يقول "سـيـجموند فرويد" (1856/1939) عالم
النفس النمساوي مؤسس التحليل النفسي، وواضع نظريته الأساسية في اللاشعور، ومنهجه
في التداعي الحر، يقول: " لقد أكدت منذ زمن بعيد أن هناك ثلاث مهن مستحيلة :
أن نربي ، وأن نطبب النفس ، وأن نحكم. وقد بذلت جهدا من أجل القيام بالمهنة
الثانية من هذه المهن الثلاث ، مع أني لا أجهل القيمة الاجتماعية للعمل الذي يقوم
به أصدقائي المربون ." (1) وتعتبر هذه
المهن الثلاث في نظر " سيجموند فرويد" هي المهن التي يراهن الإنسان
على تحقيقها، ويتنافس من أجل جعلها ممكنة.
سجموند فرويد
انطلاقا من ذلك، نتساءل عن المعنى الذي يجعل من التربية
والتعليم، كالحكم و السياسة، وكالطب النفسي مهنة مستحيلة، وبعبارة أخرى نتساءل عما
يفسر ويدلل على أن التربية والتعليم هي كالسياسة والطب النفسي مهنة مستحيلة . فنقول
هل تعني الاستحالة هنا عدم قدرة الأستاذ على خلق الرغبة في التعلم، وأن هذه الرغبة
تبقى من خلق المتعلم؟ أم أن قدرة الأستاذ تقتصر فقط على جعل المتعلم ينطلق ويبادر
لخلق رغبته بنفسه، وأن انطلاق ومبادرة المتعلم في خلق رغبته تبقى رهانا يوميا للأستاذ،
به تتجدد لدى المتعلم الرغبة في التعلم؟ ثم ماذا تعني الرغبة تحديدا ؟
إن ردا على هذه الأسئلة يقودنا إلى أجوبة نجد لها أمثلة
في الفلسفة، وفي علوم وفلسفة التربية، وذلك كالأتي :
» ترى الأستاذة الفرنسية كاترين هنري" Catherine henri" الباحثة في علوم التربية-
والتي لها كتابات بهذا
الخصوص ككتاب "le professeur sentimental " "الأستاذ
العاطفي" سنة 2005، وكتاب " Marivaux et du
loft"
"عن ماريفو وعن لوفت" سنة 2003- " بأن قول "سيجموند
فرويد" لم يفصح بكيفية صريحة عما يقصده بوصفه لمهنة التربية والتعليم بالمهنة
المستحيلة ، ولكن لدينا الإحساس – تقول كاترين هنري- بأن المهن الثلاث التي أشار
إليها ، هي مهن لا يمكن الارتكاز فيها فقط على معارف وتقنيات، وإن كانت ممارستها
تتطلب ذلك ".
ويرى عالم وفيلسوف التربية الفرنسي " فيليب
ميريو" philippe Meirieu "– صاحب كتاب " lettre à un jeune professeur
"
"رسالة إلى أستاذ شاب" سنة 2005، وكتاب " faire l’école faire la classe " "الاشتغال
في المدرسة والاشتغال في القسم" سنة 2004- " بأن قول "سيجموند
فرويد" يتحدث عن مهنة لا عن نشاط، وهذا فرق مهم، كما أن هذا القول يتضمن ثلاث
دلالات، فهو من جهة أولى يعتبر التربية
والتعليم ليسا بالمستحيلين، ولكن المستحيل هو اتخاذهما مهنة، ومن جهة ثانية يعني
بأن التربية والتعليم يكون مآلهما الفشل دائما، لأنهما يتطلبان باستمرار التفكير وإعادة
النظر، وطرح المشكلات من جديد، والمراجعة بالتقويم للتصحيح أو التعديل أوالإغناء.
كل هذا من منطلق أن الجهود التي تبذل في التربية
والتعليم وما تؤدي إليه من نتائج لا يمكن أن تكون نهائية. فمثل التربية والتعليم كمثل الطب
النفسي والسياسة، وإن كان "سيجموند فرويد" لم يوضح ذلك بالنسبة إلى
التربية والتعليم والسياسة مثل توضيحه للطب النفسي، ومن جهة ثالثة فإن قول
"سيجموند فرويد" يتضمن إشارة إلى أن فعل التربية والتعليم لا يمكن أن
يتحقق دون تعبئة إرادة الآخر، أي المتعلم ،
وما يعنيه هذا الآخر كحرية، ذلك لأن تربية وتعليم شخص ما تختلف كل الاختلاف عن
صناعة شيء ما، فتكوين الأشخاص ليس من قبيل صناعة الأشياء ".
لكن هل يمكن بالرغم من أهمية هذه القراءة التفسيرية لقول"
سيجموند فرويد" أن تساعدنا مثلا بعض الكتابات الأدبية في الإحاطة بهذا القول
بكيفية أوسع؟
"
تؤكد " كاترين هنري " أن بعض الكتابات الأدبية تطرح فكرة تفيد أن
المتعلمين ينبغي أن تكون لهم إرادة في التعلم، فصعوبة مهنة التربية والتعليم ترجع
في جزء منها إلى عدم وجود هذه الإرادة لدى المتعلم، وأن ما ينبغي السعي إليه
والتماسه لدى المتعلم، من منطلق إحساسي وتجربتي في التدريس - تقول " كاترين
هنري " - هو بدون شك رغبة واهتمام أكثر منه إرادة ".
فيليب ميريو وكاترين هنري
وباتفاق مع هذا الرأي " يذكر "فيليب
ميريو" في هذا الصدد نصا أدبيا حول أشعار" جولس سلوفاكي" ، قام أستاذ
بمقاربته مع تلاميذه، وطلب منهم أن يأخذوا النقط التي أثارها حواره معهم خلال هذه
المقاربة، وذلك بغرض إنجاز واجب منزلي
ينتظر فيه منهم بيان ما يجعل أشعار "جولس سلوفاكي" تتضمن جمالا خالدا يبعث على الحماس. وفي لحظة أخذ تلك النقط
من لدن التلاميذ، كان أحدهم يئن بكيفية عصبية ويعبر عن قلقه قائلا : بما أنني لا
أستطيع أن أقرأ من الأشعار أكثر من بعض
أبيات قليلة، وأن ما أقرأه منها لا يثير اهتمامي، فكيف يمكن لهذه الأشعار أن
تحمسني؟ ، تم يستسلم للجلوس وعيناه جاحظتان، وكأنه يعاني من الإحساس بأنه زج به في
وضعية لا يفهمها، وغير قادر على الاندماج فيها. وأمام الاعتراف الساذج لهذا التلميذ،
كاد الأستاذ أن يختنق عندما صاح في وجهه محذرا إياه من رفع صوته، ومتوعدا بعقابه.
كل هذا يتم وكأن ذلك التلميذ قد كشف عن سر لا تسمح المؤسسة التربوية بالكشف عنه.
ينبغي أن نعرف بالضبط أن هناك ما يسمونه بالرغبة – يقول "
فيليب ميريو" - وهي حدث تصطدم به الآلة المدرسية بكاملها عندما تجد نفسها
أمام تلميذ لا يريد أن يتعلم، تلميذ لا يعرف ما
إذا كان سينخرط في عملية التعلم أم لا ".
وهنا تواجه المؤسسة التربوية ظاهرة مزعجة بكيفية مرعبة، خصوصا عندما تشعر المؤسسة أنها لا تملك سلطة
لنقل ذلك التلميذ من وضعية الرفض والإعراض عن التعلم إلى وضعية الرغبة والاهتمام.
ولمزيد من تعميق النظر في تحليل قول "سيجموند فرويد"
باستحالة مهنة التربية والتعليم شأنها في ذلك شأن مهنتي الطب النفسي والسياسة - كما
سبق الذكر- تقول "كاترين هنري":" إنني أعتقد، ورغم
تكويني النظري، أن التعلم لا يمكن أن يختزل في الفهم النظري، فهناك التحفيز الذاتي
الداخلي للمتعلم، وهناك الرغبة التي لا يمكن أن نقترب منها، أو نمسك بها. فكيف
نسعى إليها ؟ وكيف نخلقها ؟ وكيف نحتفظ بها ؟ وكيف نحقق استمراريتها ؟ وكيف نحولها
؟
كل هذه آليات معقدة ليس من السهل تحديدها باعتماد السيكولوجيا
أو الديداكتيك. لكن هل معنى هذا أن مجال التربية والتعليم لا يمكن التحكم فيه ؟
"
يقول "فيليب ميريو" مجيبا عن ذلك: " إن
التعلم هو فعل شيء لا نعرف فعله. نتعلم كيف نفعله عبر محاولات فعله، لا قبل فعله، وهذا
صحيح بالنسبة إلى تعلم المشي وتعلم اللغة، وكل الأفعال الأساسية للكائن البشري، كما
هو صحيح أيضا بالنسبة إلى دراسة نص معين وما يماثله. كل ذلك يدخل ضمن ما يسميه
الفيلسوف "فلاديمير جونكليفيتش" " بجرأة الشروع في العمل"،
فقبل البدء لا تكون هناك الجرأة على حل معادلة رياضية أو قراءة قصيدة شعرية على
تلاميذ قسم دراسي مثلا.
صحيح أن الأستاذ له دوره في اتخاذ هذا القرار، قرار
تكليف المتعلم بإحدى العمليتين: حل معادلة رياضية أو قراءة قصيدة شعرية. ولكنه لا
يملك القدرة على خلق الجرأة لدى المتعلم في ذلك. فأنا – يقول " فيليب ميريو"
– " لا أستطيع أن أخلق رغبة الآخر،
ولكن علي واجب فعل كل شيء من أجل أن يخلق الآخر ، أي المتعلم رغبته الخاصة بنفسه
".
إضافة إلى ذلك تقول "كاترين هنري" "أريد
أن أؤكد هنا أن ما يميز الرغبة في كونها انتظارا، فالأستاذ ينبغي أن يظهر للمتعلم
أننا لا نستطيع أن نحقق متعة حقيقية بالانبهار بالحاضر،وبما هو مباشر،فعندما مثلا
أقرأ نصا،وأفهمه مباشرة لا تتحقق لدي متعة قراءة هذا النص،لأنه لم يسبق فهمه حدوث رغبة
في الفهم.فكثير من المتعلمين يعيشون الآن بدون رغبات،وبما أن متعهم المباشرة ملباة
كلها،فإنهم لا يتخيلون رغبات أخرى أقل مباشرة من الرغبات الاستهلاكية".
وبعد ذلك، هل يمكن القول إن مهمة التربية والتعليم اليوم
هي أكثر استحالة لكون العقبات التي ينتظر تخطيها أصبحت أكثر عددا؟ تجيب "كاترين
هنري" بتأكيد هذا الأمر، وتزعم " أن المعرفة في الماضي كانت تمنح السلطة
، إلا أنها ترى بأن قيم اليوم لم تعد هي نفس القيم التي سادت قبل ثلاثين سنة
مضت".
أما "فيليب ميريو" فلا يشاطر هذا التأكيد ،
ذلك أن تعليم الأمس كان في نظره في غاية الضعف والضحالة، ويرى بأن المعرفة التي
تلقاها في مدرسته كانت ذات قيمة مقدسة ولم يكن من الممكن الجرأة على مناقشتها.
فقد كنا – يقول " فيليب ميريو"- " نسلم
بأن المعارف التي تدرس لنا مهمة لمجرد أنها تقدم إلينا في المدرسة . أما اليوم فإن
التحدي الجميل الذي يواجهنا هو وجود تلاميذ يجرؤون على وضع القيم موضع سؤال. مع
التأكيد هنا على أن التدريس اليوم أصبح أصعب، ولكنه أضحى أكثر إثارة، إذ أن الأمر
أصبح يقتضي تعليم تلاميذ ينبغي أن نظهر لهم أهمية ما يدرسون، بدل تعليم تلاميذ
يسلمون مسبقا بأهمية ما يدرسون، ولا يهتمون به إلا لكون تعلمه يشكل وسيلة للتميز
داخل المجتمع . لقد أصبح ينتظر منا أن نبين لتلاميذ اليوم ما يهمنا فيما ندرسه،
وأن نفسر لهم ما يحدد علاقاتنا. وهذا على كل حال شيء رائع، وأكثر أهمية من مجرد
إعداد التلاميذ للامتحان" .
لكن ألا يعتبر هذا الأمر أكثر صعوبة من مجرد تلقين
المعارف، وهي مهمة محفوفة بالمخاطر، وغالبا ما يكون مآلها الفشل؟
يقول "فيليب ميريو" مجيبا عن ذلك : " أخشى
أن تكون هذه فكرة المحظوظين مثلنا الذين كان لهم الحظ في الالتقاء خلال دراستهم
بأساتذة مكنوهم من اكتشاف المتعة العجيبة ، متعة اللقاء مع النص أو موضوع الدرس
ككل. ولكن يمكننا أن نتخيل ما يحدث في نفس
الوقت لتلاميذ آخرين لم يكونوا أقل ذكاء، ولكنهم ظلوا بفعل محدودية أساتذتهم على هامش
تلك المتعة.
إن الأستاذ يحتفظ دائما بنوع من الحنين إلى تلك اللحظات
الأولى التي اكتشف وخبر فيها متعة التعلم واكتساب المعرفة، ولكنه لا يتذكر بأنه عندما
كان يستمتع بتلك اللحظات، فإن أغلبية التلاميذ كانوا يعانون من الملل. فإذا كان
الفشل الدراسي ملحوظا أكثر اليوم، فذلك لأن التلاميذ لم يعودوا قادرين على الملل
بكيفية مهذبة، أي دون احتجاج".
وتقول "كاترين هنري" في هذا السياق:" إن
الأساتذة في أغلبهم مثاليون تربويا، طالما لديهم الإرادة في تحقيق ما تعلن عنه المدرسة
كأهداف لها، غير أن ماهو معروف، وبكيفية عميقة منذ عالم الاجتماع "بيير
بورديو" أن" المدرسة لا تنتج إلا التفاوتات الطبقية الموجودة في المجتمع
وتعيد إنتاجها".غير أن أستاذا يدخل إلى القسم معتقدا بأنه بعمله التربوي،
إنما يعمل على تقوية التفاوتات الثقافية لا يمكنه أن يدرس، فالتدريس يتطلب قسطا
كبيرا من المثالية التربوية إن لم نقل الطوباوية."
ويضيف"فيليب ميريو" بهذا الصدد قوله"بأن
الصعوبات التي تواجه الأساتذة هي الوجه الآخر لطموحاتهم، وإن نظاما تربويا لا تكون
به طموحات يسعى الأساتذة إلى تحقيقها،هو نظام تربوي لن تواجهه أية صعوبات، ذلك أن
تخلي النظام التربوي عن طموحاته أملا في تجنب الصعوبات يشكل استقالة تربوية.وإن الأستاذ
الذي لا ينسحب ولا يستسلم ولا يتراجع عن أهدافه بفعل الضغوط والإكراهات، ويبحث عن
الوسائل من أجل تحقيق طموحاته لن يصل إلى ذلك بكيفية تامة، ولكنه يعمل على تقدم
المتعلمين، ويبتكر عددا بيداغوجية تحقق تقدم المدرسة بكاملها.
وهنا نرجع إلى "سيجموند فرويد" وإلى تأكيده
بأن مهنة التربية والتعليم مستحيلة، فنقول بأن التربية والتعليم يعتبران هدفا لا
سبيل إلى الإعراض عنه، وإن كان تحقيقه بكيفية تامة مسألة متعذرة، إن لم نقل
مستحيلة " .
ولكن ألا يضعف الاعتقاد الذي يتضمنه هذا القول من عزم
المدرسين عندما يسلمون بأن أهداف عملهم التربوي لن
تتحقق إلا بكيفية جزئية؟
تجيب "كاترين هنري" عن ذلك بقولها " بأننا
كأساتذة نلاحظ هذا الأمر ونحس به، ولكننا لا نستطيع أن نتغلب عليه".
أما "فيليب ميريو" فيرى" بأن الأساتذة
الشباب لديهم القدرة على إدراك لحظات استعمال البيداغوجيا بكثافة ، والتي يتحقق
فيها شيء فعال وناجع، كما أنه يؤكد بأننا لا نعرض المعارف بكيفية فعالة مالم نعرض ذواتنا
في نفس الوقت خلال ذلك العرض، أي خلال تقديم تلك المعارف، ويتحقق ذلك عبر اشتغال
قوي جدا على معارفنا الخاصة.
وإن الأستاذ الذي يتمثل حقيقة الصعوبات التي يواجهها
تلميذه خلال تعلمه، إنما يرتقى إلى ذلك عبر مساءلة معارفه الخاصة بفعالية باحث
حقيقي في مجال التربية والتعليم.
يعتقد غالبا بأن الأمر يتعلق بشيء أخر غير المعرفة، غير
أنني- يقول "فيليب ميريو"- عندما أقدم درسا للتلاميذ وألاحظ خطأ أو
صعوبة في فهمه، فإنني لن أبحث عن وصفة بيداغوجية، وإنما سأبحث في معرفتي الخاصة عما
يمكنني من التأثير في معارف المتعلم. وهكذا يجد الأستاذ نفسه مضطرا إلى العودة إلى
مكتبته الذهنية بحثا عن حل لما يواجه تلميذه من صعوبات وأخطاء " . لكن هل المقصود
بهذا أن على الأستاذ أن يبحث عن حلول في ماضيه كمتعلم؟
" إن ما هو معقد عندما ندرس-تقول"كاترين
هنري"- هو عزل المتعلمين، واعتزال المدرس نفسه عن الواقع ، والعودة
بالمتعلمين إلى لحظات أخرى منفصلة عن اهتماماتهم"
وهذا القول يعترض عليه "فيليب ميريو"، " لأن
المتعلمين في نظره لا يقبلون الانفصال عن
اهتماماتهم المباشرة إلا إذا كانوا يعتقدون أن في هذا الانفصال وعدا بمتعة
مستقبلية. فتلاميذ الأوساط المحظوظة يعرفون ذلك، وأن لديهم التجربة بذلك في أسرهم،
ولكن غيرهم من التلاميذ لا يعرفون هذا، ويتعين عليهم أن يفهموا بأن سلطة المدرسة
لا تهينهم، وإنما تعمل على إكبارهم والرفع من شأنهم، وكل ذلك يتم عبر ما يقدمه الأستاذ
إليهم. فهناك أساتذة يعطيهم تلاميذهم ما يطلبونه منهم، لأنهم يعرفون أنهم سيكافأون
على عطائهم، غير أن المشكل هو أن كثيرا من الأساتذة اليوم قد انكشف عجزهم، فقد
منحهم تلاميذهم الكثير من الجهد دون أن يتلقوا من هؤلاء الأساتذة أية مكافأة. فقد
تخلى المتعلمون عن اهتمامهم أملا في اكتساب-مقابل ذلك- القدرة على رؤية العالم
بكيفية مختلفة، والحصول بذلك على شيء من الرضى، معتبرين دعوة أساتذتهم إلى العطاء
وعدا بالحرية ".
ترد " كاترين هنري" وهي تتساءل عما كان يمنح الأساتذة
سلطتهم في النظام التعليمي الفرنسي قبل عشرين سنة، فتقول" بأنها المؤسسة
المدرسية طبعا "، ثم تضيف أما اليوم " فإن ما يمنح الأساتذة سلطتهم فهو
عطاؤهم وشخصيتهم ". أما " فيليب ميريو" فيرى " أن ما يمنح الأساتذة
سلطتهم ونفوذهم حقا هو تجسيد المستقبل"«.(2)
بناء على ما تقدم من عناصر في شرح وتفسير قول
"سيجموند فرويد"- السابق الذكر- يمكن استخلاص ما يلي :
إن"فيليب ميريو" و" كاترين هنري'"
يتفقان مع " سيجموند فرويد " في القول بأن مهنة التربية والتعليم من
المهن المستحيلة، وأن ذلك في نظر " فيليب ميريو" هو ما يجعل مهنة
التربية والتعليم مهنة مهمة، كما أنه في نظر"كاترين هنري" يعتبر تحديا
على الدوام، أي أن مهنة التربية والتعليم إذا لم تكن تحديا، فإنها ستكون مهنة مملة.
تقول " كاترين هنري":" فقد كنت سأمل لو أنني درست خلال سنوات الخمسينيات
من القرن الماضي، حيث كان المتعلمون يتلقون المعارف بسلبية واستسلام دون أية جرأة
على طرح السؤال".
إضافة إلى ذلك، فإن " فيليب ميريو" و" كاترين
هنري" يتفقان معا أيضا على أن الرغبة هي أساس التعلم، وأنها من خلق المتعلم، وأن الأستاذ
لا يمكنه أن يخلق الرغبة لدى المتعلم، وأن
أقصى ما يمكن أن يفعله هو جعل المتعلم ينطلق ويتحرك لخلق رغبته الخاصة في التعلم، وهو رهان يومي للأستاذ به
تتجدد الرغبة في التعلم لدى المتعلم.
هذا فضلا عن كون " فيليب ميريو" و"كاترين
هنري" يتفقان مع "سيجموند فرويد" في القول بأن التربية
والتعليم من المهن المستحيلة بدعوى أنهما يتوقفان على الرغبة، وهذه
الرغبة تبقى من خلق المتعلم لا من خلق الأستاذ.
فهل يمكن القول إنهما معا يصدران عن نفس مفهوم الرغبة الذي صدر عنه " سيجموند
فرويد" ؟
وإذا كان هذا غير وارد بشكل صريح وواضح في حديثهما عن
الرغبة كأساس للتعلم، فهل يمكن أن نستشف ذلك من خلال ما هو ضمني في حديثهما ؟
إن مفهوم الرغبة عند " سيجموند فرويد" مفهوم
قابل للنقد، ولا استثناء في ذلك لما هو ضمني فيه بالنسبة إلى شراحه ومفسريه، علما أن النقد
فضلا عن كونه ذا قيمة معرفية في طلب الوضوح وتشخيص العيوب، واستبعاد الأخطاء، فهو
أكثر من ذلك في نظر الفلاسفة ، كما هو
الشأن مثلا بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي " ميشيل فوكو" " الذي
يعتبره ذا قيمة أخلاقية، وهي قيمة الفضيلة، وذلك لارتباط النقد لديه بالشجاعة في
قول الحقيقة". (3)
على كل حال يأتي هذا النقد لمفهوم الرغبة عند
"سيجموند فرويد" من الفلسفة، وكمثال من فلسفة الفرنسي" جيل دولوز"
(1925/1995)، وهو الفيلسوف الذي قال فيه معاصره الفيلسوف" ميشيل فوكو"
عبارته الشهيرة " : سيأتي يوم يصبح فيه العالم دولوزيا"علما أن "
ميشيل فوكو" قلما أثنى على معاصريه. وعبارته هذه في حق "جيل دولوز"
لها أكثر من دلالة فلسفية، لأن " جيل
دولوز" هو محطة فلسفية كبيرة وبارزة في الوقت الراهن، ولا يمكن لنا إلا أن
نستحضرها، للاشتغال عليها بالتفكير فيها، أو الاشتغال بها للتفكير من خلالها، ولأن"
جيل دولوز" أيضا هو من الفلاسفة المجددين في الفلسفة، إذ أن الفلسفة في نظره
تستمد مشروعيتها من ذاتها، وإن كانت بحاجة إلى غيرها حيث يقول: " ليست هناك أية حاجة للفلسفة، إنها تنتج بالضرورة، إنه ينبغي الخروج من
الفلسفة والقيام بأي شيء للتمكن من إنتاجها من الخارج، لقد كان الفلاسفة دائما
شيئا آخر، ولقد عرفوا دائما نشأتهم انطلاقا من شيء آخر." (4).
إن الفيلسوف "جيل دولوز" كغيره من فلاسفة جيله،
قد اهتم بالتحليل النفسي الذي قال به "
سيجموند فرويد" ، لكن هذا الاهتمام عرف تحولا بفعل مرور الزمن : فمن اعتناق
" جيل دولوز" اللامشروط للتحليل النفسي، إلى انتقاله إلى الشك فيه، ثم
انتقاله إلى نقده المنظم والممنهج له بفعل تأثير صديقه " فيلكيس غاتاري"
الذي أتى إليه من حقل التحليل النفسي وممارسته العملية. يقول الفيلسوف "جيل
دولوز": " إن " فيليكس غاتاري" هو من أخرجني من التحليل
النفسي ولست أنا من أخرجه منه ."(5).
فيليكس غاتاري وجيل دولز
صحيح أن التحليل النفسي الذي قال به " سيجموند
فرويد" قد اكتشف الرغبة وآلية تكونها، وأبان على أنها تشكل المحرك الذي ينتج
كل التفاعلات النفسية بالنسبة إلى الإنسان وسماها " الليبيدو"، لكن مشكل التحليل النفسي
في نظر الفيلسوف "جيل دولوز" ، وزميله وشريك أفكاره " فيلكيس
غاتاري" ، مؤسس على فهم خاطئ لما
تعنيه الرغبة . ومن تجليات هذا الفهم يمكن الإشارة إلى ما يلي :
ان التحليل النفسي الفرويدي لا يفهم الرغبة إلا من المنظور النفسي الصرف،
دون استحضار كونها متداخلة ومتفاعلة مع العالم الخارجي كأشياء وكمجتمع وكاقتصاد
وكسياسة وغيرها، بل فقط لا تعني لديه غير
ارتباطها بأفعال فردية نفسية لا شعورية ، وتبعا لذلك فالرغبة في فهم التحليل
النفسي تخص الوحدة ولا تخص التعدد، بينما عند الفيلسوف " جيل دولوز" لا
يمكن فهمها إلا في التعدد، في تنسيق ما، لأنها لا تتحقق في نظره إلا من خلال
التنسيق، اعتبارا منه أن التنسيق هو الذي يجعلنا في نظره نرغب في أشياء دون غيرها،
واعتبارا منه أيضا أن التنسيق مجال مفتوح على العالم الخارجي، بما هو عالم الأشياء
والمجتمع والاقتصاد والسياسة وغيرها.
يقول الفيلسوف " جيل دولوز" :" لا وجود
لرغبة إلا وأنها منسقة أو محكمة في آلة، فلا يمكن ضبط رغبة ، أو تصورها خارج تنسيق
محدد(...)، فالرغبة بنائية، وليست تلقائية . إننا لا نؤمن حتى بغرائز داخلية قد
تلهم الرغبة. " (6)
جيل دولوز
إن الاقترانات أو التنسيقات التي تتحقق من خلالها الرغبة
في نظر" جيل دولوز" ليست لها أشكال أو صور معينة، فهي تتكون من صيرورات
وتحولات دائمة، كما أنها تبعا لذلك ليست تمثلات لأشياء معينة، وإنما هي أساسا
صيرورات وتحولات لها ، " فالتنسيقات من حيث مضمونها مليئة بالصيرورات
والتكثيفات، وبالتحركات التكثيفية، والتعدديات العادية من جموع، وأنواع، وأجناس،
وشعوب، وقبائل " (7) كما قال " جيل دولوز".
لقد استعصى على "سيجموند فرويد" فهم أن الرغبة
تخص التعدد، وأنها ذات طبيعة تنسيقية، وذلك لكونه يتصور الرغبة على أنها تتصف
بالحاجة والنقص والسلب. وهذا بالنسبة إلى " جيل دولوز" يعد من الأخطاء
الفادحة التي سقط فيها التحليل النفسي، والصواب في نظره " هو أن الرغبة لا
نقص ولا سلب فيها، فهي كلها إيجاب وإثبات " (8) ، كما أن ما ذهب إليه " سيجموند فرويد" في كون الحاجة تعتبر
المحرك للرغبة ، هو أمر يتجاهل كون الرغبة غير معطاة، وإنما هي منتجة. هذا
بالإضافة إلى تجاهله أيضا كون الذات ليست فاعلة الرغبة، وإنما هي من فعل الرغبة
نفسها.
ان التحليل النفسي يتناول الرغبة بالإحالة على "أسطورة أوديب"
وذلك لاعتباره سيولات وتدفقات الرغبة مكبلة " بعقدة أوديب " وغير محررة
من رقابة الأنا الأعلى، ولا تتجاوز حدود
الأسرة . وبصدد ذلك يقول " جيل دولوز" : " إن كلام وسلوك الناس لا
يفهمان ويفسران من لدن التحليل النفسي إلا كرموز للأب والأم والإبن، وذلك هو جوهر
" عقدة أوديب " . (9)
لقد أخطأ "سيجموند فرويد" في نظر الفيلسوف
"جيل دولوز"، وذلك لقصوره المعرفي في تصوره للرغبة من خلال إحالتها على
"عقدة أوديب" ، لأن هذه الإحالة لا تفسر شيئا ، كما أنها لا تؤدي إلى فهم معنى
"الهذيان" على وجه الحقيقة والواقع، أي أنها لا تفسر الرغبة بوصفها آلة
للإنتاج، ولا تؤدي إلى فهم الهذيان في انفتاحه على العالم التاريخي والاجتماعي
والسياسي.إضافة إلى هذا ، ما لهذه الإحالة "من اختزال أخلاقي للرغبة ، أي
اختزال التوظيفات الاجتماعية لليبيدو إلى توظيفات أسرية، وإلى أوديب ."(10)
وهكذا يرى "جيل دولوز" أن " فكرة أوديب" لا تعبر في شيء عن
المفهوم الحقيقي للرغبة، فالرغبة ليست أوديبية حتى على مستوى الطفل. وإنما هي كما
يقول: " آلة إنتاج "(..) وكل إنتاج هو في نفس الوقت إنتاج راغب (...) ، وإن
الإنتاج الراغب إن هو إلا الإنتاج الاجتماعي "(11) ، وإن تصور "سيجموند فرويد"
للرغبة تبعا لذلك لا يتجاوز حدود مجال الأسرة القائم على " عقدة أوديب
"، ولا يعبر إلا عن إقصاء مزدوج، أي إقصاء الدور الوازن للمجتمع والسياسة في
خلق الرغبة لدى الأفراد والجماعات، وإقصاء لدور الدولة في عملية كبتهم. يقول الفيلسوف
"جيل دولوز" : "إن الرغبة ثورية ، لأنها تريد مزيدا من
الاقترانات والتنسيقات. غير أن
" فرويد " ومعه التحليل النفسي يقطع ويختزل كل الاقترانات والتنسيقات في
الأسرة وأوديب، إنه يكره الرغبة، إنه يكره السياسة. " (12)
-ان اختزال "سيجموند فرويد" للرغبة " في
نظام من التصورات المسماة باللاشعورية واختزال مصانع اللاشعور في "عقدة أوديب
" (13)، " هو ما حول في نظر
الفيلسوف"جيل دولوز" اللاشعور والتحليل النفسي إلى ضرب من المثالية. " (14)
وخلافا لذلك، يقتضي الأمر في نظر الفيلسوق " جيل
دولوز " قلب الصيغة الفرويدية للا شعور، والرد على الآخذين والعاملين به
بالقول: "بأن اللاشعور ينبغي أن تنتجوه، إنه لا يخص بتاتا الذكريات المكبوتة،
ولا حتى الاستيهامات. إننا لا نعيد إنتاج ذكريات الطفولة، إننا ننتج بواسطة كتل من
الطفولة التي تنتمي دائما إلى اللحظة الراهنة كتلا من صيرورة الطفل (..) .إن اللاشعور هو ما يصنع كل واحد
منا(...)، لكن ذلك لا يتم في أي مكان كان، إنه لا ينتج بواسطة فلتة لسان، أو بنكتة
أو حتى بحلم . إن اللاشعور مادة يجب صنعها، والعمل على اخراجها، إنه مجال اجتماعي
وسياسي يجب امتلاكه ." (15)
واضح إذا، أن الفيلسوف "جيل دولوز" يرى بأن
اللاشعور لا يرتبط بالماضي الطفولي حتى يعيد إنتاج ذكريات الطفولة، ولا حتى
استيهاماتها، فلا يوجد أي شيء في اللاشعور تذكاري أو خيالي أو رمزي، وإنما هو في
ارتباط دائم بالحاضر في صيرورته، كما أن اللاشعور لا تنتجه فلتة لسان أو نكتة أو
حلم، بل هو من صنع الإنسان من خلال ممارسته لأفعاله وأعماله، وذلك عبر انفتاح تام
على صيرورات عالمه الاجتماعي والسياسي.
يقول "جيل دولوز" ومعه " فيليكس غاتاري
" : " لقد أدان التحليل النفسي الرغبة اللاشعورية منذ البداية، لقد بدا
اللاشعور من خلاله كشيء حيواني خطير يحتاج إلى الترويض ، أي إلى القمع، والكبح، والإخضاع،
والإذلال " (16) ، في حين أن اللاشعور " هو
مصنع، آلة للإنتاج " (17)، آلة تشتغل، ومادامت الآلة الشغالة لا تتحدد إلا
من خلال ما تنتجه، فإن ما ينتجه اللاشعور إن هو إلا الرغبة، وهي بدورها آلة إنتاج،
تنتج آلات للتنسيق والاقتران مع آلات غيرها أو لإحداث قطائع معها.
اللاشعور أو الرغبة، آلات إنتاج لا تتوقف عن الاشتغال
عبر جسد يسميه " جيل دولوز " -أخذا
عن الأديب " أنطونين أرتو" واضع هذا الإسم – "جسم بلا أعضاء "،
وهو"جسم يشبه " البيضة المكثفة "، التي ليست أمومية،
ولكنها تؤسس نمونا وترافق نظاما على الدوام" (18). يقول "جيل دولوز" في هذا السياق : "ليست
الرغبة داخل الذات ، كما أنها ليست ميالة نحو الموضوع :
إنها محايثة بشكل دقيق لمستوى ليست سابقة عليه ، مستوى ينبغي بناؤه . " (19)
إذن، فالرغبة لا ترتبط بذات معينة ولا بموضوع محدد،
وإنما ترجع إلى مجال قبلي أي قبل أن يصبح الإنسان يتحدد كفرد أو كشخص. وهذا المجال
يسميه " جيل دولوز" "
بالجسم بلا أعضاء " أي ما يبقى من الجسم بعد نزع كل
شيء عنه " (20) ، حيث يصبح مجالا بلا شكل ولا تنظيم ولا
تقنين، ولا إنتاج ولا استهلاك، وبعبارة أخرى يصبح المجال الذي توجد فيه الحرية،
وهو ما يتحقق من خلاله نشوء الرغبة، وتتدفق معه السيولات التي تجد توجيهها
وتنظيمها وترتيبها وتقنينها بفعل ما يضفيه عليها المجتمع والسياسة.
وتجدر الإشارة هنا، أن مفهوم " الجسم بلا أعضاء"
يبقى مفهوما أساسيا في فلسفة الرغبة عند "
جيل دولوز" ، وإن كان قد فضل عنه فيما بعد استعمال مفهوم "مسطح المحايثة
" ، كما جاء في كتاباته الأخيرة ، خاصة كتابه " ما الفلسفة" ؟
- ان مفهوم الرغبة عند "جيل دولوز" يتعلق
بالحاضر ويستشرف المستقبل، لأن الرغبة في نظره " هي حدث يتم في الحاضر "
(21) ، كما أنها " لا توجد أبدا من أجل
تأويلها ، وإنما هي التي تجرب " (22) ، في حين أن الرغبة في نظر "
سيجموند فرويد" هي دوما تحيل على شيء لا يعني الحاضر، ولا يعني المستقبل ، وإنما
يعني الماضي فقط. وهو ما يفسر اعتماد التحليل النفسي على آلية التأويل، وعلى إقامة ثنائية تقسم
الرغبة إلى ظاهر وباطن، بحيث أن الرغبة لا تكون كذلك إلا لكونها تعني " شيئا آخر
وتخفي شيئا آخر، و أن يذكر شيء بشيء آخر، أي أن تكون هناك إما إستعارة أو كناية "
(23) كما يقول " جيل دولوز".
إن التحليل النفسي لا يقف عند ظاهر الرغبة ، أي الرغبة
كما هي في الظاهر، كما هي كحدث في الواقع، وإنما يحيلها دائما على شيء آخر هو
باطنها، أي حقيقتها بالنسبة إليه، والمتمثلة في الماضي الطفولي، كل ذلك يتم بناء على آلية التأويل
لديه. وهذا في نظر " جيل دولوز" " ليس إلا قناعا من أجل كسر كل إنتاجات
الرغبة، وسحق كل تشكلات الملفوظات ، ومن تم فإنه يحطم التنسيق بوجهيه، التنسيق الآلي
للرغبة، والتنسيق الجماعي للتلفظ . " (24)
وخلاصة ذلك، كما يقول " جيل دولوز" هي "
إنه لا وجود لذات التلفظ ، لأن التنسيق هو الذي ينتج دائما الملفوظات ، إذ لا تكمن
علة الملفوظات في ذات تعمل كذات للتلفظ ، كما أنها لا ترجع في وجودها إلى ذوات
تكون كذوات للملفوظات . إن التلفظ هو نتاج تنسيق يكون دائما جماعيا ، ويوظف فينا
وخارجنا
"
(25). أما " المحلل النفسي الذي يجلس على كرسيه ليستمع إلى الأشخاص الذين
يستعينون به (...) فإنه يخلق مسافة وعلاقة قوة بينه وبينهم ، ويقود عملية توظيف
الرغبة إلى خارج الحقل الاجتماعي (...) ، كما أنه يجهد نفسه لينجز مهمته بطريقة
لطيفة وماكرة . إنه يفرغ الملفوظات التي يتلقاها - من الأشخاص الذين يستعينون به-
من محتوياتها ، ويبطل مفعولها، ويبث نوعا من المخدر الذاتي فيها. " (26)
ان التحليل
النفسي الفرويدي لا يعمل إلا على خدمة مصالح وتطلعات الرأسماليين ، " بل هو
حليف الرأسمالية القاسية " (27)، لأنه يجعل من سيولات اللاشعور أو الرغبة
مقيدة " بعقدة أوديب"، وغير محررة من رقابة الأنا الأعلى ولا تتجاوز
حدود الأسرة، ودافعة بالفرد إلى الإذعان لما يحدث من إقرار لثقافة تدجينية ودمجية.
وهذا الأمر في نظر " جيل دولوز" ساعد الرأسماليين على عزل اقتصاد الرغبة
عن اقتصاد الإنتاج، عزل اللاشعور عن المعمل، عزل الرغبة عن الإنتاج، ليصبح مجال
الرغبة يتعلق بما هو خاص بالأسرة ( الأب والأم والإبن) ، ومجال الإنتاج يتعلق بما
هو عمومي، أي مجال العمل والمدرسة والمستشفى وغيره ، والذي لا دخل للرغبة فيه.
وآية ذلك كله، أن النظام الرأسمالي "يرى في الرغبة
تهديدا للإنتاج، كما أنه يعتبر التضييق على
العامل بمختلف أشكال التحكم والسيطرة على رغبته يمثل البداية في التحكم والسيطرة على قوة عمله ." (28)
هكذا أدركت الرأسمالية أن السيطرة على رغبة العامل هي
الطريق الموصل للسيطرة على قوة عمله وتأبيد استغلاله، ووأ د كل محاولة منه لتغيير
أوضاعه. وهكذا أيضا وجدت الرأسمالية في التحليل النفسي مرجعيتها النظرية الهادية
لها، وذلك حين يحرف هذا التحليل الرغبة عن معناها الحقيقي كحدث في الواقع ، وكآلة إنتاج
وسيولات عارمة وتدفقات جامحة إلى معنى زائف حين يجعل الرغبة لا تتجاوز حدود الأسرة،
وحين يجعلها أيضا مقيدة " بعقدة أوديب"، وغير محررة من رقابة الأنا الأعلى،
ودافعة بالفرد إلى الإذعان لمختلف أشكال الاستغلال والقمع والتسلط والإقصاء
والتهميش التي تقوم بها المؤسسات المتحكمة في المجتمع وآلياته.
تلك كانت انتقادات الفيلسوف "جيل دولوز"
لماهية الرغبة كما نظر لها " سيجموند فرويد" في التحليل النفسي، وهي انتقادات
تعيد لماهية الرغبة اعتبارها كقوة خلاقة، حيث لم تعد ذلك المكبوت في اللاشعور أو
الشيء البذيء الذي لا يمكن التصريح به، ولا ذلك المسرح لأوديب، ولا هذيانا حول الأب
والأم، ولا ذلك الشيء التذكاري أو الخيالي أو الرمزي، ولا تلك الذات للتلفظ من أجل
التأويل المنحرف، وإنما أصبحت الرغبة بفعل ذلك النقد الفلسفي تعني مصدرا للإنتاج، وإنتاج
الآلات الراغبة، التي تنتج كل شيء ، وكل ما يتعلق بالناس وعلاقاتهم وأعراقهم
وتاريخهم، فوق الأرض والقارات، وداخل المجتمعات وأنظمة السياسات ، وغيرها.
كما أصبح اللاشعور- حيث تسكن الرغبة - بفعل ذلك النقد
الفلسفي أيضا، أمرا يتحكم فيه لا الماضي، وإنما حاضر الماضي ولحظة الحاضر، وحاضر
المستقبل، كما يتوقعه الشخص ويتمناه ويهفو إليه متفائلا، أو يتخوف منه، أو يتجنب
التفكير فيه متشائما. يتعلق الأمر بلاشعور " برغسوني" لا يكون فيه
الشعور وحده تيارا دافقا، متغيرا باستمرار، وإنما يكون اللاشعور نفسه ذلك التيار
الدينامي المتغير باستمرار أداة إنتاج، يعدل الرغبات نفسها وأشكال التعبير عنها.
وتبعا لهذا المنظور الدينامي، فإننا عندما نتحدث عن غياب
الرغبة في التربية و التعليم والتعلم، وعندما ندعو و نطالب بالعمل على خلقها أو
مساعدة المتعلم على خلق رغباته في التعليم و التعلم، فإننا نكون متحررين من تصور سكوني
للرغبة- بمقتضاه إما أن تكون هذه الرغبة أو لا تكون، تصور سكوني يكون فيه الماضي
هو المحدد الحتمي لسمات الحاضر وقسمات المستقبل- ونكون أمام تصور دينامي يكون فيه
تصورنا للحاضر هو المحدد لرغبات الماضي، ولما نرغب في تحقيقه في المستقبل نفسه،
وهو تصور يصبح معه الفعل البيداغوجي ممكنا، وتكون معه مهمة الأستاذ المدرس، في جزء
كبير منها، المساهمة في تحريك أداة الإنتاج ، أي اللاشعور، التي لا تتوقف عن إضفاء
دلالات متغيرة باستمرار على رغبات تعرف مع كل لحظة من لحظات الحاضر نشأة متجددة،
ودلالات متغيرة على الدوام.
يتعلق الأمر إذن، بتصور يصبح معه الفكر البيداغوجي
ممكنا، تصور نفكر به في دراسة واقع تربيتنا وتعليمنا وتعلم متعلمينا، وندرك معه
بان هناك أساسا نظريا متينا تكون معه عملية التربية والتعليم والتعلم ممكنة لا
مستحيلة، "وليصير المستحيل ممكنا يتوجب علينا أن نفكر فيه،لأن المستحيل لا
يستقي وجوده إلا من فكرنا كما يقول الفيلسوف " جيل دولوز" " (29)، ولا يصبح ممكنا إلا
بالفكر ذاته، علما أن إرادة المستحيل هي الهدف الذي من أجله يوجد الفلاسفة.
الهـوامـش
:
(1)
preface à l’ouvrage d’auguste Aichhorn «
jeunesse à l’abondon », in , le Monde de l’éducation, Mois 7/8/2005-N°338
-, France -P : 71.
(2)
Le monde de l’éducation, Mois :7/8/2005
N°338 – France - P.P : 71 ,72 , 73.
(3) مجلة عالم الفكر العدد : 41 - سنة 2013 - الكويت، الصفحة : 49.
(4) جيل دولوز / كلير
بارني " حوارات"- ترجمة : عبد الحي أزرقان / أحمد العلمي-طبعة : إفريقيا
الشرق المغرب / لبنان – 1999.ص : 94.
(5)
Gilles Deleuze « Pour parlers » Ed, de Minuit - Paris-
France- : 1990. P : 197
(6) جيل دولوز / كلير بارني "
حوارات" : ص : 122،123.
(7) نفس المرجع السابق:ص : 103.
(8) Gilles Deleuze /
Félix Guattari « L’Anti oedipe » Ed , de Minuit . Paris-
France- : 1972 . PP :124 ,125.
(9)
Ibid . PP : 59,80
(10)
) Gilles Deleuze « pour parlers » - PP : 28,29
(11)
Ibid : P : 36.
(12) جيل دولوز/ كلير
بارني -" حوارات"- ص : 103.
(13) Gilles Deleuze
« Pour parlers ». PP : 28,29
(14)
Ibid . PP : 28,29
(15)جيل دولوز/ كلير بارني- "حوارات" - ص
: 103.102
(16)جيل
دولوز/فيليكس غاتاري"-كتاب السياسة والتحليل النفسي"-عن نص منه من ترجمة" أيوب المرابط"/عن مجلة
اختلاف- المغرب-العدد: 1 سنة:1991ص: 32.
(17) Gilles Deleuze
« Pour Parlers » P : 197
(18)جيل دولوز / كلير بارني-"
حوارات"- ص : 134.
(19)
نفس المرجع السابق ص : 115.
(20)
Gilles Deleuze / Félix Guattari -« Mille
Plateaux »- Ed , de Minuit , Paris – France- : 1980 .
P :188.
(21)
جيل دولوز / كلير بارني-" حوارات"- ص : من 83 إلى 86
(22)
جيل دولوز/ كلير بارني-" حوارات" - ص : 122
(23)
نفس المرجع السابق –ص : 102.
(24)
نفس المرجع السابق - ص:101.
(25)
نفس المرجع السابق – ص: 69.
(
26) جيل دولوز / فيليكس غاتاري " السياسة والتحليل النفسي"- عن مجلة
اختلاف- ص : 29.
(27)
Gilles Deleuze, « L’Anti
oedipe » . P : 347.
(28) Ibid, P.P : (de 163 à 339)
(29) جيل دولوز / كلير بارني-" حوارات" – ص : 183.
0 التعليقات:
more_vert