له. وهذا يتطلب منه معرفة بطبائع الرعايا والتشكيلة الاجتماعية حتى يوفق في توجيه الأفراد الوجهة التي تستجيب لظروف الأفراد وتلبي حاجات المجتمع، مع الحفاظ على التوازن والاعتدال. والمجتمع العادل في رأي ابن رشد هو الذي يقوم فيه الفرد بمسؤولية واحدة لا يتعداها. والاعتدال سبب السعادة والدوام. هذه التربية تحدد وظيفتها في حفظ الناشئة في بدنها حفظا طبيا، وفي عقلها ولسانها حفظا تربويا أخلاقيا. والفيلسوف المربي، حتى يوفق في ذلك، يجب أن يكون مطلعا على العلوم النظرية ومكتسبا حنكة الدهر. هذه الحنكة هي التي تدل على التمرس بقواعد الصناعة الفلسفية التربوية وتخرج عمله النظري إلى التطبيق والتجربة. ومن شروط المجتمع الفاضل قيامه على علاقات تبادلية بين أطرافه، بحيث لا مجال فيه للانعزال والاغتراب والانكفاء على الذات. الانعزال نزعة سلبية: إن أبرز آراء ابن رشد هي إيمانه المطلق بضرورة الانفتاح على الآخر، وعدم الانعزال والتقوقع على الذات الذي يعتبره انحرافا في السلوك تترتب عليه مساوئ وأضرار اجتماعية كثيرة. ينادي ابن رشد بتحقيق الانفتاح على مستويين اثنين: اجتماعي وثقافي فكري. 1 ـ على المستوى الاجتماعي: لاحظ ابن رشد أنه في خضم الصراعات والفتن السياسية والفكرية تنتشر النزعة الانعزالية بين الناس على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وهذه النزعة علة تصيب الإنسان لخلل يلحق توازنه النفسي، وهي تتعارض مع ما جبل عليه من ميول نحو الاجتماع والأنس. يرى ابن رشد أن حياة التوحد والانعزال لا تثمر صناعات ولا علوما، وواجب الإنسان أن يأخذ بنصيبه في إسعاد نفسه والتمتع بفرص الحياة الدنيوية وإسعاد المجموع. وهذا يقتضي من كل فرد أن يؤدي دوره الاجتماعي ووظيفته المؤهل لها[23]. وقد نالت المرأة أيضا حظها من اهتمام ابن رشد ولم يهملها، فنادى بضرورة إشراكها في تحمل نصيبها من خدمة المجتمع وأداء دورها في إنتاج الثروة المادية والثقافية وفي حفظها. مثلها مثل الرجل. فعلى النساء أن يقمن بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال، ولا تقتصر وظيفتهن على النسل وخدمة بعولتهن. فإن ذلك مبطل لدورهن الحقيقي. وقد تطرق في كتابه بداية المجتهد لموضوع ولاية المرأة المناصب الإدارية الشرعية كالقضاء. وأورد في ذلك أقوال عدد من العلماء والفقهاء. وكتب في جوامع سياسة أفلاطون: "ولما حرمت النسوة مشاركة الرجال في الفضائل الإنسانية، كان الكثير منهن شبيها بالنبات، وكن عالات على الرجال، فإنهن لا يقمن بالأعمال الضرورية، بل يقمن بأعمال غير ذات أهمية تملأ الفراغ كالغزل والنسيج"[24]. وهذا الكلام ينم عن احتقار للعمل اليدوي المتمثل في الغزل والنسيج، ولا نظن أن إماما فقيها مجتهدا وفيلسوفا كبيرا كابن رشد يصدر عنه ذلك، لكن الترجمة عن أفلاطون هي التي أوقعته في الغلط ولم يلتفت إليه. إنه لا يختلف اثنان حول الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للنسيج والغزل ولتربية الصبيان، لكن الفلسفة اليونانية تريد النساء حكيمات مشتغلات بالنظر العقلي، والوظائف القيادية والولاية مثل الرجال. إلا أن القول يتضمن دعوة إلى إقرار حقها في التعلم والتكوين بشكل مساو للرجل. 2 ـ وعلى المستوى الثقافي الفكري يحث ابن رشد على ضرورة الانفتاح على الفكر الآخر، وعدم الانغلاق الثقافي، مع الحرص على إخضاع الفكر الآخر لأحكام الشرع والنظر في مدى موافقته لأحكامه. وفي ذلك اجتهاد وعمل عقلي لا يكتفي العالم المتعلم بما جاء به السابقون: "يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم"[25]. وبهذا نضمن ممارسة المعرفة الحق والتحرر من الانغلاق الفكري والمذهبي وتفتحا على الغير. والدعوة للتواصل مع الغير تتضمن نداء لاختراق أفكار وثقافات مغايرة والتفاعل معها. وقد عبر ابن رشد عن تصور جديد لاختلاف الآخر المخالف لنا في العقيدة، تصور ناتج عن احتكاك ابن رشد بمجتمعات معاصرة له مختلفة تماما عايشها وأخرى قديمة خبر أحوالها من خلال تراثها الذي قرأه ودرسه وبحثه. ويستفاد من آراء أبي الوليد أن الاحتكاك بالاختلاف يكون إيجابيا إذا كنا قادرين على مقابلته وموازنته بالنظام القيمي الذي ننطلق منه ونؤسس عليه مشاهداتنا وتأملاتنا للمغايرة والاختلاف. وهذا النظام القيمي يجب أن يكون الإسلام. فإذا كانت الحكمة حسب التعريف الرشدي هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الخالق، فإن الشريعة تبصر الإنسان بحقيقة الوجود أي بالخالق والمخلوقات وما بينهما من علاقة. وترسم إلى جانب ذلك منهجا للسلوك الفردي والجماعي الكفيل بتحقيق سلامة الفرد والمجتمع هاديا إلى الأسلوب الأصح في الممارسة والتطبيق. والتربية هي وسيلة الشريعة في ضبط مسار الناس وتوجيههم، وتبصيرهم بما يضمن سلامتهم، ويحقق كمالهم. وتزود العقل المسلم بمعايير قارة للتمييز بين الخبيث والطيب، وتشكل معالم الشخصية المسلمة مع الحرص على تحديد الهوية الإسلامية وإبراز معالمها وحمايتها من الذوبان في خضم الاحتكاك والتفاعل مع الثقافات الأخرى. البعد التربوي للشريعة والحكمة: يقول ابن رشد إن الشريعة تدعو إلى التأمل والتدبر وتوجب النظر الفلسفي واستعمال البرهان المنطقي لمعرفة الله والبرهنة على وجوده من خلال موجوداته. وساق لذلك آيات من القرآن الكريم تحث على استعمال العقل والنظر في الموجودات. وما يراه أيضا أن الشريعة، وإن كان الوحي مصدرها، فهي لا تخالف العقل ولا تناقضه. "فالعقل يخالطها" والشرائع العقلية الوضعية المجردة من الوحي تكون أنقص من الشرائع السماوية التي استنبطت من العقل والوحي[26]. والشريعة هي صناعة مدنية ضرورية للاجتماع، تأخذ مبادئها من العقل والوحي. وتتضمن توجها تربويا أساسه تربية الفرد حتى يغدو صالحا، يعمل على بلوغ كماله الإنساني، ويسعى لتحصيل سعادة نفسه وجماعته، في حياته الدنيوية والأخروية. فهي ضرورية لتحصيل الفضائل الخلقية للإنسان. هذه الفضائل لا تتمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة. ويقدم ابن رشد لذلك مثلا بالصلاة التي هي ليست مجرد ركوع وسجود. بل لها بعد تربوي يتجلى في نهينا عن الفحشاء والمنكر[27]. أما الفلسفة، "فهي تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية"[28]. وسبيل ذلك تعلم الحكمة. وهي لا تتوجه للجمهور وعموم الناس، بل تقصد بخطابها فئة خاصة من الأفراد القادرين على استيعابها. وهذا الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام. لذلك فالتربية الشرعية ضرورية وأساسية، لأنها تنشئ الأفراد عامة على الفضائل الشرعية، وتحقق تعليما عاما وضروريا، للفئة الخاصة الحكيمة. إن الشريعة تعم الناس كافة بالخطاب. وتربي الجمهور عامة، تربية أساسية مشتركة. فهي "تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع.. لذلك فهي واجبة". "ومع ذلك فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت فيما يخص الحكماء وكتبت بما يشترك فيه الجمهور"[29]. إن التربية الشرعية تؤثر في وقت الصبا والمنشأ، وعند الانتقال إلى زمن الرشد، فلا يجب على الفيلسوف أن يستهين بما نشأ عليه من تربية دينية. بل عليه أن يتأول ذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم الديني هو ما يعم لا ما يخص. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا بإطلاق. والحكمة أيضا تتفق مع الشريعة في هذا المنحى. وتدعو إلى تربية الناشئة على الفضائل والأخلاق الحسنة. وتحذر مما يمكن أن يؤدي إلى عكس هذه النتيجة. ففي جوامع سياسة أفلاطون رسم ابن رشد منهجا لتربية الصبيان، اقترح فيه وسائل لحماية أخلاق الناشئة وتربية أذواقها تربية سليمة.. وحذا في ذلك حذو أفلاطون في التحذير من إسماع الصبيان الحكايات الخرافية الكاذبة، فضررها يفوق ضرر إصابة جسم الصبي بالثلج، على حد تعبير ابن رشد، "ونحذر –كما يقول أفلاطون– من أن نعود نفوسهم سماع الأقاصيص السافلة أكثر مما نحذر من إصابة أجسامهم بالثلج"[30]. كما يدعو إلى حماية الناشئة من سماع سيء الشعر ورديئه الذي يتضمن دعوة إلى الرذيلة والفسق والفجور ويتعارض مع الأخلاق الحميدة والعفة ويهدد الفضيلة: "فاعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الشريرة، وضرره كبير على النشء في الصبا"[31]. ثم إن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا. إذ إنه لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة على الأعمال الخلقية والعملية. والفلاسفة يرون في الشرائع هذا الرأي. أي الأخذ بالتقليد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في الملة. فيجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشريعة ويقلد فيها. والممدوح عند الفلاسفة من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها[32]. مراعاة الخطاب الشرعي لقدرات الناس: يقول في كتاب فصل المقال إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. أما العلم الحق فهو الذي ينحصر في معرفة الله تعالى ومعرفة الموجودات على حقيقتها، ومعرفة السعادة والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو عمل ما يفيد السعادة ويتجنب ما يفيد الشقاء. وطرق التعليم اثنان، التصور والتصديق. والتصور يكون إما بتصور الشيء نفسه أو مثاله. والتصديق يكون إما بالبرهان أو بالجدل أو بالخطابة: "الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف: ـ صنف ليس من أهل التأويل أصلا. وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. ـ وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة. ـ وصنف هم من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة أعني صناعة الحكمة"[33]. فالناس يختلفون بطباعهم. لذلك جاء الشرع مشتملا على جميع أنحاء طرق التعليم هذه حتى يجد كل واحد ما يلائم طبعه واستعداده. فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالجدل ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية. وهو ما ترشد إليه الآية الكريمة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (16/125). ويلاحظ ابن رشد أن أكثر الناس يصدقون بالخطابة والجدل والقليل جدا منهم يصدقون بالبرهان، لهذا جاء الشرع متفقا مع الأغلبية، أي أن في ظاهره ما يرضي هذه الفئة الغالبة في الناس. دون أن يهمل الفئات الأخرى وحاجاتها العقلية[34]. ولما كانت طرق التصديق منها ما هي عامة لأكثر الناس، هي الخطابية والجدلية، والخطابية أعم من الجدلية، ومنها ما هي خاصة لأقل الناس وهي البرهانية. وكان الشرع مقصده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال تنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق[35]. فحري بالعلماء أن يقتدوا بذلك من جهتين: 1 ـ في خاصة أنفسهم، فالشرع لا يؤخذ كله على ظاهره بل على الخواص من العلماء أن يؤولوا ما يحتاج لتأويل حتى يدركوا حقيقته التي تتناسب واستعداداتهم وقدراتهم العقلية[36]. 2 ـ في تعليمهم الناس، حيث يجب عليهم، مراعاة لقدرات الناس العقلية، أن يحفظوا التأويل في نطاق رجال البرهان وفي كتبهم لحماية الناس منها. لأن التصريح بالتأويل لعامة الناس تترتب عليه مفاسد كثيرة أخطرها الكفر. وهذا الخطأ وقعت فيه كثير من الفرق الإسلامية التي صرحت بالتأويل لعموم الناس. فأشركوا السواد الأعظم من الناس في مسائل تفوق مستوى عقولهم. فأدى بكثير منهم إلى الوقوع في الكفر والانحراف الديني، مما يتناقض والغايات السليمة التي جاءت بها الشريعة وعلومها. ويتعارض مع الرسالة السامية التي حملها العلماء والأئمة المسلمون. وقد نقل عن الصدر الأول أنهم كانوا يرون أنه ليس يجب أن يعلم بباطن الشرع من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه. وفي ذلك يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"[37]. إن واجب العلماء المربين أن يراعوا قدرات الناس بالاقتصار مع العامة على تعريفهم بظاهر الشرع، وعدم تجاوز ذلك إلى التأويل، وإن كانوا هم في خاصة أنفسهم مطالبون بالبحث عن معناه الباطن لأنهم أهل لذلك قادرون عليه. وانتقد ابن رشد طريقة الأشاعرة والفرق الإسلامية في الاستدلال، ولما وضعوه من مقدمات وما انساقوا إليه من نتائج وخيمة على العلم والعقل معا: "ولقد بلغ تعدي نظارهم… على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود البارئ سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم… ومن هنا اختلفوا… فأخطأوا مقصد الشارع فضلوا وأضلوا"[38]. طرق التعليم التي سلكتها الفرق الكلامية خاطئة، لم تحقق المقصود، وبدل تثبيت الإيمان وتقويته في نفوس المسلمين، زرعت فيهم الشكوك وأدت بهم إلى الانحراف الديني، أخطأت هذه الطرق التعليمية الهدف لأنها أخطأت السبيل، بسبب ابتداعها طرق تعليم مخالفة للطرق التي جاء بها الشرع. يقول ابن رشد متسائلا وموضحا ذلك: "فإذا لم تكن الطرق التي سلكتها الأشعرية ولا غيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع تعليم الجمهور بها، وهي التي لا يمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟"[39] .ولا يلبث أن يجيب موضحا بأن الطريقة التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدها الصحابة رضوان الله عليهم، هي الطريقة التي تعتمد استقراء القرآن الكريم والوقوف عند ظاهر ألفاظه للعموم وعدم التجاوز بتأويل ما يحتاج للتأويل إلا للخواص من العلماء[40]. فالطرق المشتركة لتعليم عامة الناس وخاصتهم والتي جاء بها الشرع هي أفضل الطرق للتعليم. "إذا تؤمل الأمر ظهر أنه ليس يبقى طريق مشترك لتعليم الجمهور أفضل من الطرق المذكورة"[41] لأنها تخاطب الناس كل حسب قدراته واستعداده، وقصدها إفادة السعادة الإنسانية بتعليمهم العلم الحق والعمل الحق. وخلاف هذه الطرق تؤدي إلى قلة تقوى الناس وإضعاف إيمانهم ونشر البغض والكراهية والنزاعات بينهم وتفريقهم وتمزيق الشرع[42]. ويضيف موضحا أن لا سبيل إلى تصحيح هذا الخطأ الكبير إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم والاقتداء بالخطاب الشرعي في مراعاته قدرات الناس العقلية ومسلكه في تعليم الناس. ولما كان لكل صناعة مبادئ، فواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم بمبادئها. فليس يجوز لمتعلم الفلسفة التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع. وفاعل ذلك يحتاج إلى الأدب الشديد. وإن تمادى الزمان والسعادة بالمتعلم إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها، ففرضه ألا يصرح بذلك التأويل. وأن يقول فيه كما قال سبحانه {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} وهذه هي حدود العلماء[43]. لأن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول[44]. الخاتمة: إن سبر أغوار فكر ابن رشد عمل لا يخلو من متعة ومفاجآت رغم ما يكتسيه من مشقة. وهذا العمل لا يمكن أن يتم عبر وريقات قليلة تحاول أن تتصدى لجانب واحد من جوانب فكر ابن رشد. وأعني به الرؤية التربوية. فابن رشد فيلسوف كبير أثرى حياتنا بعطائه الفلسفي والفقهي وأثر بآرائه في كثير من المفكرين الذين استغرقهم هم تجديد العقل المسلم وشحذه وتثقيفه. كان ابن رشد فيلسوفا مسلما كبيرا ذا إيمان قوي، بذل جهده في الدفاع عن العقل والفلسفة والتقريب بينهما وبين الشريعة. وبرهن على أن الوحي والعقل لا يتعارضان. وحاول النهوض بالعقل المسلم وتجديده. ووضع خطة لتربية الناشئة تربية عقلية مؤسسة على الإسلام، تحقق معرفة بشرية طبيعية تمكن من فهم قوانين الطبيعة والاقتراب من قوانين الوجود، تحترم العقل وتقدره وتراعي القواعد الشرعية في التفكير والحكم. 

[1] - حول محنة ابن رشد، انظر الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية 1996 والمراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تقديم محمود حقي، الدار البيضاء، دار الكتاب، ص435. [2]- حول قائمة مؤلفات ابن رشد، انظر: عمارة، محمد، المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد، القاهرة، دار المعارف، 1979، ص97 وما بعدها. العلوي، جمال الدين، المتن الرشدي، الرباط، دار توبقال، 1986. بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، ج1، مادة ابن رشد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984. [3]- ابن رشد، تهافت التهافت. تقديم محمد العريبي، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1993، ص193-229. [4]- ابن رشد: فصل المقال، تقديم ألبير نصري نادر، بيروت، دار المشرق، ص28. [5]- شحلان أحمد، (أبو الوليد بن رشد، الفيلسوف المصلح)، أشغال ندوة مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي، كلية الآداب، جامعة القاضي عياض، مراكش: 1989، ص128. [6]-  شحلان أحمد، المرجع نفسه، ص218. [7]- ابن رشد، تهافت التهافت، ص296. [8] -علي سعيد إسماعيل، أصول التربية الإسلامية، القاهرة، دار الثقافة، 1978، ص226. [9] - نفسه، ص226. [10]- ابن رشد، فصل المقال، ص32. [11]-  نفسه، ص32. [12] - نفسه، ص18. [13]- أبو شوار، إبراهيم، (الأسس التربوية لعلاقة الحكمة بالشريعة في فلسفة ابن رشد)، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد 55، ربيع 1996، ص158. [14]- العشري، جلال، (العقاد بين الغزالي وابن رشد)، مجلة الفيصل، عدد 22، ربيع الآخر 1399، ص60. [15]-عمارة، محمد، (مقام العقل في مدرسة التجديد الديني الحديث)، مجلة الهلال، يناير 1980، ص50. [16]-أبو شوار، إبراهيم، المرجع نفسه، 149. [17]- العشري، جلال، المرجع نفسه، ص60. [18] - عمارة، محمد، مجلة الهلال، ص50. [19]-  الجابري، محمد عابد، (لنتخلص من الأسئلة المزيفة)، جريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 12/7/96، ص2. [20]-  أبو شوار، املرجع نفسه، ص155 و177. [21] - بدوي، عبد الرحمن، المرجع نفسه. [22]-  شحلان، أحمد، المرجع نفسه، ص213. [23]-  علي، سعيد إسماعيل، المرجع نفسه، ص227. [24]-  شحلان، أحمد، المرجع نفسه، ص220. [25]-  ابن رشد، فصل المقال، ص33. [26]-  ابن رشد، تهافت التهافت، ص326. [27]-  نفسه، ص326. [28]-  نفسه، ص325. [29]-  ابن رشد، المرجع نفسه، ص325. [30]-  شحلان، أحمد، مرجع سابق، ص218. [31] -  نفسه، ص218. [32] ابن رشد، تهافت التهافت، ص326. [33]- ابن رشد، فصل المقال، ص52. [34] -  نفسه، ص18 و23. [35] -  نفسه، ص51. [36] - ابن رشد، المرجع نفسه، ص35. [37]- ابن رشد، المرجع نفسه، ص38. [38]-  نفسه، ص56. [39]- نفسه، ص56. [40]- الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1991، ص531. [41]-  ابن رشد، المرجع نفسه، ص56. [42]-  ابن رشد، تهافت التهافت ابن رشد ، ص56. [43]-  نفسه ص224. [44]- نفسه، صالبعد التربوي لآراء ابن رشد الفلسفية

  الزبير مهداد

  ابن رشد، فيلسوف قرطبة وقاضيها: ولد محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد عام 520 للهجرة بمدينة قرطبة في الأندلس. في بيت اشتهر بالعلم والفقه. درس الشريعة والفقه ثم الطب والرياضيات والحكمة. في عام 547 دعاه عبد المومن الموحدي إلى مراكش ليعاونه على إنشاء معاهد العلم هناك. فتعرف مذهب الموحدين وعقيدتهم، وسره أن يجد منهم العناية بالعلم ومؤسساته ورجاله. ثم كان له لقاء ثان بالدولة الموحدية من خلال اتصاله بالخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن الذي كان مولعا بالفلسفة والعلم. وقد تم هذا الاتصال عن طريق ابن طفيل صاحب حي بن يقظان. وتلبية لرغبة هذا الخليفة الموحدي قام ابن رشد بترجمة وتفسير وتلخيص كتب أرسطو لتصحيح التصورات الخاطئة السائدة في وسط العلماء حول أفكار هذا الفيلسوف الكبير ودفع الشكوك التي كانت تحوم حولها. لقي ابن رشد العناية نفسها من السلطان أبي يوسف المنصور، الذي تولى حكم الدولة الموحدية بعد وفاة أبي يعقوب، فأثار ذلك غيرة العلماء وحسدهم. فسعوا لدى السلطان يتهمون ابن رشد بالزندقة والكفر، فحوكم ونفي إلى إحدى القرى بضواحي قرطبة وأحرقت كتبه. وعند عودة السلطان إلى مراكش قاعدة حكمه استقدم ابن رشد وعفا عنه وأعاده إلى سالف نعمته وأذن له بالعودة إلى قرطبة. إلا أن المنية وافته بمراكش، فمات عام 595 ونقل جثمانه إلى مدينته قرطبة[1]. وابن رشد فقيه كبير وفيلسوف مبرز وطبيب لامع. أكثر آثاره في الفلسفة والمنطق. إذ ترجم آثار الفلاسفة الإغريق كأرسطو وأفلاطون. وفي الطب خلف كتبا وشروحا مهمة وفي الكلام وفي الفقه والأصول وغيرها من العلوم[2]. آثاره التربوية: عاش ابن رشد في عصر سادته الصراعات السياسية والمذهبية والنزاعات العسكرية، سواء في المغرب أو الأندلس. وظروف مثل هذه تحرك همم المفكرين والعلماء وتدعوهم للتأمل في أسبابها وتلمس حلول لها. وقد اهتم ابن رشد الفيلسوف بهذه الظروف وأولاها عنايته. وعبر من خلال اهتمامه عن انشغاله بقضية التربية والتعليم كعامل أساسي من عوامل تشكيل شخصيات الأفراد وتحديد قنوات لإيجاد مسارب التوافق والتكيف الاجتماعي والذاتي. تتوزع آراء ابن رشد في التربية ضمن مؤلفاته المختلفة، وأهمها: 1 ـ تهافت التهافت الذي رد فيه على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة. وكان رد ابن رشد من أهم ما صنف في الرد على الغزالي وإبطال مزاعمه. بحيث إنه أثار الجدل الواسع بين الفقهاء والحاكمين والخاصة والعامة؛ لأن ابن رشد رام في كتابه الدفاع عن الفلسفة وبيان أهميتها في الإصلاح السياسي والاجتماعي التربوي. 2 ـ جوامع سياسة أفلاطون، وهو ترجمة وتلخيص وشرح لكتاب جمهورية أفلاطون. وفيه تعرض لشروط المجتمع الفاضل وسبل بنائه ووقايته وطرق سياسته وتدبيره، ووظائف أفراده. 3 ـ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وفيه فصل القول عن قضايا مهمة تحتل مكانة في فلسفة التربية. منها واقعية المعرفة، ووجوب النظر العقلي والفلسفة وغيرها. كما تعرض لحكم تعلم الفلسفة، وحكم علوم غير المسلمين، والقدرة البشرية على الإحاطة بالعلوم، والتأويل، وتصنيف العلوم، رادا في فصول كثيرة على كلام الغزالي وآرائه. 4 ـ شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، حيث عمد ابن رشد إلى الحديث عن نمو الجنين والعناية به وميلاده وتدبيره ورعاية نموه النفسي والبدني. وكتب أخرى كثيرة، عبر فيها عن آراء في التربية مؤسسة تأسيسا فلسفيا إسلاميا، تنم عن سعي ابن رشد الفيلسوف الطبيب لوصف بلسم شاف يعالج أسقام أمته وعصره. والمقالة المتواضعة التالية تحاول الاقتراب من ابن رشد واستعراض ملامح فكره التربوي. أسس فلسفته: 1 ـ يقول ابن رشد في تعريف العقل: "هو إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها… فالصور المادية إذا تجردت في النفس من مادتها، صارت علما وعقلا، ولما كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء، كان العقل هو إدراك المعقولات، أي إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها وأسبابها"[3]. ويتفق ابن رشد في تعريفه العقل مع مفكري اليونان الذين اعتبروه ملكة خاصة بإدراك المجردات وبمعرفة الكلي في مقابل المحسوس الجزئي. فالعقل بهذا التعريف هو منهج في النظر، وطريقة في تحصيل المعرفة تسعى لإدراك أنظمة الموجودات وترتيبها وأسبابها. وهذا النظر العقلي يرى ابن رشد أنه واجب في الإسلام. قال في كتابه فصل المقال: "إن الشرع قد أوجب النظر العقلي في الموجودات واعتبارها"[4]. واستعرض آيات من القرآن الكريم ونصوصا من الحديث الشريف لتأكيد قوله. وإذا كان التفكير العقلاني يعني عرض المرء أفكاره بطريقة منطقية تنم عن قدرته على كشف أسباب وجواهر الظواهر، فإن هذا لا يمكن أن يتحقق في ظل تربية متخلفة تعتمد إرهاب الصبيان وسيلة للتحكم فيهم وتوجيههم وتنشئتهم. يقول في جوامع سياسة أفلاطون "لا يجب أن نعلم النشء أن هناك جنونا تهدم الجدران على الناس، ولا يحيل بينهم وبينهم أي حائل. وأنهم يرون ولا يرون، ويوجدون أينما يريدون، وأنهم ينتحلون ما شاءوا من الصور"[5]. فهذه الخرافات تأثيرها السيء على التكوين النفسي للصبي قوي بحيث يلازمه طيلة حياته، وقد يحول دون توافقه الذاتي السليم، ويعرقل اندماج الفرد في مجتمعه ويمنعه من أداء وظيفته الاجتماعية "إذ تمنع هذه الوليد من أن يكون جنديا قويا وتنمي الخوف في قلوب الناشئة"[6]. فأمر الشرع بوجوب استخدام العقل قد ينقضه هذا الأسلوب التربوي الخاطئ. إن الحصيلة الضخمة من المعارف المتمثلة في العلوم المختلفة هي وليدة النظرة العقلية التي همها البحث عن الحقيقة في كل أرجاء الكون. ويؤكد ابن رشد أن المعرفة الإنسانية والعلم البشري أصلهما من الواقع: "العلم اليقيني هو معرفة الشيء على ما هو عليه. والعلم المخلوق فينا إنما هو أبدا شيء تابع لطبيعة الموجود"[7]. فالواقع هو مصدر المعرفة والمؤثر فيها بمتغيراته. كما أن الواقع نفسه يعكس التغيرات والتطورات التي تطرأ على العلم والمعرفة: "فكل علم معرفة، جزئية كانت أو كلية، لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بالواقع ونابعة منه"[8]. بل حتى القضايا الكلية المجردة المؤلفة – بواسطة العمليات العقلية الذهنية المعقدة- من الجزئيات، هي موجودة في الواقع قبل أن توجد في الذهن. يتمثل وجودها الواقعي في أشكالها الأولى وجزئياتها التفصيلية قبل أن تتبلور في الذهن[9]. ومع اعتراف ابن رشد بمكانة العقل في التمييز والتحصيل والوصول إلى المعرفة، فإنه يرى أن قدرات العقل محدودة، ثم إنها تختلف من شخص لآخر، والعقل عاجز عن تحصيل جميع العلوم، فهناك أمور لا يستطيعها ولا يمكنه أن يستقل بمعرفتها بمفرده. وكي يستطيع الوصول إلى ما غمض عليه من العلم لا بد من الاستعانة بمن سبقوه والاستفادة من اجتهاداتهم. والمعرفة متنوعة بقدر تنوع هذا العالم المحيط بالإنسان. لذلك كان مستحيلا على الإنسان الفرد الإحاطة بكل العلوم كما يستحيل على فرد منفرد أن ينشئ علما مبتكرا كامل القواعد من دون الاستعانة بتجارب من سبقه. فالعلوم لا يكمل النظر فيها إلا بعد زمن طويل من البحث فيها[10]. والمعرفة تمثل تراثا إنسانيا عالميا تثريه التراكمات الناتجة عن إسهام وعطاء الشعوب المختلفة. فلذلك يصعب استغناء المتأخرين عن أعمال المتقدمين[11]. وهذا يوجب الاستعانة بما انتهى إليه البحث العلمي والاسترشاد باجتهادات العلماء السابقين حتى ولو كانوا مختلفين معنا دينا مثل اليونان. فنأخذ منهم ما نجده موافقا للحق ونعذرهم على ما هو ليس موافق له[12]؛ لأن آثارهم تتحدد قيمتها بحسب الشروط التي أوجدتها. فما توصلوا إليه ليس ملزما للأمة الإسلامية وليس واجبا على الفلسفة من حيث كونها فلسفة؛ لأنها مجرد تأويلات اضطروا إليها حسب المقام والمقال، لأن الفلسفة هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع[13]. 2 ـ ويؤكد ابن رشد العلاقة الضرورية بين السبب والمسبب كخطوة نحو إرساء دعامة الفكر العلمي في الثقافة العربية. وذلك برد كل شيء في العالم إلى أسباب تدرك بالعقل. يرى ابن رشد أن الأشياء الطبيعية متصل بعضها ببعض اتصالا ضروريا بأسباب محسومة مشاهدة، وأن الأسباب فاعلة والمسببات منفعلة. والدليل على ذلك أن لكل موجود فعلا يخصه لأن له طبيعة تخصه، ومعرفتنا بهذه الطبيعة وهذا الفعل هي التي تسمح لنا أن نطلق على كل شيء اسما واحدا يخصه[14]. لم يجد ابن رشد حرجا في تقرير علاقة السببية على الاعتقاد والإيمان الديني العميق بوجود الخالق الفاعل في هذا الكون لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وخلق القوانين والسنن التي لا سبيل إلى خرقها وتبديلها، فعلى حين تحرج الغزالي في تقرير علاقة السببية لم يتحرج فيلسوفنا في تقرير العلاقة السببية باعتبارها من سنن الكون وقوانينه[15]. لم يقبل ابن رشد موقف الغزالي القائل بعقم التصور الفلسفي للضرورة السببية، واعتبر ابن رشد أن رفع الأسباب إنما هو رفع للعقل نفسه ورأى إلى جانب ذلك أنه ليس يلزم من العلم ليكون علما أن يكون قائما على الضرورة السببية[16]. فالعلم الحقيقي الذي يستند على العقل هو العلم بالأسباب والمسببات. فالعقل هو الذي يدرك الأسباب والموجودات الطبيعية. وإذا رفعت الأسباب والمسببات رفع العقل. وإذا رفع العقل بطل العلم وحلت الظنون محل العلوم الحقيقية العقلية[17]. فكرة السببية كما شرحها ابن رشد تؤكد العلاقة بين الأسباب والمسببات وهي تتعارض مع فكرة التواكل التي لعبت دورا أساسيا في التخلف العربي في العصور الوسطى. لأن الإيمان بفكرة السببية يثمر الاعتقاد بحرية الإنسان واختياره، وبأن للأشياء في ذاتها وبطبيعتها نفعا أو ضررا وحسنا أو قبحا[18]. 3 ـ وكان ابن رشد فوق كل ذلك فيلسوفا مسلما وفقيها مالكيا مجتهدا. لم يخرج عن الإطار العام للفلسفة الإسلامية على مستوى إشكالياتها أو موضوعاتها، أو من حيث المفاهيم التي وظفها في التحليل والتناول. وتفرده يرجع إلى إثباته العلاقة بين الحكمة والشريعة، خلافا لرأي الفارابي الذي يرجع أولوية الحكمة على الملة إلى الأولوية الزمنية. إلا أن ابن رشد نظر إلى المسألة من زاوية الفقيه المفتي المجتهد المتحمل مسؤولية القضاء التي تلزمه أن يتمسك بحياده، ويلتمس الحكم من داخل الشرع لا من خارجه[19]. فأدت آراؤه إلى تغيير نظرة الفقهاء خاصة وعامة المسلمين إلى الفلسفة. كما غيرت موقف الفلاسفة من الدين. وهذا الموقف لا يستغرب من رجل جمع بين الفقه حتى بلغ فيه درجة الاجتهاد، والفلسفة حتى وصل إلى رتبة الأستاذية فيها. والجمع بين الفلسفة والشريعة وتقليص حدة التناقض القائم بينهما لا يتم إلا بضبط حدودهما بشكل محكم. ووسيلة ذلك الالتزام بالشروط التربوية لتعلم الفلسفة والشريعة وتعليمهما. فانتقد كثيرا الفكر الفلسفي الذي لا يعبر عن احترام قواعد الإسلام وثوابته وقيمه الراسخة. كما دعا في الوقت نفسه الفقهاء للاقتراب من الفلسفة، لأن ضررها العارض، الناتج عن أخطاء الخطابات الفلسفية السائدة، لا ينفي نفعها بالأصل[20]. وبسبب آرائه الإسلامية، اعتبره فلاسفة أوروبا في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث الممثل الأكبر للفلسفة الإسلامية واشتدت الحملة عليه وعلى آرائه وكتبه[21].   غاية التربية مجتمع فاضل: لاحظ ابن رشد أن من أعراض الأزمة السياسية والفكرية تخلي الطبقة الحاكمة المتألفة من القادة والأئمة والعلماء عن مبادئهم العقلية، واتخاذهم موقفا معاديا للعلم والعقل. كما لاحظ أن مواطنيه لم يلتزموا وظائف اجتماعية محددة، بل لم يشتغلوا بصنعة واحدة، وانساقوا وراء أغراض مختلفة متناقضة، وانشغلوا بصنائع متعددة. ولرصد غاية التربية رجع ابن رشد إلى الإرث الفلسفي اليوناني، وهو به خبير. بل وأكثر من ذلك فقد كان ابن رشد يرى أن شروط تأسيس مدينة فاضلة كما حددها أفلاطون يمكن إقامتها في بلاد المغرب، لأن بلاد المغرب في عصره توفرت على الشروط نفسها التي كانت تتوفر في بلاد اليونان زمن أفلاطون. ولعل عقيدة المهدي هي التي أغرته بذلك، فالمهدي بن تومرت، زعيم الدولة الموحدية شرح عقيدته في كتابه أعز ما يطلب، ووضع العلم في مقدمة الدولة، وكذلك فعل أفلاطون في جمهوريته، الأمر الذي أغرى ابن رشد وجعله ينظر لشروط المجتمع الفاضل في ظل الدولة الموحدية، ويتخذ مرجعيته من آثار أفلاطون[22]. فرأى ابن رشد رأي أفلاطون، أن غاية التربية هي بناء مجتمع عادل يتآلف من مواطنين أصحاء البدن والنفس. والفيلسوف المربي هو الذي يوجه الأفراد نحو الوظائف المناسبة لهم حتى يقوم كل فرد بما هو أهل له. وهذا يتطلب منه معرفة بطبائع الرعايا والتشكيلة الاجتماعية حتى يوفق في توجيه الأفراد الوجهة التي تستجيب لظروف الأفراد وتلبي حاجات المجتمع، مع الحفاظ على التوازن والاعتدال. والمجتمع العادل في رأي ابن رشد هو الذي يقوم فيه الفرد بمسؤولية واحدة لا يتعداها. والاعتدال سبب السعادة والدوام. هذه التربية تحدد وظيفتها في حفظ الناشئة في بدنها حفظا طبيا، وفي عقلها ولسانها حفظا تربويا أخلاقيا. والفيلسوف المربي، حتى يوفق في ذلك، يجب أن يكون مطلعا على العلوم النظرية ومكتسبا حنكة الدهر. هذه الحنكة هي التي تدل على التمرس بقواعد الصناعة الفلسفية التربوية وتخرج عمله النظري إلى التطبيق والتجربة. ومن شروط المجتمع الفاضل قيامه على علاقات تبادلية بين أطرافه، بحيث لا مجال فيه للانعزال والاغتراب والانكفاء على الذات. الانعزال نزعة سلبية: إن أبرز آراء ابن رشد هي إيمانه المطلق بضرورة الانفتاح على الآخر، وعدم الانعزال والتقوقع على الذات الذي يعتبره انحرافا في السلوك تترتب عليه مساوئ وأضرار اجتماعية كثيرة. ينادي ابن رشد بتحقيق الانفتاح على مستويين اثنين: اجتماعي وثقافي فكري. 1 ـ على المستوى الاجتماعي: لاحظ ابن رشد أنه في خضم الصراعات والفتن السياسية والفكرية تنتشر النزعة الانعزالية بين الناس على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وهذه النزعة علة تصيب الإنسان لخلل يلحق توازنه النفسي، وهي تتعارض مع ما جبل عليه من ميول نحو الاجتماع والأنس. يرى ابن رشد أن حياة التوحد والانعزال لا تثمر صناعات ولا علوما، وواجب الإنسان أن يأخذ بنصيبه في إسعاد نفسه والتمتع بفرص الحياة الدنيوية وإسعاد المجموع. وهذا يقتضي من كل فرد أن يؤدي دوره الاجتماعي ووظيفته المؤهل لها[23]. وقد نالت المرأة أيضا حظها من اهتمام ابن رشد ولم يهملها، فنادى بضرورة إشراكها في تحمل نصيبها من خدمة المجتمع وأداء دورها في إنتاج الثروة المادية والثقافية وفي حفظها. مثلها مثل الرجل. فعلى النساء أن يقمن بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال، ولا تقتصر وظيفتهن على النسل وخدمة بعولتهن. فإن ذلك مبطل لدورهن الحقيقي. وقد تطرق في كتابه بداية المجتهد لموضوع ولاية المرأة المناصب الإدارية الشرعية كالقضاء. وأورد في ذلك أقوال عدد من العلماء والفقهاء. وكتب في جوامع سياسة أفلاطون: "ولما حرمت النسوة مشاركة الرجال في الفضائل الإنسانية، كان الكثير منهن شبيها بالنبات، وكن عالات على الرجال، فإنهن لا يقمن بالأعمال الضرورية، بل يقمن بأعمال غير ذات أهمية تملأ الفراغ كالغزل والنسيج"[24]. وهذا الكلام ينم عن احتقار للعمل اليدوي المتمثل في الغزل والنسيج، ولا نظن أن إماما فقيها مجتهدا وفيلسوفا كبيرا كابن رشد يصدر عنه ذلك، لكن الترجمة عن أفلاطون هي التي أوقعته في الغلط ولم يلتفت إليه. إنه لا يختلف اثنان حول الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للنسيج والغزل ولتربية الصبيان، لكن الفلسفة اليونانية تريد النساء حكيمات مشتغلات بالنظر العقلي، والوظائف القيادية والولاية مثل الرجال. إلا أن القول يتضمن دعوة إلى إقرار حقها في التعلم والتكوين بشكل مساو للرجل. 2 ـ وعلى المستوى الثقافي الفكري يحث ابن رشد على ضرورة الانفتاح على الفكر الآخر، وعدم الانغلاق الثقافي، مع الحرص على إخضاع الفكر الآخر لأحكام الشرع والنظر في مدى موافقته لأحكامه. وفي ذلك اجتهاد وعمل عقلي لا يكتفي العالم المتعلم بما جاء به السابقون: "يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم"[25]. وبهذا نضمن ممارسة المعرفة الحق والتحرر من الانغلاق الفكري والمذهبي وتفتحا على الغير. والدعوة للتواصل مع الغير تتضمن نداء لاختراق أفكار وثقافات مغايرة والتفاعل معها. وقد عبر ابن رشد عن تصور جديد لاختلاف الآخر المخالف لنا في العقيدة، تصور ناتج عن احتكاك ابن رشد بمجتمعات معاصرة له مختلفة تماما عايشها وأخرى قديمة خبر أحوالها من خلال تراثها الذي قرأه ودرسه وبحثه. ويستفاد من آراء أبي الوليد أن الاحتكاك بالاختلاف يكون إيجابيا إذا كنا قادرين على مقابلته وموازنته بالنظام القيمي الذي ننطلق منه ونؤسس عليه مشاهداتنا وتأملاتنا للمغايرة والاختلاف. وهذا النظام القيمي يجب أن يكون الإسلام. فإذا كانت الحكمة حسب التعريف الرشدي هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الخالق، فإن الشريعة تبصر الإنسان بحقيقة الوجود أي بالخالق والمخلوقات وما بينهما من علاقة. وترسم إلى جانب ذلك منهجا للسلوك الفردي والجماعي الكفيل بتحقيق سلامة الفرد والمجتمع هاديا إلى الأسلوب الأصح في الممارسة والتطبيق. والتربية هي وسيلة الشريعة في ضبط مسار الناس وتوجيههم، وتبصيرهم بما يضمن سلامتهم، ويحقق كمالهم. وتزود العقل المسلم بمعايير قارة للتمييز بين الخبيث والطيب، وتشكل معالم الشخصية المسلمة مع الحرص على تحديد الهوية الإسلامية وإبراز معالمها وحمايتها من الذوبان في خضم الاحتكاك والتفاعل مع الثقافات الأخرى. البعد التربوي للشريعة والحكمة: يقول ابن رشد إن الشريعة تدعو إلى التأمل والتدبر وتوجب النظر الفلسفي واستعمال البرهان المنطقي لمعرفة الله والبرهنة على وجوده من خلال موجوداته. وساق لذلك آيات من القرآن الكريم تحث على استعمال العقل والنظر في الموجودات. وما يراه أيضا أن الشريعة، وإن كان الوحي مصدرها، فهي لا تخالف العقل ولا تناقضه. "فالعقل يخالطها" والشرائع العقلية الوضعية المجردة من الوحي تكون أنقص من الشرائع السماوية التي استنبطت من العقل والوحي[26]. والشريعة هي صناعة مدنية ضرورية للاجتماع، تأخذ مبادئها من العقل والوحي. وتتضمن توجها تربويا أساسه تربية الفرد حتى يغدو صالحا، يعمل على بلوغ كماله الإنساني، ويسعى لتحصيل سعادة نفسه وجماعته، في حياته الدنيوية والأخروية. فهي ضرورية لتحصيل الفضائل الخلقية للإنسان. هذه الفضائل لا تتمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة. ويقدم ابن رشد لذلك مثلا بالصلاة التي هي ليست مجرد ركوع وسجود. بل لها بعد تربوي يتجلى في نهينا عن الفحشاء والمنكر[27]. أما الفلسفة، "فهي تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية"[28]. وسبيل ذلك تعلم الحكمة. وهي لا تتوجه للجمهور وعموم الناس، بل تقصد بخطابها فئة خاصة من الأفراد القادرين على استيعابها. وهذا الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام. لذلك فالتربية الشرعية ضرورية وأساسية، لأنها تنشئ الأفراد عامة على الفضائل الشرعية، وتحقق تعليما عاما وضروريا، للفئة الخاصة الحكيمة. إن الشريعة تعم الناس كافة بالخطاب. وتربي الجمهور عامة، تربية أساسية مشتركة. فهي "تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع.. لذلك فهي واجبة". "ومع ذلك فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت فيما يخص الحكماء وكتبت بما يشترك فيه الجمهور"[29]. إن التربية الشرعية تؤثر في وقت الصبا والمنشأ، وعند الانتقال إلى زمن الرشد، فلا يجب على الفيلسوف أن يستهين بما نشأ عليه من تربية دينية. بل عليه أن يتأول ذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم الديني هو ما يعم لا ما يخص. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا بإطلاق. والحكمة أيضا تتفق مع الشريعة في هذا المنحى. وتدعو إلى تربية الناشئة على الفضائل والأخلاق الحسنة. وتحذر مما يمكن أن يؤدي إلى عكس هذه النتيجة. ففي جوامع سياسة أفلاطون رسم ابن رشد منهجا لتربية الصبيان، اقترح فيه وسائل لحماية أخلاق الناشئة وتربية أذواقها تربية سليمة.. وحذا في ذلك حذو أفلاطون في التحذير من إسماع الصبيان الحكايات الخرافية الكاذبة، فضررها يفوق ضرر إصابة جسم الصبي بالثلج، على حد تعبير ابن رشد، "ونحذر –كما يقول أفلاطون– من أن نعود نفوسهم سماع الأقاصيص السافلة أكثر مما نحذر من إصابة أجسامهم بالثلج"[30]. كما يدعو إلى حماية الناشئة من سماع سيء الشعر ورديئه الذي يتضمن دعوة إلى الرذيلة والفسق والفجور ويتعارض مع الأخلاق الحميدة والعفة ويهدد الفضيلة: "فاعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الشريرة، وضرره كبير على النشء في الصبا"[31]. ثم إن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا. إذ إنه لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة على الأعمال الخلقية والعملية. والفلاسفة يرون في الشرائع هذا الرأي. أي الأخذ بالتقليد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في الملة. فيجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشريعة ويقلد فيها. والممدوح عند الفلاسفة من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها[32]. مراعاة الخطاب الشرعي لقدرات الناس: يقول في كتاب فصل المقال إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. أما العلم الحق فهو الذي ينحصر في معرفة الله تعالى ومعرفة الموجودات على حقيقتها، ومعرفة السعادة والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو عمل ما يفيد السعادة ويتجنب ما يفيد الشقاء. وطرق التعليم اثنان، التصور والتصديق. والتصور يكون إما بتصور الشيء نفسه أو مثاله. والتصديق يكون إما بالبرهان أو بالجدل أو بالخطابة: "الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف: ـ صنف ليس من أهل التأويل أصلا. وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. ـ وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة. ـ وصنف هم من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة أعني صناعة الحكمة"[33]. فالناس يختلفون بطباعهم. لذلك جاء الشرع مشتملا على جميع أنحاء طرق التعليم هذه حتى يجد كل واحد ما يلائم طبعه واستعداده. فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالجدل ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية. وهو ما ترشد إليه الآية الكريمة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (16/125). ويلاحظ ابن رشد أن أكثر الناس يصدقون بالخطابة والجدل والقليل جدا منهم يصدقون بالبرهان، لهذا جاء الشرع متفقا مع الأغلبية، أي أن في ظاهره ما يرضي هذه الفئة الغالبة في الناس. دون أن يهمل الفئات الأخرى وحاجاتها العقلية[34]. ولما كانت طرق التصديق منها ما هي عامة لأكثر الناس، هي الخطابية والجدلية، والخطابية أعم من الجدلية، ومنها ما هي خاصة لأقل الناس وهي البرهانية. وكان الشرع مقصده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال تنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق[35]. فحري بالعلماء أن يقتدوا بذلك من جهتين: 1 ـ في خاصة أنفسهم، فالشرع لا يؤخذ كله على ظاهره بل على الخواص من العلماء أن يؤولوا ما يحتاج لتأويل حتى يدركوا حقيقته التي تتناسب واستعداداتهم وقدراتهم العقلية[36]. 2 ـ في تعليمهم الناس، حيث يجب عليهم، مراعاة لقدرات الناس العقلية، أن يحفظوا التأويل في نطاق رجال البرهان وفي كتبهم لحماية الناس منها. لأن التصريح بالتأويل لعامة الناس تترتب عليه مفاسد كثيرة أخطرها الكفر. وهذا الخطأ وقعت فيه كثير من الفرق الإسلامية التي صرحت بالتأويل لعموم الناس. فأشركوا السواد الأعظم من الناس في مسائل تفوق مستوى عقولهم. فأدى بكثير منهم إلى الوقوع في الكفر والانحراف الديني، مما يتناقض والغايات السليمة التي جاءت بها الشريعة وعلومها. ويتعارض مع الرسالة السامية التي حملها العلماء والأئمة المسلمون. وقد نقل عن الصدر الأول أنهم كانوا يرون أنه ليس يجب أن يعلم بباطن الشرع من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه. وفي ذلك يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"[37]. إن واجب العلماء المربين أن يراعوا قدرات الناس بالاقتصار مع العامة على تعريفهم بظاهر الشرع، وعدم تجاوز ذلك إلى التأويل، وإن كانوا هم في خاصة أنفسهم مطالبون بالبحث عن معناه الباطن لأنهم أهل لذلك قادرون عليه. وانتقد ابن رشد طريقة الأشاعرة والفرق الإسلامية في الاستدلال، ولما وضعوه من مقدمات وما انساقوا إليه من نتائج وخيمة على العلم والعقل معا: "ولقد بلغ تعدي نظارهم… على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود البارئ سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم… ومن هنا اختلفوا… فأخطأوا مقصد الشارع فضلوا وأضلوا"[38]. طرق التعليم التي سلكتها الفرق الكلامية خاطئة، لم تحقق المقصود، وبدل تثبيت الإيمان وتقويته في نفوس المسلمين، زرعت فيهم الشكوك وأدت بهم إلى الانحراف الديني، أخطأت هذه الطرق التعليمية الهدف لأنها أخطأت السبيل، بسبب ابتداعها طرق تعليم مخالفة للطرق التي جاء بها الشرع. يقول ابن رشد متسائلا وموضحا ذلك: "فإذا لم تكن الطرق التي سلكتها الأشعرية ولا غيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع تعليم الجمهور بها، وهي التي لا يمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟"[39] .ولا يلبث أن يجيب موضحا بأن الطريقة التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدها الصحابة رضوان الله عليهم، هي الطريقة التي تعتمد استقراء القرآن الكريم والوقوف عند ظاهر ألفاظه للعموم وعدم التجاوز بتأويل ما يحتاج للتأويل إلا للخواص من العلماء[40]. فالطرق المشتركة لتعليم عامة الناس وخاصتهم والتي جاء بها الشرع هي أفضل الطرق للتعليم. "إذا تؤمل الأمر ظهر أنه ليس يبقى طريق مشترك لتعليم الجمهور أفضل من الطرق المذكورة"[41] لأنها تخاطب الناس كل حسب قدراته واستعداده، وقصدها إفادة السعادة الإنسانية بتعليمهم العلم الحق والعمل الحق. وخلاف هذه الطرق تؤدي إلى قلة تقوى الناس وإضعاف إيمانهم ونشر البغض والكراهية والنزاعات بينهم وتفريقهم وتمزيق الشرع[42]. ويضيف موضحا أن لا سبيل إلى تصحيح هذا الخطأ الكبير إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم والاقتداء بالخطاب الشرعي في مراعاته قدرات الناس العقلية ومسلكه في تعليم الناس. ولما كان لكل صناعة مبادئ، فواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم بمبادئها. فليس يجوز لمتعلم الفلسفة التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع. وفاعل ذلك يحتاج إلى الأدب الشديد. وإن تمادى الزمان والسعادة بالمتعلم إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها، ففرضه ألا يصرح بذلك التأويل. وأن يقول فيه كما قال سبحانه {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} وهذه هي حدود العلماء[43]. لأن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول[44]. الخاتمة: إن سبر أغوار فكر ابن رشد عمل لا يخلو من متعة ومفاجآت رغم ما يكتسيه من مشقة. وهذا العمل لا يمكن أن يتم عبر وريقات قليلة تحاول أن تتصدى لجانب واحد من جوانب فكر ابن رشد. وأعني به الرؤية التربوية. فابن رشد فيلسوف كبير أثرى حياتنا بعطائه الفلسفي والفقهي وأثر بآرائه في كثير من المفكرين الذين استغرقهم هم تجديد العقل المسلم وشحذه وتثقيفه. كان ابن رشد فيلسوفا مسلما كبيرا ذا إيمان قوي، بذل جهده في الدفاع عن العقل والفلسفة والتقريب بينهما وبين الشريعة. وبرهن على أن الوحي والعقل لا يتعارضان. وحاول النهوض بالعقل المسلم وتجديده. ووضع خطة لتربية الناشئة تربية عقلية مؤسسة على الإسلام، تحقق معرفة بشرية طبيعية تمكن من فهم قوانين الطبيعة والاقتراب من قوانين الوجود، تحترم العقل وتقدره وتراعي القواعد الشرعية في التفكير والحكم. 

[1] - حول محنة ابن رشد، انظر الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية 1996 والمراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تقديم محمود حقي، الدار البيضاء، دار الكتاب، ص435. [2]- حول قائمة مؤلفات ابن رشد، انظر: عمارة، محمد، المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد، القاهرة، دار المعارف، 1979، ص97 وما بعدها. العلوي، جمال الدين، المتن الرشدي، الرباط، دار توبقال، 1986. بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، ج1، مادة ابن رشد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984. [3]- ابن رشد، تهافت التهافت. تقديم محمد العريبي، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1993، ص193-229. [4]- ابن رشد: فصل المقال، تقديم ألبير نصري نادر، بيروت، دار المشرق، ص28. [5]- شحلان أحمد، (أبو الوليد بن رشد، الفيلسوف المصلح)، أشغال ندوة مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي، كلية الآداب، جامعة القاضي عياض، مراكش: 1989، ص128. [6]-  شحلان أحمد، المرجع نفسه، ص218. [7]- ابن رشد، تهافت التهافت، ص296. [8] -علي سعيد إسماعيل، أصول التربية الإسلامية، القاهرة، دار الثقافة، 1978، ص226. [9] - نفسه، ص226. [10]- ابن رشد، فصل المقال، ص32. [11]-  نفسه، ص32. [12] - نفسه، ص18. [13]- أبو شوار، إبراهيم، (الأسس التربوية لعلاقة الحكمة بالشريعة في فلسفة ابن رشد)، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد 55، ربيع 1996، ص158. [14]- العشري، جلال، (العقاد بين الغزالي وابن رشد)، مجلة الفيصل، عدد 22، ربيع الآخر 1399، ص60. [15]-عمارة، محمد، (مقام العقل في مدرسة التجديد الديني الحديث)، مجلة الهلال، يناير 1980، ص50. [16]-أبو شوار، إبراهيم، المرجع نفسه، 149. [17]- العشري، جلال، المرجع نفسه، ص60. [18] - عمارة، محمد، مجلة الهلال، ص50. [19]-  الجابري، محمد عابد، (لنتخلص من الأسئلة المزيفة)، جريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 12/7/96، ص2. [20]-  أبو شوار، املرجع نفسه، ص155 و177. [21] - بدوي، عبد الرحمن، المرجع نفسه. [22]-  شحلان، أحمد، المرجع نفسه، ص213. [23]-  علي، سعيد إسماعيل، المرجع نفسه، ص227. [24]-  شحلان، أحمد، المرجع نفسه، ص220. [25]-  ابن رشد، فصل المقال، ص33. [26]-  ابن رشد، تهافت التهافت، ص326. [27]-  نفسه، ص326. [28]-  نفسه، ص325. [29]-  ابن رشد، المرجع نفسه، ص325. [30]-  شحلان، أحمد، مرجع سابق، ص218. [31] -  نفسه، ص218. [32] ابن رشد، تهافت التهافت، ص326. [33]- ابن رشد، فصل المقال، ص52. [34] -  نفسه، ص18 و23. [35] -  نفسه، ص51. [36] - ابن رشد، المرجع نفسه، ص35. [37]- ابن رشد، المرجع نفسه، ص38. [38]-  نفسه، ص56. [39]- نفسه، ص56. [40]- الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1991، ص531. [41]-  ابن رشد، المرجع نفسه، ص56. [42]-  ابن رشد، تهافت التهافت ابن رشد ، ص56. [43]-  نفسه ص224. [44]- نفسه، ص


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: