هل الإثم قضية فلسفية؟ إبراهيم محمود.

التصنيف


هل الإثم قضية فلسفية؟
بقلم:  إبراهيم محمود



يدرك المعنيون بالمسائل اللغوية والدينية أن (الإثم) مفردة تستخدم للتعبير عن نقيصة أخلاقية مرتكبة، فالآثم هو من يقوم بعمل مرفوض أخلاقياً، في وسطه الاجتماعي وبتأثير جملة الأعراف والتقاليد المرتبطة بالدين على مر الزمن، ويعني هذا أيضاً أن الإثم فعل فردي يحدث بلبلة في المجتمع الضيق (الوسط العائلي أو الجماعي المعين)، أو فعل جماعي أحياناً، يشكل تحدياً لما هو قائم، سواء كان سياسياً أو دينياً أو هما معاً وغيرهما. وهذا يعني أن الإثم أكثر غنى ً دلالياً من مفهومه السائد أو المتداول في التاريخ المدون، أكثر مما يعرف عنه هنا وهناك، وحتى أكثر حضوراً من جهة التأثير في الفرد والمجتمع أو النظم الاجتماعية والسياسية والمذاهب الدينية، فثمة تاريخ عريق له، وثمة (وهذا هو الأهم) ما يتطلب المزيد من المقاربة المفهومية بغية التعرف عليه أكثر، لكأن المتردد عنه يؤكد براءته مما عرَف به.
إذ منذ البدء يستشعر الإنسان إثماً تاريخياً أو صيّر تاريخياً ذا نسب ما ورائي (ديني المنزع) وهو الرحم الكوني للخطيئة، وأن عقوبة مؤبدة شملت بني البشر جميعاً بسببه، من خلال غواية آدم (أبي البشرية) والبادئة كانت حواء (أم البشرية)، وجاء الخطر المتمكن من الخارج، والجزاء جرَاء ذلك هو معروف: إخراج الاثنين من الجنة، وخسارتها إلى أجل غير مسمى، لا بل وإنزالهما إلى الأسفل. هذا هو ثمن الخطيئة أو الإثم: التعرض والخضوع لآلام لا تنقطع، وللموت بالتالي، الشعور بدونية المكانة، ولهذا يطأطىء الإنسان رأسه ويخفضه كلما استشعر إثماً، لكأنه ، بصورة رمزية، يعيد أسطورة الأصل، أو أسطورة العود الأبدي في الإثم،إذ أن حركة الرأس في رمزيتها تعادل الخروج من الجنة والانحدار من شامخ عال إلى خفض، بعكس من يمارس عملاً محبذاّ في وسطه، حين يرفع رأسه وينظر إلى الأعلى، لكأن في ذلك توقاً إلى المفقود، إلى ما وراء الأسطورة المتوارثة.
هذا ما يمكن ملاحظته من خلال ما هو معاش فيما بيننا، والبشر في تواريخهم المختلفة
ومجتمعاتهم المختلفة، لهم طرائق ومذاهب وتصورات وتقييمات للإثم، من جهة الاختلاف والمغايرة، ولكن المفهوم، ذاك موجود كعلامة فارقة تشمل الجميع.
ولكن الواقع التاريخي هل هو هكذا بالفعل؟ هل الإثم في صيغته تلك، كان طارد الإنسان من الجنة، وأن القيام بما يعتبر مرفوضاً من المجتمع بصورة مصغرة أو خلافها، يدخل في عداد الإثم الذي يعاقب عليه: القانون الديني المتبع أو الأخلاقي أو العرفي …الخ؟ ثمة أكثر من حلقة مفقودة في هذا التأريخ، لا بل وخطأ قاتل متكرر لا يتنبه له ، وهو أن تاريخ الإنسان بني على الإثم، وأن لولا الإثم هذا/ ذاك، لما كان هناك تاريخ بشري، إذ أن شعور الإنسان بالإثم في المنعطفات التاريخية الكبرى هو الذي شكل انتقالات من وضع فكري، اجتماعي، أدبي ….إلى آخر، وأن لولا الإثم المثار هنا، لما هذا الحديث عنه بالمقابل. كلنا إثميون، أو آثمون، ومتآثمون (تبادل الإثم) بمعنى ما أو أكثر،وأن من ليس يأثم لا يمكنه تحقيق كينونته البشرية، وهذا يعني ضرورة التفريق بين المعتبر مؤمناً بوصفه(الخالي) من الإثم، والمعتبر آثماً باعتباره خلاف الأول، فالمؤمن ليس المواطن الميتافيزيقي، إنما هو الأكثر احتواء بالإسطقسات (العناصر) التي تعرَف بالدنيوي، وتمهّد لما وراءه، والأكثر انشغالاً بالصيرورة والسيرورة في آن، طالما الإيمان هو فزَاعة الخائف مما هو فيه ، والارتحال في الكون بوصلة المسكون بالإثم الذي يجذره في حب الحقيقة التي تتجاوزه، وهو في إثرها، والباحثون عن المعرفة هم المؤمنون، هذا صحيح، ولكنهم المدركون لحقيقة ما يجعلهم كذلك، ويضحَون في سبيلها، وأعني بذلك: الإثم تماماً.
تاريخ الإنسان مبني عللا الإثم، ولولا الإثم لما كانت هناك ثقافة.
إن الحديث عن تاريخ الإنسان الفعلي، عما ينسبه إلى نفسه، تم تدشينه من لحظة تناول الثمرة المحرمة، كما هو معروف، لقد كان الحديث/ الكلام عن الشجرة المحظورة بغية التفكير فيها، وقد تحددت بالاسم، وتناول ثمرتها (أي تداخل الكلام والطعام) بداية تاريخ الإنسان الفعلي، حيث كان سابقاً في حالة عماء تاريخية، وما كان بالإمكان، في حدود المعلن ، الحديث عما سبق إلا في إثر الطارئ المرسوم إلهياً. لقد كان الإثم الفعل الكوني الذي يجمع
بين الشعور بالتحدي المقدر، وبالذات وقد أصبحت داخلية، أي ارتدَت إلى الداخل بتغطيتها، ولم يكن الطرد إلا عتقاً إلهياً فيما بعد مثلما أن النفخة الإلهية في الطين حمَلت الإنسان وطأة الطين أي إثمه في نسابته الإلهية، وأن النفخة هذه، حسب المعلن في النص الإلهي ستستحيل النفخ في الصُّور الإسرافيلي لاحقاً، في عملية إحياء جديدة لغائية جديدة، يكون للانسان فيها تاريخ طويل من الإثم، أعني التحولات التي لم يكن الإيمان المقوعد وحده الفعل المدشَن لها، إنما ما صير شبهاتياً بامتياز، وهو الإثم.. ولعل شعور الإنسان بالإثم التاريخي الخارق هذا، هو الذي يلح عليه بالنظر إلى الوراء وفيما كان مضاعفاً قدراته النفسية، بغية المضي إلى الأمام، كأن المضي هذا هو ماض معكوس، هو انعطاف كروي أرضي، فأن تنطلق في خط مستقيم، كما يعلمك إحساسك النسبي بالمكان، هو أن تمضي قدماً حتى تصل إلى بدايتك الأولى، فالقيامة وضع أفقي إلهي ، لحالة إنسانية أفقية. وهنا يكمن الوجه الآخر والمخفي والمضي أيضاً في الإثم والمتجاوز لما يقال أو يشاع عنه، إن شعورنا بإثم لم نرتكبه في عقوبة جماعية، كما ينص القانون الإلهي، ليس سوى التعزيز الجماعي لوعي جمعي وهو المتمثل في التقدم إلى الأفضل، عبر ارتكاب الإثم تلو الإثم، فإثمنا هو اسمنا، هو وسمنا الداخلي الذي لم نعتد التفكير فيه.
في التاريخ الديني بالذات، ألم يكن الأنبياء والرسل بالجملة، في البداية خارجين على القانون الجماعي، العرفي، مرفوضين، محاربين، متهمين بكل التهم التي تبيح ملاحقتهم والنيل منهم؟ في الإسلام كمثال أكثر معايشة، ألم يكن الإثم ثمرة الفتنة، والفتنة مفجَرة الصراعات بين الجماعات الإسلامية في ملليتها ونحليتها، وأن التدوين الذي حورب كان بدوره حرباً على الشفاهة، ونهاية لها، للبدء بالكتابة التي اعتبرت في أول عهدها مذمومة مأثومة؟ ألم يكن الشافعي الإثم في تخومه الصحراوية ، مثلما كان الحنفي الإثم في انبساطه السهلي، وهم يلتقيان داخل معطف دين واحد مفتوح على أكثر من اتجاه هو الإسلام، وكلما تقدمنا في التاريخ بدا الإثم أكثر وساعة بمكوناته ومقوَماته ولاتناهي عمقه وأفقه، وأن الحديث الذي يقول: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) يكاد يتساير عكسياً في عموم التاريخ البشري وليس الاسلامي وحده، إذا اعتبر أن الخلف يتماهي مع السلف في كل شيء، والتاريخ الذي يعرَفنا بمستجداته (محدثاته) أي: ابداعاته، يرينا الفارق الكبير بين
جيل وآخر، فأين الضال هنا، وأين المضل، وكيف يكون الإثم والآثم والمؤثَم هنا؟
وهل صحيح ما يقوله الشاعر:
شؤبتُ الإثم حتى ضل عقلي ****كذلك الإثم تذهب بالعقول.
والإثم هنا هو: الخمر، وهي ليست كذلك ، إلا مجازاً، أي اعتبرت الخمر إثماً وفق النظر الفقهي إليها، بينما هي لن تنقطع، إلى درجة أن الخمر عدت المادة الأكثر إثارة وأثيرية ليس عند المعتبرين نهابي الملذات كـ"" أبي نواس"" وجماعته، وإنما جماعة المتصوفة ممن يجاهدون باستعارة الخمر لمفارقة وعيهم اللائكي (الدنيوي) ومعانقة وعيهم المرغوب فيه وقد توحدوا مع ذات ربانية سامية (ليس أحمد الخاني آخرهم بالتأكيد)؟إن شارب الإثم رهين ما ينشد، والإثم ليس الانحراف طالما أنه تجاوز إلى المجهول، وتوسيع لنطاق المعلوم، ومن ليس يأثم لا يمكنه أن يكون خالداً أورائد مجاله، سواء كان في الفكر أو الفلسفة أو الفن أو الأدب أو غير ذلك من المجالات.
الشعور بالإثم يجعل الإنسان
ينظر إلى الوراء بإلحاح
ترى كيف تمكنت البشرية من أن تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم تقني ومعرفي؟ كيف يبرز المبدعون والعظماء؟ أليسوا شاذين يصعب على الأقل استيعابهم في البداية، ومع الزمن، تستحيل أفكارهم ونظرياتهم ونتاجاتهم العلمية والأدبية ذات اعتبار مجتمعي، بل يغدو أولئك الرموز الكبرى في المجتمع؟ يبدو مفهوم (الخارج) الذي يهيء الإثم ويحركه، نقيضاً في انفتاحه لـ(الداخل) الذي يعني المؤطر، أو المنغلق على نفسه، والمجتمع الذي يتحصن داخل حدوده السياسية خارجاً وداخلاً والقيمية: ضد كل مبدعة معتبرة، وكذلك في التمرد على السائد: حتى لو كان نظاماً سياسياً عبر العصور، يستخدم كل ما من شأنه مضاعفة المخالفة والعقاب عليها، عبر التأثيم، فالإثم هنا مقيم في لاوعي الفرد قبل أي كان، بفعل تربية موجهة، ورغم ذلك فإن إرادة الإثم، وهي إرادة الحياة الأكثر مضاء في الذات والمجتمع، هي الغالبة.
الفنانون، الشعراء الذين يتبعهم الغاوون بين الحين والآخر، كتاب الرواية والقصة، العلماء والفلاسفة والأبطال المميزين الذين التهمتهم نيران قضاتهم عبر التاريخ، بوصفهم مهددي الأمن المجتمعي بكل دلالاته، كانوا بروميثيوسيين. لقد مات زيوس المعتبر خالداً، بينما تخلد بروميثيوس المعتبر آثماً فانياً، استمر الحلاج ليكون كونياً، وتلاشى محاكموه بمن فيهم الخليفة،
وهكذا كان برونو وجان دارك وغيرهما.
إن تبسيط الموضوعات الكبرى، عملية ردع مباشرة لكل تفكير جدي مجد، فيما كان عليه تاريخ الإنسان من النواحي: خفيَه وعلنيه، وقدرة الإنسان تتأتى في الكسر المتتالي لمراياه الذاتية، والنظر إلى داخله كوناً فائضاً بالمرايا، لا تفضيل لمرآة على أخرى، بقدر ما تكمن القيمة الرمزية في عمق الصور المتجلية، والتاريخ تداخلي غالباً وهو صاخب حي بمخبوءاته. مثلاً: اشطبوا السفسطائى لن تجدوا أثراً لسقراط ورموز مدرسته، واقصوا الشعر جانباً عبر تأثيمه، تختفي النصوص الدينية الكبرى، غيَبوا الإلحاد يزول الدين في حراكه الحي، الغوا كوبرنيكوس: لايعود ثمة أثر لآينشتاين، وكل ما يتعلق بحرب الفضاء والهندسات اللااقليدية ومفاتن الانترنت، واتلفوا ""لوتريامون"" بتاريخه القصير و(وقاحته) الشعرية، ربما يختفي كل شعراء الحداثة، وتخلصوا من نيتشه، لن تروا في إثر ذلك، لا هيدجر ولافوكو، ولادريدا ولا الخطيبي أوكيليطو أو أدونيس أو الغذّامي... الخ .
إن الإثم قضية فلسفية بامتياز، لابل هي أم القضايا الفلسفية، فالشعور بالإثم كتجربة داخلية لا تنفطع، هو الضامن للبقاء، كون الإثم هنا نقيض كل من يقبل على ما يسمى بـ(ارتكاب الموبقات)، كما في قتل الآخر، أو نهبه وسلبه، وتشويهه: كينونةً وتاريخاً وقيمة..إنه الموسّع لحدود المعنى، لحدود الانسان من الداخل بوصفه الكون المصغر وقد تنامى ويتنامى دون توقف، والآثم يعيش الإنساني فيه من الداخل، فهو إذ يعنى بما فيه، إنما يجسد ذوات الناس مجتمعين فيه، ولهذا تكبر تجربة الشعور بالإثم، بضرورة تحريك المناخ الفكري والأدبي، وليس حدوث البلبلة إلا إمعاناً في النقلة الفكرية والفنية والأدبية من طور إلى آخر، والآثمون هنا لايلتفتون إلى الوراء، كون الإثم يتقدمهم، فهو (الورع) المستجد، والقدوة الصالحة مستقبلاً، ولا أعتقد أن بإمكان أي كان ، قادر على تأكيد جدية وحداثة أمر ما، دون المرور بتجربة الإثم كشعور أخلاقي يستوجب التضحية بالذات، وهي حالة
فرادة، لا يقدَرها إلا أولو أمرها، وقد تبصَروا ما هم فيه وما هم عليه لاحقاً، ومن الصعوبة بمكان ، الحديث عن هذه التجربة، تلك التي ينقلب فيها الداخل الحصين المحصن، مستسلماً لقصف الخارج وما يحمله من مفاجآت تصدم المعنيين بها. إن عظمة المجتمع هي في تنوع
وتعدد آثمية هنا.
لكن يبدو جلياً أن الثقافة التي تتحكم بمصائرنا في هذه المنطقة في الغالب، وتلون بصائرنا هي دينية بامتياز، ولكن في سياق تكتلي، طائفي ، مللي ، عشائري، رغم أطنان الورق المحبرة تلك التي تتحدث عن المجتمع المدني ودولة المؤسسات والقانون وسيادته، وآلاف الكتب التي تفصح عن الحقوق والواجبات والإبداع ومستوجباته، حيث تسوير العقل مازال يحظى بموافقة غالبية أولي الأمر في الواقع، استجابة ضمنية لما يعيشونه في الداخل، ومن خلال الفرق الكبير بين شعارية الخطاب الإنساني، وسعارية المألوف والمحروس، وعبارة ( إنه لشاعر مجنون) تحتفظ حتى الآن بدلالتها، طالما أن الشاعر يتمم كمفردة لتشمل كل معنيَ بالبناء الأدبي والفني والعلمي والفلسفي، فهناك اعتراف بـ(الشاعر) ولكن الاعتراف هذا، يستحيل تهمة أ وإثماً بعدئذ، عبر (المجنون) ذاك الذي تنبغي مداواته ومعالجته، ووفق التصور هذا يبدو الإثم الشبح الخالد الذي يطوف في أذهان من يعتبرون المجتمع مزرعة خاصة بهم، أو يجب أن تكون الحياة هي هي، وهنا أذكر ما كتبه ""بورخيس"" في مقال له، عن الإمبراطور الذي بنى سور الصين العظيم، فهو ، كما يرى، لم يبن السور لحماية بلاده من الأعداء، وإنما لدرء الخطر عن نفسه، أي لإبعاد شبح الموت، لكأن التسوير هوتدشين لحياة محتكرة خالدة، وإقصاء لكل مبتدع خارجي، ولكن التسوير المذكور ليس كونياً، كما أن الحياة أكثر زخماً من أن تسور، بالنسبة للامبرطور المتوهم، ومن اعتقد ويعتقد مثله راهناً ومستقبلاً، فالمؤسسة هي ذاتها احتمال ابتداعي لا ارجاعي، بوصفها عاجزة عن الحفاظ على صيرورتها وسيرورتها إن لم يتم (تأثيمها) أي تحديثها، أي إجراء تغيير فيها بين الحين والآخر، ولعل التركيز التاريخي التليد والموجه على(المحدثة البدعة) وجد قضاة كثراً له، وأرضية خصبة للتشديد عليه، لكأن الحياة جميلة في بلادتها، وأن الآخرين الذين يعظمون ( آثميهم) هم بشر من نوع آخر، كما في الحديث عن (الإنسان المتمرد) لـ""البير كامو"" و(اللامنتمي) (ومابعد اللامنتمي) لـ""كولن ولسن"" قبل قرابة
نصف قرن، وكما في كتابات رموز الحداثة وما بعدها، وهم يؤكدون دور الفرد (الآثم) والمثير في التاريخ. أما في منطقتنا، فالموضوع مختلف، حيث أن المبدع هو أول من يكون محك التهمة والملاحقة العرفية المجتمعية، أو مثار شبهة السلطات المعنية، خشية تعرض قاعدتها الرعائية للتصدع، وفي الوقت الذي نشهد، وراهناً أكثر، كيف يجري تأثيم الأغلبية بوصفها رعاعاً وغوغاء، دفاعاً عن الأقلية المصطفاة وشرعنة العنف الممارس أو المعتمد، وتأثيم الأقلية في تجلياتها السياسية دفاعاً عن حقوق الأغلبية المهددة، وهذا يعني أن التذبذب في مفهوم الإثم يعكس بؤس المؤسسة السياسية القائمة، ويشكل لسان حال ممثلي المجتمع، ومحتكري القيم المعمول بها داخلاً وخارجاً، وتعبيراً عن التصعيد غير المباشر للتناقضات بين حرفية القانون وسلوكيته، أو بين وظيفية المؤسسة والمنشود منها سياسياً، وقد أفصح "برهان غليون" غاية الإفصاح، ، وعلى طريقته، عن هذا الجانب عربياً، عندما عنون أحد كتبه هكذا(نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة)، قبل عقد ونيف، لكأنه يدافع عن ضرورة الإثم في مجتمع معرض لهدر القيم الضامنة لقواه، وعن حق الفلسفة في أن تتجذر في مجتمعاتنا، ومعها كل(مواطنيها) من المفاهيم التي تجلو الواقع المفتوح على آخر، ويأتي الإثم وفق الصياغات الآنفة ، بمثابة جهاز (الستلايت) الذي يوصلنا بالعالم المرئي واللامرئي، ونحن في بيوتنا نحلَق في العالم، أو بين العوالم.
الينابيع – العدد (1) شباط 2006
28/2/2006


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: