ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي؟ الحلقة الأولى: محاولات في خدمة الفلسفة وفي الاستهلاك اللا فلسفي

التصنيف


ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي؟



تقديم الأستاذ عبد القادر الجنابي .مكتبة إيلاف (8):2004 الإثنين 6 سبتمبر
نص الملف الذي نشرته إيلاف في موقعها القديم في كانون الثاني 2004، 


 صحيحٌ أن مشاكل العرب عديدة ومتشعبة الأبعاد في هيكلية معقدة ما إن تتجلى حلول لها، حتى تتناسل مشاكل أخرى أكبر تعقيدا... وهذا يعني في العمق بون شاسع بين الرأي والرأي الآخر، بين الثقافة والسياسة، بين الوجدان العاطفي والوجدان المنطقي، بين الواقع وصورته الذهنية... بينما في الجانب الآخر من المرآة حيث اليائسون والحالمون يعتقدون أن مشاكل العرب مجرد مشاكل وهمية تنقشع بمجرد تغيير الحكومات، فلا حاجة للتساؤل ولا للجواب... ويكفي انقلاب سياسي، حرب على الأنظمة... ليكون العرب متحررين من هذه المشاكل!
نحن هنا في "إيلاف"، لا ندعي حل أي مشكلة بقدر ما نريد أن نخلق باستطلاع فكري مناسبةً للتأمل المثمر: يهمنا فتح مجال أكبر للتفكير الحر في مطارحة كل المسائل، مهما عظمت وصغرت. فكل مسألة، سواء كانت سياسية، فكرية، أدبية، فلسفية، فنية، غذائية، هي مسألة المجتمع بعينه: وأي مناقشة لها هي بالضرورة لحظة تماس مع جوهر بنية هذا المجتمع الذهنية، وبالتالي طريقة نظر أفراده إلى جل الأمور... 
إن إحدى الخسائر الكبرى التي مني به العقل العربي في كل حروبه الإيديولوجية، هي فقدان حاسة التأمل الفردي؛ الإجماع عبر الأخذ والرد، التمحيص والنقد.. باختصار: التفلسف بالمعنى الكانتي للكلمة: "ماذا يمكنني أن أعرف، ماذا يجب أن أفعل، ماذا يمكنني أن آمل، ما الإنسان". أسئلة تتطلب أجوبة انثروبولوجية، دينية، أخلاقية وميتافيزيقية... انها جوهر أسئلة الحياة. ألم يقل ديكارت، عن حق، بأن "حضارة الأمة وثقافتها تُقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها". من هنا جاءت فكرة أن يكون لنا "ملف الشهر" لتناول شتى المسائل المقلقة.. وأن يكون أول هذا "الملف" مخصصا لهذا السؤال الذي ليس له جواب قاطع بل شهادات مختلفة يماط بمجموعها اللثامُ عن كل الأسئلة الكامنة:
ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟
لِمَ لم تحظ الفلسفة في العصر الحديث، بمسار فكري مثمر عرفته الحضارة العربية في عهود تكونها فكرا وصراعا في لب مشاريعها الكلامية؟ كانت لنا بارقة أمل عندما انطلقت في أربعينات القرن الماضي حتى مطلع سبعيناته، حمى فلسفية تجلت بالشرح والتأويل والترجمة الدقيقة... كان هناك زكي نجيب محمود، توفيق الطويل، ابو العلا عفيفي، يوسف كرم، عثمان أمين، جميل صليبا، عبدالرحمن بدوي، زكريا إبراهيم، كمال يوسف الحاج والخ... أقلام سهرت ليالينا لخلق فكر يدأب على معاناة التفكير... مفكرون امتازوا بالتواضع وسمو المعرفة، اختاروا ان يعيشوا للفلسفة توغلا في مجاهل إنجاز الآخر الفلسفي للإتيان برؤيا جديدة. كم هي لحظة إنسانية ومثيرة للذهن والحواس، عندما لفت انتباهنا الدكتور الراحل زكريا إبراهيم بأن الحب مثلا مشكلة فلسفية... فأصدر عدة أجزاء تتناول الفن، الحياة، البنية... تحت عنوان "مشكلات فلسفية"... لكن، فجأة حل ليل بهيم لم تعد ثمة فرصة لـ"بومة منيرفا" الطيران فيه ( إشارة إلى مقولة هيجل: "بومة منيرفا لا تطير إلا عند حلول الليل"). سُدّت الأبواب وغابت الأسماء النبيلة وضاع كل إهتمام بهذه "المعرفة العقلية"، ولم يعد لمشروع الفلسفة، اليوم، سوى "نساخ ومنافقين" أغرقونا بتخريجاتهم الماضوية لا يرون شيئا جديدا أبعد من أرنبة أنوفهم إذ كل شيء موجود في ذاك التراث الذي يتغذى منه الظلاميون... وإن تجرأ أحدهم على نقل الآخر فليس لغاية معرفية وإنما لاجتثاثه وتشويهه تعريبا وتخريبا، (من بين إحدى المسائل التي سنتطرق اليها في ملفاتنا المقبلة، مسألة الترجمة / الترجيم في الثقافة العربية).

ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ هل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي انجازاتها اليوم؟ غائبة - حاضرة... أم ان لغوا قائما على مجرد لحظات عرف ماضينا السحيق بعض إشكالياتها، نعتبرها فلسفة.
الفلسفة وما ادراك مالفلسفة... إنها مصطلح العقل بامتياز يعبر عن أفضل ما يعيشه المجتمع من حركة طبيعية تنافضاتها تاريخية. أين هي هذه الحركة وأين فكرها؟ لكي ندخل التاريخ علينا أن نشعر فكرا وممارسة بهذا المصطلح الذي غالبا ما يُطلق جزافا في الأدبيات العربية السائدة. 

ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ سؤال كبير تتفرع منه كل الأسئلة المتلهفة لأجوبة تشفي الغليل... ومع هذا فليس هناك أجوبة نهائية.. بل مجاذبات تأمّلية علها تجعل العينَ ترى أبعد، والأذن تلتقط أبعد من الإصغاء...أن تستحث العربي إلى استجلاء معنى مجيئه إلى هذا العالم؛ قيمة فرديته الخلاقة: أن يخرج من تراب الأسطورة الى فضاء التفكير..


عبدالقادر الجنابي

الحلقة الأولى : عبد الرحمن طهمازي  

محاولات في خدمة الفلسفة وفي الاستهلاك اللا فلسفي


من الممكن رصد الفارق الثقافي بين الاجيال العربية عبر اتجاهات الاستهلاك في الثقافة المتمثلة نسبيا في القراءة، او في اعاده الانتاج، كما هو الحال في الترجمة والعرض والاعداد، او في الانتاج، أي في التأليف المبتكر او التأليف المجاور.
وليس من الصعب على المراقب ان يقر بان وضع الفلسفة ضمن هذه الاتجاهات هو وضع ذو دلالات مزدوجة ولا يخرج ايضا عن مجمل الاتجاهات المذكورة، فمن جهة، لم تتمتع الفلسفة بالحرية والاستقلال التام، وتشاطرها حقول المعرفة الاخرى في ذلك على نحو اقل  تشددا، كما ان الفلسفة عانت من العزلة عن بقية الحقول، وبقي العاملون فيها مؤلفين لكتب تعريفية او مترجمين اكاديميين، او ناشرين تنويريين اما ان يكونوا فلاسفه بالمعنى الاصطلاحي، فذلك جهد لم يتضح الا منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وبشكل محدود اكتسب شيئا فشيئا حق الاعتراف من المؤسسات  التعليمية ودور النشر وفي عدد قليل من البلدان العربية، وفي كل الاحوال، فأن الخدمة الفلسفية هي اكثر ما يميز عمل الذين يعنيهم الامر، وهي خدمة ضرورية ولها الاولوية في مجتمعات يتفاوت فيها تقدير الثقافة والعلم ويختلط بالحاجات المباشرة والهيبة وليس لها حاجات معلنة الى العمل النوعي الحر والمستقل والذي توضع الفلسفة عادة في صدره.
بدأ احمد لطفي السيد بترجمة ارسطو الذي كان متداولا في ترجمات ومؤلفات اسلامية وتجهز المصريون والسوريون والعراقيون واللبنانيون بالتعلم الفلسفي فترجموا وعرضوا واعدوا وألفوا، ولا بد ان القارئ العربي، الذي بدأ تعطشه الادبي المشبوب الى الفلسفة في ستينيات القرن العشرين، كان يتطلع  الى تراث فلسفي مستقل فلما لم يجده جاهزا لجأ الى الترجمات وكتب التعريفات وبعض الجهود الاصيلة، وقد سد الحاجة مترجمون ومؤلفون شكل بعضهم تراثا منذ الاربعينيات  : عبد الرحمن بدوي، يوسف كرم، جميل صليبا، عبد العزيز البسام، سامي الدروبي، كمال الحاج، محمد عزيز الحبابي، بديع الكسم اضافة الى : زكريا ابراهيم، فؤاد زكريا، ماجد فخري، واخرين لا يقل اثرهم في التنوير والاثارة والترويج.
وقد كان من الواضح ان القارئ العربي صار اكثر استهلاكا للفلسفة انطلاقا من حاجات عميقة وملحة تحدوها تطلعات متعدده : سياسية، وفردية، وادبية.. الخ.. وكان يتجه الى الشذرات الشعريه والمسكوكات اللغوية ذات القابلية على اختزال الوعود النفسية والانسانية العامة، وكان نيتشه وبرغسون وسارتر بين الاسماء المتداوله، وقد اثارت بعض عبارات هيغل وماركس شيئا من الفضول الثقافي وترجم عدد من مؤلفات رسل، ووايتهيد، ونشر فؤاد زكريا كتابه عن سبينوزا، وصار من الممكن ان يفهم القارئ تاريخ الفلسفة على نحو ما، وان كانت خلفيات الفهم متقطعة، وفي حقيقه الامر، كان الترويج للفلسفة يمر غالبا الى عموم القراء بشئ من الاستغفال  او بشئ من  التبسيط المسيئ، خاصة اذا جرى ذلك باقلام لا تراعي تماما دوافع الفلاسفة المعنيين او مبادئ الاستقلال التي يتحلون بها.
 كانت هناك حلقات اوسع للاهتمام بالفلاسفة الفرنسيين اذا كانت اهتماماتهم عامة ولغتهم تشجع على التداول العام، كذلك ببعض الفلاسفه الالمان المتجهمين، اما الحلقات الاضيق فقد انصرفت الى الاخرين الذين وجدت مؤلفاتهم صعوبة في التلقي.كان سارتر يشيع ادبيا، ولم يكن جذابا من الوجهة الفلسفيه، اما ميرلوبونتي، او جان فال او الن..الخ.. فأنهم تمتعوا بحصانه لم يستطع القارئ تخطيها الا لماما وفي الدوائر المتخصصة او المجاورة. وهذه هي حال البقية.
ومن الملاحظ ايضا، ان الفلسفة الانكلوسكسونية، والتحليلية منها على وجه الخصوص، لم تأخذ حصتها لدى القارئ العربي وهكذا فأن رسل اووايتهيد او مور او بيرس او اير او فيجنشتين  لم يستطيعوا ان يخرجوا  بعيدا عن الحلقات شديدة الضيق، وهذا امر قد يبدو ملائما وهذا هو ايضا شأن بعض الفلاسفة الالمان والفرنسيين و الاسبان والاميركيين.
فلا بد من التساؤل عن الاسباب غير الفلسفية التي لم تساعد هيوم، او يبنتز، او كانط،او  ديكارت، او هوسيرل، في ان يكونوا في مجمل التداول الثقافي العربي وهل هي شبيهة بالتاريخ الخاص لكل منهم ؟. علما ان فلسفات مشتقة من افكارهم تتدفق في العبارات الثقافية العامة، وان كان الاستهلاك يحمل طابع المودات في معظم الحالات، التي ما ان تروج حتى تنحسر.
ومن المهم، في ما ارى، ملاحظة حجم الانجذاب نحو فلسفة العلوم، ونحو المنطق، فثقافتنا بعيدة الى حد بعيد، بسبب المؤ سسات او لاسباب اوسع واخطر، عن القواعد التي  يعمل عليها فلاسفه العلوم الطبيعية و الانسانية كما انها متأثرة بالسياقات غير المنطقية في الحقول  التي تحتاج الى المنطق احتياجا لا زبا، مع انه قد ظهرت ترجمات وتعريفات، فقد ترجم توماس كون وكارل بوبر واشياء اخرى ذات اهميه، ونشرت استعراضات وتواريخ ذات فائدة، ولا بد من التذكير انه لا يكفي التطلع والفضول مالم تولد حاجات للتلقي وحاجات للانتاج وميكانيزماته.
اذا كان للمرء ان يقول كلمة هنا، فأن ادارة الدفة، في الثقافة الفلسفية العربية، مازال يقع في منطقة المنعطفات الحرجة، وهذه الثقافة، على حاجتها، تعاني ايضا من عدم الاكتراث بانتاج فلسفة، كما ان تلقيها محكوم بظروف ملتبسة، ومع كل ذلك، نحن العرب اللذين اشتهرنا بتبديد التراكمات وبالتالي لم نقبض تعويضاتها، اقول: مع ذلك.. هناك الذين عملوا، ولا يزالون يعملون.. والتجدد يلوح هنا وهناك مصارعا، ومكتسبا بعض قواه.. الم يقل غرامشي عن الفلسفه، في مقابلته بين العقل و الارادة :انها تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة ؟. انها ليست التشاؤم المعزول بل المقرون بأرادة متفائلة، وليست ايضا الارادة المتفائلة في عزلتها.. واعتقد اننا بحاجة الى الفهم المزدوج، او المضاعف او المجادل  الذي يحمله كل فيلسوف على حدة، وتحمله الفلسفة من حيث كونها تاريخا للفلاسفة انفسهم، كما هو الدرس المنقول عن نيتشه.

الحلقة المقبلة : 
د. شاكر النابلسي
بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة.
  





شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: