الفلسفة وامتداح الأناقة.

التصنيف


الفلسفة وامتداح الأناقة


ANDREA BALDINI



من إنجاز الأستاذين:

   آسفي

تميزت نشأة الفلسفة وتطورها بميزات متعددة، ربما يكون أكثر ما كان منها مشتركا بين أغلب الفلاسفة هو الافتراض الضمني أحيانا، والصريح أحيانا أخرى بأن الحقيقة لا ينبغي التماسها فيما هو مرئي، وإنما يتوجب البحث عنها في اللامرئي، الذي تم التعبير عنه بمفاهيم مختلفة ، تبعا للسياق النظري لكل فلسفة معينة، ليس هذا فقط بل إن قراءة الأساطير اليونانية أو مجموع الميثولوجيا الإغريقية شكل بناء جديدا لتلك القصص المروية على لسان الأبطال والشعراء في ملامحهم المعروفة، بناء تأثر إلى حد بعيد بهذه الفرضية، فلم يعد الأمر يتعلق بأحداث في قصص تعني ما تعنيه في ظاهرها، وإنما أصبحت تعبيرا رمزيا مجازيا عن حقائق عمل الفلاسفة وعلماء النفس والإنسان عموما على الوقوف عندها وتوظيفها كإجابات عن إشكالات فلسفية أو تفسير لأزمات نفسية، وكأن التفكير العقلاني الممثل في الفلسفة وحتى التفسير الما قبل عقلي الممثل  في الميثولوجيا يلتقيان كلاهما في الانطلاق من هذا الافتراض الموجه للبحث عن الحقيقة، وهو الافتراض الذي خلق ثنائية المظهر والجوهر / الظاهر والخفي / المرئي واللامرئي ... حتى لقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن إعادة نشأة الميثولوجيا في شكلها الموظف بكيفية عقلانية مع عالم النفس " فرويد " ومع الفلاسفة " هيغل " و" نيتشه " و" بول ريكور " و " موريس بلانشو " و " ميشيل فوكو " و " وجاك ديريدا " و " لوك فيري " وغيرهم ،  كل ذلك شكل بناء جديدا للميثولوجيا على مستوى التفسير والتوظيف على الأقل، ورسخ النزوع  إلى احتقار المظهر، وتوجيه البحث نحو الجوهر، والانتقال من المرئي إلى اللامرئي، استمرارا لمغامرة الفيلسوف " أفلاطون " في الانتقال من المحسوس إلى المعقول ومن المشخص إلى المجرد.

هكذا اعتقدت الفلسفة الكلاسيكية وعملت منذ زمن بعيد على احتقار الموضة والأناقة باعتبارهما تهتمان بالمظهر وبالمرئي البعيدين كل البعد عن الحقيقة التي هي مقصد الفلسفة ؛وقد استمر هذا الاعتقاد حتى مع فلاسفة كبار اهتموا بالإستيطيقا من قبيل الفيلسوف" إمانويل كانط" و " سورين كيركيجارد " وغيرهما . إلى أن جاء الفيلسوف الإيطالي  " أندريا بالديني ANDREA BALDINI" المولود سنة 1980 والحاصل على الدكتوراه من جامعة سيين بإيطاليا، وعلى دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة فيلاديلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية ، والأستاذ حاليا بجامعة نانجين بالصين، والذي ترتكز مقالاته وتعليمه على قضايا متعلقة بالإستيطيقا وبنظريات الفن.
ANDREA BALDINI
ففي رأيه أن أسلوب لباسنا يساهم في التعريف بنا، فقد كان جريئا في رأيه مثلما كان جريئا في كتاباته. فالأناقة في رأيه تضفي صفات النبل على الشخص الأنيق، وهو ما تفيده العبارة الفرنسية المشهورة : " إن الهندام السليم ضروري ومؤكد " .
يبدأ الفيلسوف "بالديني" حديثه عن الأناقة والموضة بذكر واقعة تعرض لها في الجامعة الأمريكية، حيث حضر بلباس أنيق وكانت المفاجأة أن سأله الأستاذ المحاضر : هل أنت ذاهب  إلى حفل زواج بعد المحاضرة ، وهو سؤال أدهش " بالديني " دهشة ذكرته بقول " أفلاطون "  بأن الدهشة تشكل بداية التفلسف " . فكان ذلك بداية تفلسفه في إشكال الفلسفة والأناقة والموضة ".
يذكر " بالديني" أنه كان في تلك الفترة طالبا في الجامعة أصغر من أستاذه الذي طرح  عليه ذلك السؤال ، وأن سؤال الأستاذ جعله حائرا ، فقد كان يعتقد أن البذلة الرسمية وربطة العنق التي كان يلبسها تشكل لباسا مناسبا ، بل وحتى ضروريا في الوسط المهني، فقد نشأ في إيطاليا وهي قبلة الموضة الرجالية التي كان فيها ارتداء البذلة أمرا معتادا لدى الرجال كيفما كانت مهنتهم أو سنهم. إلا أنه في المحاضرات الفلسفية في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن ارتداء البذلة الرسمية ممارسة معتادة بخلاف ما كان الأمر عليه في إيطاليا.
كان سؤال الأستاذ " لبالديني" ، والنبرة التي طرح السؤال بها عليه ، وما رافق ذلك من حركات تعبيرية، كان كل ذلك إعلانا عن استغراب الأستاذ وعدم استساغته للباس الرسمي " لبالديني " خلال حضوره لمحاضرته.
لقد كانت نظرة الأستاذ – يقول " بالديني " – تعكس استخفافه بالموضة والأناقة، وكأنها مجهود غير مفيد. فمثل هذه الأناقة في اللباس ليس لها مكانة في استعمال الزمن المكتظ لأستاذ الفلسفة.
يحكي " بالديني " الطالب الجامعي آنذاك ، أن جوابه على سؤال الأستاذ له كان هو : " لا يا أستاذي " ، وأضاف لقد كان الروائي " أوسكار ويلد " يقول :  »بأن ربطة العنق تشكل الخطوة الجدية الأولى في الحياة «، فقد كان " بالديني " يؤمن بأن أسلوب لباسنا يساهم في التعريف بنا . 
أوسكار ويلد
وهو بذلك مرتاح لوجهة نظر " أوسكار ويلد " فالأناقة تشكل بعدا أساسيا للوجود الإنساني ، فهي تعرف بنا على أصعدة متعددة ، وتمنحنا أشكالا من الرضا الجمالي اليومي.
ويضيف الفيلسوف " بالديني " أنه بذل جهدا للتعبير بلغة فلسفية مقبولة عن فكرتين بقيتا غامضتين في ذهنه ، أولاهما : أن الموضة بما هي أناقة تشكل عنصرا جماليا يكون مردوده إيجابيا على الشخص، وثانيهما أن الموضة تعرف بنا.
ويضيف الفيلسوف " بالديني " بأن مثل ذلك الحكم المسبق ضد الموضة لا يعتبر استثناء في الأوساط الفلسفية، فغالبا ما تكون مثل تلك الأحكام مشتركة بين أفراد هيئة تدريس الفلسفة، عرف ذلك عن الفيلسوف " سقراط " الذي كان دميما ، ولم يكن يهتم بأناقة اللباس ، فقد كان يلبس في كل الأيام نفس اللباس الوسخ المسمى بالطوج Toge، وقد عبر " أفلاطون " عن عدم اهتمامه بأناقة اللباس على غرار أستاذه " سقراط " . " فسقراط " وإن كان دميما في مظهره ، فإنه كان جميلا  في جوهره في رأي " أفلاطون " طبعا . فقد كان " أفلاطون " يعتبر المظاهر خداعة ، وأن الحقيقة تكمن وراء المظاهر ، وأن طريقنا إلى المعرفة هو عملية استكشاف تدريجية للحقيقة الخفية، وعبر الفيلسوف " سورين كير كيجارد " عن التشابه بين اللباس والإخفاء بقوله : "  من أجل أن نسبح يلزمنا أن نتجرد من لباسنا .... وللوصول إلى الحقيقة يتعين علينا أن نتجرد ونتخلص من لباس أكثر حميمية ، لباس من الآراء والأفكار الذاتية فنصبح عراة فكريا ، مؤهلين لمعرفة الحقيقة ، وإذا كانت الحقيقة عارية بهذا المعنى ، فإن طقوس اللباس ستكون بطبعها مضللة وخداعة ووهمية ".
يؤكد الفيلسوف " بالديني " بأن مثل هذه الفلسفات المشككة في قيمة المظهر قد اختارت ألا تهتم بالموضة والأناقة ، واستبعدت الأسئلة المرتبطة باللباس ، ويستغرب الفيلسوف " بالديني " ألا يهتم فلاسفة الفن والإستيطيقا أنفسهم بالمظهر، والحال أنه يفترض فيهم الاهتمام به وبالصورة إلا أنهم لم يقدموا أية مساهمة تذكر في تحليل مسألة الموضة وعادات اللباس.
يستغرب الفيلسوف " بالديني " كيف أن الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط " وهو مؤسس الإستيطيقا المعاصرة ، لم يخصص إلا تعليقا سريعا للموضة، فقد رفض أن تدرج ضمن التعبيرات المختلفة عن أحكام الذوق، فاختيار اللباس يقوم في رأيه على تقليد غير نقدي ، فهو اختيار لا يدخل ضمن الذوق السليم الذي يفترض فيه أن يكون أصيلا ، وهو ما يفسر كيف أن المفكرين في الإستيطيقا الذين جاؤوا بعده لم يفكروا في إثارة المشكل من جديد ، أو إعادة التفكير فيه بعد أن قال فيه الفيلسوف " كانط " قوله .
إن " بالديني " كفيلسوف لم يكن ليسلم بخلاصة ما انتهى إليه غيره من الفلاسفة ،فكان عليه وفاء للروح الفلسفية إعادة طرح الأسئلة لحسابه الخاص ، والتعامل بكيفية نقدية مع إجابات الفلاسفة وإن عظمت مساهمتهم في مقاربة الإشكالات المطروحة.
وقد كان الفيلسوف " بالديني " مؤهلا للقيام بهذا الجهد الفلسفي بحكم تكوينه الفلسفي من جهة ، وعلاقته الوثيقة كإيطالي بعالم الموضة الرجالية من جهة أخرى.
من هذين المنطلقين ، سيؤكد الفيلسوف " بالديني " بأن حكم الفيلسوف " كانط " بأن الموضة مجرد تقليد ، وأنها ليست تجسيدا لفكر نقدي ولحكم من أحكام الذوق السليم ، حكم يستدعي المناقشة.

يعترف الفيلسوف " بالديني " بأن المؤرخين وحدهم يستطيعون بيان ما إذا كانت أطروحة الفيلسوف " كانط " تصدق على موضة عصره ، ولو أنه يشك في ذلك ، أما فيما يتعلق بطريقة اللباس الموضوية الحالية ، فهو يؤكد أنها تحرص على أصالة إبداعاتها وتمنحنا متعة إستيطيقية جمالية ، وتساهم في تشكيل هويتنا . ويضيف الفيلسوف " بالديني"  بأن الموضة الخاصة بالرجال في القرن الواحد والعشرين قد تطورت حول فكرة " سبريزاتورا SPREZZATURA " التي أثرت بعمق في تصورنا الحالي للأناقة والإنتاج الرفيع والذوق السليم، ويرجع الاهتمام بمفهوم  " سبريزاتورا " إلى عصر النهضة في أوربا ويقترن باسم الكاتب " بالدسار كاستيغليون " في كتابه : LIVRE DU COURTISAN  كتاب رجل البلاط . وقد خصصه للحديث عن الرجل الذي يعمل في البلاط الملكي، وقد اعتبر  " كاستيغليون " " سبريزا تورا " واحدة من الخصائص الأساسية للشخص الجذاب ، والتي توحي أن منظره وفعله قد جاءا بكيفية تلقائية وبدون أدنى تصنع أو تفكير.
SPREZZATURA
وكما تفسر ذلك الأستاذة الجامعية " أوجينيا بوليسيلي " في كتابها عن " الموضة في الحداثة الإيطالية الأولى : من سبريزاتورا إلى السخرية البناءة ". فقد فرض مفهوم " سبريزاتورا " نفسه في معجم الموضة الخاصة بالرجال إلى درجة أنه أصبح المحرك لمصممي الأزياء ، فهذا المفهوم على عكس مفهوم الإنتاج الجماهيري الجاهز والموضة السريعة أصبح موجها للموضة ، فقد أصبح المصممون يعلون من قيمة الصناعات اليدوية الرفيعة المرتبطة بالخياطة وأصبح ذلك من ميزات الأناقة والأسلوب الرفيع . وفي هذا السياق فإن " سبريزاتورا " تعكس أصالة مزدوجة : أصالة على مستوى الشكل وأصالة على مستوى الإنجاز، وهو ما يضعف من ملاحظات الفيلسوف " كانط " حول الموضة، كما أنها أي الموضة بهذا التوجه تظهر العلاقة بين الممارسة اللباسية  والذوق السليم، وبين إبراز مستوى الحياة . فبالرغم من الرفض الذي قوبلت به الأناقة والموضة في تاريخ الفلسفة ، فإن أسلوب اللباس له دلالة فلسفية  وهو ما يستحق تحليلا أكثر عمقا.
SPREZZATURA
فعلى مستوى الأصالة الشكلية يرتبط مفهوم " سبريزاتورا " بالمظهر الذي كان مهملا، وهو يحرص بالخصوص على استعمال عناصر تبدو في الظاهر متفرقة ، ولكنها عبر تفاعلها ووحدتها تشكل مجموعا رفيعا متفردا وأنيقا . وعليه فإن أساتذة " سبريزاتورا " يجرؤون على تجميع عناصر لباس ومكملات وأكسسوارات جمالية لذلك اللباس كانت تدخل ضمن أخطاء الذوق  ولكن إعادة تشكيلها يمثل تجميعا أو بناء أصيلا تأتي مشاهدته ممتعة.
ويشكل رجل الصناعة الإيطالي الشهير جياني أنييلي Gianni Agnelli (1921-2003) مثالا تقليديا " لسبريزاتورا " ، فهذا الأب الروحي لأسلوب اللباس قد اعتبر من بين أكثر الرجال أناقة  في عصره، بل وحتى في كل العصور، وقد تميز " أنييلي " ببدلاته المصممة على مقاسه والرائعة الإتقان، بالإضافة إلى لمساته الخاصة ومكملات وأكسسوارات لباسه.
 Gianni Agnelli
بعض ما تميز به " أنييلي " في أسلوب لباسه يمكن أن يعتبر خروجا عن المألوف ، ولكنه على العكس من ذلك شكل أصالة المظهر عنده ، فقد كان مظهرا جذابا لا يمكن أن يمر أمامك صاحبه دون أن يثير اهتمامك ، كما كان من بين الاختيارات المميزة له هو وضعه لساعته اليدوية من نوع " كارتيي " فوق كم قميصه، وقد كان هذا الاختيار غير مألوف ، ولكنه كان يضفي  على أسلوبه في اللباس شيئا من الجرأة وكثيرا من الأناقة . ومن لمساته المميزة له أنه كان يعقد ربطة عنقه بكيفية خاصة به، وكان ذلك مخالفا للكيفيات التي تعقد بها ربطات العنق عادة، ولكن ذلك كان من عناصر الأصالة الشكلية لذلك المبدع.
 Gianni Agnelli
وإن هذا الشخص الذي لقب " بالأفوكاتو " رغم أنه لم يكن مسجلا في نقابة المحامين، كان من عادته ألا يعقد الأزرار العليا لقميصه، وهو اختيار كان من الممكن أن يعتبر مؤشرا على الاستخفاف بالأشياء والإهمال ، ولكنه كان في مقابل ذلك يدخل تحسينات تجعلنا نرى الأزرار شبيهة بالمجوهرات حتى أن صورة له في شبابه تصوره يضع ياقة قميصه فوق ياقة معطفه ،  وهو اختيار مثير يربطه البعض بالإضافات الغريبة المميزة لأسلوب حفيده.
فقد تميز هذا الحفيد هو بدوره في أوساط الموضة بلباس حذاء خفيف خاص مع البذلة،  وهي نزعة جديدة كان جده " أنييلي " قد ابتدعها، كما أن " أنييلي " هو أول من أدخل أحذية تسمى بالبوتين Bottine ضمن مجموع العناصر الشكلية للباس دون التردد في إضافة كتابات ومواد وألوان وأشكال غير مسبوقة إلى مجموع ألبسة الرجل الأنيق، وقد منحت كل تلك الإضافات لأسلوبه طابعا خاصا وجريئا بعيدا عن مجرد تقليد النماذج المنجزة سابقا.
ولبيان القيمة الجمالية، للأصالة الشكلية التي حملها " سبريزاتورا " في اختيار ما يتعلق باللباس يعتمد  الفيلسوف " بالديني " على تمييز وضعته أستاذة الفلسفة والإستيطيقا " يوريكو سايتو Yuriko Saito " التي تلتقي أعمالها مع تفكيره . ففي مقالها الصادر تحت عنوان " دور عدم الإتقان في الإستيطيقا اليومية " الصادر في مجلة الإستيطيقا المعاصرة سنة 2017. 
Yuriko Saito
أكدت هذه الأستاذة رأيها بالتمييز بين النزعة الإتقانية ؟ والنزعة غير الإتقانية على المستوى الجمالي الإستيطيقي. فالنزعة الإتقانية تعتبر الإتقان ما يكون خاليا من الأخطاء والعيوب، فيكون الإتقان بذلك استحقاقا جماليا، بينما النزعة غير الإتقانية بخلاف ذلك ترفض الإتقان، وتقول بقيمة جمالية لما هو غير متقن، وقد قدمت أستاذة الفلسفة " يوريكو سايتو " حججا لتدعيم النزعة غير الإتقانية، فعدم الإتقان يمكن أن يعتبر مصدرا لإغناء حياتنا الجمالية وتوسيعا لدائرة العناصر التي تخضع لتقديرنا، وتحويلا لعناصر غير معتادة وغير منظمة وغير مستعملة سابقا إلى عناصر جمالية ذات قيمة ، كما أنه يستدعي أكثر خيالنا تبعا للتعريف الذي أعطاه الكاتب والشاعر الإنجليزي" جوزيف أدسون " 1672/1719 للتجربة الجمالية باعتبارها تجسد متعة الخيال . وهي ترى أن غير المعتاد، لا الجميل فقط ، يعبئ هو بدوره ملكة خيالنا ويأسر عقلنا بكيفية جديدة دائما.
ويؤكد الفيلسوف " بالديني " أن هذه الحجج تسمح لنا بفهم كيف ولماذا تشكل الأصالة الشكلية منبعا للرضا الجماعي، فمكملات وأكسسوارات اللباس غير المألوفة والاختيارات غير المتفق عليها، والمعتمدة من طرف رجال يتقنون " سبريزاتورا " تفتح المجال لمجموعة  من الإمكانيات التي ستسمح لأحذية الشتاء القصيرة ، ولأزرار غير معقودة ، ولثني ياقات أقمصة، ولساعات اليد بأن تدخل كعناصر منسجمة ضمن الألبسة المعتادة . فالحضور غير المنتظر لمثل هذه التفاصيل يثير خيالنا، وإن مجرد نظرة خاطفة لا تكفي للإحاطة بجماليات مثل هذا التنسيق الذي كان غير معتاد قبل الجرأة على وضعه.
فعلى غرار الجمال الطبيعي الذي يتحدث عنه الفيلسوف " كانط " في كتابه : " نقد ملكه الحكم " تمثل الأصالة الشكلية ما يمكن للخيال أن يحققه دون ضغط أو إكراه باتباع بعض الغايات  التي هي جديدة بالنسبة إلينا والتي لا نمل من رؤيتها.
وفي المعنى الثاني للأصالة الإنجازية تضع " سبريزاتورا " في المرتبة الأولى العلاقة الضمنية بين اللباس وكيفية الوجود ، فالمعنى اللغوي لكلمة اللباس يظهر هذه العلاقة الخاصة ؛ فكلمة لباس تفيد في معناها الأول سلك تصرف كما يلاحظ ذلك " كاستيغليون " " فسبريزاتورا " لا تهتم فقط بما نلبسه ، ولكنها تهتم بالخصوص بالكيفية التي بها نلبس لباسنا.
والخلاصة بالنسبة إلى أتباع أستاذة الفلسفة " يوريكو سايتو" المعاصرين أن رجلا أنيقا هو من يلبس لباسه بكيفية متحررة واعية وبثقة وبتلقائية . والأناقة لا تصف فقط عناصر جمالية خاصة للباس معين، وإنما تحيل إلى نمط من الحياة والعيش، وإلى سلوك معين وطريقة في التصرف والفعل في العالم.
ويرى الفيلسوف " بالديني " أن الأصالة الإنجازية التي يتميز بها الرجل الأنيق شبيهة بالجدة في التناول التي نقدرها في الفنون المختلفة كالموسيقى والمسرح والسينما ، فنحن نعتبر إنجازا أصيلا كل إنجاز موسيقي أو مسرحي، وكل كتابة وتأليف تشكل فيها هذه الأعمال أمثلة صادقة للتعبير عن الذات.
فما نجده عجيبا في عزف المقاطع الموسيقية " لباخ " من طرف " جلين جولد GLENN GOULD " هو خلوها في الظاهر من كل الإضافات المصطنعة . " فجولد " يعزف كما لو كان يرتجل في نفس اللحظة، ويجعلنا نتوهم بأننا نسمع عزفا طبيعيا تلقائيا ، وهو في الحقيقة يخفي عشرات السنين من التمرين والحركات المتقنة.
كما أن الممثل السينمائي " روبير دونيرو " « ROBERT DE NIRO » عرف باهتمامه بالجزئيات والتفاصيل في عمله التحضيري لأدواره التي يلعبها، وإن المخرجين الذي اشتغلوا معه كانوا معجبين بتدقيقه في كل التفاصيل، ويعترفون بأن أدنى حركاته أمام الكاميرا تكون مدروسة بأقصى درجات الدقة، ومع ذلك فإن كل ذلك الجهد لا يظهر في إنجازاته التي تبدو أصيلة وتلقائية.

وعندما نشاهد " راجين بول " « RAGING BULL » الممثل نعتقد أننا في حضرة " جاك لاموتا " الحقيقي « Jake la Motta » وليس أمام ممثل يلعب دوره . وبتعبير آخر فإن التعبيرات الأصيلة تجعلنا ننسى بأن العازف يعزف ما هو مدون في قطعة موسيقية، وأن الممثل يشخص ما هو مكتوب في سيناريو معين.
فهؤلاء بقدراتهم الإنجازية يجعلوننا نتوهم بأنهم يرتجلون مقاطع أصيلة . وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجال الموضة ؛ ففي مجال الموضة ، لكي تكون أصيلا في إنجاز يتطلب منك ذلك أن تتصرف بكيفية تبدو فيها معبرا عن الذات، وفي نفس الوقت تلقائيا رغم  أن إنجازك كان ثمرة لعمل تم التحضير له بمنتهى الدقة والعناية.
فالأصالة الإنجازية التي يكشف عنها الرجال الأنيقون لا تتمثل فقط في البذلة، وربطة العنق، والحذاء الذي يلبسونه، ولكنها تتمثل كذلك في الكيفية التي يلبسون بها كل ذلك ؛ طريقتهم في الحركة والمشي والكلام وهم يرتدون تلك الملابس.
ويحذر المختصون في تصميم اللباس من بعض ما يقع فيه مصممو الأزياء تحت الطلب من أخطاء ؛ فلا يكفي نقل وتقليد أسلوب " أنييلي " لتكون أنيقا، فوضع الساعة فوق  كم القميص، وفتح أزرار القميص العلوية لا يعبر بالضرورة عن ذوق سليم ؛ فقد تحدث مثل تلك الحركات آثارا عكسية، فيأتي المظهر فجا وغير مقبول . فالفشل يتربص بالذي لا تكون لديه الهيئة أو السلوك الملائم، ولا يكون لديه التحرر المطلوب لارتداء لباس معين . فالأناقة تتحقق عبر اختيار ألبسة لا يبدو فيها تصنع أو تكلف، فتأتي طبيعية مستساغة بكيفية كاملة  من قبل من يرتديها.
كل هذا يقودنا إلى البعد الآخر للموضة، فهي ليست مجرد ممارسة جمالية مستحسنة  من طرف المشاهدين، وإنما هي إلى جانب ذلك نشاط به نعرف بأنفسنا، ونعيد التعريف بها وبالمكانة التي نحتلها في العالم؛ فاختيار بذلة ومعها أكسسوارات ومكملات اللباس المناسبة لها، واللعب على الألوان والمواد والأشكال، ليس مسألة مظهر ؛ إنه رهان للتعبير عن الذات يساهم   في تحديده اختيارنا لعناصر لباسنا ومكملاته المختلفة .
ومن هذه الزاوية ، فإن الأصالة الإنجازية هي شكل من أشكال القدرة على الإنجاز  التي عبرها تتحدد هوية النوع حسب التحليل الذي تقترحه الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة  " جوديت باتلر " « Judith Butler » . ومعلوم أن الفيلسوفة " باتلر " تنتقد الرؤية الماهوية للنوع، وترفض الحديث عن سمات وخصائص تحدد الهويات كالنساء والرجال. فهذه الخصائص بالنسبة إليها ليست ثابتة فالنساء كنساء لا يحملن سمات وصفات مشتركة تلازمهن منذ الولادة. فالصفات العامة المتعلقة بصفات كل نوع ، هي من بناء المجتمع تستبعد السمات العرضية وتبقي على السمات المشتركة  التي تشكل تصورنا للنوع . فصياغة مفاهيم النوع ومعايير انتمائنا إلى نوع معين ترجع في رأي  الفيلسوفة " باتلر " إلى مجموعة من الأفعال الإنجازية . فالنوع  بهذا المعنى لا يحدده من نحن، وإنما يتحدد عبر ما نفعله .
Judith Butler 
فبواسطة إنجازاتنا نحدد بكيفية متواصلة هويتنا الجنسية . وإن الموضة تمثل واحدا من تلك الإنجازات .
وفي تحليلها لأنظمة بناء الهويات تخصص الفيلسوفة " باتلر " عملية تفكير طويلة لأفعال التخفي التي يحرص عليها الأفراد . فعملية بناء الهويات لا تتلخص فقط في تشكيل النوع لها، فالصنف، والطبقة والعرق، وغيرها من المؤثرات، تلعب دورا حاسما في بناء الهويات. وإن موضة الرجال هي بدورها كالموضة على العموم تساهم في تكوين فرديتنا بمعناها الأكثر عمومية ؛ فالرجل الأنيق عندما يتفوق في أناقته ، فإنه لا يعطي تصورا عن ذاته فقط ، وإنما يبني بشكل معين هويته.
فعلى ضوء هاتين الخلاصتين يكون من الملائم – يقول الفيلسوف " بالديني " - فهم وتأويل ما قاله " أوسكار ويلد " وهو الروائي والمفكر الذي فهم أكثر من غيره البعد الفلسفي للأناقة والموضة ، إذ يقول :   » إنه ليس هناك إلا العقول الضعيفة التي ترفض الحكم على المظاهر، فلغز العالم هو المرئي وليس اللامرئي « .
ويختم الفيلسوف " بالديني " أطروحته حول الأناقة والموضة بقوله : » يمكن للفيلسوف " سقراط " أن يلبس طوجته Sa toge المتسخة ، أما أنا فقد اخترت الحرير الأكثر بريقا « .
واضح أن الأمر يتعلق بخلاصة يؤكد من خلالها الفيلسوف " بالديني " حضوره الفلسفي الواضح؛ فقد جرؤ على إعادة النظر في أكثر الأطروحات رسوخا في تاريخ الفلسفة ؛  أكد على أن الموضة ليست مجرد تقليد، ونفى أن تكون خالية من الفكر النقدي كما قال بذلك الفيلسوف " كانط "، وتحدث عنها حديثه عن باقي الفنون كالموسيقى والمسرح وغيرهما ؛ بالإضافة إلى حديثه عن الموضة كتعبير عن الذات، ونوعية الوجود ، وكمكون من مكونات الهوية الذاتية للإنسان . هذا فضلا عن كون الفيلسوف " بالديني " قد أعاد للمظهر اعتباره كأساس في الحكم الجمالي والفلسفي . يتعلق الأمر بجرأة فلسفية كان مصدرها دهشة " بالديني "التي استشعرها عندما طرح عليه أستاذه السؤال عن أناقته : هل أنت ذاهب إلى حفلة بعد المحاضرة ؟ !
ينضاف إلى دهشة الفيلسوف " بالديني " وجرأته على إعادة التفكير في إشكال الأناقة والموضة من جديد ، حججه التي بنى بها أطروحته عن الأناقة والموضة . تحدث عن البعد الجمالي وعن المتعة الجمالية ، وتحدث عن التعبير عن الذات وعن تشكيل الهوية عبر المظهر، وهو ما جعل أطروحته تكتسي كثيرا من الجدة والأصالة ، وجعلنا نتنبه إلى مبحث فلسفي جدير بالتناول عن طريق الحوار والمساءلة والنقد والتفلسف، وهو مبحث الأناقة والموضة ؛ وهو تناول يجعلنا نعيد النظر في مجموعة من الثنائيات من قبيل المرئي واللامرئي ، المظهر والجوهر، الشكلي والجوهري، المشخص والمجرد، وإعادة طرح السؤال عن الحقيقة بين المرئي والخفي .
وأيا كانت نتائج التفلسف في هذا الموضوع، ووجاهة القول بأن المظهر يبقى في نهاية المطاف مجرد مؤشر على حقيقة أو حقائق يتعين الكشف عنها ، فإن الفيلسوف الإيطالي  " بالديني " قد جعلنا نتذكر بأن الفيلسوف هو المفكر الذي يعيد التفكير دوما لحسابه الخاص، وأنه لا مجال للحديث عن قضايا محسومة نهائيا .
ينضاف إلى ذلك أن أطروحة الفيلسوف " بالديني " تنبهنا إلى أهمية التفكير في موضوع الأناقة والموضة من الناحية التربوية انطلاقا من مفاهيم المتعة الجمالية والحكم الجمالي والتلقائية في الإنجاز، والتعبير عن الذات وتشكيل الهوية الذاتية . وهو ما يجعل تناول موضوع الأناقة والموضة في نظامنا التعليمي ومجالنا الثقافي، ومن ضمنه مقررات الفلسفة أو التاريخ أو التربية الوطنية ، أو الأنثروبولوجيا أو العلوم الإنسانية عامة، مفيدا لهيئة التدريس ، وهو تناول من شأنه أن ينقل طريقة لباسنا من التقليد والعفوية إلى الوعي والحرية والعقلانية.
فلا أحد ينكر بأن ظهور أصناف متعددة ومختلفة من اللباس في مجتمعنا الراهن قد أصبح مصدر إزعاج وقلق متبادلين بين الأفراد والجماعات ، والغريب أن كل فئة لا تتنبه إلا إلى  ما يزعجها ويقلقها دون أن تدرك ما تزعج وتقلق به بالمقابل غيرها .
فإذا كانت ألبسة الشباب خاصة في مجتمعنا مثل لباسهم " سراويل الجينز " الممزقة  أو الهابطة تحت الحزام ، وطرائق قص شعرهم البدائية المغايرة ، وإطالة لحيهم غير الموضبة ،  ولبسهم " ما يشبه اللباس الأفغاني ، وغير ذلك من الألبسة ومكملاتها غير المفكر فيها أو الموعى بها في أصولها ومرجعياتها ، تثير انزعاج وقلق البعض. فإنه من الأكيد أن هذه الظواهراللباسية لها مرجعياتها الثقافية أو السيكولوجية، أو مبرراتها الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها تبقى في نهاية الأمر صادرة  عن اختيار وحيد الجانب، غير متفهم لمبدإ وشعار العيش مع الجميع  Le vivre ensemble . وإن استمرار الوضع على ما هو عليه من تجاهل لكل مجموعة لمجموعات أخرى من شأنه  أن يزيد في منسوب الانزعاج والقلق ، إن لم نقل الحقد والكراهية ، اللذين يولدان كثيرا من أشكال العنف المباشر وغير المباشر، الرمزي والصريح.


وربما يكون من المفيد ، بعد الانتباه إلى أن موضوع اللباس والأناقة والموضة يهم المجتمع ككل، إدراج هذا الموضوع ضمن مقررات دراسية ومنها المقررات الخاصة بالفلسفة . ومن الأكيد أن الوقوف عند الأبعاد التاريخية والجمالية والسيكولوجية والسوسيولوجية والاقتصادية والثقافية والفلسفية للباس، يمكن أن يكون مدخلا لصياغة عقد اجتماعي جديد يتم فيه التوافق         على عتبات الاختلاف التي يؤدي تجاوزها إلى إخراجنا عن ذلك التوافق .
ومن الأكيد أن المعرفة، ومعرفة الآخر بالخصوص، تشكل مدخلا أساسيا للارتقاء  إلى التوافق على مثل هذا العقد الاجتماعي الذي نحن في أمس الحاجة إليه.
والخلاصة أن مقاربة الفيلسوف الإيطالي " بالديني " لموضوع الفلسفة والأناقة والموضة كشفت عن جوانب فلسفية عميقة في موضوع الأناقة والموضة، وساهمت في توسيع مساحات الفكر الفلسفي لتشمل موضوعات كانت غير ذات قيمة فلسفية في التصورات الفلسفية الكلاسيكية، كما أبانت ما يمكن أن يكون للفلسفة من أدوار في فهم ومعالجة بعض مشكلاتنا التربوية والاجتماعية والثقافية والجمالية.
المرجع :
«  Philosophie Magazine » mensuel  n° 130 . Juin 2019 – France . PP : 29,30,31,32.


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: