الحراك الريفي من اليومي إلى الفلسفي.

التصنيف



الحراك الريفي من  اليومي إلى الفلسفي.





سألني أحد قُدامى التلاميذ سؤالا مُحرجا: هل يجوز أن نجد بين العيّاشة مدرسون لمادة الفلسفة ؟ قلتُ له ما مناسبة هذا السؤال وماذا تقصد بالعيّاشة؟ أجابني قائلا: كيف يصطف عدد من مدرسي مادة الفلسفة ضد مطالب مشروعة لمختلف الحراكات بالانتصار للجهة المسؤولة عن تردّي الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي..وكيف يستقيم الجمع بين واقع التهميش والتفقير وتلويث الوطن سياسيا وبيئيا ، مع التغني بالوطنية وحب الوطن؟.والخوف على الحاكمين والتشكيك في المحكومين؟ كيف لهم أن يُشكّكوا في الحراكات الاجتماعية ويُخوّنونها جاعلين من الضحية جلادا ومن الجلاد ضحية؟ألا يُناقض هذا ما درّسوه لنا من قيم فلسفية وأخلاقية وسياسية ؟...حاولتُ الإلتفاف على السؤال من خلال محاولتي التمييز بين تعيّاشت الفرد، وتعيّاشت الجماعة.(عاش فلان، عاش الشعب) ومن حق أيّ شخص التعبير عن موقفه بكل حرية مع تقديره للجهة أو الشخص الذي يٌقدّره ويحترمه .أحسستُ بأن السائل لم يقتنع بجوابي وكأني به يحسبني عيّاشا مُتحيّزا للطرف المسؤول عن الأزمة، مُعتبرا تبريري لها كونها تدخل في نطاق الحق في التعبير، أي موقف يساند تعياشت المخزنية (بالمفهوم العامي للمخزن )..افترقنا، وعاتبتُ نفسي كوني لم أكن جازما في إبراز أن الفلسفة تنتقد العيّاش " المخزني" المُساند للقمع والعنف والمُحرّض على الفتنة والمُخوّن للمختلف، مع أن  الفلسفة تُنصف العيّاش الشعبي المُطالب بحقوقه المشروعة سلميا ، ولنا في مثال فوكو وسارتر ودولوز وتشومسكي في أمريكا وسلافوي جيجيك في أوربا الشرقية....أقصد حين نزل الفلاسفة الفرنسيون  إلى الشارع مُساندين انتفاضات المهاجرين وانتفاضة الطلاب 1968. إن الفلسفة مع الحق والعدالة والقانون والإنصاف وضد أضدادها.وقد رُفعت لافتات فيي الحراك الريفي تنص علي المُطالبة بتحقيق هذه المفاهيم(المطالب) الحقوقية والفلسفية...وهي ذاتها فيي كل بقاع المعمور.

نشرتُ هذه التدوينة على صفحتي، وتدخل مدرس لمادة الفلسفة، وعلّق كاتبا :.
"لكن لماذا كان سقراط منتقدا للنظام الديموقراطي و كان أفلاطون يدعو الى دولة غير ديموقراطية؟؟ أعتقد أن الجواب يرتبط بالسياق التاريخي.... فأثينا شبه الديموقراطية كانت مهددة باسبرطة غير الديموقراطية القوية و الموحدة الصفوف عكس أثينا.. أما فوكو و سارتر فهم جاءوا في سياق الحربين العالميتين و ما بعده و كان همهما انتقاد الدولة الحديثة الصناعية التي تزعم العقلانية و ما جرت اليه من حروب طاحنة و استلاب ايديويولوجي".

  هذا التدخل يُغري بمتابعة النقاش، ويجرّنا إلى ترك ميادين الريف وولوج ميادين الفلسفة، فأجبته
   في نظري لا يجب الخلط بين الأشياء، والإنزياح عن مناقشة أساس تدوينتي والتي تثير إشكال انخراط بعض مدرسي الفلسفة ضد تيار الفلسفة نفسها إن صحّ هذا الافتراض، وهل من الممكن الردّ عليهم؟
لدي بعض الملاحظات:
   بخصوص استشهادك بسقراط وأفلاطون، هذا الاستشهاد مردود عليه،أولا مفهوم الديمقراطية الأثينية لها خصوصية تاريخية ارتبطت بالمجتمع العبودي، وهي تختلف من حيث أساسها وغاياتها عن مفهوم الديمقراطية كما تبلور في العصر الحديث ،ومن الممكن أن يتطور مفهوم الديمقراطية في القادم من القرون. أما كون أفلاطون كان يدعو إلى دولة غير ديمقراطية ينم عن قصور في ما كتبه أفلاطون عن مفهوم الدولة، وبعيدا عن نزعة " ويل للمصلين"، فأفلاطون تحدث عن المجال السياسي وبناء الدولة من خلال تطور فكره السياسي بين " السياسة" و" النواميس".فعادة ما يتم الوقوف على مواقف أفلاطون من خلال " السياسية" (التسمية الشائعة " الجمهورية") دون الاهتمام بمفهوم السياسية في النواميس (التسمية الشائعة" القوانين) ومن ثمة قراءة النواميس ستكشف عن تطور فكر أفلاطون السياسي ، وهي مزيج من حكم الطغيان ( الصرامة كما في النظام السياسي الإسبرطي)) ومن حكم الديمقراطية المُتجاوزة لنظام الإقتراع واستبداله بانتخاب الأشخاص الحاكمين تبعا لمؤهلاتهم الخاصة ( لاحظ معي تراجعه عن طبقة الحكام الفلاسفة وكيف تم استبدالهم ب" المشرّعين".ويمكنك الإطلاع على هاته الحيتيات من خلال المقارنة بين ماكتبه أفلاطون في " السياسية "(الجمهورية) والنواميس (أو القوانين) أو شراح فلسفة أفلاطون ....،وستجد أن أفلاطون طوّر موقفه من نظام الحكم ولكنه اعتبر نظام الحكم في " السياسة "مثلا أعلى يمكن تحقيقه أما نظام الحكم في "" النواميس" ( أو القوانين) فهو أكثر واقعية وعملية بحيث بني على أساس الواقع ووفق طبيعة النفس الإنسانية، وربما هذا له علاقة بتراجع أفلاطون عن نظرية المثل بسبب استحالتها منطقيا بحجة أن الجوهر لا يُمكن أن يكون نموذجا للنسخ بسبب أن المثال جوهر ولا ينقسم كي يحل فيي نسخ هي جزئيات متكاثرة كي تتحقق المطابقة بين الأصل والفرع،لأن الأصل جوهر غير قابل للقسمة..والقضية يطول شرحها...



   ومع ذلك يجب التمييز بين روح الفلسفة وبين مواقف الفلاسفة من إشكالات يتطور بشأنها التفكير من كتابات الشباب إلى كتابات النضج، ولكن الثابت في الفلسفة هو أنها مع الحق والعدل والمساواة والإنصاف ....وكل ما نعلمه للتلاميذ في درس مميزات التفكير الفلسفي (الدهشة والسؤال والأشكلة والنقد والعقلنة والنسقية......إلخ) يندرج ضمن القيم الفلسفية والحقوقية المعروفة وهي كما تعلم من شروط تحقق الشخص والمواطن...
   أما بخصوص حديثك عن فوكو وسارتر،أجد نفس الخلط بالنسبة لسقراط وأفلاطون. نحن بصدد الحديث عن مدى تضامن مفكرين مع الجماهير في الميدان كما على الورق، بغض النظر عن مبررات الدولة الصناعية الحديثة وما بعد الحرب العالمية...لا يجب تبسيط النقاش.تصوّر معي هل من المقبول خروج فوكو وسارتر وتشومسكي مع حراك عنصري فاشي نازي؟ هل من المقبول أن يخرجوا مناصرين لنظام ديكتاتوري استبدادي؟ ما المانع أن تكون الدولة الحديثة الصناعية (الدانمارك السويد كنموذجين) ديمقراطية، وحتى بيروقراطيتها حسب ماكس فيبر هي دليل على عقلانيتها في التدبير. القضية تتعلق بالإلتزام وهو شرط تحقق المواطن، والمقابل له هو " الانتهازية".وبالمناسبة لقد تم جلد بعض مثقفينا المغاربة وتمت معاتبتهم على عدم تضامنهم الميداني مع مختلف الحراكات بالمغرب، لن أنوب عنهم في تبرير مواقفهم، هم لازالوا أحياء ومن المطلوب الإفصاح عن موقفهم...سألهم المواطنون عن سبب عزوفهم عن المشاركة البيجسدانية ‘لى جانب من يدعون أنهم يكتبون من أجل توعيتهم والإرتقالء بمداركهم.ماذا لو تضامنوا فعليا ماذا سيخسرون؟هذا هو السؤال، سؤال أجرأة الإلتزام على أرض الواقع بعض أن ينضج على الورق.
لاحظ كيف خرجنا بالنقاش حول  العيّاشة من مدرسي الفلسفة إلى توثيق بعض المواقف الفلسفية والتفكير في إشكال العلاقة المُلتبسة بين الفكر والواقع.سؤال بسيط، هل أنتَ مع إمكانية اصطفاف مدرسي مادة الفلسفة مع نظام سياسي ضد حراك شعبي  خرج للشارع  لأسباب موضوعية باحثا عن عيش كريم؟ لم أسمع من ضمن الشعارات مثيلات لها رُفعت في دول الحراك العربي تُطالب بإسقاط النظام، وما هي إلا مطالب اجتماعية معيشية وحقوقية أقل من سقف مطالب حركة 20 فبراير السياسية الرهان والهدف، ونعلم أن جزءََ من الطبقة الوسطى تمّ بلترتها وترى في الحراك، بعد انسحاب الأحزاب والنقابات لأسباب معروفة،أملها في إسماع صوتها....السؤال ما الحل أمام واقع تدجين الأحزاب والنقابات ونزع أظافرها والعمل على " تخميلها " وحقنها هي الأخرى بفيورس " الريع"!!!؟
 أقول إن الثابت في الفلسفة وليس المُتغير من فيلسوف إلى آخر( من قبيل إذا كانت الفلسفة عقلانية من خلال إعمال العقل في الموضوعات...فكيف نجد مكانا لفلسفة بليز باسكال أو برجسون اللاعقلانية في هذا الثابث...وهذا إشكال يطول شرحه..)،هذا الثابت لخصه المفكر زكريا إبراهم في النص التالي :
قيمة الفلسفة في الحياة.
تختص الفلسفة بكونها روح البحث المستمر، والحرية الفكرية، والتسامح العقلي، والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين. والحق أنه لا تكون ثمة فلسفة ما لم يكن هناك شعور بالحرية، وإيقان بأن الحق فوق القوة، واعتراف بأن العلاقات البشرية ينبغي أن تقوم على التفاهم والتسامح، لا على التخاصم والتنازع. ولعل هذا ما قصده أحد المعاصرين حين قال :" إن الفلسفة لا تبدأ إلا حينما يتهيأ البشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدّة، لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودّة".
إذا كان للفلسفة اليوم، أن تقوم بدور فعّال في مجتمعنا المعاصر، فلا بد لكل منّا... أن يفهم أنه مواطن حرّ، وأن حرّيته لا تعني الانطواء على نفسه، أو قطع وشائج التواصل بينه وبين الآخرين، بل هي تعني الحوار مع غيره من أبناء الجماعة، وتحقيق المزيد من أسباب التفاهم بينه وبين الآخرين. وما دامت الفلسفة حديث الإنسان، وحوار المواطن الحر مع المواطن الحر، فلا يمكن للروح الفلسفية الحقّة أن تقترن بالتعصّب أو العداء أو الاستبداد بالرأي، بل لا بد من أن تكون حليفة الحرّية والتسامح والانفتاح وسعة الأفق.
زكريا إبراهيم. مشكلة الفلسفة. ص 258.159

من ينكر هذا الثابت في الفلسفة فليأتي بنقيضه. تحياتي



شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: