العنف : إضاءة أنثربولوجية.حوار مع عبد الله حمودي.موقع محمد عابد الجابري.

التصنيف



العنف : إضاءة أنثربولوجية


حوار مع عبد الله حمودي
تقديم:
ليس من الصدفة في شيء أن يستضيف الملف الخاص بالعنف الأنثربولوجي عبد الله حمودي الذي يعتبر بحق رائد البحث الأنثربولوجي المغربي حيث بدأ أبحاثه الميدانية منذ الستينيات من القرن الماضي و أسس لأسلوب أصيل في البحث و التنظير يستوعب النظريات و يفحصها على ضوء الكيفيات التي يعطى بها الواقع لإدراكات الفاعلين و على ضوء كيفيات بناء الإرادات لموضوعاتها في الخطاب و في الممارسة. يستضيف الملف، إذن، الباحث المرموق ليحاوره و يطلب إفادته بخصوص القضايا التي يطرحها العنف في مجتمعنا، و تبعات ذلك نظريا و سياسيا.
فهو يتناول مواضيعه وفق منهجية أنثربولوجية أصيلة و متميزة تمتح من تصور نظري يقيم حوارا دائما مع النظريات الأنثربولوجية و الفلسفية، و مع باقي أشكال التعبير الفني و الأدبي التي تبدعها المجتمعات لتظهر فيها تناقضاتها و توافقاتها و لتشير لآفاقها الطوباوية. و تتميز المقاربة التي يتبناها الباحث بكونها تعتمد قراءة مزدوجة: قراءة الأرشيف و الاسطوغرافيا و مختلف أنماط التدوينات، إثنوغرافيا، و قراءة الإثنوغرافيا بالاستطوغرافيا و الأرشيف الشفاهي و المكتوب للمجتمع، هذا في الوقت الذي كان فيه الأنثربولوجيون إلى زمن قريب، يهملون أنظمة التدوين و خصوصا المكتوبة، و لا يعتمدون سوى على اللغة الجارية للجماعة المدروسة و التي يرونها معزولة عن اللغات المكتوبة للجماعة و عن انتماءاتها الكبرى، حتى عندما تكون هذه الأخيرة موجودة ( البنيوية- الوظيفية و صيغتها المنقحة التجزيئية كما عند چلنر، و كذلك كما في كتابات كلود ليفي ستروس، و لدى منظر كبير للممارسات كبورديو، و خصوصا في أبحاثه الأنثربولوجية عن المجتمع الجزائري).
و هي مقاربة تتبنى مكتسبات التحليل المادي و تتعداه لمقاربة الرمزيات لا لتقولبها في قوالب وصفية جامدة، بل لتتفهم أساليب اشتغالها و تدفع بها نحو حدود تناقضاتها و الاختلافات العاملة في قلب هوياتها المتحركة، على اعتبار أن المجتمعات ليس لها صفات موضوعية قارة كما تدعي كل نزعة وضعية ضيقة، بل لها قصديات و مشاريع و طموحات تتغذى من صراعاتها و اختلافاتها، و تحدد ما يسمى ب"المواصفات الموضوعية". و لهذا السبب تستحضر تحليلات الأنثربولوجي عبد الله حمودي الأفق الطوباوي للمجتمع و شرطه الأساس: النقد المنهجي و السياسي لكل الخطابات التي تدعي التطابق التام مع الواقع، و تغلق باب العلاقات المفتوحة و الممكنة بالمرجع، علما بأن هذا المرجع نفسه ليس جوهرا ثابتا بقدر ما هو آفاق لامتناهية تأتي من انفتاح الوجود البشري على النفي الذي هو دليل التزمن.
و سيجد القراء الكرام لمجلة فكر ونقد في هذه المقابلة شيئا من ثمار هذه الطريقة في التشخيص و التنظير. حاوره محمد زرنين
نص الحوار
سؤال: الأستاذ عبد الله حمودي، نعرف أن كل تعريف يقدم لشيء ما هو ترجمة لرهان مفتوح بين من يعرّف ومن يتوجه إليه التعريف بصدد ذلك الشيء؛ فنحن نجد أن هناك من يربح، وهناك من يخسر بمناسبة كل تعريف. مما يسمح لنا بالحديث عن الفوائد العملية والسياسية للتعريفات إضافة، لفوائدها النظرية والمنهجية. و عادة ما ننسى أن التعريفات، من حيث هي محاولة لتملك الأشياء و العلاقات، لا تقوم فقط على الاتفاق و التطابق، بل تفترض، أيضا، توترات، و صراعات، و إغراءات، و حيلا من أجل التحكم في الأشياء و في العلاقة بها، و بالتالي، التحكم في حقيقتها. كيف تنظرون كأنثربولوجي، على ضوء هذه الخلفية، إلى التعريفات المتداولة للعنف داخل المجتمع المغربي أولا، و داخل الحقل العلمي الذي تنتمون إليه ثانيا؟ و كيف تدركون رهاناتها السياسية و النظرية في الحالتين؟
جواب: إذا كانت هناك تعريفات رائجة داخل المجتمع المغربي للعنف، فهي تعريفات تبقى مبهمة وغامضة. فأنا لم أقف، في السنوات الأخيرة، عند تعريف محدد للعنف، بل وقفت على أعمال ومجابهات وممارسات صنفت وسميت بالعنيفة، وهذا في حد ذاته له دلالة. إن ما يتم تداوله من "تعريفات" و "تصنيفات" هي ممارسات خطابية وعملية تتم في سياق صراع اجتماعي حول من يتملك القدرة على وصف الآخرين و ترتيبهم الترتيب الملائم لمصالحه و أهدافه. و يمكن أن تأخذ كمثال على ذلك، كل ما راج من تعريفات و تصنيفات بعد تفجيرات 16 ماي بالدار البيضاء، حيث كان الرهان يخص إعادة ترتيب جميع الفاعلين السياسيين على ضوء خطوط التوزيع الجديدة التي برزت بعد التفجيرات. و قد وضحت بعض هذه القضايا في مقابلة صحفية مع أسبوعية الصحيفة حيث أبرزت الرهانات المشتغلة و دلالة الصراع بين الفئات المتصارعة حول حقيقة تعريف العنف الذي لبس في هذه الحالة لباس الإرهاب..
سؤال: و ماذا عن رهانات تعريف العنف داخل حقل الدراسات الأنثربولوجية ؟
جواب: إن كلمة عنف تستعمل في مجالات مختلفة، وعلى عدة مستويات متباينة، و بحسب استراتجيات تعريفية متنوعة. إن العنف، في أول الأمر، وقبل كل شيء، هو ظاهرة يصعب تعريفها بدقة. وإذا رجعت إلى المراجع الفلسفية و الأنثربولوجية، تجد أن العنف صعب التعريف، ولا يوجد تعريف واحد يعمل به باعتباره كذلك. فإذا نحن بحثنا، على سبيل المثال، في القواميس، و هي جزء من الحياة الاجتماعية، سنجد أن كلمة "عنف" تستعمل في حقول دلالية واسعة: "العنف" ضد الرفق؛ و نقول الأخذ بالعنف حين يأخذ المرء الشيء بالعنف؛ وتستعمل الكلمة بمعنى الإكراه؛ وهناك العنفوان بمعنى الشباب والقوة الخ، كما في الصحاح في اللغة للجوهري. ويأتي صاحب تاج العروس بنفس الدلالات، مستشهدا بالجوهري وغيره، ويزيد عليها الشدة و "العنفة"، و اعتناف الأمر بإنكاره. وهذه مجرد أمثلة فقط حيث يقترن العنف بالصرامة والألم والإيلام والزجر أو القمع، مثلا في الوعظ والتربية كما عند أبي حامد الغزالي في الإحياء؛ أو الإنهاك واستنفاذ القوة (في حالة الفرار من العدو حيث يجوز استنفاذ قوة الفرس)؛ واستعمال العنف من أجل النجاة من الخطر (الرازي). وفي هذه الحالة تقترن الكلمة بالخطر والموت والأوجاع. وقد استعمل الرازي أيضا كلمة عنف للحديث عن الضغط والأوجاع التي يسببها خروج الجنين أو (المولود) من الرحم(الحاوي في الطب). وإذا كان الجوهري و الزبيدي يستخدمان كلمتا عنف ورفق في سياق الكلام عن ركوب الخيل، أي في سياق ترويضها وتمرينها على الخدمة والطاعة، فإن بعض فلاسفة المسلمين يستعملونها في مجال العلاقات بين الناس، وخاصة في مجالي الحرب والسياسة. فالرازي يذهب، مرة أخرى، إلى أن اللجوء إلى العنف يكون عادلا بصفة عامة حين يكون المرء أو الجماعة مهددة بخطر؛ ويذهب ابن سينا إلى أن للعنف معنى إيجابيا حين يستعمله الحاكم للحد من انتشار الفساد في الرعية (المنطق). أما استعمال العنف في الجهاد سواء في الفتوحات أو في الدفاع عن الأمة ضد عدو خارجي أو داخلي فهو مشروع عند علماء الإسلام. و من المعلوم، أخيرا، أن استعمال العنف وارد في التربية، وهو أيضا وارد ومطلوب في التربية الصوفية (كجهاد ضد النفس "الأمّارة بالسوء"). و علينا أن لا ننسى أن هناك أيضا خرق، وخرق( بفتح الراء)، وغصب واغتصب …وأصحاب الطرق كالدرقاوية كان من شروطهم خرق العادة. و هناك أيضا كلمة حرب و جميع المفرادات التي تفيد الخصام و الشجار و التعنيف. كما نجد كلمة أساسية في ثقافتنا العربية الإسلامية ألا و هي كلمة فتنة. و كيفما كان الحال، فإننا نرى من خلال هذه الأمثلة أن كلمة عنف و ما يدور حولها من مرادفات ترتبط بكل مجالات الحياة، سواء الفردية أو الجماعية، العائلية أو القبلية أو السياسية أو الدينية.
إن تعدد المجالات الدلالية للمفردات التي تترجم "عنف" شيء معروف حتى بالنسبة للغات أخرى، فكلمة (Violence) بالفرنسية أو بالإنجليزية أو ((GEWALT بالألمانية لها معاني يتعذر حصرها في معنى واحد، كما لاحظ ذلك، عن حق، بعض الباحثين (فرنسواز إريتي وإتيان باليبار، على سبيل المثال). فنحن أمام عدة تعريفات تختلف بحسب اختلاف استخداماتها و مقارباتها المؤطرة (بكسر الراء). و هو ما يجعلنا نقول، إننا أمام عدة مقاربات للعنف و لسنا أمام مقاربة واحدة و وحيدة. و كل مقاربة تعكس إدراكا معينا و أسلوبا في التشخيص و الاقتراح.
فهناك مقاربة تحدد العنف في استخدام وسائل الضغط التي تحد أو تعدم إمكانية الغير في الاختيار، بل وتعدم حتى إمكانيته في الهروب، أو في الانعتاق، أو في رفض الوضعية التي تفرض عليه؛ ويصل هذا العنف، أحيانا، درجته القصوى عندما لا يعدم فقط إمكانية الإنسان في الرد، و لكنه يعدم الإنسان نفسه. و يقوم تعريف العنف، في هذه الحالة، على تحديد آليات إنتاج مختلف أشكال الضغوط والوسائل التي يصل الإنسان بها إلى القتل وتدبيره. و يمكن أن نقارن، على هذا المستوى، حالة العنف بحالة اللاعنف، أي بتلك الوضعية التي يكون فيها الإنسان متحررا من إكراهات و من وسائل الضغط والإجبار بحيث يكون المجال هو مجال الإقناع و التفاوض أو أي شيء من هذا القبيل. و هكذا، عوض أن يتحدث الناس عن العنف، يتحدثون عن حالة سلم أو سكينة أو سلام.
و هناك مقاربات أخرى تركز على أبعاد أخرى، و تسعى لأن تتعدى الإكراه ووسائل الإكراه (كالقوة المجسّدة في الآلات الإدارية والحربية والقمعية والزجرية للقانون). و لا تلغي هذه الأخيرة التعاريف الأولى بالضرورة، كما لا تنكر وجود استعمالها من طرف مجموعات أو حكام، أو احتكارها من طرف الدولة (كما ذهب إلى ذلك ماكس ڤيبر في تعريفه لمفهوم الدولة)، ولكنها تركز على عوامل أخرى تحد من الحرية، ومن حرية النظر، وحرية النظر في الواقع المعيش؛ والعنف في هذه النظريات يعني سجن الإنسان من طرف الخطاب السائد في رؤية واحدة وصورة واحدة. و إنتاج الخطاب السائد لنظريات واعتقادات ترفع أسوار الصمت حول نظريات أخرى ممكنة، وتصورات مغايرة لنفس الواقع. ومعلوم أن ميشيل فوكو كان المنظّر الأساسي لهذه الأطروحة.
وقريبا من هذا، ذهب بورديو إلى القول بنظرية العنف الرمزي والهيمنة الرمزية. وهي نظرية ترتكز بالأساس لا على الخطاب السائد في مجال المعارف والمؤسسات السجنية والممارسات العملية باسم القانون، بل على وصف الممارسات اليومية والعادات السائدة التي تكوّن الإنسان من خلال التربية و"التدجين"، خاصة تربية الجسد ومتطلباته.
لكن إشكالية هذه المقاربة تبقى رهينة النقاش و مفتوحة خاصة بالنسبة للمجالات الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي يصعب فيها على المحلّل إيجاد مؤامرة ومتآمرين يسعون إلى ممارسة الضغط وإلى التحكم في نظرات وممارسات الآخرين.
ورغم هذا، يبقى عنف الخطاب و العنف الرمزي قابلين لأن يحددا وأن تدرس فاعليتهما في مجالات عدة، مثلا، حينما تكون هناك شرائح اجتماعية تسعى إلى العيش حسب معايير مغايرة للمعتقد السائد و يتم إقصاؤها أو القضاء عليها بالقوة، أو بنوع آخر من النفوذ كالدعاية و التخويف، وخاصة النفوذ المنظم من طرف مجموعات أو شبكات أو تنظيمات من نوع الكنائس، مثلا
و المهم أنه كيفما كانت مرجعية المقاربة، و بالتالي الأبعاد التي تركز عليها، فهي تبقى مقاربة انطلاقا من موقع اجتماعي محدد تتحدد حسبه أرباح التعريف و خسائره. تبقى، إذن، مسألة [تعريف] العنف و مقاربته مسألة مفتوحة. فكل اتفاق يقدم باعتباره اتفاقا من أجل السلم الاجتماعي، مثلا، يمكن لطرف آخر أن ينظر إليه من منظور العنف، فيجد فيه العنف قابعا في قلب السلم، يجده و قد لبس لباس السلم الاجتماعي. و في هذا السياق، علينا أن لا ننسى أن تعريف العنف يرتبط أولا، بإدراكات و تجارب جماعية وفردية، وبأفعال وبردود عليها متباينة بتباين الاستراتجيات و المواقع، مما يفتح الباب أمام كل الاحتمالات، بما فيها حرب التعريفات؛ وثانيا، أن كل حديث عن العنف يحمل في طياته اتهاما و حكما: اتهام طرف آخر و تجريمه. فتعريف العنف (الخطاب) يصبح سلاحا: يبرئ المتكلم المنتج للتعريف، و يتهم، إن لم يجرم، المتحدث عنه أو إليه. و هنا، يلزم التمييز بين العنف كما يتحدد في وضعية اجتماعية-ثقافية وسياسية معينة، يستخدم فيها الضغط ومجموع الوسائل التي تحدثت عنها، والعنف كخطاب. و يعني هذا أن كل تعريف يقدم للعنف لابد و أن يكون فيه حيف، وأن يكون فيه رابح وخاسر، لابد و أن تقف وراءه حكاية. و لن نتمكن من معرفة الخاسر أو/و الرابح، إلا إذا قرأنا عالم/حكاية التعريف بعوالمه/حكاياته الأخرى، خصوصا المغيبة أو المسكوت عنها. إن حرب تعريفات العنف مسألة جدية و مفتوحة.
و علينا أن لا ننسى، أيضا، أنه إذا كان إشكال العنف، بالنسبة لبعض الفلاسفة، و إلى زمن قريب، إشكالا تنتهي معالجته بالتفاؤل، إذ اعتقدوا في إمكانية التخلص منه والقضاء عليه. فإنه علينا الاعتراف بأن هذا إشكال شائك جدا، لأن التشخيصات الأنثربولوجية تسير في اتجاه تأكيد استحالة التفاؤل بخصوص هذا الموضوع.
فإذا أخذنا مثلا، تطاحن الأنا والآخر، في نظرية هوبز، فإن هذا التطاحن يصبح مكونا من مكونات الطبيعة. ويكون الخروج من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية بالقضاء على العنف أو بالحد منه. و في هذا الإطار، تمارس الدولة حسب منظوره عنفا أقوى من عنف الفاعلين، لأنه عنف متفق عليه. و قد تطورت هذه النظرية لتعكس طموحا للخروج من حالة العنف، وترسم الدولة كمثال للمجتمع و كتركيب أعلى، يجسد العقل في التاريخ، و تفرض فيه الجدلية حدودا على العنف باسم العقل. وطبعا، أفضل أكثر الرجوع إلى هوبز وليس إلى هيغل. إذ يبقى العنف ظاهرة مفتوحة ومعقدة. ومن الأحسن التفكير فيه بجدلية مفتوحة ولا متناهية، وليس بجدلية تنتهي بالانسجام التام، أو بنوع من التفاؤل الذي لا تستطيع الأنثربولوجيا قبوله.
سؤال: يعني هذا أن كل تعريف بما هو ممارسة خطابية عملية يحيل على مركب من الاستخدامات يبين لنا في الأخير طبيعة الاستراتجيات العاملة في المقاربات...
جواب: نعم، و إن ما يهمني في هذا الصدد، هو الإشارة إلى أن تتبع هذه المقاربات يقود الباحث إلى تحليل تركيبات اجتماعية وثقافية أساسية، إن لم أقل الأساسية أو تقريبا جميعها، من زاويتي العنف والرفق أو الحرب والسلم. بدأنا بالتقابل "عنف"/ "رفق" لتنتهي إلى تقابلات "عنف-حرب/رفق-سلم؛ شدة/ليونة؛ قوة/ضعف؛ قوة/إقناع؛ إكراه/إقناع؛ إنكار/إقرار واعتراف، الخ. قد تبدو هذه التقابلات بسيطة، لكن التحليل الأنثربولوجي يحتاط من اعتبارها كذلك، فهو يعرف أن منطق الثنائيات غالبا ما يخفي منظومات علائقية معقدة و متحركة...
تقنعنا هذه الأمثلة، بأن مشكل العنف مشكل شائك، وأن حضور العنف قائم، وأن القضاء عليه مستحيل. و ربما كان من الأحسن أن نفكر في الحد منه بالبدء بالاعتراف بأنه يسكننا و و يطبع تركيباتنا الاجتماعية والثقافية بطابعه السلبي أو الإيجابي، و بالتالي لابد من التعامل معه على هذا الأساس، رغم أن هناك تصورات فلسفية (غير التي تحدثت عنها حتى الآن) أخرى معروفة ذهبت إلى القول بإمكانية "السلم الدائم" (كانط و هيغل) استنادا على العقل البشري واحتكاما إليه، والإقرار لكل فرد بالحق في التمتع بالحرية وبتلبية حاجاته الأساسية من الغذاء والاطمئنان، لكن المشكل أننا كلنا نسعى إلى ذلك، ويحصل الاصطدام بيننا من أجل ذلك، وحينئذ تستعمل القوة والعنف للحصول على الاطمئنان ( سواء مارست هذا العنف قوات عشائرية أو قبلية، أو قوات الدولة أو قوات أخرى). وطبعا، يرد البعض على هذا بالقول إن قوة القانون يمكنها أن تحل مكان قوة القوات المادية (الجيوش والأساطيل)، لكن قوة القانون نفسها تحتاج إلى قوة مادية لتطبيق القانون، وتطبيق القانون نفسه قد يحصل فيه الشطط. و لهذا، نجد في كل المنظومات (وكيفما كان نوعها) إمكانية بل حاجة موضوعية ومشروعة للنقد السياسي والاجتماعي والثقافي للنظام السائد، أو حتى القيام، ضده، أحيانا، بالقوة
ونجد مجهودات فكرية وسياسية أخرى بذلت من أجل التحكم في التنافسية المولدة للعنف، لإقرار العدل والسلام بين الناس ولكنها فشلت، لحد الآن. ويظهر أن سبب ذلك يرجع، أولا، إلى تكبيل ملكة الارتزاق و البحث في سبل الرزق و الاغتناء المادي والروحي، وثانيا، إلى كون الأنظمة التي اخترعت من أجل ذلك (الأنظمة الشيوعية، مثلا) تصبح هي نفسها آلة قمع للحرية والعدالة والمساواة لكونها تدعي المثالية و الإطلاقية والشمولية، ولا تقبل نقدا لأطروحاتها، و بذلك فهي لا تقبل أن تضع حدا لاستعمال العنف من أجل بسط نفوذها و أطروحاتها.
إن هذا بالضبط ما نراه مثلا لدى جورج صوريل الذي ألف كتابا سماه العنف، حيث ميز هذا المفكر بين العنف والقوة في مجهوده، لتعريف العنف. فالقوة في نظره هي تلك الوسائل من إدارة، وجيش، وحرس، و قوات أمن، وقوانين تسهر على حفظ الأمن في إطار نظام سائد. إذ أن البورجوازية تتمتع، في نظره، بالقوة و تتحكم فيها. أما بالنسبة للطبقة العاملة والكادحة، فإنها لا تتمتع بالقوة المادية ولا تحميها قوة القانون؛ ولذلك فهي لا تملك سوى العنف للدفاع عن مصالحها والإطاحة بنظام التمايزات و الفروقات لاستبدالها بنظام المساواة التامة. وتلك هي المعضلة، إذ أن صوريل أغفل كون ممارسة العنف تحتاج، هي بدورها، إلى تنظيم، وتنتج زعماء وأبطالا، يصبحون هم أنفسهم أباطرة ومستبدين، فيولد هذا الوضع تمايزات وطبقية بين المسيريين، بل يولد تحالفا مقدسا جديدا يسير قوة اجتماعية هي الطبقة الكادحة، و يستبدل النظام الليبرالي الديموقراطي بإيجابياته وسلبياته بنظام تسلطي و فاشستي؛ ومعروف أن صوريل نفسه ذهب به الأمر إلى حد خدمة موسوليني والحزب الفاشستي الإيطالي.
وإذا استحضرنا أن نظرية السلم الدائم المبني على العقل بمفهومه الليبرالي مبنية على الانتفاعية، و أنها أغفلت العنف الذي مورس على الأقليات وعلى الشعوب التي استعمرت واستغلت أو تم القضاء عليها جزئيا أو كليا (بدء من المجتمعات الأمريكية قبل الغزو الأوروبي)، و أنها احتلت أكبر جزء من المعمور إلى غاية الخمسينات والستينات من القرن العشرين، و أنها أغفلت النظريات التي غذت هذه الوضعية أو التي تغذت منها هي، فإننا ندرك درجة الحذر المطلوب من مثل هذا الطرح، وخاصة وأن ذلك مورس باسم دعوى استتباب السلم و نشر الحضارة في العالم، و كل ذلك، مقرونا بنشر مثاليات دينية مسيحية، سيما و أن المنظومة الغازية كانت و لا تزال هي المنظومة الوطنية المتمثلة في نظام الدولة الليبرالية، عنوان ما يسمى بالحضارة والرقي.
فإذن، لابد من الحذر في التعامل مع كل من أطروحة السلم الدائم حسب ما تدعيه الليبيرالية، و أطروحة العدل التام تحت ظل المساواة التامة. فمع هاتين الأطروحتين يتم إدخال المطلقات في السياسة؛ كما أن ما تسميه اليوم بعض التيارات "بالنظام الإسلامي" أو "المنهج النبوي" يدخل، هو أيضا، مطلقات دينية في صميم الممارسات السياسية، وهذا خطر على المجتمعات إذ أنه يفتح باب تفشي العنف بدل الحد منه، ويسد باب الرفق والتمرّن والتمرين على الحوار والاتفاق في ظل السلم النسبي، والقدرة على تنظيم العيش في أفق الدنيا. علما بأن التشبث بالمطلقات في أمور العقيدة والدين شيء بديهي ومسلم به، و يستوجب التعامل معه بالاحترام من طرف الجميع، كيفما كانت درجة الاختلاف في المذاهب والعقائد.
سؤال: أستخلص من جوابك، لحدود الآن، خلاصتين: الأولى، وهي التحفظ المبدئي من كل تعريف يقدم للعنف، والانتباه لمن يعرف، أين، ومتى، وكيف، أي لما أسميته بالتركيبات الاجتماعية- الثقافية الملموسة التي تكون الخلفية الاجتماعية- الثقافية للتعريفات؛ والخلاصة الثانية، هي ما أسميته بضرورة الجدلية المفتوحة في الفهم والتحليل. وبالفعل، يظهر أنه بقدر ما يكون مفهوم العنف مركزيا في فهم الدينامية الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، بقدر ما يكون ملتبسا ومحاطا، إن لم نقل محاصرا برهانات التعريف وبمستويات الاستفادة. لكن عندما تتحدث عن ضرورة الجدلية المفتوحة فأنت تستحضر، بالتأكيد، الإسهامات النظرية الكبرى في حقل الدراسات الأنثربولوجية و الفلسفية. إن القول بالجدلية المفتوحة، يضعك في جهة ما داخل حقل هذه الإسهامات، ويجعلك تحدد اختياراتك النظرية إزاءها؛ فكيف تحدد هذه الجهة، كيف تحدد معالم هذه الجدلية المفتوحة في معالجة العنف؟ ما علاقتها بالنظريات الأنثربولوجية، بالتحليل النفسي، وبالاقتصاد السياسي، باختصار، ما هي الخريطة النظرية التي ترسمها لهذه الجدلية المفتوحة؟
جواب: سأجيب عن هذا السؤال، و سأحدد معالم هذه الجدلية المفتوحة، انطلاقا من مناقشة و نقد الأجوبة التي قدمتها الأنثربولوجيا عن سؤال العنف و كيفية ظهوره. و سيلزمني هذا الاختيار بنوع من العرض التاريخي النقدي الذي سيكون بالضرورة مختزلا و ليس مفصلا، و لكنه سيبين بما فيه الكفاية معالم الجدلية المفتوحة التي أتحدث عنها.
لقد ارتبط ميلاد الانثربولوجيا بالعنف، عنف التسمية و التصنيف و الحكم الذي كان موضوعه المجتمعات المغايرة للمجتمع الأروبي الذي أصبح يمتلك جميع شروط القوة و التحكم بما فيها قوة إنتاج الخطاب حول الآخر من موقع القوة. فرغم تجربة المغايرة، و ربما بسببها، بقي العنف بمختلف أوجهه عالقا بالأذهان، حاضرا، لا يرتفع و لا يرفع في العلاقة بالآخر وبالغير، مشكلا بذلك بعدا أساسيا، إن لم نقل البعد المؤسس. فالنظرة إلى الآخر وتصنيفه تنتهي، بالضرورة، إلى تصنيفه إما كمجال للعنف أو كمجال للسلام. و يرجع اختيار المجال في الأخير إلى الاستراتجية المشتغلة و المحددة للعلاقة. فعندما تم اكتشاف القارة الأمريكية، وتم اكتشاف الشعوب التي كانت تعيش وتستوطن القارة، سميت تلك الشعوب "بدائية" و صنفت كعنيفة. و كانت كثرة الحروب بين تلك الشعوب هي دليل المعرفين و المصنفين الغربيين على هويتها العنيفة. طبعا، كانت هناك، مؤشرات أخرى تكلم عنها الباحثون كقتل البشر وأكل لحمهم. لكن المهم هو الافتراض الأساس الذي قام عليه الوصف، و بالتالي التسمية و التعريف، أي افتراض وجود مجتمعين: مجتمع عنيف (وهو المجتمع المسمى ب"البدائي")، ومجتمع مدني متحضر (هو المجتمع الأروبي). و قد تبنى جميع كتاب أوروبا هذا التصنيف باستثناءات محدودة جدا، و خاصة باسثتناء مونطني. و قد تغيرت النظرة شيئا فشيئا حتى أصبح المجتمع البدائي هو مجتمع الرأفة والحياة الطبيعية الحرة، واختفى العنف كصفة مميزة له( روسو). و كان هذا التحول محكوما بمنطق محدد جعل النظام الجديد والمنتصر هو الذي يسمي النظام العتيق المنهار بالعنيف، و كأن منطق التطور التاريخي يقتضي الاقتراب أكثر فأكثر من حالة السلم كما يجسدها المجتمع الغربي. لقد كان تعريف العنف في الحقل الأنثربولوجي محكوما بسياق هذا الميلاد. كما أن العدة التصورية التي تم توظيفها في تصنيف هذه المجتمعات ارتبطت بمعيار الدولة التي لم يجد لها الباحثون أثرا لدى هذه الأخيرة، فقالوا: هذه مجتمعات بدون دولة و بلا قوانين. وهذا استحضار سلبي لما فكر فيه هوبز عندما فكر في المجتمع المدني.
في المرحلة الثانية، تحول مضمون المعيار إلى مسألة العقلياتـ. وتم الربط بين العنف والعقليات المتخلفة و الماقبلمنطقية ( ليڤي پرول). و اختفى العنف كسمة مميزة لتلك المجتمعات، ولكن حالة المجتمع ربطت بفتنة فكرية لاعقلانية؛ و فسر العنف الذي كانت تعرفه تلك المجتمعات بعقليتها. و في نفس الآن، أصبحت تلك الظواهر، بما فيها العنف، تفسر بنوع من النسبية، و أصبحت تقرن بحالة تلك المجتمعات. ومع تطور الأنثرولوجيا ظهرت نظريات أخرى تفسر العنف، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية.
النظرية الأولى تقرن العنف بالأخذ. فالعنف حسبها شيء طبيعي يفسر بحاجة الإنسان. و كانت الحاجات الأولى التي نظر لها المنظرون هي الحاجة للطعام، والحاجة الثانية هي حاجة الجنس، و الحاجة الثالثة هي الحاجة للاطمئنان. والعنف، حسب هذه النظرية، هو منع الغير من تلبية حاجاته وسد الطريق أمامه. و كان العنف في مظهره المعروف، أي الحرب، يصنف ويفهم كنوع من الصيد، وكأنه تطور لأحد أشكال الصيد. فيصبح الدافع إلى العنف هو الدافع البيولوجي، حتى تمنع الأخر من الأخذ: أخذ الغذاء أو النساء. فيصبح التنظير للعنف قائما على أساس بيولوجي. لكن مشكل هذه النظرية هو أن الدافع البيولوجي لا يمكنه أن يفسر الحرب، ولا يمكن أن يفسر الأخذ، سواء بالنسبة للطعام أو بالنسبة للجنس. فإذا كان الأخذ من أجل الجنس فقط، فإنه لا يفسر لنا تعدد الزوجات أو الحظايا. فهناك عامل آخر يجب البحث عنه. فلماذا يتعدى الأخذ من أجل الجنس القدرة التناسلية أحيانا؟ فيتعدى عدد الزوجات أو الحظايا العدد العادي ليحصل التناسل، وهو زوجة أو زوجتين أو حظيتن، ولكن ليست عشرين من الحظايا. فالمعروف في تلك المجتمعات أن تعدد الحظايا والزوجات أصبحت له معاني ودلالات أخرى غير تلك الدلالات والمعاني التناسلية. كما أن الأخذ من أجل الغذاء لا يفسر العطاء. فإذا كان العنف (الحرب) يفسر الأخذ، فهذا لا يفسر أنك تتحارب حتى تكدس الموارد الغذائية ثم تعطي ! و لا يمكن فهم هذا انطلاقا من نظرية لتلبية الحاجيات، بل يظهر هذا السلوك كاختيار مناقض للمبدأ الذي يحكمه. فالنظرية البيولوجية لا تفسر هذه العلاقات. وكان (لوروا كورهان) هو ممثل هذه النظرية حتى وفاته. و لا تنفي محدودية هذه النظرية الفائدة الكبيرة التي كانت لها، لأنها ساعدت، بقوة، على تصنيف الإنسان ككائن له حاجيات يحاول أن يلبيها بالشغل، أو بالحرب، أو باختراع الآلات. و كان هذا مهما، على كل المستويات. وطبعا، يمكن لهذا الانتقاد الذي انتقدته، أن يصدق على كل التوجهات الانتفاعية، بما فيها الانتفاعية الاقتصادوية في تفسير العنف.
أما النظرية الثانية، فهي نظرية الأخذ والعطاء، أو نظرية التبادل. وهي نظرية قديمة. فقديما قيل ولا يزال يقال: إذا حضرت التجارة غابت الحرب. و قد عرفت هذه النظرية إغناءا كبيرا مع (كلود ليفي ستروس). و تتميز نظرية التبادل باستحضار بعد أساسي، كان غائبا في النظرية الأولى. فمشكلة (لوروا كورهان) والبيولوجيين هي أنهم لا يعتبرون ولا يرون، أن ظاهرة الأخذ هي دائما ظاهرة مقننة، وكونها كذلك يعني أنها محكومة بتقنين اجتماعي، وليس فقط بمبدأ تلبية الحاجة، سواء كانت حاجة إلى الغذاء أو إلى النساء، وخصوصا في الحالة الثانية. بنى (ليفي ستروس) نظريته للتبادل على مبدأ منع الزواج من المقربات /منع زواج المحارم. وهذا المبدأ، في نظره مبدأ إيجابي لأنه حين يمنع الشخص من الزواج من أخته،مثلا، فإنه يدفعه إلى تزويجها بآخر. وبالتالي يضمن هذا المبدأ التبادل، ويدفع في اتجاهه. فإذا كان المجتمع مبنيا على التبادل، فإن هذا الأخير يصبح هو أساس التجمعات البشرية. غير أن المشكل الأساسي هو أن نظرية التبادل لا تكفي لتفسير ما يجري في تلك المجتمعات، لأنها تحاول أن تبني أسس المجتمع على القاعدة، فقط. علما بأنه عندما تتأمل التبادل تجد أن التبادل نفسه يأخذ أوجها أخرى، بما فيها الحرب. فمثلا، من أجل الحرب يتم التفكير في تبادل الأزواج بين مجموعات قبلية كبيرة. فيصبح التبادل نفسه وسيلة من وسائل الإعداد للحرب، يصبح استراتيجية حربية. فقانونيا وشرعيا، القاعدة هي المبدأ وهي الدافعة إلى التبادل، لكنها عمليا واجتماعيا، تفتح عدة مجالات، بما فيها مجالات التهييء للحرب و ممارسة العنف. فقانونيا، يمكن أن يقال: قانونيا، لابد من منع الزواج من المقربات حتى يكون التبادل ممكنا، لكن مقابل هذا، يمكن أن تقول، عندما كان التبادل ممكنا، أصبح من الممكن [أيضا] سوسيولوجيا و تاريخيا، أن تقوم بتبادل تحالفي من أجل الحرب. فالقاعدة تفتح التبادل، لكن التبادل نفسه ليس القاعدة الوحيدة للسيرورة التاريخية والسوسيولوجية للمجتمعات. فالتبادل كقاعدة، يمكن، أيضا، تاريخا و سوسيولوجيا، من أشياء تتعدى القاعدة؛ فالقاعدة تمكن من التبادل؛ والتبادل يمكن من الحرب. لهذا، يمكن القول: إن الشيء كقانون يجعل التبادل ممكنا، إذا رأيته من زاوية الجدلية التاريخية يعطي عكسه، يعطي الحرب بدلا من السلم، وتصبح الحرب والسلم شيئان ممكنان انطلاقا من قاعدة واحدة. و تكون الرسالة هي كالتالي: إذا أردت أن تتفتح و تغتني و تضمن التبادل، فلابد من أن تكبح رغبتك وشهوتك، و أن تحد من إرادتك. و هذا، يرجعنا إلى كلام آخر، هو أن التبادل باعتباره كبحا للشهوة، يمكن من بناء المجتمع والثقافة، و لكنه لا يضمن السلم. فالكبح يعطي إمكانية بناء الثقافة، ولكنه بناء يمكن أن يؤدي إلى عكس ما حددته القاعدة. وهذه هي الجدلية المفتوحة التي تحدثت عنها. فإذن، لا يمكن للعنف أن يعرف إلا بعكسه، انطلاقا من خطوط و حدود فاصلة، تعمل أيضا، كنقط اتصال تحرسها قواعد. لا يمكن للعنف أن يعرف إلا كوضعية نسبية مقارنة بالسلم إذا أخذناه، مثلا بوجه من وجوهه المركزية (الحرب). ونفس الشيء يصدق على السلم. فيصبحان (العنف والسلم) مخدومين ببعضهما البعض في طبيعتهما و هويتهما. كل مفهوم مخدوم بضده؛ و هذه هي الجدلية المفتوحة التي تجعلك تعرّف الشيء بضده، و لكن انطلاقا من عدم الإقرار بوجود حدود قبلية و فاصلة بينهما (الشيء و ضده)، إذ عليك أن تعترف بأن ذلك التعريف، هو تعريف قاعدي للعلاقة الجامعة بين الحدين. و عندما تفتح ذلك التعريف على التكوينات الاجتماعية التي جعلته ممكنا، فلا محالة أنك تعترف، في الأخير، أن السلم والعنف وجهان لبعضهما البعض. فكل واحد منهما يحمل الآخر في أحشائه. لهذا يمكنك أن تفسر كيف أن وصفك للآخر بالعنيف فيه عنف، أيضا، بل أكثر من هذا، يمكن القول إن جدلية العنف لا تقوم فقط على هذه التمييزات بين العنف و السلم كتبادل، بل تقوم على تمفصل آخر لا يقل أهمية في تحديد ملامح هذه الجدلية و هو تمفصل عنف داخلي/ عنف خارجي، أي عنف يتحدد انطلاقا من الدينامية الداخلية للجماعة، و آخر يتحدد انطلاقا من علاقة الجماعة بجماعة أخرى....
سؤال: و من هنا أهمية التحليل الأنثربولوجي لهذه التمفصلات الموِلدة لمختلف أشكال العنف، من العنف الباني للهوية الجماعية ( داخليا) و المدعم لها إزاء مجموعات و هويات أخرى إلى العنف المهدد لها(خارجيا) و المتعين بالنسبة لها كآخرها...
جواب: تماما، و من هنا تأتي أهمية التمييز في التحليل الأنثربولوجي بين العنف المرتبط بالداخل، أي بالدينامية الداخلية للجماعة، و العنف المرتبط بما هو خارج عنها و ما يتعداها.
هناك أولا، ما يمكن أن نسميه بالعنف المرتبط بالخارج وبتكوين الهوية، فإذا رجعنا باختصار شديد إلى تجارب المجتمعات والحضارات التي سبقت الثورة الصناعية الحديثة( و لا أسميها "بدائية" كما تعودت الأنثربولوجيا على تسميتها إلى زمن قريب) فإننا نرى أن العنف عنصر من عناصر تكوين المجموعة البشرية وشعورها بهويتها. ففي المجتمعات الأمريكية العتيقة، كانت القبائل والجماعات تترك فيما بينها مجالا ترابيا لا يستوطنه أحد؛ وكانت تحرص على أن لا تلتقي ببعضها البعض. وإذا حدث و التقت، فغالبا ما كانت تنشب بينها الحروب، ويسبب ذلك القضاء على الرجال وسبي النساء، أو في بعض الحالات أخذ الأسرى والإبقاء عليهم أحياء قصد استعمالهم كأضاحي (كما كان الحال عند الأزطيك) أو لقتلهم وأكل لحومهم. و هذه الظاهرة الأخيرة إن كانت موجودة، فإنها كانت محدودة ومحاطة بطقوس وبقوانين، ولم تكن كثيرة الانتشار كما ذهب البعض إلى ذلك.
كانت كل مجموعة تطلق على نفسها اسما يعني "البشر"، وتطلق على الآخرين أسماء تنفي عنهم صفة البشرية. وتزخر الكتابات الأنثربولوجية بالأمثلة التي نعرفها في أمريكا القديمة وأفريقيا وآسيا وغيرها. ويعرف الجميع، تقريبا، أن الإغريق كانوا ينعتون الآخرين بصفات تنفي عنهم صفات الحضارة، كما في كلمة (Barbare)، و تصف كتاباتهم، كما هو الحال عند هيرودوت، الحضارة (وهي التي يعرفها الإغريق)؛ ثم تصف البربر، وهم الذين لهم لغة وعوائد وتنظيمات مغايرة لما عند الإغريق "الممثلين" للحضارة؛ ثم تصف مجموعات أخرى لها قوانين مبهمة وغريبة؛ ثم تصف أناس آخرين يصعب نعثهم بالبشر لأن ليست لهم لغة ولا قانون في زعم هيرودوت، ثم أناس لهم صفات جسيمة حيوانية.
وفي جميع الحالات، يبقى الآخر، هو الذي ليست لغته مثل لغتنا، ولا قوانينه تشبه قوانينا. والمعروف في هذه الحالات، أن القوانين الأكثر إثارة لهذه التصنيفات والتسميات هي تلك المتعلقة بممارسة الجنس والزواج وضوابط المسكن والمأكل والملبس ثم الشعائر الدينية وغيرها.
فكل مجموعة أو شعب له خريطة يحل هو في مركزها كنموذج ومثال لما هي البشرية، وتدور حولها المجموعات الأخرى، سواء كانت معروفة أو موهومة، لتبقى تسكن في اختلافها عنها ويتم، بالتالي، ترتيبها على النحو التالي، مثلا، الأجنبي؛ الغريب والعجيب؛ المخيف المرفوض؛ الأغرب الذي يقترب من الحيوان أو هو حيوان. وعلينا أن لا ننسى انه حتى زمان روسو كانت النقاشات تدور حول بعض أنواع القردة المشتبه فيها (هل هي بشر أم لا)؛ و أنه إلى زمن قريب، كانت هناك مناقشات حول مخلوقات تشبه البشر، لكن لها ذيول ! و المهم هنا، هو تسجيل الأمر التالي: إنه كلما تم خلع صفة البشرية عن جماعة معينة من طرف جماعة أخرى، إلا وتعطي الجماعة الثانية لنفسها الحرية في القضاء على الجماعة الأولى أو الهيمنة عليها واستعمالها. وقد تساعد نفسها على ذلك بنعتها للجماعة موضوع التسمية "بالحيوانية" وإدخالها الطبيعة لاستغلالها وإزهاق أرواح أفرادها.
ونذكر هنا، أن هذه التصنيفات والتفرقة بين الأنا أو النحن، من جهة، وهم أو الآخرين، من جهة ثانية، لا تنحصر، فقط، في ما يسمى بالمجتمعات "البدائية"، بل نراها حاضرة وسارية في تركيبات اجتماعية وثقافية أخرى.
إننا نراها مثلا بوضوح في تاريخ الأديان، و في انتشار هذه الأخيرة في الشرق الأوسط وأوربا، و في التطاحنات بينها، حيث كل طرف يدفع بالآخر إلى "غرابة" تكون أحيانا تامة، وتكاد تقصيه من البشرية. و نجد في اللغة العربية أيضا، كلمة "الأعجمي" التي تكاد، أحيانا، تنفي صفات اللغة على اللغات الأخرى. علما بأن أصحاب اللغات الأخرى لهم كلمات تفيد نفس المعنى و نزوعات مماثلة. وطبعا، تكون حدة هذه الاختلافات قليلة في أزمنة السلم والوفاق والتحالفات، ولكن حدتها تتضاعف في أزمنة الحروب حيث تدفع الأنا ضد الآخر للهجوم و/أو الدفاع. و انتشار هذه النزعة معروف لدى غالبية الشعوب. فإقصاء الآخر، في صورة المسلم والإسلام، نسبيا أو بإطلاق، ظاهرة متفشية في أوروبا وأمريكا منذ زمان بعيد، ولا توازيها قوة إلا قوة إقصاء ونفي الثقافات الأمريكية والأروبية من طرف من يدعون الدفاع عن الإسلام. وكما نجد تصنيفات تؤسس الأنا ضد الآخر عند الإغريق، فالأمثلة موجودة لنفس الظاهرة عند المسلمين والعرب، وتزخر بها كتب الجغرافية والرحلات، وفنون أخرى، بما في ذلك كتب السفراء. وعلى سبيل المثال، يمكن الرجوع إلى كتابات السفراء المغاربة إلى إسبانيا؛ وقد وقفت على إشارات و نعوث للإسبان عند الغسّاني والغزّال و غيرهما. وفي هذا المضمار، لم يختلف الغسّاني عن الإسبان والأوروبيين في نعث هنود أمريكا بالحيوانية حين سمع بحروبهم مع الإسبان.
وبالموازاة مع العنف ضد الآخر هناك العنف الممارس داخل المجموعات نفسها، وهو كالأول له صلة وثيقة بتكوين الأنا، أي هوية الفرد والمجموعة. وخلافا لما كتبه بعض الأنثروبولوجيين ككلود ليفي ستروس وأتباعه، و لما تقول به النظرية الرمزية التوافقية ذات المرجعية الأفلاطونية التوافقية، حاولت في أبحاثي، إظهار العنف والتوتر والاختلاف كعناصر نشيطة في الطقوس نفسها، وهي تمثل تصويرا جزئيا للعنف من طرف المجتمعات. وأنا أعتبر أن المجتمعات والثقافات تبقى ترتيباتها دائما مفتوحة على المبهم. وعلى كل، فقد سميت تلك الممارسات التي يمارس فيها العنف على أشخاص أو شرائح بحسب النوع أو الجنس (ذكر/أنثى) أو بحسب السن (كبار/صغار) من قبيل طقوس المرور من الطفولة إلى الرشد، إلى سن الزواج والكهولة والشيخوخة والموت. إن كل هذه المراحل تعاش بحسب طقوس تنظم العلاقات بها، يسميها الأنثروبولوجيون "بطقوس المرور" (تبعا لاصطلاح ڤان جينيب آرنولد). و قد تمارس في هذه المراحل أنواع من الشدة والعنف على الإنسان والجسد، بما فيها العزل و وشم الجسد بآلات حادة أو بقطع جزء منه (الجسد) كما في طقوس الختان. وهي وشوم تعلم الفرد بحيث يدرك ويستبطن في نفسه و يحمل على جسده وشما يعني أنه فرد ينتمي إلى هذه المجموعة بالضبط، و ليس إلى تلك المجموعة الأخرى، وتكون له إزاء مجموعته واجبات ويحتل محلا معلوما في بنيتها الاجتماعية سواء على مستوى الدور أو المكانة.
و إذا كان التلخيص ممكنا، فإنه يمكن القول عن العنف الممارس اتجاه المجموعات الخارجية إنه عنف تتوخى منه المجموعة الدفاع عن هويتها وحدودها بوسيلة الهجوم الرمزي والمادي المسلح.
أما العنف الممارس داخليا فهو أيضا يساعد على الاطمئنان داخليا. ففي صميم الحياة الجماعية يقبع الخوف. وإني لا أقول بالوهمية التامة (للخوف) في هذا المضمار، ولكني اتجه إلى التفكير في وسائل الدفاع عن النفس، وضبط الخوف في آن واحد حتى لا يطغي الخوف والقلق سواء على الأفراد أو على الجماعات سواء كانت محلية أو أمما أو وطنيات أو غيرها، و لا يغذي الحروب و الإرهابات و التخويفات، أو يغذي هيمنات وإقصاءات، كما هو الحال، اليوم، في روسيا، و قبلها في الاتحاد السوفياتي في سياساته اتجاه الوطنيات واللغات والثقافات، أو كما هو الحال، اليوم، في الوطن العربي فيما يخص الخوف على "الوحدة الوطنية" والذي يؤدي إلى التردد أو عدم الاعتراف باللغات والثقافات الفاعلة داخلها مثل الأمازيغية والكردية وغيرها. وأظن أن الاعتراف العملي والتلاحم بوسيلة الحوار هما الوسيلتان الناجعتان للحفاظ على كيان موحد.
وكيفما كان الحال، يظهر العنف مقرونا بتكوين المجموعات والمجتمعات البشرية. ويظهر ذلك في ممارسة العنف الخارجي والعنف الداخلي، والملاحظ أن القيام بأعمال مهمة سواء ببناءات وتشييدات أو حروب مصيرية غالبا ما كان الشروع في تنفيذها يبدأ بعبادات يتوسطها العنف في صورة تقديم أضحية، وإذا لم تكن هناك إمكانية للذبح حلت محله الصداقات. وكذلك بالنسبة لطقوس المرور بما فيها التسميات والختان (الذكوري، غالبا) وطبعا، النعي و طقوس الدفن.
ولا يسعني هنا إلا أن أختصر مادة غزيرة، لكي أظهر أن طقوس الأضحية هي أعمال وعمليات تؤكد حتمية العنف، وفي نفس الوقت، ترسم له حدودا. ثم إنها تجسد ميثاقا بفضله تسعى البشرية إلى النجاة في الدنيا و في الآخرة، من خلال احترام تصورات معينة لقوة الوجود، منبع ذلك الناموس
وإذا كانت تلك الطقوس والشعائر تعترف بالعنف وتحدده وتحد منه، فلأن الحياة البشرية مقرونة بالأخذ، والأخذ بالعنف، وتعلمنا الطقوس أن الأخذ لا مناص منه، لكن بالرفق والاقتصاد، و على قاعدة الأخذ والعطاء، الهبة و الهبة المضادة، و التهادي الكلي. و هذه الجدلية مشتغلة في علاقاتنا بعضنا البعض كبشر، ومع ما يسمى بالطبيعة؛ وأقول ما يسمى "بالطبيعة"، لأن علاقتنا بالكون هي وليدة علاقتنا ببعضنا البعض، وأساسا و أولا، وليدة تواصلنا باللغة وبالكلام. و الكلام نفسه مصدر التسمية والحوار والجدل، هو نتاج لتركيب يعقلن، مع ما يتسرب إليه، في نفس الآن، من سوء التفاهم وحيل التاريخ و شبهاته
أرجع إلى مشكل التعريف والتسمية حيث أظن أن العنف ليس طبيعيا بل هو بشري تاريخي، وثقافي بالدرجة الأولى. و قد سبق لي أن قلت ليس للطبيعة من وسيلة لتسمية نفسها بكلمة "الطبيعة". و بهذا المعنى، ليس هناك عنف في الطبيعة، بل إن مفهوم الطبيعة هو نفسه إنتاج حديث العهد نسبيا. و لا يمكن فصل غريزة الأخذ عند البشر عن الكلام و لا عن المجاز و لا عن الاستعارة؛ ومن ثم نبتعد شيئا ما عن غريزة الموت (فرويد) لنقول، تبعا للاكان في هذه النقطة بالذات وفقط في هذه النقطة، إن الأخذ مقرون بصورة الآخر التي تغذي صورتي، وهذه العلاقة تولد العنف و تشفع له، في نفس الوقت، لأن كل صورة للأنا فيها صورة الآخر كرمز لتوافق ممكن، وعنفي ضده قد يكون مرتبطا بعنف يسكنني.
والجدير بالذكر في هذا المضمار أننا نجد في التوراة والأناجيل والقرآن عنف العذاب مصحوبا دائما بالرحمة و الشفاعة، و نجد العذاب مرفوقا بعدم اليأس من رحمة الخالق ورفقه. وهذه الحقيقة يتناساها مرشدو الحقد الجدد
وعلى كل حال فالأضحية الإبراهمية/الإسماعيلية، وكذلك التضحية الإبراهيمية/الاسحاقية تظهر صورتها كعنف وأمر بممارسة عنف ضد الإبن التي هي ممارسة ضد النفس وضد المحبة المشروعة التي يتوق إليها الأب، والتي هي منبع الحياة بالنسبة للولد. ويأتي ذلك الأمر، في صيغة آية تطبق، وإذا كان لها تأويل فإنه تأويل عملي محض كما تروي القصة، ثم يكون التغيير الغير مرتقب و يوتى بالكبش إلخ (الرواية).
إن المهم هنا، في هذا الأمر، هو أن الفقهاء لا ينكرون العنف، بل يقرون به، ويرجعونه إلى الحكمة الإلهية، ثم يسعون للحد منه والرأفة بالذبيح كما هو معروف. وفي ديانات أخرى فإن المضحين يطلبون السماح من الضحية، ويتصرفون وكأنهم يضحون بأنفسهم.
ولا بد من التذكير هنا بأن الهدي يؤول كتضحية بالنفس والنفيس. وعلى هذا فالأخذ والرد، وهما حاضران في التضحية وبقوة، مرتبطان بتكوين المجتمع والثقافة، والصلة والاتصال (الكلامي، الرمزي، المجتمعي، الخ). و لا يوجد مؤشر علمي يدل على أن في البشر عنصر وراثي يفسر العنف أو النزعة إلى العنف كما يقال. وبالعكس فإن الحروب الطويلة والمدمرة التي يسعى من ورائها إلى القضاء التام على الآخر أو السيطرة التامة عليه، كما التقتيل الجماعي، كلها وقائع تبدو مرتبطة بظهور الاستقرار والزراعة وتربية المواشي. وهذا لا يعني أن الحرب كانت منعدمة قبل الاستقرار، ولكنه يعني أن التقتيل الجماعي والحروب الطويلة تتعلق بمجتمعات ظهرت فيها إمكانية المراكمة والتكديس والاغتناء مصحوبة بتقنيات و تنظيمات أوسع لضم أكبر عدد ممكن من المجموعات البشرية تحت سيطرة مركز موحد ومهيمن، أو بحسب العبارة الخلدونية، عنف عصبيات تستعمل العنف لتكوين ملكيات (كميل"طبيعي" للبشر).
وجلي أن النظريات التي تستند إلى فرضية " مجتمعات بدائية" أولية (الأولون) يسودها العنف الدائم كمرحلة أولى تتحول منها بوسيلة الأضحية لاستتباب سلم نسبي، ثم إلى مرحلة راقية تظهر فيها التضحية بالنفس، مشخصة في تضحية السيد المسيح، إنما هي أسطورة، كأساطير الأولين. وقد نشرها بعض المنظرين، أمثال روني جيرار على أساس تخمينات محضة، وفرضيات فرويدية حول "طبيعة" إنسانية وحيدة و بيولوجية للأخذ والحاجة....
سؤال: في هذه النقطة بالذات، و على ذكر روني جيرار و نظريته في العنف و علاقته بالمقدس، أريد أن أسألك عن علاقتك بهذه المرجعية سيما و أن المتتبع لأبحاثك و كتاباتك و خصوصا تلك المتعلقة بالطقوس و بالأضحية يسجل غياب هذه النظرية التي قامت هي بدورها على تفسير معين للعنف و لطقوس التضحية، و ربطت ذلك بتكوين الجماعة لهويتها سواء من الداخل أو في علاقة بالخارج و الآخر؟ فما هو سبب غياب هذا التفسير للعنف من مرجعياتك؟
جواب: تطرح علي سؤالا مهما، و بذلك تتيح لي فرصة توضيح موقفي النظري من هذه النظرية التي تفسر بدورها العنف و تركز على علاقته بالمقدس. هناك ثلاثة جوانب في تنظيرات روني جيرار للعنف:
الجانب الأول هو التنظير لدور العنف في التاريخ وفي سيرورة المجتمعات. وإذا أردنا أن نلطف العبارة فلنقل "سيرورات "، لأنه يصعب على أي كان أن يرصد في نظرية عامة دور العنف تاريخيا وفي المجتمعات الإنسانية. وعلى كل حال، ركز روني جيرار، في هذا المجال أبحاثه، على ما هو معروف ومؤرخ له في مجتمعات عتيقة، وخصوصا في الحضارة اليونانية. وهنا تبقى أمثلته محدودة بالمجال الحضاري المرجعي لنظريته، أما بالنسبة للمجتمعات الأخرى البعيدة عن هذا المجال الحضاري و المختلفة عنه و التي درست من طرف الأنثربولوجيين، فإن نظرية روني جيرار تبقى محدودة. و قد بينت كيف أن تلك الأبحاث الأنثربولوجية تفند الفرضية القائلة بالعنف البدائي المعمم، و كيف أنها ترى أن لا أساس لها من الصحة.
الجانب الثاني: هو دفاع النظرية عن وجود العنف وحضوره في جميع المجتمعات والثقافات. و هذا، طبعا، أمر بديهي. و يمكن تلخيص أطروحة روني جيرار، على هذا المستوى، كما يلي: يسود في البداية، داخل الجماعة عنف معمم ودائم، لهذا فهو من صنف العنف الداخلي، أي ذلك العنف الذي يسكن في النفسية الفردية و الجماعية. ثم تظهر عادة التضحية بشخص ( عادة ما يكون أجنبيا أو غريبا أو أسيرا) تنسب له الجماعة جميع المساوئ والشرور، و جميع الخروقات التي يعرفها المجتمع، و التي يعتقد الناس أنها تهدد كيان المجتمع ( عبر تهديدها للمعتقدات والممارسات المتداولة والمقدسة)، إضافة إلى هذه الخروقات، قد تلصق الجماعة بذلك الشخص الكوارث والأهوال، كالأمراض والمجاعات، و الفياضانات، و الزلزال، و الانهزامات الخ. فيطرد المجتمع ذلك الشخص من المجتمع وينفيه أو يقتله
يتعود الناس لا شعوريا على هذه "اللعبة" تعودا تاما، و يتم، في زمان ما، استبدال الضحية البشرية بأضحية من الحيوان المدجن، و هو عند روني جيرار "تيس الفداء" أو الذبيحة
(Le bouc emmissaire)
أو كما يسميها جيرار الأضحية (La victime emmissaire ). ويجب التمييز، هنا، بين "لعبة" الأضحية الموجودة والشائعة سواء في الثقافات القديمة أو الجديدة، وبين رصد تكوينها كما تم و كما يأتي به جيرار. و هو ما يطرح إشكالات و تخمينات يصعب على الباحث قبولها كما تطرقت إلى ذلك.
الجانب الثالث: وهو الخاص بكيفية تعامل الثقافات مع مشكل العنف. وهنا أتفق مع جيرار على أن الدين هو المؤسسة الأولى ذات الأهمية القصوى في هذا المجال. فالدين هو أساسا تعامل مع العنف، حيث يوجهه إلى الأضحية أو القربان، وفي نفس الوقت يجعل الإنسان يعترف بذنب العنف ويخترع مؤسسات تبعده منه (العنف). وينبع هذا الطرح من أطروحات فرويد. و يذهب جيرار إلى أن هناك "لعبة" لأن المؤسسة الدينية التي تلعب الدور الأهم في هذا المجال هي مؤسسة الأضحية (Le sacrifice) وتقديم الأضحية استعمال للعنف، و لكنه، في نفس الوقت، "يلعب به" كما نقول في العامية المغربية، فيعدمه ويرسم طرقا أخرى للقوة الكامنة فيه، غير الطرق التي تؤدي إلى تخريب الثقافة والمجتمع. و يتعرف جيرار في المسرح التراجيدي وفنون أدبية أخرى على نفس الدينامية التي تعرف عليها في التضحية بالأضحية الخ. لكن هناك عدة مشاكل يخلقها هذا الطرح:
المشكل الأول: هو كون التراجيديا اليونانية تجسد العنف كناموس لسيرورة الكون وحكم الآلهة به. ويكون هناك ضحايا وليست ضحية واحدة، وتبقى السيرورة هي هي في إطار لا يتغير، حيث قامت الحضارة، حسب الأساطير الشائعة والمعروفة، عن طريق عنف بروميتوس الذي سرق النار من زوس ولعب به، في غفلة منه، وكل ذلك تم ضمن طقوس التضحية من أجل الغير( البشر). و نجد في هذا الموضوع تحليلات وافية في كتابات جون بيير فرنان و باحثين آخرين.
المشكل الثاني : هو أن الديانات السماوية "كثقافة" تجعل العنف في البداية، (وكما فعلت الثقافات القديمة كاليونانية، مثلا) كتضحية إبراهيم بالولد، أو تضحية المسيح الخ. و يرجع ذلك كله إلى "أمر الله"، وإلى السر الذي لا يمكن للبشر أن يحيط به. ولكن العنف هنا يجمّد /يجسّد ( برفع الياء). و تتكون بفضل ذلك مجموعات بشرية ودينية أكبر حجما من المجموعات القديمة و"الجاهلية" التي يتولد فيها العنف الذي يتجسد في الصراع على النفوذ السياسي والنفوذ الأدبي، بما في ذلك العنف الذي يستهدف تأويلا وتفسيرا وحيدا لمقاصد الدين. وتتولد عنه أيضا حروب طاحنة لازالت قائمة بين المجموعات البشرية الكبرى المنتمية إلى الأديان المختلفة. وهنا تصبح طقوس تقديم الأضحيات نفسها قاعدة وتحريضا على العنف. و جيرار لا ينتبه إلى ما أسميه بالتأرجح (L’ambivalence) المشتغل في قلب الطقوس، وفي تنفيذ أوامر الطقوس من طرف الأفراد والمجموعات البشرية. ولا ننسى، مثلا، أن العملية المسماة "بالحل النهائي" أي القضاء على اليهود وعلى أقليات أخرى( من بينها الغجر)، تلك العملية التي بلغت قمة البشاعة، نفذت من طرف الحكم النازي باسم تأويل خاص للديانة المسيحية ولمفهومي التضحية و الأضحية.
إذن فالدين ومؤسسة الأضحية وباقي المؤسسات الأخرى التي تنبع منها القوانين ونظم الدولة تحد من العنف وتنفيه ( عبر توسطات طقوسية)، ولكن هناك، دائما، هذا التأرجح، و هذا اللبس حيث نجد أن ما نسميه "قانونا" و "سلما" ربما يرى إليه آخرون أنه عنف وحرب قائمة عليهم و ضدهم. و يتوافق هذا التشخيص مع بعض أفكار صوريل التي أشرت إليها سابقا. و بالإجمال، يمكن القول إن هناك العنف المؤسس الذي يضع أسسا جديدة لتكوين المجموعات، ينتج عنه عنف المؤسسات التي تستدعي عنفا مضادا أو وسائل للاعتراف بالعنف ولإيجاد سبل للحد منه وللتغيير. وقد نرى الطريقة الأولى في طقوس المرور و في القلب الذي يحصل بمناسبتها، كما وصفت ذلك في كتابي الضحية وأقنعتها، وهي طقوس شائعة أيضا في المجتمعات التي درستها الأنثروبولوجيا. و أشرت إلى ذلك، بعد باحثين آخرين، في مقالتي الأخيرة:" أنثربولوجية الملكيات: الملكية المغربية نموذجا" حول النظام الملكي في إطار مقارنة النظم الملكية. و لا بد من التنبيه هنا بـأن العنف الممارس في طقوس القلب ضد العنف السائد يترك باب اليوطوبيا مفتوحا رغم أنه يخدم التوافق والخضوع إلى ما هو معتاد و تقليدي. أما استعمال العنف ضد العنف السائد فهو شيء تضاعفت ممارساته و التنظيرات له في أوروبا المسيحية نفسها رغم تضحية المسيح منذ ما سمي "بالنهضة" في أوروبا حيث تضاعفت الهجومات على نظم الحكم وملكياتها المستبدة، وبلغ استعمال العنف حد الثورة ونشرها في المجتمعات و الدفاع عنها نظريا وفلسفيا.
لقد أجبت بشيء من الإسهاب لأن السؤال حول علاقتي بأطروحات روني جيرار طرح علي بتكرار. و أظن أن أول مرة طرح فيها علي السؤال كان ذلك من طرف الأستاذ المؤقت إثر محاضرة ألقيتها في مؤسسة آل سعود بالدار البيضاء. و طبعا كان السؤال في محله وأجبت عنه. لقد وقفت على كتابه العنف والمقدس سنة 1973 أي قليلا بعد صدوره، وكانت لدي تحفظات على أطروحاته، ولهذا لم أستعمله في كتاباتي حول أضحية العيد ولعبة القلب في كتابي الضحية و أقنعتها، و هي نفس التحفظات التي أعبر عنها اليوم بتفصيل أكبر، بعد دراسة لمؤلفاته الأخرى.
و ما دمت أعطيت هذه التوضيحات في الموضوع، فدعني أتطرق إلى نقطة أخيرة في الموضوع. إن العلاقة ظاهرة بين الدين ومؤسسة وطقوس التضحية بالأضاحي من جهة، والعنف والقانون والنظم السياسية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يظهر لي أن نظرية جيرار عاجزة تحليليا في ما يخص النظام السلطوي، وخاصة في مجتمعات كالمجتمع المغربي. ف"الأضحية" تقبل بوضعيتها وبمآلها، لكن هناك متاعب في الطريق (كعمل الشيطان أو التردد) وهناك أيضا آلام الوالد وتنكره لحقه في الأبوة والحنان إلخ. وهو أيضا يضحي بكل هذا في سبيل الله، ويكون تحت أمره، و آلام الإبن، إلخ. و المهم هنا هو أن وجه التوفيق بين المتناقضات يكمن في وجه إبراهيم وليس في وجه الولد القابل لأن يكون أضحية. وطبعا بهذا يخترع أو يستنبط رمزيا أب جديد في وجه إسماعيل. والخطاطة هنا هي الخطاطة التوفيقية التي يجسدها الشيخ في المجال الصوفي وغيره. ويكون الشيخ قد جمع بين الأب و الإبن، والشيخ المربي والمريد (ومكان المريد هو الذي حل به قبل الشهادة له بالمشيخة) ومعلوم أن طرقا صوفية كثرة حاولت الجمع بين الأضداد كالغياب والحلول، الفناء والبقاء الخ
سؤال: لقد ركزت على توضيح بعض معالم هذه الجدلية المفتوحة من خلال استعراض نقدي لثلاث نظريات أساسية في الحقل يمثلها كل من) لوروا كورهان؛ ليفي ستروس؛ روني جيرار)، وبينت فيه مساهمة كل تنظير والمشاكل الخاصة به، ولكن الجدلية المفتوحة كما تمارسها وتنظر لها في أبحاثك، لا تقف عند حدود نقد الأساس الفلسفي لهذه النظريات و تحليلاتها الأنثربولوجية، بل تتعدى ذلك إلى إقامة حوار نقدي مع الأنتروبولوجيا التأويلية والرمزية...
جواب: نعم، باختصار، لا يمكن أن نركب أو نصالح بين الحدين في النظرية البيولوجية ذات الأساس الانتفاعي. فهذه النظرية لا تعترف بجدلية الحدين ،و الحاجة هي التي تدفع الإنسان إلى البحث عن الإشباع . وعندما يتم الإشباع يقف كل شيء. ولكن المشكل هو أن الإنسان يستمر في الطلب والنشدان حتى بعد الإشباع. ففي كل مرة، يتم اختزال كل عناصر الجدلية في عنصر واحد هو الإشباع.
أما في نظرية التبادل فهناك تواجد الأنا والغير، وبينهما توسط التبادل. و هذا مكسب نظري و منهجي مهم، ولكن توسط التبادل يصبح حدا عقلانيا وتجسيدا للعقل البشري. فالمشكل في النظرية الأولى هو أنها ترفع أحد الحدين؛ ومشكل الثانية يكمن في أنه رغم جمع الحدين وتوسط التبادل بينهما، يبقى العنف قائما.
أما نظرية روني جيرار التي تدعي أن طقوس التضحية استخلصت العبرة من العنف البدائي المعمم و حدت منه بإعطائه طابعا مقدسا، إذ مهدت حسب نظره للسلم داخل المجموعات المسيحية (وهذا نفسه معطى نسبي بدليل الصراعات الطاحنة بين الكنائس) فإنها عاجزة عن تفسير ظاهرة تاريخية كبيرة وهي كون الكنيستين الكاثوليكية والأروتوذوكسية أصبحتا ولقرون، بل وحتى زمن قريب، آلة حرب رهيبة ضد مجموعات ومعتقدات أخرى، منها المجموعة الإسلامية، ثم إنها لا تستند على ما يكفي من الوقائع و التحليلات الملموسة للمجتمعات البشرية لكي تكون عامة، اللهم إذا اعتبرنا المجال الحضاري اليوناني و اليهودي- المسيحي كافيا بوقائعه للحديث عن البشرية بمختلف دياناتها و طقوسها.
إن النظرية التي أميل إليها، هي نظرية فينومينولوجية رمزية تقول ب"جدلية" مفتوحة. و قبولها بهذه "الجدلية" المفتوحة، هو الذي يجعلها تدرك أن هناك إجراءات أخرى غير إجراء المفاهيم العقلية. و هي إجراءات لا تختزل حدودها في تلبية الحاجة، ولا تقول بأطروحة عقل بشري سرمدي أتى بالتبادل لحل مشاكل التناحر والعنف بين البشر، و لا تدعي أن تضحية المسيح قد وضعت حدا لمختلف أشكال العنف...
سؤال : أي لا تقول بوجود لاشعور بنيوي كوني( كلود ليفي ستروس)، و لا بمادية تحضر حاجتها و تغيّب رمزياتها ( أندري لوروا كورهان)، و لا تفترض نموذجا وحيدا يصدق على جل المجالات الحضارية و الثقافية( روني جيرار)...
جواب : نعم، فالنظرية الفينومينولوجية الرمزية تقول بأن المجتمعات البشرية تلجأ أيضا إلى إجراءات أخرى غيرا لإجراءات المفهومية؛ ومن بين هذه الإجراءات، ما يسمى بالإجراءات الدرامية، حيث تقوم المجتمعات بتشخيص ما يمكن أن يقع لو اختزلنا العنف في الانتفاع فقط؛ وما يمكن للعنف أن يكونه في غياب التبادل والعقل؛ وكل ما يمكن أن ينتج عن تلك الاختزالات من فيض للعنف وانتشار له. فما يمكن أن يحد من هذا الانتشار هو تجسيده، دراميا. و في هذا التجسيد يتم الجمع، بين االدوامة الدائمة للعنف داخل الاجتماع البشري، من جهة أولى، و الإمكانية المعطاة للبشر، للتحكم فيه بهذا القدر أو ذاك، من جهة ثانية. فالتجسيد الدرامي هو تجسيد لهذا التوتر الأساسي بين"قدرية العنف"، من جهة أولى، وطموح، بل إرادة الإنسان في التحكم فيه وتجاوزه نسبيا، من جهة ثانية. فلا يمكن أن نتصور أن التبادل يحد من العنف ويحل مشكلة الحرب، مثلا. و ستجد، دائما، نظريات تقول بأن الحرب تنجم عن التبادل الفاشل؛ و لكنها لن تفسر العديد من مظاهر الحياة الجماعية التي أشرنا إليها. إن ما أريد توضيحه هو التالي: إن نظرية التأويل والفهم الرمزيين للعنف تقبل بكون هذا الأخير يلعب و يمسرح ويشاهد؛ وبأنه يعطي للإدراكات على هذا الأساس. و ترى النظرية الفينومينولوجية التي أتبناها، أن المجتمعات، عبر و من خلال المسرحة، تعترف بالعنف وبوجوده؛ و لا تتنكر له، وتتعلم كيف تتعامل معه، وكيف تخافه. ولكن، نفس المجتمعات تتعلم أن التبادل محدود بالعنف؛ وبأن الحل الذي يمثله التبادل ليس حلا نهائيا، فهو أيضا، حل نسبي؛ وأن الحل الأمثل هو تحويل العنف الساكن في كل واحد منا و في النحن، دراميا. و هو ما يشكل نوعا من التحكم فيه عبر إعطائه للنظر وللمشاهدة، مع ما تفترضه كيفيات هذا العطاء من تشغيل لآليات النقد والتباعد و التأويل و إعادته، و حتى التطهير. ويتجلى هذا بوضوح، في دراما الطقوس، كما درستها مثلا في كتابي الضحية وأقنعتها...
سؤال: في العمق، تأخذ لديك الجدلية المفتوحة مضمونا تنظيريا و تحليليا، يركز على ما أسميته بالإجراءات الدرامية التي ينتجها المجتمع، و يعبر من خلالها عن ذاته في توتراتها ورهاناتها. وفي بحثك الرائد الضحية وأقنعتها درست إحدى الكيفيات التي أبدعها المجتمع المغربي لمسرحة توتراته وأشكال العنف المادي و الرمزي، لا أقول الطارئة عليه، بل القائمة فيه وفي مكوناته. و كانت فائدة البحث أنه أظهر إحدى كيفيات كتابة الجماعة لذاتها (كنحن ممسرح)، وكذب مقولة أن الجماعة لا لسان لها. فعبر علاقة الجماعة بتوتراتها وبكيفية عرضها وتنظيمها مشهديا، يظهر المجتمع أشكال العنف العاملة داخله والمحركة له، ومستويات ذلك: (علاقة شيوخ/شباب؛ رجال/نساء؛ كبار/صغار؛ علني/سري؛ سمو وتعالي/بذاءة وقذارة، الخ). وقد توسعت، فيما بعد، في هذا الإطار التحليلي ووسعت الخطاطة لتشمل النسق الثقافي-السياسي المغربي، في كتابك الشيخ والمريد حيث تعرضت لأشكال-مضامين العنف ولكيفيات اشتغالها الفارقي داخل المجتمع المغربي. لكن كيف تفهم وتحلل، على ضوء هذه الخلفية، الأشكال- المضامين الجديدة للدراما، إن لم نقل التراجيديا، التي أصبح يعرفها المجتمع المغربي بفعل التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تعمل داخله؟ أقصد دراما الهجرة السرية، و دراما هجرة الأدمغة، و دراما تدمير الذات والغير، سواء عبر التفكير في إحراق الذات أو في تفجيرها، و باقي الدرامات الأخرى، كيف تفهم تطور هذه الدرامية؟ إن الملاحظ المتتبع للمجتمع المغربي لا يمكنه أن يتجاهل أن هذا الأخير أصبح يعرف، بالإضافة إلى المواسيم التي يتم تجديدها و إحياؤها و احتوائها عبر عملية إعادة تأويل و تجهيز مادي و رمزي، مواسيم جديدة، أبرزها مواسيم الهجرة إلى الشمال - التي لا تزال تبحث عن روائيها و إن وجدت شخصياتها-. كيف تفهم و تحلل هذه الدرامية و إجراءاتها التي تكشف عن طقوس تشبه القديمة ( هناك "تضحية" و "أضحيات" و تختلف عنها في نفس الآن؟
جواب: سؤالك يثير مشكلة عويصة و مفتوحة.
أولا، يمكن القول إن درامية الطقوس هي شيء محدد، لأن الطقوس عمل يقوم به، دائما، الإنسان لأنه دعي إليه: "أقيموا الصلاة و آتو الزكاة". و طبعا، فإن الدعوة إلى القيام بهذا العمل هي دعوة للتخلي عن أعمال أخرى، لتدشين وتشييد الحدود بين ما ينبغي القيام به، وما لا ينبغي القيام به. والطقوس هي عمل يقوم بها الإنسان المصلي أو المضحي أو الصائم أو الحاج إلخ …لأن المشرّع قام به من قبل و حث عليه من بعد؛ و لابد من تقليد المشرع و اتباعه. ويأخذ التقليد، في هذه الحالة، معاني دقيقة. و يقوم الإنسان بالطقوس تنفيذا لأمر، و تقليدا لما قام به المشرّع، لكي تحصل الفائدة، وهي النجاة. ومن هنا نفهم أن للطقوس بعدين أساسيين: بعد التقنين الصارم، و بعد التكرار. علما بأني كنت دائما أنبه إلى أن التكرار أو إعادة الإنتاج ينبغي فهمه بمعنى خاص. فالتكرار هو إعادة إنتاج مستمر. فالقيام بالتضحية هي إعادة إنتاج للصورة التي في ذهني لما قام به إبراهيم و إسماعيل مؤسسا الدين الإسلامي و ثقافته حسب النص القرآني و تفاسيره. ولكن هناك دائما شيء آخر تأتي به عملية إعادة الإنتاج. فأنا أشتري الأضحية من السوق بثمن يحكمه قانون العرض و الطلب، و يسّهل الهاتف النقّال على الكسّاب أو الوسيط عملية تتبع ارتفاع الأثمنة أو انخفاضها، تماما، كما يسهلها على المشتري الذي قد يكون اقترض المال اللازم أو ادخره أو باع شيئا ليحصل عليه، فحين أنها( الأضحية) عرضت( برفع العين) على إبراهيم كفداء، أتى به ملاك. و أخيرا، فإن تلك الدرامية تكون دائما في حاجة ل"خشبة" أو "مسرح" خاص بها. فلكل الطقوس ساحاتها (أمكنتها ) و أزمنتها: المسجد للصلاة، و المصلى لصلاة العيد، و المدرسة لتعلم القرآن و العلم و طقوس إعادة إنتاج المعاني، و الساحة للاستماع للأمداح و قصص الأنبياء، و العاشر من ذي الحجة( عيد الأضحى) و في وقت الضحى، و من هنا كلمة الأضحية و الأضاحي، مثلا. في كتابي الأول، استعملت، الدرامية بهذا المعني الضيق، وحللت الأضحية ولعبة بولماين، انطلاقا من مفهوم الدرامية باعتبارها تعبيرا وأكثر، إنما تعبير وتشخيص متعالي ومقلوب في نفس الآن: الأضحية تشخص السمو، و اللعبة تشخص النزول إلى الأرض، مع ما يفترضه هذا النزول من عنف وتوتر. لكن عنف التشخيص الثاني (النزول إلى الأرض) هو المشتغل في عمق التشخيص الأول (السمو عبر الأضحية) لأن بناء القاعدة الاجتماعية انبنى على عنف هو الأمر بذبح الولد. وطبعا هو عنف تم تفاديه بفدية. لكن ما يمكن أن يقال هو أن العنف يعترف به، أولا، ويستبدل بشيء ثان، ثانيا، ولكن هذا لا ينفيه. وطبعا، فإن تشخيص العنف في المشهد الثاني هو تفادي للعنف في المشهد الأول. فكل مشهد يشتغل في عمق المشهد الأخر، حتى يمكن للعنف أن يشخص ويتفادى، ولكنه يبقى (العنف) فاعلا معترفا به.
فعبر التشخيص يتم استحضار ما يمكن أن يقع لو لم يتم تفادي العنف، و لو لم يتم الاعتراف به عبر تشخيصه. ويمكن القول إن هذه الدرامية كانت درامية خاصة في الضحية وأقنعتها. لكن ما كنت أفكر فيه، وهذا لم أكتبه آنذاك، هو أن تلك الدرامية الخاصة بالطقوس هي جزء فقط، (و لكنه أساسي لتأسيس المجتمعات) من درامية أعم هي درامية كل الرمزيات، بما فيها رمزية اللغة. و يهمني، هنا، أن أتوقف عند درامية اللغة و رمزيتها لارتباطهما الوثيق بالعنف.
عندما تتكلم، فأنت تحاول أن تعبر، وأن يكون تعبيرك، مشبعا و مقنعا. بمعنى آخر، تحاول أن يستنفد استخدامك للكلمات كل ما تيسر من إمكانياتها، و أن يتطابق التعبير مع المعبر عنه؛ أي هناك سعي من طرفك نحو كمال التعبير، لكن التعبير من حيث وضعه الأنطولوجي و شروط إنجازه لا يمكنه أن يكون كاملا.فالتعبير يتم دائما حسب مبدأ تنظيمي ينفي ويقيم الحدود. فأنت دائما تلجأ إلى النفي لتحدد. إن كنه درامية الكلام يكمن في جدلية الإثبات والنفي هذه، حيث يخدم النفي الإثبات: تطلب الكمال و تنتهي بالمحدودية. وهنا ينبغي التمييز بين النفي و العدم. فرغم بناء النظريات الوجودية لصرحها على افتراض العدم، فإن هذا الأخير صعب التصور، كما بين ذلك برچسون. لكن كلمات مثل: لا، لن، لم، يمكن فهمها حتى من طرف الطفل. فالنفي كمبدأ يمكن استيعابه لكن العدم لا يمكن استيعابه. إن ما يمكن استيعابه بالنسبة لاستعمال كل الرموز، هو فكرة النفي. و لا أريد، هنا، أن أدخل في التفاصيل. ما أريد أن أقوله هو أن الإنسان اخترع اللغة، واللغة اخترعت الإنسان. والعنف من حيث هو عنف، يفهم فلسفيا و أنتربولوجيا، انطلاقا من درامية اللغة البشرية، أي انطلاقا من الشرط الإنساني في علاقته بالخطاب. و لهذا السبب، يمكن أن يقال إن الحيوان و الطبيعة لا يعرفان العنف، كما بينت سابقا، و أن الإنسان وحده يعرف العنف لأنه كائن لغوي. يمكننا أن نقول، مثلا، عن شخص جرفته السيول نحو الوادي: إن السيول العنيفة جرفت فلانا بقوة لا تقهر نحو الوادي. و الواقع أن هذا الإقرار هو وعي و إدراك لحالة معينة و تصنيف لها، بالاعتماد على منظومة رمزية خاصة بالإنسان. إن العنف الذي ينسب إلى الطبيعة يرتبط، أساسا، بالإنسان ككائن متكلم، بل إن الطبيعة نفسها كمفهوم هي اختراع إنساني، يختلف من منظومة ثقافية إلى أخرى. و المثال الذي قدمته كاف لكي يفيد أن العنف خاص بالإنسان كإنسان ناطق. يعرف أرسطو الإنسان كحيوان ناطق. و عندما نقول الإنسان حيوان ناطق، فإنه لا يبقى حيوانا لأنه أصبح متكلما، و انفصل بفضل رمزيته عن الحيوانية، التي تظل، رغم ذلك، متربصة به عند حدود أو بالأصح عند تخوم شرطه الإنساني. ( و طبعا، هناك أشياء كثيرة معروفة عن الحيوانات كهيمنة الفحل على الإناث، و إقصاء الفحول المنافسة الأخرى، و ككونها تعيش في مجموعات محكومة بقواعد تخضع لها، و تكون فيها الرئاسة للفحل؛ و لكن المعروف عنها، أيضا، أنها لا تعرف الحرب بمعنى الإعداد للهجوم و الحشد و التعبئة بنية القضاء على الخصم، أو للهيمنة الدائمة عليه و الاستيلاء على ممتلكاته و استثمارها. فعندما يسد الحيوان حاجته يسكن و يترك المجابهة على عكس الإنسان.)
إن اللغة هي التي اخترعت الإنسان، وبالتالي يمكن القول: إن النفي هو المخترع الحقيقي للإنسان، مادام النفي هو حقيقة اللغة، و ما دام النفي يلبس الإثبات، أيضا. إن ما أجيب به عن سؤالك، هو أن الكلام العادي نفسه درامي بالرغم من عاديته هذه. يقال لك: لا تقتل؛ تجيب: لا، لا أقتل، لم أقتل، لن أقتل. لكن حول هذا النفي الذي يأتي ماضيا و حاضرا و مستقبلا، يطوف القتل و ينتصب كشيء قائم وموجود فعليا. فالقتل كأفق ينهي العنف و يتوّجه، يبقى حاضرا رغم أنه منفي. هذه هي الإجابة عن سؤالك: إن العنف ممكن إنسانيا لأن الدراما تسكن قلب اللغة والوجود الاجتماعي، بل هي قلبهما. إن العنف ابن شرعي لهذه الدراما بما هي نفي يبني الإرادة وينشد الاكتمال و لكنه يواجه واقع المحدودية، فينتهي محدودا. و من ثمة الطابع الدرامي و العنيف للوجود البشري. فالبناء الدرامي للاستكمالية يتجلى، من ضمن ما يتجلى فيه، في وجهي الكلام : الإثبات والنفي. و يمكن الانطلاق من هذا النموذج لتشخيص و تحليل ما تحدثت عنه قبل قليل، أي تلك الأشكال الجديدة للدراما كالهجرة السرية، التي تصل إلى حد المغامرة بالنفس و التضحية بها. هذا هو ما يمكن أن نعبر عنه بمنطق المغامرة بالنفس. هناك لدى المهاجر إرادة مغامرة هي بمثابة تسليم النفس إلى وضع يستحيل معه الاطمئنان على السلامة، وهو وضع الهروب في تلك الزوارق أو البطيرات ليلا الخ. و يمكن التعبير عن هذه الدرامية بالشكل التالي: أقعد، هنا؟ لا، لا أقعد، هنا؟ - و أنا، هنا، أتحفظ بعد الشيء لأني لا أعرف على وجه الدقة هل ما يقوله المهاجر السري، لنفسه يأتي من داخله أم من مصدر آخر؟- و لكن يمكن القول إن المهاجر السري، يحس بعنف الهنا و الآن و يفضل عليه المغامرة بالنفس. فهو يقارن بين عنفين ويفضل عنفا على آخر. وإذا أمعنا النظر، فإننا نجد أن دراما ذلك "الحرّاك" تتمثل في أزمة مقارنة بين ما يعيشه، هنا و الآن، و بين ما يصل إلى أسماعه عن طريق وسائل الإعلام و ما يراه في حيه أو مدينته. فينتج ذلك دراما تبين أن المغامرة بالنفس تتبث و تنفي، تترجم لجدلية خاصة: أنا لا أغامر بنفسي حيث أهاجر، و لا تساومني بنفسي هنا حيث أقعد. إنها دراما العلاقة بالواقع وبالأفق، بالهنا و الهناك، بالحاضر و بالمستقبل. وهذه الدرامية ( التوتر بين البقاء و الرحيل) ليست درامية طقوسية بالمعنى الإصطلاحي، ولكن التعامل معها أصبح شيئا فشيئا طقوسيا. و هي طقوسية فيها نوع من الاعتراف بالعنف، بل و حتى قبول به، باعتباره المنفذ الوحيد الممكن في مجتمع أبواب المساواة و التعويض فيه مقفلة بأقفال الاحتكار و اللامساواة. و لكن علينا أن لا ننسى أنه عبر ذلك العنف يتم نشدان حالة اكتمال تتجاوز واقع حال الإقامة هنا و الآن.
أما بالنسبة لدراما تفجير الذات وتدميرها، فهي حالة للنفي الجذري. فالخطاب السائد يقول: المغرب بلد التسامح؛ المغرب بلد يصالح العصرنة مع التقاليد؛ المغرب بلد الاستثناء. وطبعا، نجد في ثنايا هذا الكلام ما يلي: كن متسامحا، و كن عصريا، و كن تقليديا، و كن شابا؛ و لكن، في نفس الآن، لا تعمل، ولا تشارك، ولا تستفد من خيرات البلاد، ولا من ثمار الحداثة إلخ…كن هنا حيث نريد، و لا تكن هناك حيث تريد. و هذا أمر واقع، يقال و يعاش بطرق لا تعد و لا تحصى. و هذه أشكال و لا يتم التوقف،للأسف، عند مضامين العنف هاته. و لدي ثلاث ملاحظات بخصوص الدراما الثانية.الملاحظة الأولى تخص ما يسمى بخطاب الاستثناء: إنه حطاب واهم و مغالط، بل هو خطاب يولد عنفه إن لم أقل إرهابه: إنه "يغلق" الخطاب حول الممكنات و هذا هو عنفه؛ و الملاحظة الثانية تخص الخطاب حول الممارسات اليومية هل هو خطاب ناجح أم لا؛ و الملاحظة الثالثة تخص منظومة الدولة و برامجها و مؤسساتها، بما فيها مؤسسات الأمن الداخلي والخارجي التي تندمج في خطاطة ثقافية و رمزية سبق أن تحدثت عنها في كتابي الشيخ والمريد، وتطمح إلى الموازنة بين التوترات؛ كما أنها تشتغل بآلية سلطوية تدمج السلطة الرمزية. و طبعا، هناك العنف المتحدث عنه؛ وهناك الإقناع؛ و هناك الأشياء الأخرى التي تكون بين الإقناع والإكراه؛ وهناك أشياء أخرى أعبر عنها بتدبير التصورات. أما أشكال العنف الأخرى فقد بينتها في الشيخ و المريد حيث كانت التزكية والإقناع يعملان بدون آلة قمعية إذ لم تكن للشيخ إدارة أمن أو جيش. و طبعا، كان هناك في بعض الأحيان، استعمال للمريدين كآلة إكراهية، لكنه كان استخداما محدودا، فالأساس هو الإقناع والإرضاء والإغراء. وهذه آليات يمكن التنظير لها من زاوية العنف الرمزي. وبما أننا تحدثنا عن الدولة من منظور ضرورة أن تكون الدولة دولة مدمجة( برفع الميم الأولى و كسر الثانية)، وتعمل في أفق اكتمالية تخفف من حدة العنف، و توسع من مجال الإقناع أو الإغراء ( و لكن هذا نفسه لا يمنع من أن تصبح ساحة الإغراء والإقناع هي المجال الجديد لممارسة العنف وما يرتبط به من أنماط مختلفة للإكراه )، فإنه لابد من التأكيد على أن الرهان ليس هو القضاء النهائي على العنف من طرف الدولة. فهذا مستحيل، و لا سعادة أبدية على الأرض. لكن إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية الجدلية المفتوحة، فإننا سننتهي إلى القبول بنوع من النسبية و بالتعويض. وإن كنا نواجه، على مستوى التعويض، غموض المفهوم: فانا آخذ منك شيئا، وأعوضه لك بشيء آخر. و ما أعطيتك كتعويض ربما يفرحك، ولكنه لا يعوضك عما أعطيتني. فالتفاوت قائم ودائم حتى في التعويض!. ففي مجال التعويض، والإغراء على التعويض، والإكراه على التعويض حتى تقبل به بالصيغة التي اختيرت له، نجد دائما العنف النسبي مشتغلا.
وبما أن العنف النسبي يشتغل، باستمرار داخل هذه المستويات، فإنه لابد من المزاوجة بين نشدان الكمال، من جهة أولى، واستحضار أن الكمال يكون، دائما، نسبيا. لأن التعويض ليس هو التطابق التام بين الشيء المعطي والشيء المعوض له. فنحن نبقى دائما في سياق درامي، و لو على مستوى التعويض. ينبغي، إذن، قبول النقص مع عدم التوقف عن نشدان الكمال في تصور وتدبير المؤسسات و الموارد، و خصوصا مؤسسات الدولة و مواردها. لكن إذا ادعينا الوصول إلى الكمال، فإننا ننتج العنف الشامل الذي يعوض العنف النسبي. فكل اكتمال، أو بالأصح، كل ادعاء اكتمال يولد عنفه. و عندما نتحدث عن الاستثناء المغربي، فإنا نعلن اكتمال وانغلاق التجربة، وبالتالي لا يتم الانتباه إلى أشكال –مضامين العنف العاملة داخل المجتمع، و لا يتم الاعتراف بها، و لا يتم العمل علي تنسيبها. لنضرب مثلا، فنقول:إن للمتعلم، مقارنة بغير المتعلم، فرصا كثيرة للترقي الاجتماعي و لتحسين وضعيته، على الأقل من حيث المبدأ. فهذه وضعية تفاوت بين المتعلم و غير المتعلم. و لكن الفرصة أتيحت لغير المتعلم لكي يصبح، مثلا، لاعبا موهوبا مما جعله يحسن وضعيته الاجتماعية. ففي هذه الحالة نقول: إن باب التعويض فتح أمام هذا الفرد، و حول التفاوت الذي كان بينه و بين المتعلم إلى تفاوت نسبي. مما قلص من حدة العنف الذي كان يسم علاقتهما. فالتعويض لا يلغي عنف التفاوت، و لكنه ينسبه.
و لكن، إذا قلت: نحن بلد استثنائي، فإن هذا يعني أني لم أعترف بالتفاوت الموجود بين المتعلم و اللاعب، مثلا، و تجاهلت عنف التفاوت القائم، و أقفلت باب التعويض، أو أقدم حلولا وهمية لمشاكل التفاوت الحقيقية، و أدعي أني وجدت تعويضات، والحال أنها شبه تعويضات. و هذه هي حالة المجتمع المغربي. فتفجرات الدار البيضاء، فجرت ما لم يعوضه القانون بعد على مستوى التفاوتات الاجتماعية.
سؤال: ينتهي تحليلك إلى القول بضرورة فتح أبواب التعويض، على خلفية أن المساواة الكاملة مستحيلة، و أن المساواة الممكنة هي المساواة النسبية.و لا يمكن لهذه الأخيرة أن تكون ممكنة إلا في مجتمع ديمقراطي يسمح بفحص متبادل للتقديرات و الحسابات التي تكون هي أساس التعويض، أو بالأصح التعويضات. بمعنى آخر، يفترض تحليلك الأفق الديموقراطي (باعتباره ذاك الذي ينشد المساواة النسبية و التعويض) و في نفس الوقت، تحذر من الإفراط في التفاؤل بصدد الحل الديموقراطي الذي يمكنه أن يكون مجرد لعبة أو حيلة لسد الطرق الفعلية التي تؤدي إلى المساواة النسبية و التعويض. فتفصل الديمقراطية عن أفقها الطوباوي...
جواب: نعم، إنها نظرية اليوطوبيا المراجعة والمنتقدة بشكل دائم...
سؤال : مراقبة اليوطوبيا! كيف؟ هذه جملة تفاجئ و ينبغي أن نقف عندها بعض الوقت. إن اليوطوبيا في فهم الكثيرين بعيدة كل البعد عن أن تكون موضوع مراقبة، فبقدر ما هي معبئة كحلم، بقدر ما هي بعيدة عن الأعين، مثلا، فكيف تتحدث عن مراقبتها بالنقد والمراجعة؟
جواب: أقترح ممارستها ومراقبتها في نفس الآن. لهذا أتحدث عن يوطوبيا مراجعة. إذا لم تكن للمجتمع المغربي يوطوبيا، فإن هذا في حد ذاته يشكل استثناء، فلكل مجتمع يوطوبيا خاصة به أو يوطوبياته. ولا بد من وجود هذه اليوطوبيا أو اليوطوبيات لكي لا يكون المغرب استثنائيا. و آنذاك، فقط، يمكن للمغرب أن يكون استثنائيا بما يمكن أن يكونه حسب أفقه الطوباوي.
يمكن، مثلا، أن أتحدث عن يوطوبيا الانفتاح الكامل للمجتمع المغربي، وقبوله بالحرية الكاملة للمواطن في المعتقد. و هذا ليس سهلا، بل يظهر للعديدين مستحيلا: إنه مطلب طوباوي! فماذا ستفعل مع كل الذين يعتقدون بأن هذا المطلب مستحيل؟ و ماذا ستقول لكل أولئك الذين سيقولون هذه ردة يرد عليها بالجهاد والقتل؟ ماذا ستفعل؟
قد تقول: هذا الأمر يتطلب تحولا بطيئا جدا؛ ولابد أن تسبقه دراسات أنتروبولوجية و سيوسيولوجية تمهد له، و تجعلنا ندرك أهمة العامل الثقافي في ضمان شروط نجاح تحولات من هذا المستوى.
ويمكنك أن تقول: رغم كل شيء، فإن هناك تحولات بنوية اجتماعية وثقافية و اقتصادية يعرفها المجتمع المغربي قد تسرع من وتيرة هذا التحول الثقافي والفكري، ولكن لابد من إعطاء هذا التحول زمنه الضروري. و يمكنك أن تقول: إن الكمال هو ما وصلت إليه. وهذه هي الحقيقة النهائية. و لا ينقص سوى تنفيذها. وهذا ما قام به الحزب البلشفي، مثلا. فيوطوبيا الحقيقة المطلقة كانت هي اليوطوبيا الخاصة به. و لم تكن له آليات لمراجعتها ونقدها، و بالتالي، تحولت يوطوبيته إلى آلة قمعية كليانة. فكل الذين حاولوا أن يعيشوا أحرارا، سجنوا وتم ترحيلهم إلى المعتقلات (كولاك) ليتحولوا إلى أعداء مطلقين لليوطوبيا المطلقة.
إن مراجعة اليوطوبيا و نقدها، هو نشدان الكمال، و في نفس الآن، نقد هذا النشدان و مراقبته. علما بأن آليات النقد والمراجعة ينبغي أن تكون هي بدورها موضوعا للنقد و المراجعة؛ كما ينبغي أن تقبل بنسبية الإدراك والتشخيص. إذ يمكن للمراجعة و النقد أن ينتهيان إلى القول:هذا هو الاختيار الأصلح و الوحيد، و بالتالي، لابد من العمل ما يقتضيه والالتزام به. و هو الأمر الذي ينتهي إلى نوع من الفرض والإكراه على التبني. فيتحول النقد إلى آلة قمعية تسلطية. لهذا فأنا لا أفصل بين ممارسة اليوطوبيا و مراقبتها.
سؤال : انطلاقا من تحليلك لأشكال التعبير الدرامي التي عرفها ويعرفها المجتمع المغربي، تخلص إلى المطالبة بأفق أوسع هو الأفق الديموقراطي بمضمون اليطوبيا المراجعة التي تنشد الاكتمال و تفترض النقص في كل ما ينتهي إليه هذا النشدان. و من هنا الضرورة لا القصوى، بل المطلقة للنقد داخل المجتمع
جواب : نعم، لا بد من النقد و الحاجة القصوى له قائمة. فالأفق الديموقراطي متى ضمن شروط النقد هيئ ظروف ممارسة اليوطوبيا و مراجعتها، لأنها شروط تضمن حضور الخصوم مع ما يفترضه هذا الحضور من رهانات حول اللغة الواصفة و آفاق الواقع. و بالتالي، ضمن شروط إمكانية التحكم في يوطوبيا كل مكون أو فئة، على اعتبار أن يطوبيا المجتمع هي يوطوبيات و ليست بوطوبيا واحدة و وحيدة
سؤال: بمعنى آخر، أنت لا تتصور إمكانية حقيقية للمجال الديمقراطي بدون القول بنسبية الحقائق، وبالحق في نقدها و الاعتراض عليها؛ أنت لا تتصور إمكانية حقيقية للديموقراطية بدون رفع لإطلاقية الحقائق داخل المجتمع: تبدأ الديموقراطية، حقا، عندما يودع المجتمع بناء مفاهيمه السياسية على مطلقاته الدينية؛ و عندما يعتبر أن مستقبله هو مستقبل البناء الجماعي و العلني للأجوبة مع ما يفترض هذ البناء الجماعي( الديموقراطي) للأجوبة من مشاريع و برامج و بيداغوجية...
جواب : نعم، و ينبغي، أيضا، قبول توديع المطلقات بمعنى آخر. إن الخطاب، من حيث سعيه الأساس، هو سعى للاكتمال. و خطاب الديموقراطية يسعى، بدوره، دائما للاكتمال، و لكن هذا الأخير لا يتحقق إلا نسبيا. فكلما جاء خطاب يعلن: هذا نموذجنا النهائي للديمقراطية، إلا و تحول ذلك الخطاب إلى ممارسة عنيفة تريد تحقيق الهيمنة النهائية على كل الخطابات الممكنة، و احتواء كل الأجوبة و الاختيارات المخالفة، و فرض لغة واحدة، و تشخيص واحد، و أفق واحد. لهذا يتلازم قبول الديموقراطية بقبول نسبية الخطابات و محدوديتها، لغة و وصفا و أفقا، و إن تم، من حيث المبدأ، الاعتراف بحق كل خطاب في نشدان الاكتمال: إنك تطلب الاكتمال، وعليك، في نفس الآن، أن تحذر من كل خطاب يدعي الوصول إلى ذلك الاكتمال، لأنه بادعائه ذاك يلغي الخطابات الأخرى، و بالتالي العلاقات الأخرى الممكنة، بل و القائمة باللغة و بالعالم الاجتماعي...
سؤال: انطلاقا من تحليلاتك يظهر أنك تفهم الواقع الاجتماعي كما يعطي للإدراك، بأنه أقرب إلى "لعبة" مفتوحة، و لكن حقيقية ومجازية للمعاني والدلالات منه إلى قوانين صارمة و قارة. فما يجعل الواقع يقبل باحتمالات الممكن هو تعدد المواقع و المنظورات، و بالتالي الخطابات. فالواقع الاجتماعي لا يدرك و لا يوصف بكيفية واحدة، و ليست هناك لغة وحيدة. و تبدأ الديمقراطية عندما تتواجه هذه الخطابات و تتعارض، و تنجح في بناء مقياس مشترك، و إن لم يكن نهائيا...
جواب : أحذر من كلمة لعبة؛ يمكن البحث عن كلمة أدق…طبعا…أنا أرحب بتعبيرك. ربما بإضافة واحدة. وهي أن كل شيء وارد. و هذا ما تقوله، لكن مع العلم أن كل شيء وارد داخل الكلام [الخطاب]. ففي المجال الديموقراطي تكون الخطابات متداولة، والمناقشة مفتوحة. و لكن استعمال الرموز [الكلمات] غالبا ما يتم بوجهين: الإثبات و النفي. كل شيء مؤكد ومنفي، حاضر وغائب، و يرسم عبر هذه الكيفيات حدودا. و تعتبر هذه العملية من صميم تشخيص الأشياء أنتروبولوجيا. ونرى هذا جليا في كل الظواهر الدينية. فلا يمكن أن تشخصها إذا لم تستحضر العلاقة الآمرة المزدوجة: إفعل، لا تفعل. و هنا، تكتمل الصورة تشخيصا و تصنيفا و مسحا. و الأساس هو أن التشخيص يكون بالكلام. الذي ليس مسحا بالمعنى البسيط الذي قد يتصوره البعض، لأنه محكوم بمبدأ ناظم. فالكلام "أقنوم" و ليس مرآة عاكسة. إنه ناظم و منظم، يرتب، و يحدد، و لا يعكس الأمور كما هي بالمعنى الوضعي( حسب مذهب وضعي مسدود الأفق)، حتى لو قبلنا بفرضية الانعكاس المرآوي. إن الشيء المنعكس يكون، في تشكيلاته، عكس ما هو عليه فعلا: يتحول اليمين إلى يسار، و اليسار إلى يمين. فتتبدل المنظومة. فحتى المنعكس ينقلب. وكل قيمة تتحول. وبما أن اللغة محكومة بمبدأ "أقنومي"، فهي دائما تعكس الأشياء، وعند عكسها لها لا تكون هي هي، و إن كان لا بد من أن تكون هي هي، فستكون هي هي بزيادة، وهي "زيادة أقنومية". إن الأشياء التي تعطى في اللغة لا تعطى كما هي بل تعطى حسب نظام خاص، و بالتالي فإن النزعتين التجريبية والوضعية المحضة لا تكشفان عن أبعاد مهمة من الواقع الإنساني الذي يعطى في الكلام و الخطاب.
فالأشياء التي تعطى في اللغة تعطى على نحو يجعلها تتعدى دائما ما هي عليه في نقطة ما. فالأشياء دائما تخرج عن ذاتها في اللغة المنظمة والمصنفة. فللغة الواصفة والمرتبة بحسب مبدأ التطابق التام غير موجودة. و من هنا يكون الخطاب الذي يميل إلى الاكتمال في حاجة ماسة إلى التساكن والتجاور و التزامن مع الخطابات التي لها نفس طلب الاكتمال. و لكن حسب مبادئ منظمة متباينة. وبالتالي فوصفنا للمغرب كبلد استثنائي هو مجرد طريقة في التصنيف والترتيب تقوم إزاء توصيفات أخرى قد تقول المغرب ليس استثنائيا، و تسعى هي أيضا إلى ادعاء حقيقة حال المغرب. فإذا كان كل شيء واردا، فإنه يرد مع تفاوت في التشخيص، لا يأتي فقط، من 'أخطاء' بل يأتي، أيضا، من طريقة معينة في استعمال الكلام، و إنتاج الخطاب. فادعاء الاكتمال في التعبير يمنع من نقد الكلام. و الحال أن الكلام ليس مرآة تعكس الواقع كما هو، بل هو نقل له كما أعطي في إدراك مشروط بمقياس الترتيبات التي يقيمها، و ما ينبغي أن يكون موضوع فحص و إعلان هو هذا المقياس.
سؤال: الصورة التي يولدها تحليلك هي أن النقد المنهجي و السياسي للخطابات يتحول إلى صخرة تتكسر عليها الأمواج العاتية للخطابات المكتملة و المدعية للإطلاقية...
جواب: تماما، و لكن طلب الاكتمال يبقى مشروعا؛ و ما ينتهي عنده طلب الاكتمال هو النسبية المتممة بالتعويض، و أن نقبل أن الخطابات المتداولة لا تحمل الحقائق النهائية، بل حقائق بنيت على أساس ترتيب معين. فما تقوله هو ما بناه الترتيب. فليس الخطاب عاكسا، بل هو مرآة تصبغ التراتبية على الأشياء. و من ثمة يكون الكشف عن هذه التراتبية لمناقشتها و نقدها هو الصخر الذي ينكسر عليه كل ادعاء. إذا قبلنا بهذا المبدأ و عملنا بمقتضاه، فإننا نواجه العنف الذي يسكن كل اكتمال. و هذا ما ينبغي للمجتمع المغربي أن يقبل به، لا أن يكرر خطاب/أسطوانة الاستثناء. فلنبدأ أولا بفحص مقياس الترتيب الذي يجعل المغرب بلدا استثنائيا. ولنبحث عن أشكال-مضامين العنف الساكنة في قلب هذا الاستثناء.

عن موقع محمد عابد الجابري..



شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: