أساتذة الفلسفة المصريون يختلفون فى تقييمها.. غير أنهم يتفقون على أن المناخ السائد لا يشجع على إنتاجها

التصنيف







أساتذة الفلسفة المصريون يختلفون فى تقييمها.. 
غير أنهم يتفقون على أن المناخ السائد لا يشجع على إنتاجها:
 الفلسفة العربية عمليات نقل عن الغرب وفى أفضل الأحوال مجرد اجتهادات


ياسر عبد الحافظ من القاهرة:
نص الملف الذي نشرته إيلاف في موقعها القديم في كانون الثاني 2004، 

 اعتدت دائما التفكير فى الحياة على أنها أسخف الطرق التى نسلكها فى رحلتنا للموت! فيما بعد أدركت أن تلك ليست نظرة أصيلة بقدر ما أنتجها واقع لا يحاول العائشون فيه إدراك أى مغزى للحدوتة الضخمة التى نحيا داخلها، وكأنها ستستمر للأبد فليس هاما إذا أن نقوم على التفكير فيها حالا، فالوقت ممتد ...لا داعى للعجلة. 
أحب دائما التفكير على أن هذا هو الاختلاف الأساسى بين عالمين -لا يمكننا أن نكف عن عقد المقارنات بينهما- الطريق الذى يسير عليه الغرب مثالي فى كل شئ،صحي ونظيف ومتحضر، تكسو الخضرة أرضه،ويطير الأطفال ببالوناتهم فوقه مثلما رسم مارك شاجال، بينما طريقنا مظلم وخانق تزعق الأشباح فى جوانبه، وتطارد الخفافيش السائرون فيه،وهم لا يكترثون.
نحن لسنا متخلفين فقط،إنما المصيبة الأعظم أننا لا ندرك هذا، لا نعرف إلى أى مدى وصلنا، والأكثر إثارة للسخرية أننا نتعامل مع الأكثر تقدما وعلما ومعرفة باستعلاء على اعتبار أن له الدنيا ولنا ما بعد ذلك وهو  لا نهائى فى كل متعه. ترى هل ينال الجمال من أحب القبح؟
نحن لسنا فى حاجة إلى دراسات مطولة تشرح حالنا وحالهم ذلك أن هناك كلمة واحدة كفيلة بالإجابة: الفلسفة.الحياة والفلسفة..العارفون يعتقدون أنه لا يمكن الفصل بينهما، يروون أن كل كلمة منهما دالة على الأخرى، ولتقريب الأمر نشير إلى أحد تعريفات الفلسفة المبدئية والذى تم الإجماع عليه وأورده مراد وهبه فى"المعجم الفلسفى" نقلا عن الكندى، والتعريف ينقسم إلى ستة أجزاء:
 فأولا الفلسفة تعنى حب الحكمة، لأن فيلسوف مركب من "فلا" وهى محب، و "سوفا" أى الحكمة. أما فعل الفلسفة فهو التشبه بأفعال الله تعالى، فبقدر طاقة الإنسان لابد أن يكون كامل الفضيلة. أيضا هى تعنى العناية بالموت، والموت هنا بمعنى إماتة الشهوات، لأن هذا هو السبيل إلى الفضيلة ولذلك قال كثير من أجلة القدماء:اللذة شر. بمعنى أنه إذا كان للنفس استعمالان أحدهما حسى والآخر عقلى فقد عرف الناس اللذة على أنها ما يتناول فى الإحساس لأن التشاغل باللذات الحسية ترك لاستعمال العقل.
الفلسفة كذلك بحسب التعريف هى صناعة الصناعات وحكمة الحكم.
 والفلسفة وذلك هو الأهم: معرفة الإنسان نفسه. وأخيرا موضوع الفلسفة هو:علم الأشياء الأبدية الكلية، بقدر طاقة كل واحد.
وبمعنى أبسط كثيرا طرحه جوستاين جاردر فى عمله الرائع"عالم صوفى": إن أفضل وسيلة لمقاربة الفلسفة هى طرح عدة أسئلة فلسفية: كيف خلق الكون؟ هل وراء كل ما يحدث إرادة أم حس؟ هل توجد حياة أخرى بعد الموت؟ ودون أن ننسى هذا كله، كيف يجب أن نعيش؟

الدين والسياسة والقداسة
ليست هناك حاجة بالطبع للتدليل على أننا لا نتقن أى من مجالات الفلسفة: التفكير بلا حدود فى كل شئ، الحكمة، الفضيلة...وبالتالى فنحن لا نعرف كيف نحيا!
السؤال عن غياب الفلسفة إذا هو سؤال عن غياب الشكل الأمثل للحياة.
إيلاف سألت بعض أساتذة الفلسفة المصريين حول هذا، كيف نفسر ذلك الاختفاء، والمجتمع المصرى بشكل خاص والعربى بشكل عام فى حاجة إلى طرح مئات الأسئلة؟ والملاحظ فى الإجابات التى تلقيناها أن أصحابها لم يفصلوا بين الحالة المصرية والعربية، فحالة أيهما فى الأغلب تعنى الآخر.
يقول د.صلاح قنصوة: المصريين يقولون عن الفلسفة"فلحسة" ورأيى أنه مصطلح صحيح فهو يعنى الإلحاح فى السؤال، الفلسفة إلحاح فى السؤال وإصرار عليه وليس الاستقرار على إجابة. إذا لم نكن نملك القدرة على السؤال بما يعنى رفض المسلمات والإجابات الجاهزة فبدون هذا لا توجد فلسفة. والعالم الشرقى أو العربى أو الاسلامى وكلها مسميات لكيان واحد اعتاد وألف من فترة طويلة ومنذ نشأ الإجابات الجاهزة فكان من الصعب عليه أن يوجه سؤالا ويلح فى طلب الإجابة عليه.
الفلسفة الإسلامية لم تطرح أسئلة جديدة بل أفادت من الإجابات اليونانية، يمكننا تسمية ما حدث" أسلمة الفلسفة"...أخذنا الأسئلة وإجاباتها ووظفناها لخدمة القضايا التى نواجهها، وهذا نحن شطار فيه، فى الركون إلى الدعة والسكون والاستسلام وإيثار العافية.
السبب الرئيسى فى هذا يعود فى ظنى إلى أن السياسة عندنا فى الإسلام اصطبغت بالقداسة، بدأ ذلك من عهد أبو بكر، هو الذى شق طريق الخلط بين الدين والسياسة بمعنى أنه ربط ممارسته للسياسة بنصوص الدين، فمثلا عندما منع فاطمة من ميراثها لأسباب معروفة قال" الأنبياء لا يورثون" وهذا خلط لأننا هنا نتحدث عن مواطن مسلم وهو لم يتعامل معها على هذا الأساس.
كذلك سنجد أنه دخل حروب الردة لأنهم رفضوا منحه الزكاة، هو هنا حول الزكاة من فريضة دينية إلى ضريبة خاصة بالدولة وسمح لنفسه فى سبيل هذا أن يريق دماء لا حصر لها، رغم أن الإسلام نهى عن الاقتتال بين المسلمين. هذا خطأ بالغ.
كانت نتيجة هذا وما تلاه من ممارسات أن المناخ السياسى السائد منع التفكير فكل ما له علاقة بالفكر اصطبغ بالقداسة، وشئ خطير جدا أن يتحول الكاتب الذى يمتهن الفكر إلى مبرر لما يحدث فوقتها لن تكون هناك فلسفة صادقة، الفلسفة دائما فى حاجة إلى نوع من العراك الفكرى، هى سوق لكل المنتجات لا يوجد فيها ما هو محرم، وهذا لا يعنى الخروج على الدين أو ما يسمونه بالثوابت.
نحن لم نأت بجديد فى الفلسفة، لدينا منشئين لا مبدعين، وأقصى ما بلغوه هو الارتباط بالفكر الناجح فى الغرب، ومحاولة ترويجه وتطبيقه على مشكلات صغيرة، لم يشق أحدا طريقا جديدا، أو يقيم مذهبا مختلفا، أنا لا اصطنع ما يسمى بالغرب والشرق، إنما الفلسفة ببساطة فى حاجة لكثير من الجدل والنقاش لكى تنضج والمناخ السائد قائم على سقف منخفض، لا يمكن ممارسة الفلسفة فى ظل مناخ كهذا.

التحريم مستمر
ويرى د. أنور مغيث: أن هناك أسباب عديدة لذلك أولها غياب حرية الرأى، فلن يقدم الفيلسوف إنتاجا فى ظل المحاذير، لابد أن يعمل وهو مطمئن وقتها سيترك لتأملاته محاولة الوصول لأغوار الحقيقة.
 فى الفلسفة لا توجد وجهات نظر متعارضة أو متناقضة، ما يميز فيلسوف عن غيره هى زوايا النظر وأنه يصل إلى أقصى الحدود بالمنظور الذى يتأمل منه كل شئ، لا يفعل هذا إلا من تربى فى مجتمع يكفل حرية الرأى والاعتقاد.
السبب الثانى يتعلق بالعلم، فنحن نحيا فى مجتمع متخلف، والفلسفة لا توجد إلا بجانب التقدم العلمى، يعنى واحدة من مهماتها رصد التطور وتحدياته والمقارنة بينه وبين التاريخ، تتأمل الفلسفة التحديات التى تنتج عن التطور العلمى.
ومن الأسباب أيضا، غياب الديمقراطية، والمشاركة السياسية، والحرية الاجتماعية.
غير أنه يبقى أن واحدا من أهم المسببات لغياب الفلسفة عن عالمنا العربى أنه تم تحريمها كما هو معروف فى نهاية القرن الخامس، وذلك على يد الغزالى عندما حرم القول بقدم العالم، وحرم الجدل فى الكلام الذى يقال عن حشر الأرواح فقط، أو إنكار الميعاد واعتبر ذلك خروجا عن الدين.
من وقتها ولا توجد لدينا فلسفة، نعم يتم تدريسها فى المدارس وأقسام الجامعات لكن ذلك لا يعبر عن أننا تجاوزنا التحريم، نحن لا نشعر بقيمة الفلسفة أو أنه من الصواب أن نعود إليها.

قوالب فارغة
د. مجدى عبد الحافظ يرى أن المسألة بسيطة: من ينتج العلم والمعرفة ينتج الفلسفة ونحن توقفنا عن إنتاج كليهما، منذ عدة قرون ونحن مستهلكين فقط.
يرى عبد الحافظ أننا اشتغلنا على ما قدمه الغرب، أعدنا تسويق الأفكار الغربية فى الشرق، هو يرى أن الأخذ عن الغرب ليس سيئا إنما السيئ هو إعادة إنتاج أفكاره كما هى، فتلك الأفكار التى تلعب دورا أبستمولوجى وايديولوجى صحيح فى ثقافتها، وداخل منظومة كاملة فى السياق الغربى، لا تؤدى نفس الدور لدينا، ما نفعله على حد تعبيره أننا نضعها فى قوالب فارغة دون أن نفهم أن تلك القوالب قد لا تناسبنا، مثلما فعلنا مع الماركسية فبدلا من تأمل الواقع ووضع حلول لمشكلاته فإننا نبدأ فى استيراد موديلات جاهزة.
سألته: هل المشكلة فى العقل الإسلامى.. فى طريقة تفكيره؟
فقال إن هذا الكلام مرفوض، فقد قاله قبلا أرنستو رينان، وهو تصنيف عنصرى فقد قسم العقول إلى عقل سامى وأخر عالى، الأول والذى ينتمى إليه العرب حسب نظريته لا يستطيع الوصول إلى المجردات والميتافيزيقا، بينما يستطيع العقل الغربى هذا. وهى مقولة غذت النزعة فى السيطرة الاستعمارية لأنهم كانوا يقولوا نحن جئنا لنلقنكم الحضارة.
هذه النظرية ثبت أنه لا أساس علمى لها، العقل واحد، له تمظهرات مختلفة بالطبع تبعا للزمان والمكان، إنما فى النهاية لا يوجد شئ اسمه العقل المسيحى والعقل الإسلامى، أو الشرقى والغربى. لأنه لو كان الأمر كذلك فإذن لا فائدة من عملك على الإطلاق، والأسهل أن تدعهم يحتلوك.

الجدلية العربية
 وتختلف د. زينب الخضيرى مع الآراء التى قيلت وتخصص كلامها عن الحالة المصرية، تقول:طبعا الفكرة السائدة عموما هى أن مصر لم تشارك فى بناء الفلسفة وحتى طوال فترة الحضارة الإسلامية لكن هذا غير صحيح، ابن خلدون جاء من المغرب العربى وعاش فى مصر الربع الأخير من حياته كتب خلالها السيرة الأخيرة للمقدمة، وكتاب العبر، وكان له تلامذة عديدين منهم المقريزى، والخط الخلدونى مستمر فى مصر، مازال هناك فلاسفة مجتمع وفلاسفة دين يتبعون منهجه للآن.
هناك مثل آخر نجده فى دراسة الأب قنواتى عنوانه "دور المسيحيين فى الفلسفة العربية" وشق كبير منه يرصد دور المسيحيين المصريين والجهد الذى بذلوه، العقل المصرى والعربى كان مبدعا دائما. نحن فقط الذين نميل للكسل، ونأخذ قشور كلام المستشرقين، لا نقوم بجهد متصل، ليس لدينا " تيم وورك" يشتغل على منجزنا فى الفلسفة.
أنا صدر لى فى سلسلة الذخائر كتاب اسمه" الفلاكة والمتفلكون" لكاتب اسمه الدلجى توفى قبل مجئ الحملة الفرنسية، والفلاكة هى الفقر والمتفلكون هم المهمشون، يمكننا من خلال الكتاب أن نرى الوعى بكل المشاكل الفلسفية وكأننا نقرأ هيجل أو ماركس، وأنا أجرؤ على القول بأن ما كتبه هذا الرجل هو تحليل جدلى سبق به ما كتبه الغرب.
علينا تأمل منجزنا بشيء من الجدية: محمد عبده قدم جهدا فلسفيا كبيرا فقد حاول أن يجدد علم الكلام، من ذلك على سبيل المثال تفسير المنار الذى قدمه للقرآن،هناك مصطفى عبد الرازق ومجهوده، طه حسين وما قدمه فى "الشعر الجاهلى" وفى "أحاديث الأربعاء" هذا أساسا منهج فلسفى. هناك أيضا جمال حمدان وجهده فى "عبقرية مصر" وربطه بين التاريخ والجغرافيا.
ربما لا يكون لدينا أنساقا كاملة إنما حتى الفلاسفة فى الغرب لا توجد لديهم تلك الأنساق الكاملة!
هناك أمثلة عديدة لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن السياسة استوعبتنا، وضغوطها لا تمنحنا الفرصة للتفلسف.
 والواقع أنه لم يعد لدينا إبداع فى النصف الأخير من القرن العشرين، رغم أننا نحيا مرحلة مفعمة بالحيوية..صراع الحضارات، أحداث 11 سبتمبر، احتلال العراق، وبالطبع قضية فلسطين..كل هذا فى حاجة إلى تفكير...ماالذى علينا أن نفعله، هذه الظروف والمشكلات بإمكانها تفجير تيارات فلسفية.لكننا للأسف اكتفينا منذ فترة بشرح وتقديم المدارس الفلسفية الغربية وحتى ذلك لم نعد بقادرين عليه، عبد الرحمن بدوى كان له إضافة فى الوجودية، حاول أن يستكملها فلا نستطيع انكار أن عنده اجتهادات فلسفية. أساتذة ذلك العصر كانوا يقومون بالتعريف بأى تيار فلسفى يظهر فى الغرب ويعملوا على نقده، والنقد نوع من الفلسفة. أما الآن فالأساتذة يكتفوا بكتابة المذكرات والشرح المدرسى.
نعم هناك تقصير كبير نلام عليه بشدة، وعذرنا الوحيد أن الظروف صعبة!

نهاية عصر المذاهب
ويتفق د. عبد الغفار مكاوى مع ما ذهبت إليه زينب الخضيرى، يقول:لدينا اجتهادات فلسفية، إنما لا توجد مذاهب، وهذا لم يعد مطلوبا. بمعنى أن هذا العصر ليس عصر المذاهب الكاملة..كان ذلك مطلوبا فى القرن الثامن والتاسع عشر لأنه كان يلبى احتياجات ذلك الزمان، الفيلسوف كان عليه أن يجيب عن كل شئ، هيجل، ماركس..كل فيلسوف فى ذلك الوقت كان حريصا على وجود فكرة محورية تدور حولها نظرته للحياة بكل ما فيها: القيم والسياسة والاقتصاد والجمال. أما الآن فالفلاسفة المعاصرون الوجوديون والبنيويون كلهم ضد فكرة المذهب الكامل.
اتصالا بسؤالك دارت مناقشة يوما بينى وبين زكى نجيب محمود كان هو يقول أنه لا توجد لدينا فلسفة، قلت له: أنت أكبر دليل على وجود الفلسفة.
 أقول لك أنه علينا أن نحمد الله على الاجتهادات العربية وهى عديدة: فؤاد زكريا، عابد الجابرى، محمد الحبابى، أنا لى اجتهادات متواضعة، حسن حنفى له اجتهاداته، نصر أبو زيد. نحن نحاول التخلص من السيول التى تهل علينا من الخارج ونجتهد لابتكار أفكارنا إنما للأسف لا يوجد من يرصد ويتابع ويكتب عن تلك الاجتهادات ويعرضها للناس. لا نريد أن نقلل من أنفسنا فنقول أنه لا توجد فلسفة عربية من أيام ابن رشد هذا ليس صحيحا.

التيارات المصرية
المفكر محمود أمين العالم: لا أوافق على صيغة السؤال التى تنفى وجود فلسفة عربية الآن.
وأبدأ من رأى جرامشى الفيلسوف الإيطالى فهو يرى أن كل إنسان فيلسوف. ينتج فلسفته من: ثمرة خبرته، قراءاته، ما تضخه فى رأسه الحكومة أو السلطان.
إنما المشكلة هى فى السؤال: ما هى الفلسفة؟ هل هى التى تربط بها الأمور وبالتالى تصل إلى نظرية معينة ورؤية للعالم من خلال عينيك، أم الفلسفة التى هى رأيك والتى تشكل رؤيتك للعالم قد ضخت فى رأسك عن طريق وسائل الإعلام والمدرسة، والسياسات العامة للدولة التى تريد أن تفرض عليك فلسفتها.
لا شك أن لكل دولة رؤيتها وفلسفتها التى تريد أن تفرضها على البشر، ولهذا فهى تحكم بالبوليس والجيش وأيضا بالفلسفة.
 وبالتالى فالفلسفة ضرورية ولابد أن تكون متواجدة دوما لفرز ما هو مفروض لمصلحة السلطة، وما ينبغى أن يكون لتشكيل رؤية صحيحة للعالم والحياة ويتحقق بها تطور الإنسان ويتجدد الفكر وتتأكد روح الإبداع ويصبح فكرك ليس تكرارا لما تقوله وتفرضه السلطة أو استمرارا جامدا للماضى على رأى بعض الاتجاهات الدينية المتزمتة التى تقول لن "يصلح حاضرنا إلا بما صلح به ماضينا" وبالتالى معركة الفكر فى المجتمع هى معركة الفلسفة. هى معركة نعيشها فى كل لحظة لتفريق الحق من الباطل.
معركة العالم الآن فلسفية، الآن العالم كله يعانى من الهيمنة ليس العسكرية فقط وإنما كذلك الفلسفية، باسم الديمقراطية واسم السلام العالمي والاستقرار والبحث عن أسلحة الدمار الشامل. كلها مسائل فلسفية. عليك أن تواجهها بفلسفة أخرى وهى فلسفة السلام الحقيقى النابعة من ذاتيتك، بفلسفة العدالة.
ويرصد محمود العالم- وتطبيقا على نظريته بالوجود الدائم غير المنظور للفلسفة- ثلاثة أشكال من الفلسفة تتصارع فى مصر:
1:  فلسفة السلطة التى تريد أن تسيد رؤية معينة
2:فلسفة تصوغها الاتجاهات الدينية السلفية
3:فكر دينى أكثر تقدما، عقلانى يسعى إلى كشف رؤية موضوعية للواقع وتفسيرها بشكل عقلانى وتوجيهها لمصلحة التقدم.
ويرى أن هناك تيارات أخرى، غير أن وجودها ليس بقوة التيارات السابقة منها: الفكر العقلانى العلمى والذى ينظر إلى الوجود نظرة وجودية ويحاول بمقتضاها تطوير الحياة. مادية تاريخية ماركسية وهى عقلانية تقوم على تحليل الواقع المادى الموضوعى فى تناقضاته وتربط المعرفة العقلية بضروة العمل فهى رؤية تغييرية مستقبلية وموضوعية، هى رؤية شاملة ومناضلة من اجل التغيير.
 ويرصد كذلك مدارس أخرى فرعية كالظاهراتية الإسلامية عند حسن حنفى. وهناك اتجاهات فوضوية كذلك. وفلسفة قومية يمثلها الناصريون الذين يتحدثون عن الوحدة العربية ولا يفعلون إلا كل ما هو ضد الوحدة والدين، فلسفة عملية جدا برجماتية تتغير حسب مصلحتها، وهى وضعية تنظر للأمور بشكل جزئى وتكريسية للواقع، قشرية تريد السيطرة على الفكر وتمييعه وإخضاعه لهدفها ونحن فى مواجهتها نريد أن ننمى سلطة الفلسفة العقلانية.

ناقلون ليس أكثر
ويرى د. حسن طلب أن:الفلسفة هى خلاصة نهضة وازدهار، بمعنى أنه لابد أن تزدهر العلوم، فالتفلسف يعتمد على سيادة مبدأ العقل، على الفصل بين الدين والدولة. أما المجتمعات التى يسود فيها الفكر الدينى وحده ويصبح هو المعيار للصواب والخطأ وهو الغاية فلا تصنع فلسفة.
يقول:كان لدينا بوادر لقيام مشروع عقلانى ينهض بالمجتمع، بعد محمد على والاحتكاك بالغرب بدأت محاولات لبعث هذا المشروع تمثلت فى نقل أمهات الكتب الفلسفية القديمة، بدأ أحمد لطفى السيد فى نقل أعمال أرسطو للعربية: السياسة، الأخلاق، الطبيعة. ثم توالت بعده ترجمات أخرى. وهى كتب هامة غير أن الفلسفة اليونانية وحدها لم تكن كافية، وقد توقفت هذه المحاولات ولم تتم.
إلى الآن نحن لم ننقل أمهات الكتب التى خرجت فى عصر التنوير..هذا العصر الذى كان عصر النقد، نقد السلطة الدينية والسياسية، من ديكارت إلى فولتير. نحن حتى لم يصلنا التغير الذى لحق بمعنى كلمة هرطقة، فهى بعدما كانت تعنى التشكيك فى الدين تحولت لتصف المتزمت الذى" يهرطق ضد الحداثة".
نحن كنا قد بدأنا فى القرن الثالث الهجرى والقرن الرابع، الفترة الذهبية فى عمر العرب، كنا على وشك أن نخطو فى اتجاه تأسيس مذاهب فلسفية لأن شروط العمل الفلسفى كانت متحققة وقتها...والإنتاج وقتها يثبت هذا، مثلا نجد ابن الراوندى يؤلف كتابا عنوانه" الزمردة" يقول فيه أن القرآن غلط! بالطبع ليس المقصود هدم الدين وإنما الشك فى كل شئ، وطرف آخر يتولى الرد.
الغرب ترجم كتب العرب ابن سينا والبيرونى وغيرهما وبدأ فى التأسيس عليها، أما نحن! الآن تجد من يصرخ خوفا من التغريب والغزو الثقافى، وهذا كلام لا معنى له، لأنه لا أحد يجبرنا على ترجمة شئ أو تعلم شئ لكننا إن لم نفعل ذلك سنتخلف... هكذا ببساطة.
ويرى طلب أن ما يطلق عله البعض اجتهادات مصرية أو عربية فى العصر الحديث ليست إلا عمليات نقل، يقول: أساتذة كبار ليس لديهم مناهج إنما عمليات نقل...زكى نجيب محمود ينقل المنهج الوضعى المنطقى، عبد الرحمن بدوى ينقل الرؤية الوجودية الملحدة، زكريا إبراهيم ينقل الوجودية المؤمنة.
و الأجيال الجديدة تنقل كذلك، الاختلاف فقط فى أنها تنقل الاتجاهات الأحدث. مثلا فى المغرب يتخصص الحبابى فى منهج الشخصانية، الجابرى يأخذ عن فوكو ليعالج بنية الثقافة العربية.
المشكلة أن هذا النقل لا يحدث باعتباره خطوة مؤقتة يتم بعدها تأسيس منهج خاص إنما هى تتم باعتبارها كل شئ. والمشكلة الأخرى أنه بينما كان الجيل السابق ينقل بأمانة فإن الجيل الحالى باستثناءات بسيطة لا يلتزم بتلك الأمانة، كما أنه و على عكس الجيل الأول أيضا فإن الجيل الحالى يتميز بلغه عربية ضعيفة، وعدم إتقان للغة التى ينقل عنها !
المحصلة النهائية أننا لم نتجاوز مرحلة النقل بعد، كما أن بنية المجتمع ترفع فوق رقابنا عدة سيوف وليس سيف الدين وحده، بينما من المفروض ألا يحكم الفلسفة سوى سلطة العقل والحرية المطلقة. القاعدة العريضة من الناس تؤمن بالخرافة وتحافظ السلطة السياسية على هذا لأنها لا تريد انتشار الوعى.
النقطة الأخرى أننا لم نقدم التضحيات التى قدمها الغرب، نحن قدمنا أفرادا، قارن بين ذلك وما قدمه الغرب من محاكم تفتيش ومحارق للكتب. هناك معارك لابد أن تخاض، هم قدموا مئات الألوف لكى يؤسسوا مجتمعاتهم، وليس ضروريا أن نقدم هذه التضحيات كلها فالزمن قد اختلف، نستطيع بأقل الخسائر أن نحصل على ما نريد.

تذييل:
رغم أن العديد من أساتذة الفلسفة يتفقون على أن العالم العربى لم يضع مذاهب فى الفلسفة وأنه ليس أكثر من ناقل لها، فإن آخرون يعتقدون أنه لو قدر لحالة النشاط الفلسفى التى عاشتها مصر منذ الأربعينيات وإلى السبعينيات تقريبا أن تستمر لكنا نشهد الآن بداية تكون مدارس واتجاهات فلسفية عربية. غير أن ما حدث هو اقطاع فجائى عن متابعة ونقل الاتجاهات الفلسفية فى العالم، وبالتالى توقف التفاعل مع هذا المجال تماما مع استثناءات نادرة لا يتابعها أحد من الجمهور ولا يتوقف أمامها أحد بالنقد والمناقشة.
شهدت مصر نهضة فلسفية بدأت منذ العشرينات، وخير دليل على ذلك تلك المعارك الكبرى التى اشتعلت حول قضية من القضايا. بدأت اولى تلك المعارك حول الدين والعلم، وهى دارات أولا حول نظرية التطور لكنها لم تتوقف عند تلك النقطة طويلا ذلك أن الاتجاهات الفكرية المختلفة سلمت كلها تقريبا بتلك النظرية والاختلاف الوحيد أن كل طرف كان يحاول استخدامها للتدليل على صحة النظرية التى ينتسب إليها، فالرأسمالية والليبرالية من جانب والاشتراكية من جانب آخر كل يقول بأن عملية تطور المجتمع تثبت أن نظريته هى الحل الأمثل والملائم للمجتمع.
تطورت المواجهة لتصبح جدلا حول الدين والعلم وهذا مع صدور كتاب محمد فريد وجدى" على أطلال المذهب المادى" والذى اعلن فيه أن الفلسفة الغربية تتجه الآن إلى الروحانيات، وأن ذلك يعنى نهاية المذهب المادى، وكان هناك فى مواجهة هذا الزعم..سلامة موسى، اسماعيل مظهر، عصام الدين حفنى ناصف، الذين يدعوون للعقلانية فى مواجهة الروحانية.
المعركة الثانية دارت فى الأربعينيات بين العقاد والماركسيين والتى قامت بعد كتاب العقاد "فى بيتى" والذى شبه فيه الماركسية بالنازية، رد عليه أبو سيف يوسف فى كتاب "رد على العقاد" وكان بجانبه محمود أمين العالم، محمد مهدى صادق، أحمد صادق سعد.
فى الستينيات اشتعل النقاش حول النظام الفكرى والفلسفى الذى ينبغى أن تسير عليه مصر. كان هناك ثلاث اتجاهات رئيسية، الأول يقول باشتراكية علمية، والآخر وتزعمه زكى نجيب محمود نادى ببراجماتية تكنوقراطية، والاتجاه الثالث وهو الوسط فقال بأنه لابد من الحياد الفلسفى مبررا بأنه طالما طبقت مصر الحياد السياسى بين الشرق والغرب فلابد من حياد بين الفلسفة المادية والمادية.
استمرت تلك المعركة طويلا ودون حسم، ومعظم المقالات التى تناولتها كانت تنشر فى مجلة" الفكر المعاصر" والعنوان الأساسى لتلك المعركة الضخمة كان: بأى فلسفة نسير؟ ومن خلالها تم عرض كل الآراء الفلسفية لماركس وهيجل ونيتشة..........، بتوسع وتحليل وليس مجرد نقل لنظرياتهم.
المعركة الأخيرة والتى لا زالت مستمرة للآن حول الهوية والأنا والآخر، بدأت فى السبعينيات مع بداية عصر السادات، ونهاية  التصور الذى وضعته ثورة يوليو بأن الآخر هو الاستعمار، غير أن الجدل حول هذه العلاقة والذى بدأ كقضية فلسفية أخذ يفقد طابعه هذا بمرور الوقت ليصبح قضية فكرية.
الاهتمام بالفلسفة فى الستينيات كان واضحا من خلال الكتب اللفسفية التى يقبل الجمهور عليها، والتى أثار العديد منها جدلا كبيرا، أهمها كان "خرافة الميتافيزيقا" لزكى نجيب محمود والذى انتقد فيه الاتجاهات الدينية التى لا تعتمد على العقل، واصفا إياها بأنه كلام فارغ لا معنى له. وهو الكتاب الذى أثار حوله جدلا طويلا ليس من قبل المتدينين فقط وإنما أيضا من جانب الماركسيين، فقد رفضوا مطالبة محمود بتفكيك الدولة إلى مؤسساتها التقليدية، قالوا بأن هذه الدعوة لا تصب إلا فى مصلحة الاستعمار.
كان للمجتمع فى الستينيات اهتماما ما بالفلسفة، بدأ ذلك فى منتصف الخمسينيات مع انتشار الوجودية عن طريق الأدب من خلال أعمال البير كامو وسارتر...، الجدل حول الوجودية فى المجتمع المصرى استمر إلى منتصف الستينيات حتى زيارة سارتر لمصر وزيارته للسد العالى والأهرامات، وتتويجها بالكتاب الذى صدر عنه" سارتر مفكرا وإنسانا".
انتشار الفلسفة لم يكن مرتبطا بالكتب فقط وإنما كذلك بمجلة الفكر المعاصر والتى صدرت فى منتصف الستينيات  واستمر صدورها لعشر سنوات متتالية.
الآن لا يوجد فى مصر مجلة فلسفية تصدر بانتظام، فقد توقفت مجلة الجمعية الفلسفية بعد أن اصدرت 6 أعداد، ومجلة الفلسفة والعصر التى تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة لم يصدر منها سوى عددين خلال عامين.
مرت عشرون عاما لم يصدر خلالها كتاب فلسفى فى مصر يثير ضجة، صدر كتابين هامين دون أن يشعر بهما أحد" "فلسفة المرآة" لمحمود رجب،" الطاغية" لإمام عبد الفتاح.
أغلب أساتذة الفلسفة تحولوا إلى الكتابة التنويرية والفكرية، محمود أمين العالم، زكريا إبراهيم، حسن حنفى..........، توقف المجتمع عن تعاطى الفلسفة وتوقف اساتذتها عن انتاجها ومناقشتها.


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: