ملاحظات أولية حول الفكر العربي المعاصر.الحلقة الثالثة.إدريس بنسعيد.
(دروس من رحاب الجامعة 1977-1978)
الحلقة الثالثة:
(يدور الفكر العربي
بمختلف تياراته حول سؤالين أساسيين تسمح الإجابة عنهما بالقيام بتصنيف أولي داخل
هذا الفكر.هذين السؤالين هما:لماذا تأخّرناوكيف نتقدم؟)
كيف ساهم الطهطاوي في انفتاح الفكر العربي على الثقافة
الفرنسية بالخصوص؟ وكيف حاول تكييف التقدم الغربي مع الموروث الإسلامي والسياسي
لعصره؟
يعتبر كتاب
" تخليص الإبريز في تلخيص باريز"
1834 من حيث المحتوى بمثابة البداية الفعلية للفكر العربي المعاصر كفكر يهتم أساسا
بنظرية السلطة والتنظيم الاجتماعي. ويذهب المؤرخون في المعتاد إلى اعتبار حملة
نابليون على مصر والهزّة المجتمعية التي
صاحبتها، بمثابة المنطلق الأول لهذا الفكر. لكن الحملة لم تترك في الفكر العربي
الذي عاصرها إلا مجرد إنطباعات متعددة لم تَرْقَ إلى طرح مشكل النهضة بكل أبعاده
الحقيقية.وإذا كنا نتوفر على شاهد وملاحظ ذكي لحملة نابليون وهو المؤرخ المصري عبد
الرحمان الجبرتي في كتابه " عجائب الآثار"
فإن ذلك لا يسجّل إلا اندهاش المثقف العربي بداية القرن التاسع عشر أمام تقدم
أوروبا في كل الميادين، وحتى في ميدان العدالة والقانون.ولكن الجبرتي وقف من أوروبا
الغازية موقف المتعجب من تفوقها العلمي والرافض له في نفس الوقت، ونقرأ في حديثه
عن سنة 1798، وهي السنة الآولى للحملة الفرنسية" وهي
أول سُنن الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع والنوازل الهائلة، وتضاعف
الشرور وما كان ربّك مُهلك القوى بظلم وأهلها مصلحون." ولكننا لا نجد عنده تساؤلات حقيقية عن
الأسباب التي جعلت البلاد العربية الإسلامية هزيلة ومُفكّكة، ولا بحثا عن الأسباب
التي جعلت من اوروبا قوة متطورة، وهي من الموضوعات الأساسية التي ستشغل بال المفكرين اللاّحقين عليه مباشرة،
وبصفة خاصة" الطهطاوي".ويمكن أن نلخص الأسباب التي دفعت بحدوث هذا التحول في الفكر العربي
المصري بصفة خاصة، لقد كانت أسرة " محمد علي" في مصر تسعى إلى خلق دولة عصرية مستقلة عن الخلافة
العثمانية،إذ لا يربطها بها إلا رابط البيعة الإسلامية، وكان محمد علي يعتقد بأن
تنفيذ هذا المشروع لا يتحقق إلا بواسطة الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية. والبعثة
الأولى التي كان الطهطاوي إماما لها ذهبت
إلى فرنسا من أجل هذه الغاية، وسنجد الطنطاوي بعد عودته من أوروبا مُتحمسا لهذا
المشروع تحمّس المثقف اللبيرالي، ومتحفظا تحفّظ الفقيه الأزهري.
يُسجل كتاب " تخليص الإبريز.."
عددا كبيرا من الانطباعات الإيجايبة عن فرنسا ولكنه يدخلها وهو مُتألّم من خلوّ بلاد بلاد الإسلام منها. وترجع تلك
الإنطباعات إلى تنظيم الحياة المجتمعية والفكرية. والفرنسيون يهتمون اهتماما فائقا
بتنظيم الشؤون التعليمية...ويهتمون بالعلم والعلماء. يقول :" ...ثم إن الفرنسيين يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوّقون إلى
معرفة سائر الأشياء.لذلك تري أن لسائرهم معرفة مستوعبة لجميع الأشياء، حتى أنك إذا
ما خاطبك تكلّم معك بكلام العلماء، ولِمَ لمْ يكن لهم ذلك والعلوم في مدينة باريز
تتقدّم كل يوم، فهي دائما في الزيادة،فإنه لا تمضي سنة إلا ويكتشفون شيئا
جديدا.فهم قد يكتسبون في السنة عدة فنون جديدة وصناعات أو وسائط أو تكميلات.ولكل
إنسان من العلماء والطلبة والأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان
بباريز من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب،كما أن سائر الناس تعرف القراءة
والكتابة."
ويشهد الطهطاوي بأن كل مظاهر التقدم
الاجتماعية والاقتصادية التي يسهب الحديث عنها ليس سوى نتائج الأسباب التي قامت
عليها،وأدّت إليها بكيفية طبيعية،وأول
هذه الأسباب أو الشروط هي الحرية واحترامها.ويعجب الطهطاوي إلى حدّ كبير بهذا المبدأ الذي
يقوم عليه المجتمع الفرنسي، ويتساءل في كتب أخرى عن أسباب غيابه في المجتمعات
العربية،وفي مصر بصفة خاصة.يقول :"وهذه القضية
(أي الحرية) تكون من جوامع الكلام عن الفرنساوي،وهي من الأدلة الواضحة على وصول
العدل إلى درجة عالية، وما يسمونه بالحرية يرغبون فيه ولربّما هو ما يُطلق عليه
عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحرية هي إقامة التساوي والأحكام والقوانين،
بحيث لا يجُورُ الحاكم على إنسان بل القوانين هي المُتحكّمة والمُعتبرة."
في حديث الطهطاوي عن الحرية نجد تمثّلا واضحا
لفكر القرن الثامن عشر، وبداية تصور لنظرية السلطة والتنظيم الاجتماعي.وهو عندما
يقدم هذه الأراء فإنه يعلم جيّدا أنه يُقدّمها في ظل حكم عسكري واستبدادي،ولذلك
فهو يقدمها بأسلوب فيه الكثير من الغموض والتراجع، ونستطيع التعرف على آثار فكر
القرن الثامن عشر في فكرة النص التالي :"قد اطلعتُ على كثير من الأداب الفرنساوية من مؤلفاتها الشهيرة. وقرأتُ
أيضا كتابا يسمى " روح الشرائع" مؤلفه شهير يُقال له " مونتسكيو"،وهو
أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين.ويُلقّب
عندهم بابن خلدون الإفرنجي...وقرأتُ أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى عندهم
"عقد التأنس والاجتماع الإنساني" ومؤلفه يُقال له " روسو" وهو
عظيم في معناه. وقرأتُ في الفلسفة وتاريخ الفلاسفة المُشتمل على مذاهبهم وعقائدهم،
وقرأتُ عدة مواضيع نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة " فولتير""
لم يستطع الطهطاوي إخفاء إعجابه بالفكر
الفرنسي، وذلك واضح في تعليقه على كتاب " روح الشرائع"وتشبيه كاتبه بابن
خلدون.كما أن تعليقه المختصر على العقد الاجتماعي يدل على إعجابه بأفكار روسو
والتي سينقلها فيما بعد من خلال مواد الدستور الفرنسي، ذلك الدستور الذي يعتبره
أحسن ما وصل إليه التنظيم الاجتماعي، مع أنه لا يرتكز على أية ديانة من الديانات.
ونحن نعرف الآن أن هذا الدستور قد استلهم الكثير من مبادئ من أفكار مونتسكيو وبصفة خاصة من نظرية العقد الاجتماعي عند
روسو.يقول :" والقانون الذي يمشي علي الفرنساوي الآن ويتخذونه
أساسا لسياساتهم هو القانون الذي ألّفه لهم لويس الثامن عشر، ولازال متبع عندهم
وفيه أمورا لا ينكر أصحاب العقول أنها من باب العدل،وإن كان غالب ما فيه ليس في
كتاب الله تعالى ولا في سنّة رسوله لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من
أسباب تعمير الممالك وراحة العباد."
إن الحضور التاريخي لن يكون هو الصفة المميزة
أو الأساسية لفكر الطهطاوي، كما أم محاكمته للتاريخ لن تكون محاكمة تبجيلية،وإنما
تحاول أن تضعه داخل بعده التاريخي الحقيقي كما تحقّق، وعلى هذا الأساس فإنه لا
يتعامل مع الفكر اللبيرالي الفرنسي كعالم أزهري يمتلك الحقيقة، وإنما كملاحظ يحاول
أن يقتبس من الغرب ما كان في نظره صالحا،، لكنه لا ينظر لهذا الغرب كغرب واقع
وإنما كغرب إيديولوجي، كما أنه يتعامل مع المفاهيم التي أنتجها القرن الثامن عشر
كالعقل والحرية والعدل باعتبارهما مفاهيم كونية أنتجها التطور العام للفكر
الإنساني، ولذلك فإن نقلها من الغرب إلى الشرق سيساعد على اختصار مسافة زمنية
مهمة،إلا أنه لم يُدرك بوضوح العلاقة بين تشكّل هذه المفاهيم وبين التطور العام
للمجتمع. إن الغرب الذي يصفه الطهطاوي هو غرب العقل والحرية، وليس غرب الاستغلال
الطبقي والاستعماري، إنه لا يستطيع أن يتصور أن هذا الغرب سيكون غربا ظالما
ومستغِلا، ولذلك فلا غرابة في أنه يخصص صفحات طويلة للحديث عن ثورة 1830،ولا يُخصص
إلا فقرة واحدة لحدث مهم وقع في نفس السنة وهو احتلال الجزائر.يقول :"مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هي أمور سياسية،
ومُشاحنات بين التجار ، ومعاملات ومشاجرات وجدالات منشئُوها التكبّر
والتعاظم."
...إن قراءة كتاب "
مناهج الألباب"تعطي انطباعا واضحا عن الشخصية الفكرية للطهطاوي.لقد كان
مُنفتحا على الغرب باعتباره النموذج الأمثل في حدود ما ليس دينيا وإن كان في
مشروعه ككل لا يركز على القضايا الدينية إلا في المجالات التي تخدم فيها هذه
القضايا مشروعه العام.فهو عندما ينادي بتحرير المرأة وحقها في التعليم فإنه يستند
في جملة ما يستند إليه إلى الحجج الدينية التي تقف بجانب فكرة التحرر هاته دون
الدخول في جدالات فقهية...وهو في طرحه لقضايا النهضة وسبيل التقدم فإنه لا
يرى أنها تتعارض مع الفكر الديني، كما أن
حديثه عن المجتمع المصري لن يكون حديثا عن مجتمع إسلامي تكون صفته الوجودية الخاصة
هي الإسلام كما سنلاحظ مع مفكري التيار السلفي، وإنما يتحدث فقط عن مجتمع يدين
بالإسلام. وهكذا فإن الطهطاوي لم يضع التعارض بين الشرق والغرب كتعارض بين الإسلام
والمسيحية بالطريقة التي وضعت عليها فيما بعد على أيدي الأفغاني ومحمد عبده، ولم
يدخل في برنامجه الإصلاحي العام مهمة الإصلاح الديني بل نجده في مواضيع كثيرة من
كتاب " مناهج الأباب"أقرب إلى المفكرين الذين عملوا على تحديث وعقلنة
المجتمع العربي مثل فرح أنطوان وسلامة موسى،إلا أن أفكار الطهطاوي في المجتمع
والدولة لم تكن مجرد انعكاس أو سرد للفكر اللبيرالي، كما لم تكن فكرته عن الدولة، بالرغم
من ما شاهده في باريز ، فكرة لبيراليي القرن الثامن عشر، بل كانت الفكرة الإسلامية
المعروفة كون السلطة المطلقة للحاكم،إلا أن ممارسته إياها يجب أن يحدّ منها
احترامه للشريعة ولحراستها.وهكذا فإن الإصلاح لا يسعى إلى تغيير أساسي للمجتمع
وإنما يهدف إلى تكييفه مع مقتضيات العصر الحديث، ويمكن القيام بهذه المهمة بواسطة
نشر التعليم وتغيير مضمونه وذلك لإعداد المواطن في المستقبل لنموذج الحياة
اللبيرالية النيابية التي لا يتجاسر على المطالبة بها في أيام حاكم عسكري مثل محمد
علي.ولذلك فهو يطالب بإدخال اللغات الأجنبية في مناهج التعليم الديني وبصفة خاصة
الأزهر، كما يطالب بإدخال مواد جديدة تساعد المواطن على فهم مجتمعه.يقول :" جرت العادة تعليم الصبيان
القرآن الشريف في البلاد الإسلامية وكتب الأديان وفي غيرها قبل تعليم الصنائع وهذا
لابأس به في حدّ ذاته...فما المانع من أن يكون في كل دائرة بلدية معلم يقرأ
للصبيان مبادئ الأمور السياسية والإدارية ويوقفهم على نتائجها وهو فهم أسرار
المنافع العمومية التي تعود على سائر الرعية." وبالتالي فإن الفئة التي يهتم بها الطهطاوي ويعقد عليها
الأمال في القيام بإصلاح اجتماعي حقيقي هي فئة العلماء، وهو يُوسّع من معنى
العلماء، بحيث اقتصرت هذه التسمية منذ زمن طويل على علماء الدين فقط، وازدادت هذه
الحلقة ضيقا بازدياد الانحطاط الحضاري
والثقافي...لهذا فهو يطالب بتوسع مفهوم العلماء ليشمل الذين يهتمون بالطب والطبيعة
وبكل ما يطلق عليه إسم العلوم النافعة. ونلاحظ هنا تقدما كبيرا لم يعرفه الفكر
العربي منذ بداية عصر الانحطاط، وهو أن العلم لم يكتمل بعد ويمكنه أن يتقدم ويمكن
للأحجاث أن تتجاوزه، لهذا يرى ضرورة تكييف التقاليد العلمية الإسلاميةمع الظروف
الجديدة، وأكد على عدم وجود فرق بين الشرع الإسلامي الذي يقوم على العدل والحكمة
الإلهيين، وبين القانون الطبيعي الذي
ترتكز عليه قوانين أروربا الحديثة ما دامت هذه القوانين لا ترتكز على ديانة
معينة ولإنما تعتمد على العقل الذي كرّم الله به الإنسان كما يقول الطهطاوي.
إن مشروع الطهطاوي لتحقيق النهضة لم يتجاوز
تبرير مشروعية المقارنة بين عالمين مختلفين، وضع أوروبي يعيش الحرية والعقل ووضع
شرقي يعيش التحجّر والنقل مع تهميش العقل، وبذلك يكون الطهطاوي قد ساهم مساهمة
الرائد في تقديم الغرب للعالم العربي في أحسن حال وصل إليه الغرب تحت ظل مفاهيم
الثورة البرجوازية أي الحرية والإخاء والمساواة.لكن مشروع الطهطاوي يقوم على تركيز
القيم الثقافية والاقتصادية والسياسية اللبيرالية، لكنه لم يفهم الغرب كنتيجة
لتطور تاريخي بدأت تضيق فيه رقعة أوروبا وأصبح الإستعمار هو الحل الوحيد لضمان
استمرارية نمطه الاقتصادي والاجتماعي.كما أن الطهطوي يختصر التاريخ ويختصر العالم
في نموذجين متقابلين لا مفر لأحدهما للإقتداء بالآخر وهما الشرق والغرب.
في الحلقة الرابعة
الفكر السلفي الحديث
1-جمال الدين الأفغاني.
2- محمد عبده.
3- السلفية الجديدة مع
علال الفاسي.
0 التعليقات:
more_vert