تدريس الفلسفة والحاجة إلى التكوين عن بعد.محمد بادج

التصنيف


 ربما الجيل الحالي من مدرسي الفلسفة لا يعرف الأستاذ محمد بادج الذي كان سبّاقا لنشر دروسه الفلسفية على الإنترنيت في سنوات أوخر التسعينات من القرن الماضي من خلال موقعه الخاص.وأنا أراجع بعضا من الملفات التي قمتُ بتجميعها لسنوات وجدت من بينها مقال الأستاذ محمد بادج حول التكوين الفلسفي عن بعد وهي القضية موضوع النقاش الحالي.كتب المقال في ظرفية وسياقات  معينة ولكن لازالت له راهنيته. فتحية لهذا الأستاذ الذي ساعد جيلا للتمرس على البحث الإلكتروني في مجال الدرس الفلسفي.

محمد باداج - تدريس الفلسفة والحاجة إلى التكوين عن ب
تدريس الفلسفة والحاجة إلى التكوين عن بعد مقاربة أولية

Enseignement de la philosophie
nécessité de la formation à distance
محمد بادج.



يتحدد هدف هذا المقال، في محاولة فتح سبـل التفكير في الدور الذي يمكن أن يلعبه "التكوين الإلكتروني" e-learning في المساهمة في بلورة ديداكتيكا مادة الفلسفة، وبالتالي تقريب المسافات بين الفاعلين التربويين– في مجال تدريس الفلسفة - سواء على المستوى النظري أو مستوى الممارسة. ومن أجل بلوغ هذه الغاية، فإننا سنحاول إقامة مقاربة للمسألة تتأسس على منطق تشخيصي تتأكد من خلاله ضرورة اعتماد تكوين مستمر يعتمد على استراتيجية "التكوين عن بعد".

تدريس الفلسفة والاختلاف البيداغوجي


 إذا كانت قضية التكوين المستمر تعتبر من الأمور الاعتيادية – وربما من البديهيات – في جل المواد التعليمية ؛ فإن الأمر يكتسي أهمية خاصة بالنسبة لتدريس الفلسفة.. ونكتفي بالإشارة إلى خصوصية الوضع البيداغوجي لهذا التدريس : فقد عرفت الممارسة البيداغوجية لتدريس الفلسفة "وضعا سابقا" بالثانوي، وهو وإن كان وضعا عرف نوعا من الثراء والتعدد البيداغوجيين، إلا أنه ثراء وتعدد حتمتهما محاولة تجاوز الكتاب المدرسي(1) الذي كان لا يرقى إلى انتظارات كل الفاعلين التربويين. وكان، في الآن نفسه، وضعا يشير إلى نوع من "التشتت والتيهـان والضياع" في الممارسة البيداغوجية، وضع وصفه البعض ب"الاختلاف المتوحش"(2).
لقد عمل "النظام الأكاديمي للبكالوريا"(3) على تقليص نسبي لهذا "التشتت" : فهناك من جهة الكتاب المدرسي الذي اعتمد على النصوص كأرضية بيداغوجية ؛ وهناك، من جهة أخرى، "مصلحة التلميذ" التي حتمت (أولا) إنهاء المقررات في الوقت المناسب، ثم (ثانيا) التفكير في أساليب للتقويم الموضوعي لإنجازات التلاميذ. والجدير بالذكر، أن ديداكتيكا الفلسفة في هذه المرحلة استلهمت كثيرا من تمثلاتها التربوية من بيداغوجيا التدريس بالأهداف (...) ؛ ومع ذلك، لا نستطيع أن نؤكد (اليوم) أن تلك كانت مرحلة توحدت فيها الرؤى، لأن كثيرين كانوا يسجلون تحفظاتهم حول نجاعة بيداغوجيا الأهداف في تدريس الفلسفة، بل كان هناك، أيضا، من يتحفظ على كل استعمال بيداغوجي أو "تقني" في تدريس الفلسفة.
وفي الفترة الراهنة، لا نستطيع أن نجزم على حصول تمثلات بيداغوجية واضحة بين الفاعلين التربويين مهما كانت مسؤولياتهم : فلازال غياب الوضوح البيداغوجي يشوب كثيرا من الممارسات والتمثلات التربوية، كما لا يمكن التأكيد على وجود تصور واضح للتقويم رغم وجود مذكرات تحاول أن تحدد نوعياته، لكنها في الواقع، لا ترقى إلى مستوى تقنين أساليبه(4).
إنـه لا يمكن إيعاز ذلك، فقط، إلى خصـوبة الفكر الفلسفي، وربما يجد ذلك تعليله في أن الفـاعلين في هذه المادة يتصنفون إلى صنفين(5) :
§         صنف يكرس مفهوم الخصوصية (=خصوصية المادة) معتبرا تدريس الفلسفة في غنى عن كل استئناس بالطرق البيداغوجية والديداكتيكية، لأن الفلسفة تحمل بيداغوجيتها في ذاتها.
§         وصنف يعتقد أن تدريس الفلسفة يحتم ضبط الطرق التربوية الحديثة، وبالتالي الانفتاح عن كل مستجد في الحقل الديداكتيكي.
فإذا كان الصنف الأول يبرر تمثلاته بالروح النقدية للفلسفة، وبالاعتماد على مرجعيات من تاريخ الفلسفة ؛ فإن الصنف الثاني لا ينفي خصوصية الفلسفة، ويعتقد أن الطابع المؤسساتي يفترض أن نفكر (أيضـا) في الفلسفة كمادة تعليمية وتكوينية.
ليس الهدف - في هذا المقام - هو شرح هذا الاختلاف الفكري والبيداغوجي، لأنه في الواقع اختلاف لا زال – إلى حد ما – قائما في بلدان قطعت أشواطا كبرى في المجال الديداكتيكي لتدريس الفلسفة ؛ وإنما الهدف من إثارة المسألة يتلخص في التأكيد على وجود تبـاين بين الفاعلين حول تدريس الفلسفة، الأمر الذي يحتم ضرورة تقريب المسـافات النظرية والبيداغوجية(6). إن تكريس الوضع، واستمراره بهذه الصورة يترك هامشا يمكن أن يتسرب منه الارتجال وعدم ضبط الممارسات التعليمية التعلمية. علما بأن أي ممارسة تربوية – مهما كان مصدرها - سلوك يستوجب الخضوع للتثمين والتقويم. لذا نثير الانتباه إلى أن أي تمثل أكـاديمي أو بيداغوجي، مهما كانت مرجعيـاته، يؤثر – بالدرجة الأولى - في المتعلم، الذي سيعمل (بدوره) على ترجمته في مستقبل قريب في الفروض والامتحانات، وفي مستقبل بعيد في الحياة العامة كسلوكيات عملية وأخلاقية أو كتصورات وقناعات فكرية.
وبناء عليه، فليس من الترف الفكري أن نحاول تمثل طبيعة الدرس ومواصفاته، أو أن نعمل على إثارة النقاش حول الطـرائق البيداغوجية، والوسائل الديداكتيكية، أو أن نثير مشكل التقويم (...)، لأن الوضع التعليمي التعلمي يفترض أن نفكر في الكيفية القمينة بأن تنجح العلاقة مدرس/ تلميذ وتجعل المادة التعليمية في متناول المتعلمين. وهما أمران لا يمكن أن يحدثا إلا من خلال الوعي التام بالأهداف المنشودة من تدريس الفلسفة، وبالممارسات الصفية التي يمكن أن تساعد على تحقيق ذلك.

       ضرورة اعتماد استراتيجية التكوين عن بعد  

 إن تقريب وجهات النظر بين الفاعلين في مجال تدريس الفلسفة، لا يمكن أن يتم، إلا بواسطة التفكير في سبل تعميم التكوين المستمـر (أو إعادة التكوين)، نظرا لما يمكن أن يشـوب معلوماتنا من نسيان، ولم لا نقول التجـاوز والتقادم؟ ! وفي هـذا الإطـار فالمؤكد أن بإمكـان "الأجهـزة التربوية" على المستوى الوطني، وخصوصا على مستـوى الأكاديميات، أن تضطلع بدورها كاملا..
إنه من الصعب الإفصاح، في هذا المقام، عن تصور شامل أو استراتيجية متكاملة ؛ ومع ذلك، لابد من التأكيد على ضرورة تفعيـل العمل التربوي انطلاقا من روح الفلسفة التي تبين - من خلال نماذج تـاريخية متعددة - ضرورة التحلي بالتواضع المعرفي وبالتالي بالحاجة إلى الاستزادة في المعرفة. وذلك ما يحتم أن نميز في الفعل التربوي بين الممارسات والتصورات التي تتـأسس على مرجعيـات (أكـاديمية، نظرية، ديداكتيكية واختبارية أو علمية...)، وبين أحكام وممـارسـات مبنية على الظـن والظرفية والارتجال.
وإذا كنا لا نتجادل حول أهمية الدورات التكوينية، وكذا اعتبار اللقاءات التربوية (التي يرأسها المفتشون) ورشات قد تساهم في عملية التكوين المستمر؛ لا بد - في ذات الوقت - من الاعتراف بمحدوديتها نظرا لعدة أسباب قابلة للاختزال في نقطتين أساسيتين :
1.      إن الدورات التكوينية عبارة عن محاشد، تحتاج إلى الاعتماد المطلق على الموارد البشرية، وانتظار عطل (فصلية أو بينية أو سنوية) لإجرائها، علاوة على الاضطرار إلى التغلب على صعوبات مادية وتنظيمية متنوعة.
2.      لا يمكن الجزم على أن اللقاءات التربوية، التي يترأسها المفتشون، تعمل على خلق تراكم معرفي أو بيداغوجي نظرا لمحليتها، وخصوصا لأنها تتوقف على الإرادة الشخصية، والقدرات والكفاءات الفردية لكل من المفتشين والمدرسين.
أمام هذا الوضع لابد من التفكير في اعتماد استراتيجية للتكوين الذاتي تتأسس على استراتيجية للتكوين عن بعد، وبالتالي استباق دورات تكوينية محتملة، علمـا أن الأمر لا يتطلب إلا قليلا من الإمكانات وكثيرا من الإرادة. فأن تتوفر الأكاديميات على مواقع تربوية وتكوينية على شبكة الإنترنيت معناه : 
- المساهمة بشكل فاعل في تخفيف أعباء (فكرية، وفسيولوجية، ومادية ...إلخ) على العنصر البشري.
- خروج البحوث التربوية إلى النور عوض أن تظل حبيـسة الرفوف.
- خلق تنـافسية بين الأكاديميات على مستوى البحث والإبداع في المجال التربوي-الديدادكتيكي.
- حفـز الفاعلين التربويين على التكوين الذاتي وتمكينهم من الاطلاع على إنتاج كل الأكاديميات الموجودة على التراب الوطني.
- الاضطرار إلى مواكبة المستجدات التربوية، وتحيين المعلومات بشكل أسرع.
- تكييف وتيـرة التكويـن الذاتي مع نوعـية الإكـراهات الشخصية والفردية.  
إن الاعتماد على استراتيجية "التكوين عن بعد" لا يمكن أن يلغي الدورات التكوينية، وإنما يمكن أن يحد من الاعتماد المطلق عليها وبالتالي الحد من قطبيتها. وسينحصر دورها (=لدورات التكوينية) في القيام بأعمال تنسيقية ومكملة وتقويمية (إن اقتضى الحال ذلك). فقد أثبت التجربة أن الاكتفاء بما يؤخذ عن دورات تكوينية سرعان ما يعرض المعلومات للتقادم، إن لم نقل بأن الإجراءات المادية والتنظيمية التي تعـيق القيام بها في الظرفية المناسبة يجعل ما يؤخذ عنها متقـادما أصلا. كما أن الاعتماد المطلق على دورات تكوينية، يقوم على مرجعيات تربوية تقليدية تتضمن نوعا من الشك في ذكاء المتلقي، وقدراته في التكوين الذاتي بعيدا عن الالتقاء المباشر بالمكون.

وختـاما نقول : إذا كانت الطاقات في الماضي انصبت بالخصوص في اتجاه رفع الارتياب عن الفلسفة، وبالتالي رد الاعتبار إلى الفلسفة كمادة تعليمية؛ فإننا اليوم لا نستطيع أن نؤكد انتصارا حتميا إلا بإبراز الأهمية التكوينية لهذه المادة. صحيح أنه اتضحت أهمية ترسيخ الفكر العقلاني وثقافة الاختلاف، وأهمية تربية النشء على الاستقلال الذاتي ؛ كما تم الاعتراف، مبدئيا، بأن للفلسفة قدرات تربوية وتنويرية. لهذا أصبح الكل يؤكد أهمية الفلسفة (على مستوى الخطاب) لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو : هل يستشعر المتعلم في أعماقه بتلك الأهمية ؟ وذلك حتى نستطيع أن نؤكد، على القطع، بأن تدريس الفلسفة ارتقى (عند التلاميذ) من مستوى الإكراه إلى مستوى الضرورة. ذلك لنلاحظ بأن الواقع التربوي أصبح يحتم على مدرس الفلسفة ضرورة التجسيد العملي لقدراته الفعلية في تكوين إنسان متشبع بقيم مجتمعه ومنفتح على القيم الإنسانية الكونية، إنسان يحتكم إلى العقل والمنطق، ويرفض كل ضروب الدوغمائية، وبالتالي إنسان قادر على الجمع بين الروح النقدية ومواكبة مستجدات عصره. ومن ثمة يتضح، أنه لن يتم كسب الرهان بمجرد إحداث تغيير في البرامج والمناهج، خصوصا وأن أية ممارسة تكوينية تفترض امتلاك أدوات للتبليغ، والتواصل، وأخرى للتحقق من بلوغ المقاصد والأهداف. إن المسألة تحتم، إذن، التفكير بشكل موضوعي في جميع السبل التي يمكن أن نجعل بها البيدغوجيا في خدمة مقاصد الفلسفة، وبالتالي بلورة ديداكتيكا خاصة تميز هذه المادة، حتى نمنح الفرصة للفلسفة لتعمل على تفتق قدراتها التربوية والتكوينية والتنويرية المتميزة. إن ذلك ما يبين، في الآن نفسه، أن العناية بالشأن التربوي والتعليمي ينطلق من توفير جميع الآليات الضرورية للرقي بالتجربة الصفية إلى مستوى الطموحات المنشودة.

هوامش :

(1) نقصد الكتاب المدرسي الذي كان من إعداد اللجنة التي أشرف عليها المرحوم د. علي سامي النشار.
(2) مصطفى محسن، "المعرفة والمؤسسة"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، يونيو 1993 ، ص 203
(3) تجدر الإشارة على أن "النظام الأكاديمي للبكالوريا" هو مفهوم اصطلاحي فقط، تواتر الفاعلون على توظيفه لما يحمله من إشارة إلى أن امتحان البكالوريا كان يتم كليا تحت إشراف الأكاديميات، على خلاف ما يحدث في النظام الجديد، الذي تشرف الأكاديمية على شق منه (الامتجان الجهوي)، بينما يتم الإشراف على الشق الآخر من امتحان البكالوريا على المستوى المركزي (الامتحان الوطني).
(4) محمد باداج، "مشكل التقويم في مادة الفلسفة"، مجلة علوم التربية، المجلد الثالث، العدد 24 ، مارس 2003، مطبعة النجاح الجديدة، من ص 111 إلى ص 121
(5) د. عز الدين الخطابي، "مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب"، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2002 ، ص 87
(6) حقيقة أن فرنسا (مثلا) تعرف مثل هذا الوضع..، كما أنها اختلافات موجودة كذلك بين المؤطرين التربويين (=المفتشين). لكن المشكلة هنا هي أن القضايا تثار بطريقة هي أقرب إلى الهمس منها إلى التفكير، لأنها تثار في منابر غير مسؤولة، مما يؤدي بكثير من الفاعلين التربويين إلى السقوط (بوعي أو بغير وعي) في ممارسة نوع من الازدواجية في الخطاب...


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: