الفكر الفلسفي
المغربي وشروط الاستئناف
محمد وقيدي
عن موقع الدكتور محمد عابد الجابري.)
(بالرغم من استمرار موقع الدكتور محمد عابد الجابري، إلاّ أن كثيرا من المقالات ضاع رابطها والالتماس من ذوي الحقوق إعادة تحيين الروابط لتعميم الفائدة)
-1-
إذا كنا، ونحن نبحث في الفكر
الفلسفي المغربي، نقترح العودة إلى بدايته فإننا لا نفعل ذلك بهاجس البحث عن أصل
مطلق تنبثق منه الإنتاجات اللاحقة عليه، إننا ننطلق من القول يتعدد الأصول، كما
نرى أن تاريخ الفكر لا يعرف صيغة التطور الذي يسير في خط مستقيم منطلقا من أصل
واحد يتولد عنه كل ما يليه في الزمن. فهناك تطورات تكون بمثابة تحولات ويكون من
اللازم منهجيا الوعي بها من حيث هي كذلك، فيكون المنهج الملائم هو الذي يبتعد
بالجديد عن الأصل ويحاول إبراز مظاهر الجدة فيه. الهاجس الذي يحكمنا الآن عند
البحث في الأصل هو الأمانة التاريخية التي تسعى إلى الوقوف على نقطة البداية
لتطورات لاحقة دون أن تكون بالضرورة أصلا مطلقا لها، بل ربما لا تكون أصلا لها على
الإطلاق. منطلق المنهج الذي سنتبعه هو القول ببدايات متعددة اعتبارا منا أن كل
تحول بداية جديدة من حيث إنها توجه الفكر نحو السير في اتجاه جديد من التفكير.
ونتبع هذا المنهج لأنه يسمح أكثر من غيره بالوعي بالقيم الجديدة في التطور الفكري.
لا نريد أن نهمل التعاقب التاريخي، ولكننا لا نريد في نفس الوقت أن نجعل منه
العامل الوحيد في فهم تطور الأفكار. فهناك أفكار يمكن إرجاعها إلى أصول وتأثيرات،
غير أنه توجد أيضا أفكار لا يمكن فهمها إلا بتخليصها من اعتبار تأثرها بأصول لأنها
تكون مضادة لتلك الأصول، أو تكون بدايات جديدة لها بأشكال غير مسبوقة.
بدأنا بالحديث عن المنهج قبل
وضع السؤال الخاص بهذه الدراسة لأن المنهج يؤطر وضع السؤال ووجهة الجواب عنه في نفس
الوقت. أما السؤال الذي نريد أن تكون هذه الدراسة بحثا في استفهامه فهو: متى كان
هناك استئناف لحضور الفلسفة في الفكر المغربي المعاصر؟ وترتبط بهذا السؤال أسئلة
أخرى منها: كيف كانت البداية؟ وما هي الشروط التي تحققت فيها، وما هي المضامين
التي تعلقت بها؟
من الواضح أن الجواب عن
الأسئلة السالفة الذكر يعطي لدراستنا الحالية توجها تأريخيا، وهذا بالفعل جزء من
غايتنا. غير أننا لا نروم الوقوف عند تسجيل الوقائع، بل إن غايتنا تشمل أيضا
التحليل والتفسير بإلقاء الضوء على الشروط التي رافقت نشأة الأفكار وتطورها، كما
أننا نهدف إلى رصد المواقف من تلك البداية، سواء كانت إغفالا أو متابعة أو نقدا
وسيرا في الاتجاه المضاد.
لا نجد صعوبة في التعرف على
استئناف التأليف الفلسفي في المغرب. فقد كان هذا مع مؤلفات محمد عزيز الحبابي منذ
بداية النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا عدنا إلى مؤلفاته وجدنا أول أعماله
الكتاب الذي كان عنوانه: "مفكرو الإسلام"، وقد صدر هذا الكتاب في وقت
مبكر حين كان مؤلفه ما يزال في طور التكوين. أما الكتاب الذي يعتبر بحق بداية
التأليف الفلسفي بالنسبة لمؤلفه وللفكر الفلسفي المغربي بصفة عامة فهو كتاب
"من الكائن إلى الشخص" ،وقد صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية سنة 1954.
وهذا أول كتاب يعبر فيه الكاتب عن اختياره الفلسفي الذي دعاه بالشخصانية الواقعية.
توالت بعد ذلك مؤلفات محمد
عزيز الحبابي المعبرة عن اختياره الفلسفي. فقد صدر له سنة 1956 كتاب: "حرية
أم تحرر؟" وهو كتاب يصوغ نظرية في الحرية تنطلق من الموقف الشخصاني المعلن
عنه في الكتاب السابق، كما يتضمن نقدا للنظرية البرجسونية حول الحرية. جاء بعد هذا
الكتاب كتاب آخر هو "من المنغلق إلى المنفتح"، وهو مجموعة من الدراسات
حول الثقافات الوطنية والحضارة الإنسانية كما يدل على ذلك عنوانه الفرعي، وليس في
هذا الكتاب دعوة للسير في الاتجاه من المنغلق إلى المنفتح في مجال الكينونة فحسب،
بل إنه يتضمن جملة من المحاولات للخروج بنظرية الشخص ونظرية الحرية نحو الانطباق
في مجال واقعي هو الثقافة الوطنية. ونشير أخيرا إلى كتاب "الشخصانية
الإسلامية" الذي صدر سنة 1964، وهو الكتاب الذي حاول فيه الحبابي أن يعطي
لموقفه الشخصاني الواقعي صبغة إسلامية لجعله متلائما مع توجهه الإسلامي ولتأصيل
هذا الموقف في الواقع الخاص الذي كان الكاتب يتوجه إليه، لكن دون إغفال البعد
الإنساني العام لكل موقف فلسفي.
عرضنا، من جهة أولى المتن
الذي عرض فيه هذا الفيلسوف أفكاره الفلسفية الأساسية التي ستكون بعد ذلك قاعدة
تبلورت على أساسها تحليلاته اللاحقة. ومن جهة أخرى، فإن المؤلفات التي أشرنا إليها
تتضمن إرهاصات لعدد من التحولات التي يمكن ملاحظتها في الفكر الفلسفي للحبابي. لقد
استغرق ظهور هذه المؤلفات عقدا من الزمن. نريد ألاتفوتنا الإشارة إلى أن محمد عزيز
الحبابي كان فيه المؤلف الوحيد في ميدان الفلسفة.
إذا كنا قد سجلنا أن بداية
التأليف الفلسفي في المغرب المعاصر، وكان هذا الأمر ثابتا في التاريخ كما رأينا من
خلال تاريخ ظهور المؤلفات التي أشرنا إليها، فإن عددا آخر من الباحثين يشاركوننا
التأكيد عل هذا الواقع. نأخذ من زميلنا محمد المصباحي قوله عن الحبابي:
"استأنف الخطاب الفلسفي بالمغرب بعد نضوب للزمن الفلسفي فيه، زهاء سبعة قرون.
لقد أتى الحبابي بعد ابن رشد، فكان هذا الأخير نهاية لتاريخ فلسفي طويل ليكون
الحبابي بداية له، لكنها ليست بداية النهاية".
نعتبر كتاب محمد عزيز الحبابي
"من الكائن إلى الشخص" نقطة بداية جديدة لحضور الفلسفة في الفكر المغربي
المعاصر، وهي بداية لها استمرار إلى اليوم عبر الإنتاج الفلسفي الذي يزداد تراكما
وتنوعا، لكن ما نريد أن نؤكد عليه هو الشروط الخاصة التي جاءت فيها هذه البداية
والتي تجعلنا نقف عندها تقديرا لقيمتها المتميزة. فلابد لفهم الموقف الذي كان فيه
الحبابي من التفكير في الزمن الطويل الذي انقطع فيه الفكر المغربي، والفكر العربي
والإسلامي بصفة عامة، عن التأليف في ميدان الفلسفة. هناك تأثير لابد من أخذه بعين
الاعتبار لهذا الفاصل الزمني الطويل الذي أوجد نوعا من الغربة المتبادلة بين الفكر
الفلسفي والواقع المغربيين. لم يكن هناك تراث خاص قريب يمكن أن يستند إليه من يريد
الكلام في مجال الفلسفة، وكان على المغربي الذي يريد أن يتفلسف أن يواجه الموقف
الصعب في اتخاذ موقف بين تراثين: تراثه الخاص الذي انقطع فيه الإنتاج الفلسفي منذ
زمن بعيد والذي يجد المتفلسف نفسه منقطعا عنه بفعل المتغيرات الحادثة في الزمن
الذي يفصله عنه، ثم التراث الذي يعرف استمرارية في الوقت الحاضر وهو الإنتاج
الأوربي في ميدان الفلسفة منذ عصر النهضة الأوربية إلى الآن. وفضلا عن هذا التوتر
الذي يكون فيه الفكر مشدودا إلى تراثين أحدهما منقطع رغم العلاقة الصميمية به،
والآخر حاضر ومستمر رغم الشعور الذي قد يكون بالبعد النسبي سكنه، فإن هناك توترا
آخر بين النظر الفلسفي الذي قد يمارسه المتفلسف وبين المشكلات الواقعية المطروحة
المساوقة لممارسة هذا الفعل. وهذا الانشداد إلى أطراف متعددة لكل منها مقتضياته
أمر يجعل الإقدام على فعل التفلسف مغامرة فكرية ونفسية في نفس الوقت.
هناك صعوبة أخرى نرى من
الملائم الإشارة إليها هي عدم وجود مجتمع فلسفي في هذا الزمن الذي كان الحبابي قد
بدأ فيه الإنتاج. فزيادة على أن المجتمع العام كان نتيجة لعوامل متعددة تراكمت عبر
التاريخ غريبا عن مساهمة الفلسفة في تطوره الفكري، ولم يكن بفعل ذلك مستعدا لإدماج
الإنتاج في هذا الميدان ضمن نسيج تطوره العام، فإن المجتمع الفلسفي الذي كان من
الممكن أن يكون قاعدة لتقبل الإنتاج الفلسفي لم يكن قد تهيأ بعد. ونقصد بالمجتمع
الفلسفي هذه الفئة المفكرة التي يكون انشغالها الأساسي هو الفلسفة، تتابعه
بالقراءة وتساهم فيه بالكتابة تحليلا ونقدا. كان من اللازم انتظار بعض الوقت لكي
يساهم التكوين الفلسفي في تهيئ فئة تكون قادرة على أن تشكل مجتمعا فلسفيا يتوجه
إليه بالأساس الإنتاج في هذا الميدان، قبل أن يكون تعميم التوجه به إلى فئات أوسع
من المجتمع الفكري العام. وهنا أيضا لابد من الاعتراف للحبابي بالدور الذي كان له
في تأسيس التعليم الجامعي المتخصص في الفلسفة، علما بما لوجود هذا التعليم أو
غيابه من تأثير على تطور الفلسفة في أي مجتمع.
أسس الحبابي شعبة الفلسفة
التي تخرج منها تحت إشرافه عدد من الذين يساهمون اليوم في إثراء التأليف الفلسفي
في المغرب، والذين صار لتأليفهم صدى داخل المغرب وخارجه. أدرك الحبابي، من جهة أخرى،
أنه لا يمكن تطوير الفكر الفلسفي داخل سياق مجتمع بعينه دون أن يوجد بداخله مجتمع
فلسفي يكون بمثابة نواة الإنتاج والتلقي. من جهة أخرى أدرك الحبابي أنه لا يمكن
تطوير الفكر الفلسفي داخل مجتمع معين دون العمل من أجله في نفس الوقت. وقد سعى إلى
تأسيس مجلة "دراسات فلسفية" التي صدرت في البداية عن كلية الآداب، قبل
أن تصدر في صيغة جديدة بعد مغادرة الحبابي لمنصب العمادة في الكلية. أسس الحبابي
كذلك جمعية الفلسفة بالمغرب التي كانت بدورها إطارا لتنظيم الندوات التي تتناول
موضوعات فلسفية وهي الجمعية التي ظلت قائمة إلى حين وفاته.
لابد من تذكر صعوبة أخرى هي
التوفيق الذي قد لا يكون الإنسان موفقا فيه دائما بين المهمة الفكرية بما لها من
مقتضيات وما تتضمنه من التزامات وبين المهمة التعليمية وما تتطلبه من كفاءات وجهود
تربوية قد لا تصب دائما في مجرى المهمة الفكرية، ثم التوفيق مع هذا كله بين
المهمتين السابقتين وبين المهمة الإدارية على رأس مؤسسة جامعية كانت في طور
التكوين وإرساء قواعد الحياة الجامعية. وقد واجه محمد عزيز الحبابي هذا التوفيق
الصعب المنال، لأنه كان فضلا عن التأليف في ميدان الفلسفة، و القيام بالدور الذي
يعيد حضورها في مجتمعه، مدرسا لها ومساهما في تكوين أجيال أخرى من المدرسين
والكتاب في نفس الميدان، كما أنه تقلد منصب عميد الكلية التي كان قد التحق بها
سنوات قليلة قبل ذلك.
واجه الحبابي هذا التناقض
الصعب الذي وصفه في جانب منه الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي وهو يصف وضعية الفيلسوف
في الزمن المعاصر. فقد كان يرى أن الفيلسوف المعاصر موظف في أغلب الأحوال وكاتب
دائما. لكن للحرية المتروكة لهذا الفيلسوف في كتبه ما يقابلها في الحياة الواقعية
حيث لا تكون هناك فرص واضحة للتفكير، وحيث تدخل الكتب في عالم أكاديمي قد يكون
بعيد الصلة بالواقع. فالفلسفة التي تكون قد وضعت في ثنايا الكتب لا يصير لها تأثير
على الواقع خارج المجال الأكاديمي. لذلك يدعو ميرلوبونتي إلى تذكر القوة التي كانت
لدى فيلسوف لم يكن موظفا، ولم تكن له وظيفة في كراسي الدولة على الأقل، ولكنه كان
يتوجه إلى من يلقاهم ويحاورهم بالسؤال الفلسفي، وهذا الفيلسوف هو سقراط. الفلسفة
مدعوة اليوم إلى استعادة حيوية وظفتها وصلتها بأسئلة الحياة الواقعية.
كان الحبابي في نظرنا نموذجا
لهذا الفيلسوف الذي تحدث ميرلوبونتي عن متناقضات وضعه، دون أن ننسى عاملا إضافيا
آخر هو أن الحبابي بدأ ممارسة الفلسفة في واقع مجتمعي غاب عنه هذا النمط من
التفكير، في صيغة الحضور القوي على الأقل، لمدى زمن طويل. بعبارة أخرى، فإنه كان
على الحبابي أن يمارس الفلسفة بالنسبة لواقعه في شروط الانقطاع وليس في شروط
الاتصال. ويدل على هذا أن الحبابي اختار منذ البداية أن ينطلق في التفكير من أحد
المذاهب الأوربية في زمنه وهو المذهب الشخصاني. عزم على ممارسة الفلسفة في مجتمع
كانت صلته بتاريخه الفلسفي قد انقطعت، في حين أن قضايا الزمن المعاصر له كانت
مطروحة ضمن استمرار فلسفي آخر هو الذي كان قد بدأ في أوربا منذ عصر نهضتها. ولذلك
يمكن القول إن الحبابي أراد ألا تكون فلسفته مجرد استمرار للتراث الخاص، وقرر
الاندماج في الواقع الفلسفي العام لزمنه. نجد تعبيرا قويا عن هذا التأويل لمسيرة
الحبابي الفلسفية لدى زميلنا محمد المصباحي الذي يؤكد ما يلي: "لقد أبى
الحبابي إلا أن يضع الخطاب الفلسفي في المغرب في أفق جديد، بلغته ومضمونه
ورهاناته، فإذا كان العقل النظري هو الذي طغى على الفلسفات العربية القديمة، فإن
الحبابى فضل أن يمارس الفلسفة في معترك العقل العملي، فالإنسان، أو الشخص أو
الأنا، لا يتم إثباته انطلاقا من أحد عناصر الوجود، أي عبر كوجيتو مجرد يسبق فيه الفكر
الوجود ويؤسسه، بل يتم ذلك من خلال كل فعاليات الوجود البشري بغض النظر عن الأساسي
منها والهامشي".
لا يعني تأكيدنا على سير
الحبابي في الطريق الذي لا يمكن اعتباره مجرد استمرار للتراث الفلسفي الإسلامي
أنـه تعالى على هذا التراث أو تغافل بوعي عن وجوده وقيمته فالتراث الفلسفي
الإسلامي حاضر لدى الحبابي باستلهامه أو بأخذ موقف منه، إذ تعكس التطورات اللاحقة
في فلسفة الحبابي محاولاته لإدماج عناصر من التراث الفلسفي الإسلامي في فلسفته،
كما تعكس ذلك أيضا محاولة إضفاء الطابع الإسلامي على الشخصانية الواقعية التي تصير
في اللاحق شخصانية إسلامية. وليس معنى هذا أن التراث لا يحضر في فلسفة الحبابي إلا
عند حديثه عن الشخصانية الإسلامية، بل إن إرهاصات متعددة له توجد ضمن كتاب الحبابي
الأول، أي الشخصانية الواقعية.
ليس من قصدنا هنا أن نقدم
نظرة مفصلة عن التطور الفكري للحبابي، بل ينحصر هدفنا في إبراز بعض الإشكالات التي
واجهت هذا الفيلسوف وهو يستأنف حضوره داخل الفكر المغربي. ولا تمثل الإشكالات
النظرية التي تحدثتا عنها إلا بعضا مما يمكن أن يواجه الفيلسوف المعاصر على
العموم، علما بأن التناقضات التي سبق الحديث عنها مع اعتمادنا على ما قاله ميرلوبونتى
أوسع من ذلك. لذلك نعود إلى تناقض سبق أن أشرنا إليه وهو الذي يكون بين التفلسف
والمهمة التدريسية، من حيث إن نظام هذه المهمة رغم الفوائد المعروفة عنها في
التواصل بالأفكار الفلسفية قد يصبح عائقا أمام التفلسف. وقد كان الحبابي أستاذا
للفلسفة بنفس الكلية التي أصبح عميدا لها، فتداخلت بذلك في حياته الجامعية
والفكرية الوظائف الثلاثة مع التعارض الذي قد يظهر بين مقتضياتها. ونستطيع القول،
وقد عاينا هذه المرحلة من حياة الحبابي أثناء فترة تكويننا، إن تناقضاتها لم تخل
من تأثير على مسار الفلسفي عند محمد عزيز الحبابي، فما نلاحظه هو نقص في وتيرة
الإنتاج الفلسفي لدى الحبابي. بعد صدور كتابه عن الشخصانية الإسلامية سنة 1964، لم
يصدر له كتاب يعبر فيه عن مذهبه الشخصاني إلا في سنة 1980 حيث سيصدر له كتاب عن
اللغة عنوانه: "تأمل في اللغو واللغة" وهو كتاب يجمع بين دراسات مختلفة مع
أنها كتبت في فترات متباعدة. لكن الكتاب الذي يمكن اعتباره تجديدا في فلسفة
الحبابي وإضافة نوعية لها تنقل فكره إلى مرحلة جديدة هو "عالم الغد"،
وهو الكتاب الذي وضع له مؤلفه عنوانا فرعيا ذا دلالة من حيث توجهه "العالم
الثالث يتهم". وقد أعطى فيه الحبابي تسمية جديدة لفلسفته فدعاها
"الفلسفة الغدية".
ليس مقامنا الحالي مما يسمح
بالتفصيل في مظاهر التجديد التي تضمنها الكتاب أو الحديث عن خصائص المرحلة الجديدة
من تفكير الحبابي، فقد سبق أن تعرضنا الموضوع في دراسات سابقة. ونكتفي الآن
بالتركيز على الطابع الثالثي لتفكير محمد عزيز الحبابي الذي أصبح مفكرا ذا ارتباط
أقوى بواقعه المباشر، وإن كنا نرى أن إرهاصات لهذا التوجه ظهرت في كتابات سابقة
منها على الخصوص كتابه "من المنغلق إلى المنفتح".
إذا كنا قد حاولنا أن نعود
إلى البداية التاريخية للفكر الفلسفي في المغرب، فإننا لم نفعل ذلك لتوفير مادة
موضوعية تمكننا لا من معرفة شروط البدء فحسب، بل أيضا من أجل معرفة مدى تأثير هذه
العودة الفلسفية للفضاء الفكري المغربي على ما سيلحقها في الزمن عند مفكرين آخرين
أثروا بدورهم التأليف الفلسفي في المغرب.
هناك ملاحظتان ندعو إلى
أخذهما بعين الاعتبار، أولاهما أن الحبابي كان الوحيد في ميدان الفلسفة إلى حدود
منتصف الستينات من القرن العشرين، وهذا وضع أشرنا إلى ضرورة تقديره موضوعيا. لكننا
سنلاحظ بعد هذا الزمن ظهور مؤلفين آخرين في الفلسفة استجابت تأليفاتهم لحاجة
تربوية أو لدواعي نظرية. كان ينبغي مرور بعض الوقت لكي يعطي التكوين الجامعي الذي
أشرف عليه الحبابي نفسه نتائجه، كما كان بعض من تلقوا تكوينا خارج المغرب في بلاد
عربية أخرى أو في بعض الجامعات الأوربية. أما الملاحظة الثانية فهي أن الفترة التي
أصدر فيها الحبابي مؤلفاته الفلسفية الأولى لم تشهد حوارا فلسفيا حقيقيا داخل
الفكر المغربي، إذ لن يصبح ذلك ممكنا إلا بعدما يزيد عن عقد من الزمن. كان ينبغي
انتظار هذا الوقت لكي تظهر أسماء أخرى نذكرها:عبد الله العروي خريج الجامعة
الفرنسية، والقادم إلى الفلسفة من مهنة المؤرخ ومن باب التفكير في التاريخ واقعا
وعلما في الوقت ذاته، وعبد الكبير الخطيبي خريج الجامعة الفرنسية والنافذ إلى
المساهمة في تطوير الفكر الفلسفي منطلقا من مهنة عالم الاجتماع ومن التفكير في
القضايا التي يثرها التحليل الاجتماعي للواقع المغربي خاصة والعربي عامة، ثم علي
أومليل الذي تلقى تكونه في الفلسفة في القاهرة أولا وفي فرنسا بعد ذلك، ومحمد عابد
الجابري خريج قسم الفلسفة بالجامعة المغربية. لقد ساهمت هذه الأسماء في إثراء
التأليف الفلسفي الذي لم يسر بالضرورة في الاتجاه الذي رسمته المحاولات الأولى
للحبابي مستلهما تيارات فلسفية أخرى، ومستجيبا لمقتضيات واقعية مختلفة.
نضيف إلى هذه الأسماء التي
ذكرناها أسماء أخرى استجاب تأليفها الفلسفي في البداية على الأقل، لمقتضيات
تربوية. فإن من مقتضيات نشر الفكر الفلسفي في مجتمع ما وجود تعليم فلسفي به،
والفلاسفة كانوا كما قال ميرلوبونتي موظفين لهذه الغاية ويمكن أن نعتبر وجود تعليم
فلسفي عتبة أولى لتطوير التأليف والتفكير الفلسفيين، وهو الأمر الذي يدعونا إلى
النظر بعين التقدير للتأليف الفلسفي المدرسي، إذ بواسطته تمكن الكثيرون من
الانفتاح الأول على عالم الفلسفة قبل أن يصلوا إلى مرحلة التأليف فيها. ونرى من
الملائم هنا الإشارة إلى بعض الأسماء التي كان لها دور في هذا النوع من التأليف.
فإلى جانب محمد عابد الجابري اشترك معه كل من أحمد السطاتي ومصطفى العمري، وهما
خريجا الجامعة السورية، في تأليف مدرسي دام الاعتماد عليه سنوات عديدة. كما ظهرت
تأليفات مماثلة لمحمد مصطفى القباج ومحمد عباس نور الدين، ثم مؤلفات كانت تخدم نفس
الغاية لكل من الطاهر واعزيز ومحمد رونق. وقد اقتصرنا هنا على ذكر نماذج من
المؤلفات الموقعة باسم أصحابها. ولا نريد ونحن نستعرض الجهود التي ساهم بها
أصحابها بكيفيات مختلفة في إثراء التأليف الفلسفي في المغرب أن يفوتنا ذكر بعض
الأساتذة غير المغاربة الذي كان لهم فضل على التعليم الفلسفي في المغرب فساهموا
عبر ذلك في دفع الفكر الفلسفي به خطوات إلى الأمام. ومن هؤلاء أستذة عرب أبرزهم
نجيب بلدي من مصر الذي كان له التأثير الكبير على الأفواج الأولى المتخرجة في
الفلسفة، وكذلك هاشم حكمت من سورية، ثم علي سامي النشار وزكرياء إبراهيم من مصر في
مرحلة لاحقة. وحيث ألف هؤلاء بعض مؤلفاتهم أثناء وجودهم في المغرب فقد ساهموا بذلك
في إغناء التأليف الفلسفي به. كما لا ننسى في هذا الإطار الدور الذي لعبه بعض
الأساتذة الفرنسيين، ومنهم بصفة خاصة الأستاذ فيراري Ferrari و الأستاذ Chenu. لقد كان جزء من التعليم الفلسفي
بالمغرب باللغة الفرنسية وساهم هؤلاء في تطويره. وكذلك كان الشأن بالنسبة للتعليم
الفلسفي في جزء كبير من المدارس الثانوية إلى حدود السبعينات من القرن العشرين،
حيث ساهم أساتذة فرنسيون في تهيئ ما يستجيب للحاجات التربوية للتعليم الفلسفي علما
بأن المؤلفات التي أصدروها كانت لها فائدة حتى بالنسبة للمدرسين في المدارس التي
فيها دروس الفلسفة باللغة العربية قبل أن يتم التعريب الشامل لذلك التعليم.
ما نود الإشارة إليه، من جهة
أولى، هو أن نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين شهدت تزايد عدد
المؤلفين في ميدان الفلسفة رغم اختلاف مستوى الكتابة وغاياتها. لكننا نقول بأن هذه
الكتابات جميعها كانت ذات تأثير اختلفت مستوياته على توجهات التفكير الفلسفي في
المغرب. فحتى المؤلفات التي يمكن اعتبارها مدرسية بالنظر إلى غاياتها التربوية
المعلنة كتبها مؤلفوها بخلفيات فكرية واضحة أو قابلة لاستنتاجها من النصوص
المكتوبة. فهي تتضمن، على الأقل، تصورا معينا عن الفلسفة أو تصورا عن تاريخ
الفلسفة وكيفية الترابط بين مذاهبها. وقد بدأ بعض المؤلفين لهذه الكتب ذات الغايات
التربوية قبل أن ينتقلوا إلى المؤلفات ذات الغايات الفكرية المستقلة عن الممارسة
التربوية. ونرى من الفائدة دراسة هذه المؤلفات وإبراز مدى تأثيرها في التصورات
السائدة عن الفلسفة وتاريخها ومذاهبها. نلاحظ من جهة ثانية أنه لا يمكن الفصل فصلا
تاما بين مؤلفي الكتب المدرسية والفكرية لتداخل الأسماء والقيمة المعرفية للمؤلفات
التي يتعلق بها الأمر.
شهدت سنوات الثمانينات من
القرن الماضي قفزة كمية وكيفية في الوقت ذاته للتأليف الفلسفي، إذ تغيرت النسبة
فيه بين الكتب التي تطلب قيمتها اعتمادا على غاياتها التربية وتلك التي تبحث عن
القيمة من خلال مضامينها الفكرية. والصدى الذي كان لهذه المؤلفات مضافة إلى ما
سبقها من العوامل التي ساهمت في الوعي بفكر فلسفي مغربي في طور التشكل. وسنتحدث في
دراسات لاحقة عن إضافات هذه الفترة.
-2-
إذا كنا قد بدأنا الحديث عن
الفكر الفلسفي بالمغرب بتوجيه النظر نحو بداية هذا الفكر في الزمن المعاصر، وإذا
كنا قد أثبتنا أن نقطة البداية كانت مع التأليف الذي بدأه محمد عزيز الحبابي في
الميدان، فإننا نريد الآن الانتقال إلى إبراز المواقف اللاحقة من نقطة البداية.
ونبدأ هذا بالقول إن مواجهة نقطة البداية بالنسيان أو التغافل طريق، كما أن الوقوف
عندها وعدم إدماجها في سيرورة أوسع طريق آخر مختلف، ولكل من هذين الطريقين
إشكالاته الخاصة. لكنا نرى، مع ذلك أنه يمكن السير في طريق من التفكير لا يكون
إهمالا مطلقا كما لا يكون بداية لا يترك فرصة للاختلاف عنها. سيكون هدفنا هنا هو
عدم الاكتفاء بعرض الآراء معزولة والبحث عن ترابطاتها التي تقود نحو التوافق أو
الاختلاف. لذلك سنعرض على جملة من الأحكام التي صدرت في حق فلسفة الحبابي.
سنبدأ بموقف واجه فلسفة
الحبابي بالصمت أو بتجنب المواجهة، وهو الذي نجده عند محمد عابد الجابري. كان من
الطبيعي أن يظهر موقف معلن من الجابري في الكتاب الذي تناول فيه الخطاب العربى
المعاصر بصفة عامة، وخصص فيه فصلين لدراسة الخطاب الفلسفي كشكل من أشكاله. نقصد
هنا كتاب الجابري:"الخطاب العربي المعاصر"، وقد أراد له صاحبه أن يكون
دراسة تحليلية نقدية لموضوعه. لقد بحث الجابري في أحد فصول الكتاب الجهود التي
بذلها بعض المفكرين العرب المعاصرين من أجل تأصيل فلسفة الماضي في الزمن المعاصر،
وبحث في فصل آخر في محاولات تأسيس فلسفة عربية معاصرة، ولم يجد فكر الحبابي مكانا
له في أي من الفصلين، مع أن مكانته كانت واضحة في الفصل الأخير على الأقل. فكيف
يبرر الجابري هذا الغياب؟ نعثر على التبرير في أحد هوامش الكتاب حيث برر الجابري
عدم تناوله للدرس لبعض المحاولات الفلسفية العربية المعاصرة بقوله إن بعض
المحاولات الفلسفية، مثل التي قام بها محمد عزيز الحبابي، لا تنتمي إلى الخطاب
المعاصر لكونها مكتوبة بلغة أجنبية.
نتفهم، من جهتنا، دلالة
ابتعاد أي دارس فلسفي عن بعض الفلسفات، من حيث إن حضور أو غياب فلسفة ما عن
التفكير يكون ذا دلالة وظيفية. فكل متفلسف يعمل على إحضار الفلسفات التي تتلاءم مع
غاياته، ويعمل في نفس الوقت على تجنب الفلسفات التي لا يلبي حضورها الغايات
المقصودة. يتخلص الفكر عادة من الفلسفات التي لا يريد إدماج عناصرها ضمن تفكيره. و
قد يكون هذا السبب ضمنيا عند الجابري في عدم تناوله بالدرس لفلسفة الحبابى. وليس
من المطلوب الآن مناقشة الموقف في هذا المستوى.
نقف مع الجابري عند ظاهر ما
يصرح به لنقول إننا لا نجد المبرر الذي قدمه لعدم تناول محاولة الحبابي الفلسفية
كافيا، إذ ضد ذلك المبرر يأتي الدليل التاريخي. فما لا يمكن إنكاره أن الكتب التي
عبر من خلالها الحبابي عن موقفه الفلسفي صدرت في البداية الفرنسية، ولكن كاتبها
سارع إلى ترجمتها إلى اللغة العربية وعيا منه أن ذلك هو أقوم السبل لكي تتوجه تلك
الكتب إلى القارئ بالعربية لأنها تعالج مشكلات تهمه. وقد تمت هذه الرجمات في وقت
سابق على نشر الجابري لكتابه عن الخطاب العربي، فأصبحت بذلك من الخطاب العربي نصا
ومضمونا، فضلا عن انتماء كاتبها للثقافة الناطقة باللغة العربية وكتابته من أجلها
وفى بعض إشكالاتها. وهذا، في الواقع، ما يعيدنا إلى السبب المضمر الذي بيناه
سابقا. وإذا كان الجابري قد مهد لوجهة نظره الفلسفية، كما سيعرضها في كتب لاحقة
على الكتاب الذي ذكرناه، بنقد المحاولات الفلسفية السابقة عليه، فإن نقد فلسفة
الحبابي لديه جاء ضمنيا. ذلك أن فلسفة الحبابي كانت بفعل التتلمذ أقرب إلى الجابري
من غيرها، بل ونقدر أن يكون قد اطلع على جزء من مضامينها باللغة العربية.
إذا خرجنا عن المبرر الظاهر
والمعلن عنه، بدت لنا مبررات أخرى. نجمل تلك المبررات في قولنا إن الجابري كان
يضمر أن تكون للفلسفة في المغرب بداية أخرى لها توجه مختلف، ويهيئ نفسه لكي يكون
المبتدئ الجديد، فكان صمته عن البداية السابقة له نوعا من النقد الضمني لها. ولا
يمكن، في الواقع، القول بخروج فلسفة الحبابي عن الخطاب العربي، بل ما يمكن قوله هو
استثناؤها من دراسة هذا الخطاب لغايات لا نحيط بها جميعها.
من جهة أخرى، إذا كنا نقول إن
فلسفة الحبابي مندمجة ضمن المعنى العام الذي قصده الجابري من الخطاب العربي، ولذلك
نرى أنه ينطبق عليها ضمنيا النقد الذي وجهه الجابري لهذا الخطاب بصفة عامة وللخطاب
الفلسفي منه بصفة خاصة. فالقول عن تلك الفلسفة إنها خارج نطاق الخطاب العربي
لكونها مكتوبة بلغة أجنبية، تمهيد ضمني للحكم بعدم صلتها بالواقع الذي ما نفترض
أنها تتوجه إليه وتحلل مشكلاته. لكن ما نراه منطبقا بصورة ضمنية على فلسفة الحبابي
هو الأحكام العامة التي أصدرها الجابري متعلقة بالخطاب العربي بصفة عامة.
حكم الجابري على الخطاب
العربي المعاصر على العموم بكونه خطابا فشل في تحقيق المهمة النهضوية التي تعلق
بها والفلسفة العربية امتداد لهذا الخطاب. كما أن الخطاب العربي لم ينجح في تحقيق
أي تقدم ولم يفتأ يكرر نفس الأسئلة منذ ما يزيد على القرن. كما أن ذلك الخطاب
يتزايد إنتاجا دون علاقة مباشرة بالواقع. وهو كذلك خطاب يتعلق بالممكنات وبما هو
حلم أكثر من تعلقه بالواقع المباشر. وهكذا يظهر أن الخطاب العربي المعاصر عانى من
تناقضات داخلية. أما بالنسبة للفلسفة، فإن الاتجاهات التي اختار الجابري الحديث
عنها سمحت له بالقول عن الخطاب الفلسفي العربي إنه خطاب يعيش على تناقض داخلي بين
الطابع العقلاني للأهداف والطابع اللاعقلاني للتفكير، والمقصود هنا عقلانية
الاختيار النهضوي واستئناف الدور الحضاري ولا عقلانية الاتجاهات التي اختار الفلاسفة
العرب المعاصرون الانطلاق من تأثرهم بها. وإذا كنا قد عممنا هذه الأحكام على فلسفة
الحبابي من جانبنا فلأننا لا نجد في العمومية التي أطلقها الجابري استثناء. فهو لا
ينبئنا إذا كانت المحاولات الفلسفية العربية التي كتبها أصحابها بلغة أجنبية قد
نجحت في تجاوز تناقضات الخطاب الفلسفي العربي بصفة عامة. ولكننا نستنتج من
إبعادها، لكونها مكتوبة بلغة أجنبية، تلميحا لبعدها عن الواقع ولعدم قدرتها على
التأثير فيه.
هكذا نرى كيف تم تجاوز
البداية الأولى للفكر الفلسفي في المغرب بالتخلص من التفاعل معها وإبراز بعدها عن
الواقع وتناقضها معه استنادا، في الظاهر على الأقل، على تعبيرها بلغة أجنبية، علما
بأن الحبابي سعى منذ البداية إلى ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العربية فضلا عما يكون
قد كتب منها بلغة عربية. وإن عدم كفاية المبرر الظاهر هو ما دفعنا إلى البحث عن
مبررات أخرى.
لم يكن محمد عابد الجابري
وحده من أصدر مثل الأحكام التي ذكرناها، ولا هو وحد كذاك من واجه فلسفة الحبابي
بالصمت عنها، إذ كان هناك صمت مماثل ولأسباب مختلفة. ومن بين ذلك ما نجده عند
العروي الذي بدأت دعوته منذ أواسط الستينات من القرن العشرين للموقف التاريخاني.
فالتاريخانية اتجاه جديد في التفكير الفلسفي، ولكن ما يهمنا كذلك هو عد الحوار
الصريح مع الشخصانية.
يمكن أن نفسر مثل هذه المواقف
بالفراغ الذي فصل بين بداية الكتابة الفلسفية عند الحبابي وبين الإنتاج الذي تزايد
بعدها. كما يمكن أن نفسره بالوعي المختلف بالشروط التاريخية للمغرب وللعالم
الإسلامي لكن ما نؤكده هو سريان الصمت أو شيوع أحكام من مثل التي ذكرناها.
لقد حرصنا هنا على العودة إلى
بعض المواقف والأحكام محاولين في الوقت ذاته النظر إليها في الشروط التي نتجت
فيها، وذلك رغبة منا في الفهم الموضوعي قدر الإمكان لتلك المواقف والأحكام ذاتها.
ويأتي تفهمنا لهذه الأحكام من إصدارنا لما يتقارب معها ولما كان خاضعا مثلها لنفس
الشروط الموضوعية العامة. وهكذا، فإننا في دراسة سابقة تناولنا فيها شروط الفلسفة
العربية بصفة عامة ركزنا على النظر إلى علاقة الفلسفات العربية المعاصرة بلحظتها
التاريخية. وكان من بين النتائج التي استخلصناها أن هذا الأمر يقتضي وعيا بما يميز
اللحظة التاريخية الراهنة عن تلك التي فكر فيها فلاسفة من التراث الخاص بالحضارة
العربية الإسلامية أو التي فكر فيها الفلاسفة الأوربيون منذ عصر النهضة إلى الآن.
ومن المظاهر التي لاحظنا فيها ميل كثير من المتفلسفين العرب إلى التوفيق بين مواقف
تعود إلى أزمنة مختلفة. وضمن هذا الإطار العام فهمنا موقف محمد عزيز الحبابي،
وخاصة محاولته التي نزع فيها نحو إضفاء الطابع الإسلامي على اختياره الشخصاني. فقد
تساءلنا منذ ذلك الوقت. "كيف يتم ضمن هذا المذهب الجمع بين الإسلام و
الشخصانية؟ وفي أي اتجاه يسير هذا التوفيق؟ هل الشخصانية هي التي تسير في اتجاه
الإسلام أم الإسلام هو الذي يسير في اتجاه الشخصانية" كان ما أثبتناه في
دراستنا السابقة هو القول إن الحبابي اتجه نحو تأويل المبادئ الإسلامية تأويلا
شخصانيا.
رأينا كذلك بصدد واقعية
شخصانية الحبابي ضرورة العودة إلى مؤلفاته في مراحل ثلاثة مختلفة. الشخصانية
الواقعية، الشخصانية الإسلامية، ثم الفلسفة الغدية. وقد أبرزنا أن الواقعية التي
لا تغيب عن المرحلة الأولى والثانية، تظهر بشكل أكثر وضوحا في المرحلة الثالثة.
فمن شأن الوعي بهذا التطور أن يدفعنا إلى إضفاء النسبية على أحكامنا وأخذ التطور
والنقد الذاتي بعين الاعتبار.
لكي نبين المواقف المختلفة
التي اتخذها باحثون لاحقون من فلسفة محمد عزيز الحبابي نقترح النظر في الحكم الذي
نجده لدى أحد المتابعين لتطورات الفكر الفلسفي العربي بصفة عامة والفكر الفلسفي
المغربي بصفة خاصة، ونعني هنا كمال عبد اللطيف. يدرس هذا الباحث وضعية الفلسفة
العربية فيضع شرطين عامين هما: الزمن الإمبريالي، وسيادة التقليد الفكري العربي.
فهذان شرطان لم يكونا يسمحان للفكر العربي في ميدان الفلسفة. وحتى حين يتحدث
المتفلسفون العرب عن استقلال فلسفي، فإن هذا الاستقلال يكون وهما. وما ساد حتى
الآن هو التبعية أو المحاولات التوفيقية التي لم تحقق نجاحا في مسعاها، كما يؤكد
ذلك كمال عبا اللطيف. وعندما يصل في تحليله إلى فلسفة محمد عزيز الحبابي بالذات،
فإنه يبين أنها لا تخرج عن الإطار العام للمحاولات التوفيقية غير الناجحة في نظره.
ونفضل أن نعتمد النص الذي كتبه عن محمد عزيز الحبابي ضمن قراءاته في الفلسفة
العربية المعاصرة، حيث يقول ما يلي: "يشعر قارئ مؤلفات الأستاذ محمد عزيز
الحبابي بصدى التيار الفلسفي الذي ينطلق منه، وهو شخصانية مونيي، والتوجه الفكري
لجماعة مجلة "الفكر" في الثمانينات، كما يشعر بالمنحى الكلامي الإسلامي
ممتزجا بمبادئ ومقدمات ذلك الفكر. لقد سعى فيلسوفنا جاهدا لإحياء علم الكلام،
وبلور هذا السعي في محاولة فهم الشهادة الإسلامية فهما فلسفيا، إلا إن محاولته
تحددت في النهاية من خلال مفاهيم مستعارة من رواد الشخصانية الغربية، مفاهيم أدت
به إلى صياغة علم كلام جديد ممزوج بكانطية مؤولة بصورة منفرة".
تلتقي صفة التوفيقية في هذه
الحالة التي حدثنا عنها كمال عبد اللطيف مع عدم واقعية الفلسفة التي تقوم بهذه
المحاولة. فهي بدل أن تكون تفكيرا مباشرا في الواقع التاريخي الذي تحياه تحاول
فهمه من خلال فكر تمتزج في مبادئ غير قابلة للمزج. وهذا ما يجعل كل فلسفة من هذا
النوع تفقد أصالتها وتجانب النجاح الذي يكمن في علاقتها الصميمية بالواقع التاريخي
الذي يندرج ضمن شروطه تفكيرها. إن ما يغيب عن فلسفة مثل هذه هو التعامل التاريخي
مع الواقع، من جهة، ومع التراثين الفلسفيين الذين تعتمدهما، أي التراث الفلسفي
الإسلامي والتراث الفلسفي الغربي. فهذا ما يسمح بالتعامل في نفس الصفحة مع أفكار
متناقضة وتنتمي إلى أزمنة متباعدة. ويصل كمال عبد اللطيف، عندما يعتمد هذا التحليل،
إلى حكم عام على فلسفة محمد عزيز الحبابى حيث يقول: "لا يمكن وصف مؤلفات
الحبابي بالهامشية فحسب، بل إنها درجة أعلى من الهامشية، إنها مؤلفات غريبة عن
الواقع الذي يؤطر وجودها. وتأتي غربتها من استماعها لنداء الفكر الباهت في الفلسفة
الغربية، ومحاولة ترجمته بصورة تلفيقية ممزوجة بمعطيات نظرية إسلامية، مؤولة بدون
عقد يقينية. إن الحبابي إذن يستمع لنداء الماضي، كما يستمع لباهت في تراث الآخر.
أما الأنا، أما الحاضر، فإنهما يحتلان مرتبة دنيا في مجال إنتاجه".
لا نتفق مع مثل هذا الفهم
لفلسفة محمد عزيز الحبابي، علما منا كذلك أن صاحبه قد تجاوزه بالتعديل منه
والتخفيف من حدته في دراسات لاحقة ولكننا أوردناه كمثال عن الأحكام التي راجت في
سياق فترة معينة من تطور الفكر المغربي. فنحن لا نتفق على القول بوجود غربة تامة
فصلت فلسفة الحبابي عن واقعها التاريخي، إذ نرى أن المراحل التي تطورت عبرها هذه
الفلسفة قادتها نحو محاولات جادة للتفاعل الإيجابي مع زمنها وواقعها. وإذا كانت
مظاهر ذلك قد ظهرت في مرحلة الفلسفة الغدية، فإنها لم تكن غائبة غيابا تاما في
مرحلة الشخصانية أو الشخصانية الإسلامية.
كانت الغاية التي أوردنا من
أجلها هذه القراءة التي انتهينا من ذكرها غاية معرفية. فهي تعكس السياق الذي وقع
فيه تمثل فلسفة الحبابي لدى عدد من المشتغلين بالفلسفة في السبعينات من القرن
العشرين، فقد تميز هذا الزمن بانشغالات أخرى غير التي انطلق منها محمد عزيز
الحبابي. لم يكن مفهوم الشخص، ولا مفاهيم التشخصن والتعالي والتحرر في هذا المستوى
هي المتداولة كما أن التيارات الفلسفية المرجعية لم تعد هي ما عاد إليه الحبابي،
أى الشخصانية. فقد سادت في الزمن الذي تحدثنا عنه مفاهيم أخرى أصبحت هي التي تؤطر
الواقع وتوجه النظر إليه، كما توجه النظر إلى المواقف الفكرية منه. وهكذا نلاحظ أن
المفاهيم المتداولة أصبحت تحيل الفكر على توجهات أخرى، ونذكر منها على سبيل المثال
مفاهيم مثل: التاريخ، الإيديولوجيا، التأخر التاريخي، العلاقة مع التراث الفلسفي
والتراث الفكري الإسلامي بصفة عامة. وأما التيارات الفلسفية التي أصبحت أكثر
تأثيرا، فهي التاريخانية والهيغلية والماركسية بمختلف تأويلاتها. لقد أصبحت هذه
المفاهيم والتيارات هي نقطة الارتكاز في تمثل الوقائع والحكم على المواقف. وشاعت
هذه المفاهيم بفعل قراءات الفلسفات الأوربية المنتجة لها، وبفعل تداولها على
الصعيد العالمي، ولكن المفكر الذي صارت معه تلك المفاهيم متداولة في السياق الفكر
المغربي وفتح الحوار حول إمكانية تشغيلها لفهم الواقع الحالي للمغرب والبلدان
العربية هو عبد الله العروي، وخاصة بعد صدور كتابيه: "الإيديولوجيا العربية
المعاصرة"، و"العرب والفكر التاريخي". يمكننا أن نعتبر لحظة العروي
تحولا في تطور الفكر الفلسفي المغربي، وهو التحول الذي سنعود إليه في دراسة لاحقة.
والتحول المفاهيمي يبدو كما لو كان بداية جديدة، غير أن ما سنحاول التركيز عليه هو
عناصر الجدة في هذا الانتقال من سياق فكري إلى آخر. ونفهم وجهة نظر كمال عبد
اللطيف السابقة الذكر في إطار هذا التحول ولا ينبغي أن نقلل من شأن مثل هذا التحول
المفاهيمي، إذ أنه يصبح القاعدة النظرية لتغيير تصوراتنا عن الواقع وتفاعلنا معه
وصورة المسار الذي نطلبه له.
لكن، إذا كنا نقول بأن تاريخا
مختلفا قد بدأ بعد كتابة الحبابي الأولى، وبأن مفاهيم جديدة هي التي أصبحت تؤطر
المواقف العملية والفكرية على السواء لدى من انخرطوا في الكتابة الفلسفية بعد
الحبابي فإن هذا لا يمنع من أن نلاحظ استمراره في الإنتاج. وإذا كانت وتيرة إنتاجه
الفلسفي قد تناقصت بعد صدور كتابه عن الشخصانية الإسلامية فإن إنتاجاته الأدبية لم
تتوقف وهي على صلة بموقف الشخصاني. فقد كتب الرجل في ميدان الشعر والرواية، فلم
تكن أشعاره ورواياته خالية من النفحات التي تعكس موقفه الفلسفي، وهو أمر يستحق
لوحده دراسة مستقلة تبين القضايا التي كانت تشغل هذا الفيلسوف وتجد تعبيرها في
صيغة أدبية. لقد بينا أن الحبابي كان على مدى عقد من الزمن المنتج الوحيد الفلسفة،
ولكنه بعد ذلك شارك من انخرطوا بعده في هذا الميدان وكانت له مناسبات للدخول معهم
في حوار وللدفاع عن وجهة نظره الفلسفية.
أصدر الحبابي، كما سلف الذكر،
سنة 1980 كتاب: "عالم الغد". ويتفق الذين تابعوا إنتاجه على أن هذا
الكتاب يمثل مرحلة جديدة من تفكير فيلسوفنا وقد ملنا شخصيا إلى تقسيم فكر الحبابي
إلى ثلاثة مراحل متمايزة نسبيا هي: مرحلة الفلسفة الشخصانية الواقعية، ومرحلة
الشخصانية الإسلامية، ثم مرحلة الفلسفة الغدية. لكن هذا التقسيم لم يمنعنا من
الإشارة إلى مظهر الوحدة في فلسفة الحبابي، إذ أن الوعي الذي ظهر لديه بضرورة
بلورة موقف فلسفي يعبر عن وضعه كفيلسوف ينتمي إلى بلد من البلدان الساعية إلى
النمو، موقف يكشف عن الفروق التي أصبحت قائمة بجلاء بين البلدان المتقدمة والبلدان
المتخلفة، لم يوجد في لحظة كتابته للكتاب الذي ذكرناه، بل إنه كان موجودا لديه منذ
البداية نتعرف على إرهاصاته في كتاب "من الكائن إلى الشخص" كما نجد دعما
له في كتابه اللاحق "من المنغلق إلى المنفتح"، إن الحبابي لم يكن غريبا
بفلسفته عن المشكلات المرتبطة بواقع بلده وواقع البلدان العربية والإسلامية، وما
كان يدعى ببلدان العالم الثالث على العموم. وقد شاركنا في هذا الرأي عدد من
الباحتين الذين اهتموا بفكر الحبابي ورصدوا تطور هذا الفكر.
لم نكن نعني بما انتهينا من
قوله سوى دفع التفكير إلى تفهم أكثر موضوعية لفكر هذا الرجل الذي بدأ معه الفكر
الفلسفي المغربي. وقد حاولنا في دراسات سابقة أن نتابع فكره ونتبين وحدة هذا
الفكر. ولم يمنعنا هذا القدير من المساهمة إلى جانب غيرنا في تفكير في فلسفة
الحبابي، علما منا أن الفلسفة تتطور عبر النقد والحوار، وأنها تمتنع عن الجودة
والتطور في الواقع المجتمعي والثقافي الذي يغيب فيه هذا العامل.
لقد كنا نقدر المجهود الذي
بذله محمد عزيز الحبابي وإرادته في تجاوز بعض المتناقضات التي اعترضت فكره كمفكر
من بلد عانى من الهيمنة الاستعمارية، وأولى المتناقضات أنه تأثر بتيار فلسفي غربي
محاولا فـي الوقت ذاته أن يمنحه تأويلا ذا خصوصية تتلاءم مع وضعه كمفكر لا ينتمي
إلى نفس الشرط التاريخي. فمثل هذا الوضع يطرح التالي : كيف يمكن لتصورات ومواقف
فلسفية تبلورت في شرط أوربي أن تلعب دورا خارج هذا الشرط إذا كانت تحمل السمات
الإيديولوجية لمكونات نشأتها؟ كان الجهد التأويلي لدى الحبابي محاولة لصياغة حل
إيجابي لهذا الإشكال وهناك مظهر آخر للتوتر داخل فكر الحبابي هو أن فلسفته تراوحت
بين الفلسفات التي تعتمد المنهج الباطني في تحليل المشكلات مثل الفلسفة البرغسونية
أو الوجودية وبين الفلسفات التي تعتمد التحليل الموضوعي الماركسية. وهذا التردد
وارد على فلسفة الحبابي من الفلسفة الشخصانية ذاتها، إذ كان انطلاقه من توجهاتها.
ورغم أننا نرى في المرحلة الغدية تقدما نحو الإنصاف بقدر أكبر من الواقعية من حيث
إن الحوار يكون واضحا في هذه المرحلة مع الغرب حول شروط بناء حضارة إنسانية حقا
تكون بالجميع ومن أجل الجميع أو لا تكون، فإننا لاحظنا أنه كان بالإمكان المضي في
سبيل تحديد أوضح لما يعنيه الغرب.
تركزت محاولتنا في الدراسة
الحالية على البحث في شروط استئناف الفكر الفلسفي المغرب بفعاليته. وإذا كنا قد
أبرزنا كيف كان الاستئناف تاريخيا مع مؤلفات محمد الحبابي، فإننا نرى أن الفكر
الفلسفي المغربي لم يعرف منذ ذلك الوقت توقفا عن الاغتناء بمؤلفات وأفكار جديدة
ومتجددة. لقد كان من قصدنا في هذه الدراسة أن نبين أنه لا ينبغي نسيان تلك البداية
أو الانقطاع عن التفكير فيها لأن هذا من شروط المزيد من الاغتناء. وسنحاول في
اللاحق متابعة التحولات التي عرفها الإنتاج الفلسفي في المغرب المعاصر.
0 التعليقات:
more_vert