بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة د. شاكر النابلسي



الحلقة الثانية :



بؤس الفلسفة العربية الحديثة
د. شاكر النابلسي


 
نص الملف الذي نشرته إيلاف في موقعها القديم في كانون الثاني 2004،
كلمة فلسفة Philosophy  في اللغة يونانية تعني المحب للحكمة. فمعنى Philo  هو المحب أو المفتون وكلمة Sophy تعني الحكمة. وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى الحكمة بلغت عشرين اشارة. فمهمة الرسول في الإسلام ليس أن يتلو الكتاب ويعلّم المسلمين ما في هذا الكتاب ولكن ليعلمهم أيضاً الحكمة (يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) (سورة البقرة، آية 151). واعتبر القرآن أن الحكمة مصدراً كبيراً من مصادر الخير ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (سورة البقرة، الآية 269) ووضع القرآن الحكمة بمقام الكتب السماوية من حيث ضرورتها للرسل لاستقامة الحياة ونشر المعرفة والخير (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (سورة آل عمران، الآية 48) مما يعني أن الله قد أمرنا بالتفلسف أي في البحث والنظر وإعمال العقل في أمور مختلفة. ولكن هذا الأمر الإلهي بالتفلسف لم نعمل به نحن الأمة العربية كما لم نعمل في أمور كثيرة أمرنا بها الله، فكنا من البؤساء وضُرب على فلسفتنا  - إن وُجدت - البؤس والضحالة وقلة المعرفة، وغلب عليها التجميع وكتابة تاريخها فقط كما سنرى بعد قليل. وازدريت الفلسفة عند العرب في العصر الحديث ومنع تدريسها في معظم المدارس العربية وحرمت بعض الدول العربية تدريسها في جامعاتها والغت فروع الفلسفة من هذه الجامعات، واحتقرت الأنظمة الديكتاتورية الفلسفة واطلقت على كل عامل بالفلسفة ألقاباً لا تليق به، واعتبرتها سفسطة وكلام العاطلين عن العمل وزبائن مقاهي الرصيف. كما احتقرت المؤسسة الدينية العربية الفلسفة واعتبرتها من تراث الغرب الكافر، ومن أسباب الغزو الثقافي للعالم العربي، وأطلقت على من يعمل بها بالزندقة، وقالوا قولتهم الشهيرة "من تمنطق فقد تزندق". واختفى من حياتنا العربية الحديثة الحكيم الفيلسوف في كافة مجالات الحياة. وأصبحت الفلسفة العربية في البؤس الذي هي فيه الآن.
فما هي مظاهر بؤس “الفلسفة” العربية الحديثة – إن وُجدت -  وما هي أسبابه؟
***
مظاهر هذا البؤس تتركز فيما يلي:

1-   أن العمل العربي في مجال الفلسفة ما زال حتى الآن وبعد مضي أكثر من مائة سنة في المرحلة المبكرة للتفلسف. فما زال في مرحلة الجمع والتقميش والتوليف والتأريخ. ولم يصل بعد إلى مرحلة انتاج فلاسفة لأن انتاج الفلاسفة له شروطه التي سوف نشرحها من خلال بيان مظاهر بؤس الفلسفة العربية الحديثة.
2-   انحصار الفلسفة الإسلامية في علم الكلام "الحذر" وفي التصوف "الحذر". ونقول هنا "الحذر" لأن علم الكلام علم مرفوض في بعض الدول العربية ولا مجال لتدريسه كما أن التصوف وكلمة صوفية من الموبقات، ومن الكبائر في بعض البلدان العربية. فحتى ما يُسمى بالفلسفة الإسلامية مرفوض في هذه الدولة، ولا مجال لتدريسه أو الكتابة فيه، أو السماح بدخول كتبه إلى تلك البلاد العربية. وكان أبرز من عملوا في مجال "الفلسفة" الإسلامية و"فلسفة" التصوف جمعاً وتوليفاً وتاريخاً، دون اضافة الجديد، هم من المثقفين المصريين أمثال  أبو العلا عفيفي، ومصطفى حلمي، وعبد الحليم محمود، وغيرهم.
3-    انحصار العمل في مجال الفلسفة في مجال تاريخ الفلسفة، سواء كان هذا التاريخ عربياً أم غربياً. فقد انتجنا كماً لا بأس به من تاريخ الفلسفة تقميشاً وتوليفاً، ولم ننتج فكراً فلسفياً جديداً. وكان أهم من كتبوا في تاريخ الفلسفة العربية والغربية، يوسف كرم اللبناني، ومصطفى عبد الرازق المصري وغيرهما.
4-   اطلاق كلمة فيلسوف على كل داعية متواضع من دعاة الاصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الديني. فنطلق على شبلي شميّل مثلاً لقب فيلسوف، لأنه اقتنع بمبدأ النشوء والارتقاء وتوسّع فيه، ونشره في العالم العربي. ونطلق على فرح أنطون لقب فيلسوف، لأنه دعا إلى اقامة المجتمع على أساس العلم الاجتماعي المبني على فلسفة النشوء والارتقاء. ونطلق لقب فيلسوف على اسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب "أصل الأنواع" لدارون.
5-   نحسب أن كل داعية ديني حاول أن يستعمل العقل في تطوير نظرة الدين إلى الحياة من الفلاسفة. فالشيخ محمد عبده يعتبر في رأي البعض من الفلاسفة، ومحمد فريد وجدي من الفلاسفة، والشيخان علي عبد الرازق وخالد محمد خالد من الفلاسفة. وكل من دعا دعوة اصلاحية اعتُبر من الفلاسفة. في حين أن الفيلسوف في الميزان القويم هو المحب لرؤيا الحقيقة كما قال أفلاطون في (الجمهورية).
6-   نحسب أن كل من كتب في الفلسفة وأعلامها ومدارسها واتجاهاتها، أو درّسها في الجامعات أصبح فيلسوفاً. فنحن نطلق على عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم فلاسفة، من حيث أن هؤلاء كانوا مدرسين للفلسفة. فلكي تكون فيلسوفاً لا يكفي أن تملك افكاراً نيرة وأن تتعلم في مدرسة أو تُعلّم الفلسفة في مدرسة. فالمدارس لا تُخرّج أدباء، ولا فنانين، ولا فلاسفة كذلك.
7-    عملت مجموعة من الباحثين العرب في مجال الروحانيات إما من باب الدرس، أو من باب التصوف والتوليف والتوفيق. وقرأنا الاتجاه الروحي من قبل مُدرسي الفلسفة والعاملين في تاريخها كرينه حبشي وعثمان أمين وعباس العقاد وغيرهم. وهؤلاء لم يأتوا لنا بانجازات فلسفية جديدة بقدر ما كان لهم شذرات فلسفية متفرقة، لا تتعدى أن تكون خواطر تأملية وجدانية في الحياة والكون، أسرعنا فتلقفناها، وأطلقنا عليها فلسفة وعلى من جاءوا بها فلاسفة، كعادتنا في اطلاق مثل هذه الأحكام على أبسط الأفكار، وأكثرها سذاجة.
8-   لعل أبرز العاملين وأنشطهم وأغزرهم انتاجاً في مجال التأليف التاريخي الفلسفي كان عبد الرحمن بدوي. ولعل بدوي - في رأي كثيرين وخاصة في مصر - كان من أكثر من عملوا في البحث الفلسفي اقتراباً من أن يكون فيلسوفاً وجودياً من خلال كتبه المختلفة: "الزمان الوجودي"، و "هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟"، و "دراسات في الفلسفة الوجودية"، و "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". ونرى من خلال هذه الكتب أن بدوي لم يقدم لنا اضافة جديدة عما قام به فلاسفة الوجودية في الغرب، بقدر ما قدم لنا ما قاله وما فكر فيه هؤلاء الفلاسفة وما ابتدعوه من جديد على الفكر الفلسفي الانساني. 
***
وإذا كانت هذه هي مظاهر بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة، فما هي أسباب هذا البؤس؟
للبؤس أسباب كثيرة منها:
1-   أن الدماغ العربي الآن في مرحلة الدماغ الانفعالى والغريزي، وهما مرحلتان من مراحل تطور الدماغ، يشترك فيهما الانسان مع الحيوان، ولم يرقَ الدماغ العربي بعد إلى الدماغ العاقل الراشد المدرك الذي يميز الانسان عن الحيوان. فنحن نتعامل مع حياتنا في معظم المجالات تعاملاً عاطفياً غرائزياً بعيداً عن إعمال العقل فيها. نحن لسنا أمة التحليل، والبحث، والدرس. نحن أمة الحب أو الكراهية، الدفاع أو الهجوم، الإيمان أو التكفير، اليمين أو اليسار. حركة الفكر لدينا هي حركة اجترار الماضي فقط، وليس استنطاق المستقبل. نحن سجناء الماضي بقوة قاهرة عابرة للتاريخ. تراثنا فقط هو ملجأنا الوحيد ضد الأخطار التي تحدق بنا، وحين تعصف بنا العواصف، وتشتد علينا الأعاصير.
2-   انتشار الأميّة في العالم العربي الذي وصلت حتى الآن إلى خمسين بالمائة بين الذكور وستين بالمائة بين الإناث حسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة في 2002. وأمة تنتشر فيها الأميّة بهذه النسبة الكبيرة، وينحطُّ فيها التعليم، وتنحطُّ فيها التربية نتيجة لقلة المال المصروف على التعليم وسوء المناهج التعليمية، لا بُدَّ أن تعاني فيها الفلسفة من بؤس كبير.
3-   يقوم الازدهار الفلسفي في أمة من الأمم على ازدهار حركة الترجمة. ولقد كان لازدهار حركة الترجمة في العصر العباسي وفي عهد المأمون بشكل خاص أثر كبير على الفلسفة الإسلامية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وكون الأمة العربية الآن هي من أقل الأمم على وجه الأرض حركة ونشاطاً في مجال الترجمة حسب تقرير التنمية البشرية للأم المتحدة لعام 2002، فإن النشاط الفلسفي العربي قد تأثر بضعف وبؤس حركة الترجمة. فيما لو علمنا أن الفلسفة لا تزدهر إلا في ظل تلاقح الثقافات الناتج عن الترجمة المتبادلة.
4-   معظم الذين يعملون في مجال الفلسفة من مدرسين وباحثين في تاريخ الفلسفة، هم من موظفي الدولة العربية التي تنظر إلى هؤلاء نظرة ريبة وشك، باعتبارهم مصدر القلق الرئيسي للسلطة. ومن هنا قامت معظم السلطات العربية بمنع تدريس الفلسفة في مدارسها وجامعاتها. وقالت بأن "الباب الذي تأتي منه الريح لنغلقه ونستريح." وهؤلاء الباقون في مجال الفلسفة وتدريسها موظفون يتجنبون حبَّ الحكمة التي هي لبُّ الفلسفة، ويعتنون فقط بتاريخ الفلسفة دون ابداعها، وبالمدارس الفلسفية دون ايجاد مدارس جديدة، خوفاً من بطش السلطة المحكومة في معظم العالم العربي للمؤسسة الدينية التي تعادي الفلسفة عداءاً كبيراً، وتعتبر الفلاسفة – إن وُجدوا – هم من الملاحدة والمارقين من الدين، وهم بالتالي من المنافسين لها في الامتيازات السياسية والمادية والاجتماعية والإعلامية. ولم تفطن المؤسسات الدينية إلى مقولة فرانسيس بيكون (1561-1626) وهي أن قليل من الفلسفة ينحدر بالانسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يرفع الانسان إلى قيم الدين. ومن هنا رمت المؤسسة الدينية الفلاسفة بأنهم اليساريون الانقلابيون، وأن الدراسات الدينية وحدها هي الجديرة بالعناية والرعاية والدعم.
5-   الثقافة العربية الحديثة هي أشبه بالثقافة العربية في العهد العثماني. ومن يقرأ كتابنا (عصر التكايا والرعايا – وصف المشهد الثقافي في بلاد الشام في العهد العثماني 1517-1918) سوف يجد أننا ما زلنا نعيش ثقافياً في العهد العثماني من حيث أن ثقافتنا ثقافة تعتمد على السحر والشعوذة والخرافة والتقديس، والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة. والفلسفة هي التي تعلمنا كيف نجيب على كل سؤال بعقل منفتح وخالٍ من النظريات المسبقة، اجابة تعتمد على المعلومة والتجربة الحية.
6-   انتشار الفلسفة في مجتمع ما يعني انتشار الحرية وعلامة من علامات انفتاح المجتمع على العالم القريب والبعيد. قال برتراند راسل (1872-1970) إن الفلسفة منذ القدم لها هدفان: الأول، فهم تركيب هذا الكون. والثاني، اكتشاف انجع الوسائل الممكنة للحياة الأفضل. وهذا يتطلب حرية كبيرة في التفكير والسلوك.
7-   إن بؤس التربية والتعليم العربي قادا إلى بؤس الفلسفة. فالتعليم العربي الذي يُوصف بالانغلاق والتقوقع وتكفير الآخر ومعاداته قاد إلى إلغاء الفلسفة من كثير من المناهج العربية، مما أدى تشويه العملية التربوية وافسادها، وقاد ايضاً إلى تخريج أجيال الاجترار والتلقين، لا أجيال التفكير والابداع التي تعرف كيف تصل بين نقطتين من أقرب المسافات، وهي مهمة الفلسفة في أن تعلمنا اياه، كما قال جبران خليل جبران (1883-1931).
8-   انتشار مفهوم أن الفيلسوف هو الحكيم في الثقافة العربية في حين أن الفيلسوف هو محب الحكمة والباحث عنها كما أسلفنا. ومن خلال هذا المنظور المغلوط للفيلسوف اصبحت الفلسفة من الترهات حيناً ومن المعارف المترفات حيناً آخر، من حيث هي تجريدية ومثالية.
9-   ان علاقة الفلسفة بالسياسة علاقة وثيقة منذ أيام الإغريق، مما جعل السلطات العربية والمؤسسات الدينية تضع حظراً كبيراً على الفكر الفلسفي كما أنها تضع الحظر نفسه على الفكر السياسي. فهدف الفلسفة هو اخضاع السلطة السياسية من أجل مصلحة الفرد كما قال ألن بلوم (1930-1992). فكما أن السياسة نجاسة كما تقول العامة فإن الفلسفة سفسطة وضياع الوقت، كما تقول الامة نفسها.
وأخيراً، يقول سقراط (470-399 ق. م) إن الفلسفة تبدأ من الشك والسؤال، وليس من اليقين والجواب الجاهز. والثقافة العربية في ماضيها وحاضرها هي ثقافة الأجوبة الجاهزة واليقينات التامة. فلكل سؤال في الثقافة العربية جواب جاهز، لا يدع مجالاً للسؤال لكي يزوغ أو يفلت يمنة ويسرة. وتلك احدى عوائق تقدم العقل العربي الذي تآكل بفعل الصدأ الناجم عن عدم البحث عن أجوبة جديدة للأسئلة القديمة والجديدة. فالعقل كالضرع، إذ لم تحلبه كل يوم، جفَّّ وتيبّس، وأصبح كحبة جوز الهند الفارغة.

الحلقة المقبلة :

د. سّيار الجميل
هل للعرب المعاصرين فلسفة وفلاسفة؟ ام انهم انتجوا كلام اللواغيا؟
شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: