هل التفلسف غاية أم وسيلة ؟

التصنيف



هل التفلسف غاية أم وسيلة ؟








هل التفلسف غاية أم وسيلة ؟
المتتبّع للمشهد الفلسفي بالمغرب يلحظ مُراوحة الفلسفة لمكانها الاعتباري من دون التقدم صوب تفعيل وأجرأة رهاناتها على أرض الواقع.وبين أرْضَنة التفلسف والتنظير الفلسفي (المأمول المُنتظر من الفلسفة) مسافة تُبقي التفلسف ضمن دائرة ما يجب أن يكون وليس ممارسة التفلسف كضرورة وجودية تُجسد فعل التفلسف بدل الدوران في الحلقة المُفرغة للتفسير والشرح والتعريف.
إضافة إلى هذا الركود الفلسفي الذي بقي سجين ثقافة التعريف وإعادة التعريف،والذي من شأنه تعطيل الفلسفي وشكلنته في " عناوين " من دون رهان تفعيلي وفعلي(وهناك من يُحاج على أن مفعول الفكر ليس هو مفعولات السياسة والاقتصاد.أقول لا خلاف، ولكن نحترم وظيفة الفلسفة وفق الراهن.) ، نلحظ ظاهرة تنميط أدوات التفلسف ذاتها وتحويلها إلى مجرد غايات في ذاتها، لتتحول الفلسفة ورهان الفعل الفلسفي إلى شعارات للإستهلاك هي أقرب للإشهار والوعظ والإرشاد منها إلى الدعوة إلى إعمال الفكر في الموضوعات كممارسة فلسفية يومية وليس مناسباتية.نذكر على سبيل المثال السؤال الفلسفي والنقد بخلفية فلسفية.يسود اعتقاد لدى كثير من مدرسي الفلسفة أن الفلسفة تهتم ب" السؤال " أكثر من اهتمامها بالجواب.وأعتقد أن هذا القصور راجع إلى التعامل الانتقائي الشذراتي مع بعض المفكرين من أمثال كارل ياسبرز الذي قال :" ماهية الفلسفة هي البحث عن الحقيقة وليس امتلاكها،والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، وكل جواب يتحول إلى سؤال جديد." قد تتحوّل هذه الشذرة، إن لم تُفهم في سياقها،إلى عائق أمام ممارسة التفلسف باعتباره أشكلة للموضوعات في أفق إيجاد حل لها وتحقيق كينونة الكائن في الوجود بما هو وطن للعيش الكريم والتعايش مع الأخرين بما يؤسس لحياة تستحق أن تُعاش وفق قيم الحرية والعدالة والإنصاف...بالمحصلة ليس السؤال الفلسفي " لعبة فكرية" نمارسها من أجل تحقيق "مُتعة فكرية" إلى ما لا نهاية !!!! السؤال المنسي، كيف نعرف السؤال الحقيقي من السؤال المزيف ".صحيح السؤال الفلسفي آلية فكرية تفصح عن نقص وفراغ، وبالتالي فالسؤال عموما يطلب ما يُكمّله،لكن من دون ربط السؤال بالجواب نكون بصدد " سفسطة " كلامية تُبعد التفلسف عن تغيير الواقع بتغيير العقول.هذه هي الحلقة المفقودة في مقاربة السؤال الفلسفي، حلقة تضمّن السؤال لإمكانية الجواب، وواهم من يفصل بينهما،اللهم إن كان يستوطن سماء المعقولات. أعتقد أن ما يروج في الساحة الفلسفية حول طبيعة التفلسف والسؤال الفلسفي هو تنميط للتفلسف في مجرد تقنيات وآليات مفصولة عن الواقع وعن حياة الأشخاص المتفلسفين والأشخاص المعنيين بتوجيه السؤال إليهم.وما أكثر القضايا الساخنة التي يعرفها المغرب والتي تقضّ مضجع المغاربة في مختلف المجالات، ولكن غابت المساءلة الفلسفية ربما بسبب الاهتمام المعرفي الصرف، وكأنه لا علاقة بين الفلسفة والحياة، حتى السوسيولوجيين وعلماء النفس مع وجود قلة من الأنتروبولوجيين...سجنوا أنفسهم في قضايا " علمية" صرفة تخدم قضية الاسترزاق أو نشر " ثقافة السياحة الفلسفية" عبر مختلف المهرجانات الصالونية...والتي غالبا ما تطرح أسئلة مزيفة مما يترتب عنها أجوبة مزيفة.قال محمد عابد الجابري :" لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة..هذه الأخيرة أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية.وخطورة السؤال المزيف تكمن في أنه يستدعي جوابا مزيفا يثير بدوره مشكلة أو مشاكل مزيفة،ذلك لأن كل سؤال يُطرح وإلا يحمل معه مشروع جواب.(كتيّب " مواقف"ع 28.2004.ص 6)

إذن هل ساءل "التفلسف المغربي" واقعه الراهن، معرفيا وسياسيا واجتماعيا...؟ هل بالفعل خرج " المُتفلسفون" من " حوزتهم الفكرية" إلى ممارسة تفلسفهم بالفضاء العمومي ؟أم مهمّة المتفلسف رسم " خارطة الطريق" على الورق للعامي أو المثقف أو السياسي..؟ ألم يحن الوقت لإعادة النظر في " مهمة الفلسفة ووظيفتها ضمن المعطيات الواقعية للمجتمع المغربي؟
أقترح الكشف عن الموضوعات التي  تستحق المقاربة الفلسفية وأن نهتم بها كجزء من المسؤولية الأخلاقية والسياسية للفلسفة تفرضها الحاجة إلى الفلسفة وفق الظروف التي يعرفها المجتمع المغربي؟ما الفرق بين الفيلسوف والسياسي المُحترف؟كيف يتعامل عموم الناس مع المحلل السياسي/الإعلامي الذي يُطلّ يوميا عبر القنوات الفضائية ،والمفكر الفيلسوف حين تُتاح له الفرصة للحديث عن هموم الناس ؟هل الفلسفة التطبيقية  أو فلسفة الفعل مُمكنة في مجتمع تسود فيه نسبة كبيرة من الأمية والتفكك والتوجّس من الفلسفة مع أدرع طويلة لأعداء الفلسفة في مختلف القطاعات ومنها قطاع التعليم نفسه !!!!، مجتمع نجحت طبقته الحاكمة في الحفاظ على وثيرة التدجين الممنهج؟ ألا يستحق الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المُساءلة الفلسفية،أم هذه الأخيرة حُكم عليها أن تبقى تدور في فلك تاريخ الفلسفة وسلاطينها واجترار ما قيل هنا وهناك؟ وهذا الاجترار فيه كثير من الحيف والانتقائية، مثلا لماذا الاهتمام الزائد بهابرماس وليس فكر غرامشي ( وأيهما أفيد في مساعدتنا على مواجهة الصعاب التي تنهال على الطبقات الكادحة من كل الجهات)؟ ذات يوم كان يًُقال إن تاريخ العرب هو تاريخ الملوك والحاكمين وليس تاريخ المجتمعات بكل تنوعاتها، وهو ذاته يًُمكن أن يقال عن تاريخ  الفلسفة، أريد له أن يكون تاريخ أشخاص مفكرين ، مثلهم مثل شيوخ الفقه (رُوي عن..عن...عن....عن)، وليس تاريخ مشكلات فلسفية وقضايا توظّف لفهم الحاضر في حدود ما تسمح به مع إعطاء الأولوية لمفكري الحاضر في إيجاد طرائق التفلسف التي تتطلبها الظرفية والمستجدات، دون أن ننفي أن ماضي الفكر الإنساني " حالّ" فينا شئنا أو أبينا،" يسكننا" على نحو من الأنحاء وعلينا التعاطي النقدي معه.
من المواضيع المستفزة للنقاش:
1- كيف نفسر الهوة بين "الصحوة" البيداغوجية والفكرية والمعرفية لتدريس الفلسفة،وهذه الحركية الفلسفية (وإن كانت شكلية في عمومها) وبين التدني المُهول لمستوى المتعلمين، فكرا وسلوكا ؟ بل حتى لعموم الناس مقارنة مع مع سنوات ماضية؟ هي بالفعل إشكالية العلاقة الملتبسة بين الفكر والواقع، ولكن ما حدود دور الفلسفة في ردم الهوة بين الفكر والواقع ؟وكيف تصبح الفلسفة " شعبية " دون أن تفقد خصوصيتها (وإن هذه قضية خلافية ولكن تفعيل الفلسفة عبر التفلسف لا يُلغي الشك في فقدانها لهويتها حين تعانق مختلف هموم الناس وتساعد هؤلاء على الارتقاء الفكري والسلوكي) هل الأحكام التي تُشاع بين مختلف المدرسين حول تدنّي فكر وسلوك عموم المتعلمين صحيحة أم مبالغ فيها؟هل الاقتصار على توظيف الفلسفة في التقويم بمختلف أشكاله هو تضييع لفرصة إشاعة التفلسف بين عموم المتعلمين كضرورة حياتية/وجودية وليس كمرحلة ظرفية لاجتياز الامتحان الوطني!!!! (ألم تتحول الفلسفة عند المتعلمين إلى مجرد البحث عن مختلف التقنيات لكتابة موضوع إنشائي؟!!!!!! والحصول على أعلى نقطة جزائية؟؟؟؟)؟هل تم القيام بمسح حول موقف المتعلمين من مادة الفلسفة عبر ربوع المغرب؟ما تأثير ولوج تدريس مادة الفلسفة لكثير من التيارات الفكرية والسياسية المًُعادية للفلسفة؟ إذ كيف لرافض لروح الفلسفة أن يُقبل على تدريس الفلسفة؟ مدرسون من هذا الصنف يرفضون تدريس  " نيتشه"و" سارتر " .بدعوى أنهم ملحدون!!!ما المانع من التفكير في طرح قضايا تهمّ عموم الناس من زاوية فلسفية شريطة تشجيع المعنيين وتحفيزهم على الحضور والمشاركة؟ لكن هل فكّرنا فيإشكالية انتشار الأمية والعمل ميدانيا على القضاء عليها قبل التنظير لقيم الحداثة وأخواتها؟ متى نستفيد من الدرس الفلاحي: نقوم بإعداد وتهيئة الأرض قبل عملية الزرع؟
2- إذم ما هي مبررات غياب قضايا هموم ومشاكل الناس مع ظروفهم الحياة القاسية في معظم الندوات هنا وهناك؟ هل هذه الموضوعات الواقعية  تنقص من قيمة الفلسفة؟ والحالة هذه هل للفلسفة جمهور خاص من غير شعب الفضاءات العمومية والشارع العمومي( الاحتجاجات والاعتصامات والأسواق والحدائق....؟أليست هذه موضوعات فلسفية؟ألم يحن أوان الفلسفة في إحداث تغيير في الفعل والسلوك بعد سنوات من التنظير وإنتاج المعرفة؟ألم يحن دور الفلسفة في الانتقال من الفلسفة التأملية والاستهلاكية إلى فلسفة للفعل تهتم أيضا ب" الحدث" في علاقته بالشرط الثقافي-الفلسفي المُنير للفكر والسلوك؟على الفلسفة في أداء وظيفتها حسب الراهن العالمي والمغربي يجب أن تكون منحازة للمعذبين في الأرض وإلى حقّهم الإنساني في الوجود.كثيرا ما نسمع بمهمة أو دور الفلسفة في العلاج، السؤال ماذا تعالج؟اشتشهد المفكر عبد العزيز بومسهولي في كتابه" الفلسفة والحراك العربي...بالمفكر غيضان السيد علي قائلا:"...وأهم ما يميز الروح الفلسفية هو كونها تقوي إحساس الإنسان بمسؤوليته على مواجهة مشكلاته وأزماته وصراعاته، كما تساعده على بحثها وتنظيمها وإيجاد الحلول لها.الفلسفة لإذن تكْفُل تعَوُّد مواجهة المشكلات ومحاولة البحث عن حلول لها، وترفض أن يعيش الفيلسوف في برج عاجي في معزل عن الناس والمجتمع ومشكلاته ."(الثورة في الدرس الفلسفي في مصر .مجلة أوراق.2012).
قد يعترض البعض عن هذه المهمة للفلسفة، ويقصرها على وظائف منهجية ومعرفية في إطار تحقيق المتعة الفكرية والشعور براحة الفكر بعد التخلص من أنواع الدوكسا....، ويرفض الزجّ بالفلسفة في أتون الحراك الاجتماعي وتقلبات الفضاء العمومي، معتقدا أن الفلسفة ليست شأنا عاما، ومحاججا على أن الفلسفة قد تفقد هويتها حين تهتم بمشاكل" العوام"..أقول آن الأوان للدعوة إلى نقاش عمومي حول مهمة ووظيفة الفلسفة حسب مقتضيات المستجدات، سواء تعلّق الأمر بالدرس الفلسفي بالمؤسسات التعليمية أو بالنسبة لمختلف لقاءات الفاعلين الذين يتحمولون مسؤولية نشر الفكر الفلسفي لكن بأيّ رهان؟
وأخيرا، إذا أمكن تحقيق مهمة للفلسفة وفق مُقتضيات الراهن، فهذا يتطلب تجديد وتحيين الفلسفة ذاتها كي تغدو سلاحا نظريا يحقق البعد الفينومينولوجي لجدل الفكر والسلوك(تحفيز وتحقيق الإنتقال من التفسير إلى التغيير) .السؤال : مَنْ يتجرّأ على إنقاذ التفلسف من ضيق الفكر إلى " جرأة الموقف الفلسفي" بأسئلته الحارقة والمُحترمة لشرطها التاريخي؟
شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: