أشكالية العلمية في العلوم الإنسانية في مواجهة التطور العلمي التقني.

التصنيف



   
من أرشيف مدرس لمادة الفلسفة متقاعد.

 الأستاذ كمال صيدقي
ثانوية سد بين الويدان التأهلية
      أفورار

أشكالية العلمية في العلوم الإنسانية
(للاستئناس والقابلية للتحيين والإغناء)



تقديم:
  هل يمكن للإنسان أن يكون موضوعا لعلم تجريبي حتى يتم تحقيق نفس النتائج العلمية في العلوم الطبيعية ؟ نطرح هذا السؤال بسبب أن العلوم الإنسانية (علم النفس والتاريخ والاجتماع واللغة والأنتروبولوجيا..) تبحث عن منهج يُخرجها من المُقاربات التأملية والميتافيزيقية واللاهوتية، ولهذا اتجهت شطر المنهج التجريبي  تبحث لها فيه عن مخرج من تخبّطها في الذاتية ومن الشوائب السياسية والعقائدية والإيديولوجية... السؤال : إذا استطاع علماء الطبيعة الفصل بين الذات والموضوع ، فهل هذا الفصل يُمكن تحقيقه في علوم الإنسان أم الأمر يتطلّبُ إبداع منهجية علمية تتناسب مع خصوصية  ظواهر الإنسان .

المحور الأول: موضعة(1) الظاهرة الإنسانية بين القبول والرفض.

   هل يُمكن تطبيق المنهج التجريبي في معرفة حقيقة الظواهر الإنسانية عبر فصل الذات عن الموضوع، وذلك من خلال تشييئ هذا الأخير أم المطلوب إبداع منهج يُراعي الخصوصية الإنسانية من خلال التمييز بين عالم المادة وعالم الوعي والرغبة والإرادة..؟
  أنصار إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية:

يقول دوركايم (1858-1917)في كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع:" ...علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية في ذاتها كظواهر مستقلة عن الذات الواعية التي تتمثلها. علينا أن ندرسها من الخارج باعتبارها أشياء".
 يقول تيوديل ريبو (1839- 1916:" إن علم النفس المعني هنا سيكون تجريبيا صرفا، إذ سوف يكون موضوعه الظواهر فحسب وقوانينها وأسبابها المباشرة، ولن نهتم لا بالنفس ولا بماهيتها، لأن هذه المسألة بحُكم تعاليها عن التجربة وكونها خارج مجال التحقيق، تنتمي للميتافيزيقا... إذن ينزل المنهج الموضوعي في دراسة الحالات النفسية من الخارج لا من الداخل، من خلال الوقائع المادية التي تُعبّر عنها، لا من خلال الوعي الذي تصدر عنه تلك الحالات ."
 يقول " واطسون" : السلوكية هي محاولة لفعل الأمر التالي: أن نُطبق في الدراسة التجريبية على الإنسان عين الطريقة ونفس اللغة الوصفية التي اعتبرها الكثير من الباحثين مفيدتين في دراسة الحيوانات الأدنى من الإنسان."

     هذا الموقف القائل بتشييئ  الظواهر الإنسانية هو موقف " المدرسة الوضعية " وهي اتجاه مادي يرفض كل ما هو تأملي ذاتي وميتافيزيقي ولاهوتي في تفسير الظواهر، وقد أسسه أوجست كونت ( 1857.1798)، والداعي إلى تفسير الظواهر الإنسانية وكأنها وقائع طبيعية مادية، يُمكن وصفها من الخارج، وبالتالي يُمكن الكشف عن " قوانينها " المؤسسة لوجودها، الأمر الذي يتطلب فصل الذات عن الموضوع والتعامل مع ظواهر الإنسان كأشياء  قابلة للتجربة والتجريب في المُختبرات، ومن ثمة قابليتها للترييض أي التكميم في معادلات ودوال. وبهذا المطمح يعتبر الموقف الوضعي أن العلوم التجريبية نموذج صالح لإقامة علمية العلوم الإنسانية ، وبالفعل أقام أوجست كونت علم الاجتماع الفيزيائي ، كما أسس فيلهايم فونت  علم النفس التجريبي سنة 1875 ، بحيث أنشأ مختبرا علميا للدراسات السيكولوجية التجريبية على غرار المُختبرات العلمية في الفيزياء والبيولوجيا، ثم دوركايم (  1917.1858) تلميذ أوجست كونت، والذي اعترف صراحة بإمكانية دراسة الظواهر الإنسانية من الخارج كأشياء، أي بموضوعية وحيّاد ذاتي أنوي. نفس الأمر نجده عند " واطسون "
  لكن من عيوب هذه الأطروحة الوضعية أنها تُماثل  بين موضوعين مُختلفين: المادة والوعي ، والقاعدة المنهجية تقول: الموضوع هو الذي يُحدّد المنهج، فكيف والحالة هذه يتم إسقاط منهج موضوع على موضوع آخر يختلف نوعيا عن الموضوع الطبيعي؟ فهل يُمكن تفسير هذا المنحى الوضعي بالانبهار بفتوحات المنهج التجريبي الوضعي خلال القرن التاسع عشر، وبالتالي الرغبة في الارتقاء بعلمية العلوم الإنسانية إلى مستوى علمية العلوم الطبيعية؟

1-      الموضعة من الموضوعية،Objectivité منهج علمي يقتضي الحياد عبر فصل الذات عن الموضوع في معرفة الموضوعات، بمعنى التخلص من الأفكار المسبقة والخلفيات الإيديولوجية والعقائدية من أجل بلوغ حقيقة الموضوعات. والموضوعية تتعارض مع الذاتية Subjectivité.

الأطروحات المُعارضة للمَوْضعة وتشييئ الظواهر الإنسانية؟

    من عوائق مَوْضَعة الظاهرة الإنسانية، كما يقول جان بياجي ( 1980. 1896)،أن الموضوع الإنساني هو أكثر تعقيدا بسبب التداخل بين الذات والموضوع ، ممّا يعني أن الذات تتغيّر بما تُلاحظه وتؤثّر في نفس الوقت على استقلالية الذات عن مسار معرفة الظواهر الإنسانية. بمعنى، من المستحيل إزاحة تمركز الذات  حول ذاتها، لأن الموضوع هو الذات، بخلاف ما يحصُل في العلوم الطبيعية، بحيث يكون الموضوع خارج الذات.
  إذن ليس هناك تمييز بين الذات الأنوية المُتمركزة حول ذاتها، وبين الذات العارفة ، وهذا هو عائق حصول الموضوعية كما في العلوم الطبيعية، بسبب أن " أنا " المُلاحظ هي جزء من الظاهرة، بمعنى أن الموضوع هو الذات، وبالتالي لا يمكن كما يزعم دوركايم،أن ندرسها من الخارج كأشياء،أو كما زعم " ريبو"، ندرس الإنسان كمادة وليس كوعي.
  كحجة، نورد القضية التالية، في ميدان العلم التجريبي، وبعد الاستقراء التجريبي، نصل إلى القانون الثابت التالي: كل المعادن تتمدّد بالحرارة، هنا لا تختلط الذات الأنوية مع الذات العارفة ، التي تصف وتُفسّر الظاهرة كما هي في خواصها وكما تُجليها لنا الخبرة عبر التجربة والتجريب، وإذا تكرّرت نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج. وهذا المسار وهذه الحقيقة لا يُمكن تحقّقها بالنسبة للظواهر الإنسانية، مثلا حين نريد تفسير أسباب تخلف الشعوب، سنجد أنفسنا أمام عدّة تأويلات ووجهات نظر مًختلفة حول نفس الظاهرة، ومن بين التأويلات المفسرة لظاهرة التخلف، يُمكن تعداد التأويلات التالية: غياب الديمقراطية وسيادة الاستبداد المُعطّل للإبداع والابتكار،غياب الإيمان الديني والسقوط في الفساد الأخلاقي المُعرقل للتقدم، تأخر في قوى الإنتاج، التبعية، الأميّة...

      إذن الحياد العلمي في العلوم الإنسانية صعب التحقّق بسبب صعوبة فصل الباحث عن مُعتقداته السياسية والإيديولوجية والعقائدية..وهذه من أسباب عوائق مَوضعة الظواهر الإنسانية،إضافة إلى أن هذه الظواهر أكثر تعقيدا بسبب أنها غير ثابتة وقابلة لعدة تأويلات، ولا تخضع في مسارها إلى قوانين ثابتة يُمكن من خلالها بناء معرفة حقيقية وموضوعية كما الشأن في العلوم الفيزيائية والبولوجية.

وهذه المشكلة ستؤدي بنا إلى طرح قضية المنهج الملائم للظواهر الإنسانية ، هل هو التفسير أم الفهم أم المنهج الإنشائي؟وهذا هو موضوع وإشكال المحور الثاني، هل الظواهر الإنسانية تُفسّر أم تُفهم أم هناك منهج آخر؟ وما الفرق بين هذه المناهج؟

يقول غاستون غرانجي:" التفسير منهج قائم على الكشف الموضوعي للعلاقات السببية الثابتة بين الظواهر أو الحوادث، واستنتاج أن الحوادث المدروسة تنشأ عنها. إنه منهج العالم الفيزيائي... بيد أن الأمر على خلاف ذلك في حال الأفعال والحوادث الإنسانية، فها هنا لا نفسّر الأفعال بل نسعى إلى فهمها ... وتقديم تأويل يرمي إلى فهم الفعل الإنساني."
يقول ليفي ستروس:" إن العلوم الإنسانية لا تُفسّر الظواهر تفسيرا نهائيا ولا تتنبأ بيقين تلم.. ويظهر أنه محكوم عليها بأن تسير في طريق سيّئ لا يسمح للسائر فيه... استخلاص ما يتوجب استخلاصه."
يقول دلتاي:" تتميز العلوم الروحية عن العلوم الطبيعية بكون موضوع هذه الأخيرة عبارة عن ظواهر تتقدم للوعي باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية، في حين تتمظهر هذه الظواهر للعلوم العقلية باعتبارها مجموعا حيّا... لهذا نُفسّر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية...  وينتج عن هذا أن المناهج التي ندرس بها الحياة الروحية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة"
يقول جون مونرو في كتابه " الوقائع الاجتماعية ليست أشياء": إننا نفهم بعض الحوادث بالبداهة/ مثلا غضب شخص حين الاعتداء عليه... وكل محاولة لتأسيس الفهم ( البداهة) على أساس الاستقراء هي محاولة ستفضي إلى تقويضها."  

إذن الفهم نشاط عقلي تأويلي، يستخلص المعاني والدلالات والقيم في معرفته للظواهر، وهو لذلك يتناسب مع معرفة الظواهر الإنسانية، أما التفسير العِلّي ، فهو يقوم على أساس المطابقة تمظهر الظواهر الطبيعية والقوانين المفسّرة لحقيقتها، وهذا المنهج هو الذي يتناسب مع العلوم الطبيعية، بحيث يترتب عن التفسير الاعتناء بما تجود به الظاهر في استقلال عن الذات، بحيث أنه كلما تكررت نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، بخلاف ما يحصل في الظواهر الإنسانية بحيث أن " قوانينها " غير ثابتة ويستحيل تكرارها، لهذا قال دلتاي :" نُفسّر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية." ونفس الأمر أثبته مونرو في النص أعلاه.
  كخلاصة، من الصعب تفسير الظواهر الإنسانية بمثل ما نُفسّر الظواهر الطبيعية،لآن الإنسان وعي ورغبة وإرادة وروح، من المُستحيل تكميمها رياضيا في معادلات، أو تجزيئها وتشييئها في المختبر، وإخضاعها للتجربة والتجريب.كما لا يُمكن التنبّؤ بالسلوك البشري كما هو الشأن مع الظواهر الطبيعية لآن قوانينها ثابثة وتتساوق مع طبيعة خواص الظاهرة، ومن ثمة من الصعب وصف أو نقل أو استنساخ الظواهر الإنسانية. وهذا ما دفع بالمفكر الأنتروبولوجي " مالينوفسكي " إلى القول:" إننا لا نشعر بالثقة ولا بالاحترام أمام نتائج العلوم الإنسانية، بل لا نعتقد في صلاحية النظريات الاجتماعية." وهذا راجع بالطبع كما أسلفنا إلى تداخل الذات الأنوية مع الذات العارفة.

والحالة هذه، وبعد كل الحديث عن عوائق مَوْضَعة الظاهرة الإنسانية، هل يًمكن اعتبار العلوم التجريبية نموذجا للعلوم الإنسانية ؟ وهذا هو إشكال المحور الثالث. لكن هل يُمكن الحديث عن تعديل المنهج التجريبي  كي يتلاءم مع خصوصية الظاهرة الإنسانية أم القطع مع هذا المنهج والبحث عن منهج آخر يتناسب مع خصوصية الظاهرة الإنسانية؟ وما يزيد الأمور تعقيدا، هو تعدد موضوعات العلوم الإنسانية ( علم النفس والاجتماع والتاريخ واللغة والأنتروبولوجيا...) وقد مرّ معنا في الوضع البشري أن محددات الوجود البشري متعددة ومعقّدة،وحتى معرفة الغير تشوبها كثير من الصعاب. وقد اقترح كلّ من " لابروت " و " وارني " عدم القطع مع منهج العلوم الطبيعية، بحجة أنه في الفيزياء النظرية المعاصرة مع إنشتاين وباشلار ، لم يتم إلغاء ذات العالم وإبداعاته العقلية للظواهر الطبيعية، فالذات عند باشلار هي التي تخلق الموضوعات وتُبدعها وليست تُعطاها في الخبرة الحسية. ونفس الأمر، نجده في رغبة العلماء في إبداع ما لايوجد في الطبيعة من قبيل ما تقوم به الهندسة الوراثية في مجال البيولوجيا، وما ترتب عنها من تخليق جيني لكائنات غير موجودة أصلا في الطبيعة.وسأناقش هذه القضية في مرحلة النقاش الختامي لاحقا. 
   لكن ميرلوبونتي ، يتحفظ على الوصول إلى حقيقة الوجود الإنساني باستخدام المنهج التجريبي الوضعي الذي لا يعترف بالشعور والعواطف والرغبات....لآنه منهج تجزيئي وتشييئي ، بينما التجربة الإنسانية حميمية ومُتفرّدة ، وهي ما يُشكّل حقيقة المعيش الإنساني  ( نتذكر دفاع ميرلوبونتي عن معرفة الغير من خلال التعاطف الوجداني ) والذي لا يُعيره المنهج التجريبي الوضعي  أي قيمة معرفية ومنهجية يقول ميرلوبونتي :" إن كل ما أعرفه عن العالم، ولو كان مصدره العِلم، أعرفه انطلاقا من وجهة نظر خاصة بي، وأعرفه من خلال تجربتي في العالم والتني بدونها لن تعني رموز العالم أيّ شيء." وهذا ما يحاول ميرلوبونتي تأسيسه من خلال المنهج الفينومينولوجي الذي يتعامل مع الظواهر الإنسانية كخبرات شعورية معطاة كما للوعي .
  إذن ما يتجاهله المنهج التجريبي الموضوعي الوضعي الاختباري، هو تجربة الذات المعيشية، وهي المصدر ، حسب ميرلوبونتي، لكل معرفة ، حيث لا يُمكن تجاهل حميمية الإنسان ودور إرادته في الخلق والإبداع.
   لهذا نجد من بين المواقف كذل الدّاعين إلى إبداع منهج إنشائي في مقابل المنهج الاختباري العلمي ، والذي من شأنه أن يمنح الذات العارفة دورا خلاّقا وفاعلا في إعادة بناء الظواهر الإنسانية وفهمها من دون تشييئها.
النقاش الختامي. 
 لكن،يمكن فتح نقاش مع المتعلمين بخصوص إمتدادات الإشكال قيد المناقشة، أمام تقدم  العلوم البيولوجية خاصة ،وما نشأ عنها من علوم تبحث في الأساس البيولوجي للإنسان وعلاقته بما يصطلح عليه الوعي والنفس والروح،ويمكن تذكير التلاميذ بأطروحة " ج ب.شونجو" التي تعرفوا عليها في مجزوءة ما الإنسان، أطروحة تنتقد التصور الفلسفي الكلاسيكي للإنسان من خلال  علوم غاصت في الخريطة الجينية، وأسرار الدماغ وعلاقته الإشكالية بالوعي، بحيث لم يعد يتعلق الأمر بخصوصية الأنوية الإنسانية المتميزة والتي تعتبر عائقا أمام تحقيق نموذجية العلوم التجريبية،بحيث تجاوز العلم هذه الخاصية ليتجرأ على تغيير مفهوم الإنسان من خلال الهندسة الوراثية التي ترتب عنها إمكانية التخليق الجينبي...والإحراجات التي سيسببها للموقف الديني والفلسفي التقليدي،ومن ثمة إعادة النظر في طبيعة المقاربة الفلسفية مع تقدم العلوم البيولوجية بالخصوص والتي تسير نحو بناء الإنسان في بعده المادي القابل للملاحظة والتجريب بل والتخليق الجيني في المختبر. رهان هذا العلم هو تقديم خدمة للإنسان فيما يتعلق بإيجاد أدوية للأمراض المستعصية وعلاجها وتحسين النسل، وتقوية القدرات الحربية... الأمر الذي سيعيد موضعة الإنسان، وضرورة مراجعة المقاربة الفلسفية لمفاهيمها وأدواتها في التفلسف أمام تقدم العلوم إذا لازلنا نؤمن بالعلاقة الجدلية بين العلم والفلسفة.وهذا يطرح إشكال هل الفلسفة قادرة على مجارات سيولة التقدم العلمي الهائلة والتي ارتبطت بالسوق الرأسمالية  التي تستثمر في تخليق إنسان وفق حاجة ربحية مغلّفة بالبحث العلمي.


هناك إشكال آخر سيغير وضعية الإنسان، يتعلق الأمر بالذكاءات الصناعية التي أصبحت تنافس الإنسان الطبيعي في شتى المجالات التي يستمد منها الإنسان الطبيعي كل مقومات وجوده ومن خلالها نتعرّف عليه ، والتي قد تغير طبيعة علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالطبيعة. فالإنسان الآلي " الروبوت " هو في طريق تغيير مجمل العلاقات الإنسانية ،إقتصاديا من حيث تقلص فرص الشغل من خلال تعويض الإنسان الآلي للإنسان الطبيعي ،وقد يؤزّم هذا الوضع وضعية الإنسان الطبيعي بالرغم من أن نُخبته هي التي تُبدع أشكال للوجود إصطناعية ولكن بتكلفة وجودية لازالت قيد الدرس والتحليل. تلك إشكالية حدود التقنية في إعادة فهمنا للإنسان وخاصة في ظل استلاب التقنية التي قلّصت من حرية الإنسان وجعلته عبدا للتقنية، بدل أن تكون التقنية وسيلة لتحقيق نماء وكرامة الإنسان.وهذه الوضعية الجديدة خلقت مشكلة دينية وحقوقية وأخلاقية بصدد السؤال : ما الإنسان وهل يمكن تحديده وسط هذه التطورات المتسارعة وغير المتحكم فيها بسبب الحرية العلمية في الإبداع كحق غير قابل للتعطيل؟ وهل النقاشات الكلاسيكية التي رفضت تشييء الإنسان لازالت لها راهنيتها أم يقتضي الأمر تغيير المقاربة بسبب المستجدات العلمية وبطأ المتابعة الفلسفية في زمن قلّ فيه الفلاسفة وانتشرت فيهقيم السوق المتوحشة وظواهر التفاهة والإنعزالية وتفكك المنظومات الأخلاقية؟


ما المطلوب من مدرسة ومدرس الفلسفة كي يبسط هذه الإشكالات بتوظيف قضايا وإشكالات مجزرءتي الطبيعة وما الإنسان؟وهل يتعلق الأمر بإبداع مناخ جديد للإنسان لم تعرفه الفلسفة الكلاسيكية مما يقتضي إعادة التفكير في الوضع البشري والبحث عن مناهج كفيلة بمسايرة السيولة التقدمية العلمية.؟ هل الثورة الرقمية شيأت الإنسان وجمدت فيه روح التباعد والحيطة والحذر والنقد  الذي تحدث عنمهما " هيدجر" أم غذا هو ذاته مكنة تخضع لبرمجة كل موجودات الذكاءات الصناعية، وهذا يسائل موقف " جان بول سارتر" من قضية الحرية الإنسانية أمام الانفجار الرقمي ولإنكانية خلقه لعقلية " القطيع " الرقمي؟
يمكن للمدرس أن يطلب من المتعلمين استخراج هواتفهم النقالةـ ومساءلتهم عن القيمة المضافة التي حققتها لهم تلك الهواتف، وكيف أثرت على وضعهم البشري، وما حدود تحكّمهم في طبيعة العلاقة معها ، وهل أصبحت جزءا من هويتهم ، وما لو تم تعطيلها لمدة معينة والاهتمتم بأمور أكثر إنسانية بعيدا عن التقنية الذكية.....وهل يجوز طرح السؤال التالي : هل عوّضت موجودات  الذكاءات الصناعية الوعي الطبيعي ومن ثمة يمكن تطبيق المنهج التجريبي على إنسان أصبح هو ذاته مبرمج ( بمعنى مستلب بلغة الفلسفة ) ويسري عليه ما يسري على أشياء الذكاءات الصناعية المادية؟بعبارة أخرى ، هل الإنسان الرقمي أصبح شبيها بالموجودات الطبيعية التي يشتغل عليها المنهج التجريبي في المختبر ؟ أليس هناك برمجيات رقمية  تقيس وضعية الإنسان الوجدانية والنفسية وحتى الجمالية؟؟؟؟!!!!!! ويصدّق عدد من الذين يلجون هذه التطبيقات خلاصاتها وينشرونها على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي ومنهم مدرسات ومدرسون ومن مختلف المهن؟!!!!!أليس هذا نوعا من التشييئ ويمكن تطبيق القياس التجريب عليه؟كيف لتطبيق رقمي يقيس وضعية أو حالة وجدانية إنسانية ؟





شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: