1-
مدرسة البديع الفلسفي وإشكال " الشكل
والمضمون في الخطاب الفلسفي."
الباحث الفلسفي المتأمل لا يجد حرجا في الكتابة الفلسفية
التجريدية مقارنة مع الفيلسوف أو المتفلسف التطبيقي,لانه منعزل في عالم الكتابة ويتواصل
بمضامين اللسان مع من يتفاعل معه لسانيا ( بطريقة نيتشه كما سنبيّن لاحقا). بخلاف
الفيلسوف التطبيقي الذي يغامر بالفلسفة ببحثه لها عن وجود فعلي في مختلف الفضاءات
العمومية تحت عناوين العلاج او التداوي بالفلسفة أو ضرورتها أو الحاجة إليها
...ضمن تصنيف فلسفي دشنه السوفسطائيون والرواقيون.... ربط الفلسفة بالفعل الفلسفي
في الممارسة الاجتماعية. وإذا كان الباحث الفلسفي المتأمل يعتني بمقتضيات اللسان
ونحت المفاهيم كوسيلة للتواصل عبر القراءة ( مع الخاصة تحديدا) ومن خلالها فقط
بالنسبة للباحثين عن لذة القراءة وكأن الخطاب الفلسفي لا يهدف إلى فائدة اجتماعية
أو أخلاقية بقدر ما يتميز بإحداث لذة فكرية خالصة ،كما هو حاصل في بعض
بعض الروايات والقصص ومشاهدة أفلام الخيال العلمي ، ,فإن المهتم بالفلسفة
التطبيقية شغله الشاغل البحث عن وسيط يترجم روح ورهان الفلسفة في الممارسة الاجتماعية.
هاته الظاهرة لا تختص بالفلسفة فقط بل أيضا عرفها تاريخ الشعر والرواية .إن
الباحث الفلسفي المتأمل يهتم بمعاني يزعم أن ليس لها في التجربة موضوعا تنطبق عليه
،ربما بسبب طابعها الأكاديمي بلغة العصر، طابع متعال مُغرق في التجريد، بخلاف
الباحث الفلسفي المقتنع بجدوى الفلسفة اجتماعيا، لكن هذا الاقتناع يقتضي لحظة ربط
الفلسفة بالمعيش أن يجعل الفلسفة قريبة من أفهام الناس، وإلا ما مدى مصداقية
الحديث عن الفلسفة الحياتية والفلسفة التطبيقية،والتجربة الفلسفية والفعل
الفلسفي... وهذا يطرح مشكلة "الوسيط" بين المفكر الفلسفي وعموم الناس
المعنيين بتغيير طريقة تفكيرهم وسلوكهم عبر اقتناعهم بالفلسفة من خلال أرضنتهاكي
تصبح في حدود ما جزء من الحياة الومية ليس اليومي كموضوع للتفكير الفلسفي فقط بل
ممارسة أناس اليومي للتفلسف فيما يواجهونه من قضايا "يومانية"بتعبير
إدريس كثير و"حدثية" .لكن هل هذا الوسيط نفسه مُقتنع
بالحاجة إلى الفلسفة وإنزالها من سماء التجريدات إلى واقع الناس .وهل الفلسفة تقبل
بتحويل الخطاب الأكاديمي العالم إلى إمكانية فكرية تصبح في متناول الناس؟ وهل
المطالبة بتدريس الفلسفة للأطفال تدخل ضمن هذا المشروع الذي حاول جوستان جاردر من
خلال كتابه " عالم صوفي " أن يحول الفلسفة روائيا كي تكون في متناول
العموم.؟
الإشكال المطروح، هل يمكن أن تتحقق الفلسفة
كتفكير في معانقة الواقع وبلغة الناس المعنيين بالاستفادة من الفلسفة؟ أم للفلسفة
خصوصية تأبى أن تكون في متناول العموم كما يقول كانط؟لو صح هذا الحكم فما الداعي
إلى نشر الفلسفة في الفضاء العمومي وتعميم تدريسها على مختلف الأعمار ؟ أم من
قدرها أن تبقى حبيسة عند العقلاء بين دفتي الكتاب أو في الندوات المغلقة ، أما
بالنسبة لحضور الفلسفة في المنظومة التعليمية فهي تتعرض لكثير من الانتقادات .ومن
نيران صديقة. إذن كيف نستنبت السؤال الفلسفي والنقد في الفضاء العمومي؟ كيف يتم
إقناع عموم الناس بأن تمثل التفكير الفلسفي يساهم في تحقيق كرامتهم ؟وقبل هذا كيف
نجعل الفلسفة كشكل من أشكال الوعي تعرف طريقها لعموم الناس؟
أكاد أجزم بوجود " نزعة برناسية " لدى بعض الباحثين الفلسفيين،وخاصة البرناسية التعبيرية التي مجّدت الشكل على حساب المضمون، وهذا يُسائل النوايا اللاواعية – بتعبير لوسيان غولدمان- للباحث وهو يكتب بحثا أو مقالا فلسفيا يتاخم حدود التعقيد والغموض،ربما تمتح من " التصورية المطلقة" التي تجد في الكانطية سندا لها من خلال أن" الفكر حاصل على شرائط المعرفة وأن الآشياء تدور حوله لكي تصير موضوع إدراك وعلم" ومن ثمة توجد الحقيقة في العقل وعلى الموضوعات الخارجية أن تتطابق مع شرائط العقل القبلية.ومع ذلك يبرر البرناسيون في مجال الفلسفة تلازم الشكل مع المضمون الفكري، وينفون التصنع في الشكل اللساني ،هذا الأخير هو في النهاية صدى لطبيعة العقل المتعالية والمعقدة. ذات مرة سئل الشاعر أدونيس عن غموض شعره وأن أسلوبه في التعبير الشعري غاية في التعقيد، فأجاب بأن الغموض ليس مرتبطا بالأسلوب بل بطبيعة العقل المبدع للأسلوب الشعري. وهذا يسائل طبيعة الكتابة الفلسفية السلسة ببعدها البيداغوجي كما مارسها محمد عزيز الحبابي عابدو الجابري وعبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت ومحمد وقيدي..وهي كتابة سلسلة تتجنب الغموض والصنعة الأسلوبية على نهج مدرسة البديع الفلسفي، بينما عدد من الباحثين الفلسفيين يُصرّون على التعقيد والغموض في الكتابة قد لا نجدها عند كثير من الفلاسفة المشهورين.
ومع ذلك يعي كبار
الفلاسفة هذه المعضلة. كتب كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص:" ...سرعان
ما أدركتُ ضخامة عملي وعدد المواضيع التي يجب علي أن أعالجها،وعندما رأيت أن تلك
الأمثلة والشروح ...ستجعل كتابي منتفخا متورما إلى حدّ كبير ، وجدتُ من اللائق أن لا أمطّ فيه إلى
أبعد،بواسطة أمثلة وشروح تتطلبها المقاصد الشعبية " العامية " فقط. إن
هذا الكتاب لا يستطيع أن يرضي الذوق الشعبي، والقلة التي تعرف لا تحتاج إلى هذه المساعدة بالرغم من أن المرء يرحب بها دائما.."
وفي بقية الفقرات يتحدث كانط عن مآلات الوضوح في الكتابة. ويشاع أن أحد أصدقاء
كانط امتنع عن الاستمرار في قراءة كتاب "نقد العقل الخالص" حتى لا يُصاب
بالجنون بسبب غموض وتعقيدات قضايا الكتاب الكانطي حسب رأيه
مسألة الوضوح والتعقيد في الكتابة ناقشها أيضا نيتشه في كتابه ، العلم المرح، الكتاب الخامس .الشذرة 381.يقول نيتشه" حين نكتب لا نحرص فقط على أن نُفْهَم، لكن أيضا على أن لا نُفْهَمَ..لو أن شخصا كائنا ما كان حكم على كتاب ما بأنه غير مفهوم فليس ذلك اعتراضا كافيا عليه إطلاقا: فلربما كان هذا داخلا ضمن نوايا المؤلف، فهو لم يُرِد أن يُفْهَم من طرف " أيّ كان"،كل عقل، كل ذوق رفيع يختار مُستمعيه حين يريد أن يتواصل، وبذلك نفسه يرسم حدا لل " آخرين"، من هنا تنشأ قوانين الأسلوب المهذّبة،إنها تُبعِد ، تخلق مسافة، تمنع ال" وصول "، تمنع الفهم، كما أسلفنا، بينما تفتح آذان أولئك الذين تجمعهم قرابة الأذن.."
إذن يتحدث كانط عن القلة ، ونيتشه يتحدث عن أصحاب الذوق الرفيع...في التفاعل مع الكتابة الفلسفية، وهذا ما يحاول دعاة الفلسفة التطبيقية تحاشيه، ليس بغاية تبسيط الفلسفة، بل بغاية جعل الفلسفة شأنا عاما من مدخل تغيير أحداثيات وخوارزميات الأنساق الفلسفة التقليدية ، بإحداثيات جديدة تحيا فيه الفلسفة في الفضاء العمومي وتخرج من جبة التخصص وخاصة الخاصة.وفي تجربة السوفسطائية والسقراطية والرواقية ما يبرر تنزيل الفلسفة من سماء المعقولات المجردة إلى أرضنة الفلسفة من خلال التفلسف في مختلف تجليات الواقع المعيش بخلفية الحق في الفلسفة وتحريرها من تعاليها كي تصبح فنا للعيش ينعم به الأكثرية بقدر استطاعتهم.
في مقابل الفلسفة
التأملية التجريدية والفلسفة التفسيرية للقضايا التراثية، تحاول الفلسفة الجديدة تأسيس
فلسفة عملية موجهة للعموم ومتصالحة مع واقعها.
وأستعين
بمقال سبق لي نشره حول أطاريح الفلسفة التطبيقية بالمغرب والعالم العربي.
هل نحن في حاجة إلى الفلسفة ؟ وأية فلسفة؟
1- ما
الداعي إلى سؤال الحاجة إلى الفلسفة؟ ومِنِ المعني بنحن ؟. وهل يُمكن
التفكير في الحاجة إلى الفلسفة من دون التفكير في شروط تحقق الفلسفة؟ أستحضر
موقف المفكر محمد مصباحي حول أهمية والحاجة إلى وجود " لوبي " يُدافع
عن الوجود الفلسفي من قبيل باقي اللوبيات في كثير من المجالات السياسية
والاقتصادية..
2- إذن ما المسكوت عنه في بروز بين الفينة والأخرى ، عائلة مفاهيمية تُسائِل وضعية الفلسفة من قبيل: ضرورة الفلسفة، الفلسفة والحياة، الدفاع عن الفلسفة، الحق في الفلسفة، العِلاج بالفلسفة،مَطْلب الفلسفة التداوي بالفلسفة ،فلسفة الفعل ...؟ 3- يرى " أنطونيو غرامشي" أن لا وجود لحياة فلسفية من دون "مجتمع فلسفي" يكون مُحفّزا وحاضنا للفلسفة ومُتفاعلا معها. فهل يوجد في المغرب " مجتمع فلسفي"؟
الفضاء العمومي وحاجته
لأيّة فلسفة؟
|
بعد أحداث الربيع العربي، ظهر بعض المفكرين والباحثين يُطالبون بتجديد الحاجة إلى "فلسفة تطبيقية" أو "عملية" تقطع مع الشروح والتفاسير النظرية، وهذه الأخيرة بالنسبة لهم " تنغلق في مطلب الفهم والمعرفة والاطلاع على مستوى التلقي وإعادة مُساءلة نفس إشكالات الفلسفة العربية التقليدية كما " روّج" لها كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون وعبد الله العروي وغيرهم من " قُرّاء التراث" ،حسب توصيف دُعاة الفلسفة التطبيقية أو العملية. سأقدم للقراء بعض تبريرات دُعاة الفلسفة التطبيقية من خلال آخر إصدار للأستاذ عبد العزيز بومسهولي " الفلسفة والحراك العربي" ونقرأ في العنوان الفرعي "تجارب فلسفية جديدة في العالم العربي" عن إفريقيا الشرق 2015.يُمثل هذا التيار في المغرب الأساتذة عبد العزيز بومسهولي وحسن أوزال وعبد الصمد الكباص، ويُساندهم في بعض موقفهم الأستاذ إدريس كثير...ويُطلقون على أنفسهم " الفلاسفة الجُدد"..من تونس نجد المفكر فتحي المسكيني والمفكر الشاب زوهير الخويلدي، ومن مصر مصطفى النشار مؤلف كتاب " العلاج بالفلسفة"، وعبد الحليم عطية...وهذا التيار الفلسفي القديم المُتجدّد، يرفع شعار " ما بعد الجابري والعروي..." مُنطلق ومُنتهى دُعاة الفلسفة التطبيقية الرهان التالي:" الحاجة إلى الفلسفة كتجربة وجود يتشكّل فيها المفهوم انطلاقا من تجربة الحياة، وذلك من خلال الارتكاز على الجسد بدل الوعي ( النظري والتأمّلي)، جسد يتداخل فيه الفيزيولوجي والنفسي، ويختلط الاجتماعي مع السياسي." إذن الحاجة إلى الفلسفة التطبيقية بحسب أنصار الفلسفة التطبيقية تتأسس على السؤال التالي :" كيف ينبغي أن ننتقل إلى مُستوى الفرز ما بين خطاب يجعل حياته الأساسية في النظرية، وبين الفلسفة التي تجعل حقلها الأساسي هو الحياة؟" لهذا يرى المُدافعون عن الفلسفة التطبيقية ضرورة القطع الإبستمولوجي مع الماضي كحدث وَلّى، والتركيز على الحاضر والمستقبل، بدعوى أنه قد تم استهلاك الفلسفات العربية التقليدية، والمطلوب هو حاجة المفكرين الآن إلى القدرة على التفلسف في ذواتهم وفي واقعهم وفي العلاقات مع الأغيار، بمعنى هناك حاجة إلى فلسفة كتعبير عن الإقامة داخل الصيرورة كمجرى للانفلات من البدء والانخراط في التفكير بوصفه تأسيسا لمنظورات جديدة للحاضر والمستقبل، تنطلق من الإشكالات التالية:"هل يُشكّل حدث الربيع العربي كحدث تاريخي، والذي دشّن لانهيارات جيو-سياسية في قلب العالم العربي، فُرصة لعودة الفكر الفلسفي إلى الفضاء العمومي.وهل بالإمكان ظهور فلسفة عربية مُغايرة ذات نزوع كوني؟ وإذا كان ذلك مُمكنا فما هي مقدمات هذه الفلسفة وما هي سماتها؟ هناك إذن مطلب الانطلاق من الإحيائية إلى الإبداعية المُنخرطة في واقعها الآني بأفق مستقبلي. من هذا المنطلق يزعم دُعاة الفلسفة التطبيقية، والذين يعتبرون أنفسهم " مجدّدين"، بأن المجتمع في حاجة إلى فلسفة مُبادِرة مُرتبطة بالمعيش وبالحياة اليومية وليس بفلسفة الشروح والتفاسير،أي الحاجة إلى فلسفة تتجاوز المنطق القيمي النظري المعياري،إلى موقف فلسفي وجودي معيشي، من منطلق السؤال : على أيّ نحو يُمكننا أن نعيش؟ يزعم هذا التيار أن الفلسفة التطبيقية، يجب أن لا تتشكّل وتنوجد في سياق مُؤسساتي، كما أنها لا تحتكم إلى معيار أكاديمي، بدعوى أن الدراسات الأكاديمية التراثية هي المُهيمنة، وقد حجبت الحضور الحقيقي للتفلسف، وبالتالي لا أثر لها في الحياة". في نفس السياق، وضمن الاستجوابات الوارد في كتاب " الفلسفة والحراك العربي"، يُصرّح مصطفى النشار مؤلف كتاب" العلاج بالفلسفة " : الإنسان العربي الآن يطلبُ منّا " روشيته ( أي وصفة طبيّة) لكي ينطلق بها نحو المستقبل، وصْفة للعلاج وليس مُجرّد كلام نظري تفسيري. نحن في حاجة إلى أورغانون عربي جديد للقرن الواحد والعشرون." وحتى الأستاذ إدريس كثير في محاورته ضمن الكتاب، صرّح هو الآخر بقوله :"نحن أمام تحدّ جديد، هو الخوض في الموضوعات اليوميانية، وعلينا أن نُفكّر في هذه الموضوعات مباشرة( الحريك مثلا..) وألاّ نعود إلى ابن رشد أو الفارابي.." وأخيرا يُؤازر المفكّر التونسي فتحي المسكيني أيضا في استجواب له في الكتاب، ويُرافع قائلا :"...علينا أن نتفلسف الآن بشكل مُعاصر، وما يدعونا للتفكير هو ما " يحدُث" لنا في أنفسنا بعد ثورات الربيع العربي...نحن بصدد التفكير فيما بعد الجابري والعروي..:
|
0 التعليقات:
more_vert