ما مقتضيات الدرس الفلسفي بالجزائر ؟مساءلة المنهاج

التصنيف

 


 


ما مقتضيات الدرس الفلسفي بالجزائر ؟مساءلة المنهاج

حوار ساخن بين المؤطرين التربويين

 



ما مقتضيات الدرس الفلسفي بالجزائر ؟مساءلة المنهاج

حوار ساخن بين المؤطرين التربويين

  


محمد بصري مفتش التربية الوطنية : بين الملكة والكفاءة

تساءلت دائما لماذا جيراننا عن اليمين وعن الشمال  الأشقاء. عن تونس والمغرب أتحدث يلتزمون بالقواعد اللغوية وجينالوجيا المفهوم خاصة عندما يتعلق الامر بحقول التربية .فالنظام البيداغوجي ينطلق من منظومة الكفايات “اي القدرات ” واستراتيجيات التمهير الدراسي بينما انظمتنا التربوية لا تتردد في إستخدام مفهوم الكفاءة رغم ان لسان العرب وصاحبه ابن منظور يقر ان “الكفاءة هي التماثل والتساوي والتشابه قياسا الى لغة المعايير. بينما الكفاية هي القدرة وهي اقرب الى الصواب .رغم ان اللغة العربية حبلى بالمفاهيم والاشتقاقات، فنحن نصر على الترجمة البائسة لمصطلحات اللغات الافرنجية والاعجمية .la compétence هي القدرة وليست الكفاءة .ربما الترجمة خائنة وكاذبة وعاقر لا تلد فلا يجب ان نفتش عن مستودع مذاهبنا البيداغوجية في الافق الثقافي للغير .لان ذلك من اوهام المسرح والسوق.

الكفاءة والملكة 

نتحدث عن الفرق بين الكفاءة والملكة جزافا، باستنطاق منظومة مفاهيم معقدة وبعرضها على التحليل البنيوي للتاريخ او تأسيس منهج يرتد سقفه المعرفي والمنهجي الى التراث وينهل اسسه البيداغوجية من تحديات العصر والعولمة. وهو ما دعاه محمد الدريج ببراديغم جديد، موظفا المقولات الفلسفية والابستيمولوجية للراحل د.محمد الجابري، من خلال اعادة انتاج انظمة لغوية وفكرية وإنسانية تستأنس بالنموذج الرشدي والعقل الفقهي الاندلسي وقراءة الحاضر على اساس الماضي ومكوناته المتكثرة والمكوثرة. قد يطول الشرح في هذا لكن الاستبدال التقني لمفهوم الكفاءة كإستراتيجية تعليمية ديداكتيكية بمفهوم الملكة يكتنفه الغموض فليست النائحة كالثكلى كما يقول التراث الشعبي العربي، لان البناء القيمي والفكري والمفاهيمي للملكة معقد يتداخل فيه المكتسب بالفطري وهي قريبة للتناغم النفسي مع الذكاءات المتعددة التي اشار اليها غارنر تتطلب عدة فيزيولوجية وتسلسل جيني تتداول فيه الاجيال مكامن الابداع وتخريجاته، كما انها ميزة يتعالى فيها الرسوخ في النفس مع قوة الصنعة وحبكتها. انظر مثلا اسرة “باخ ” والخمسين موسيقي او اسرة “زنكي “الايوبية التي ورثت الشرف العسكري وقس ذلك على الاسر العلمية التي ورثت الاستعدادات لتقبل انظمة المعرفة، لكن حسب المسوغات والإحراجات التي تفرضها راهنية الواقع وهو توصيف وتنميط اشار اليه الفيلسوف التونسي “فتحي المسكيني” حين راهن على استنفاذ العقل كل معاركه الاخيرة باعتباره جدارا وملاذا روحيا ليس إلا.حيث لم يعد العقل زيوس zeusكبير الالهة وحارس القوى اللامرئية والحيوية التي تحرك القدرات .فهو بالنسبة اليه نتاج نظام رمزي من المعارف المكتسبة “العقل يفكر لكنه لا يعرف”وبالتالي لا يُعول عليه في ضخ شبكة الملكات الاخرى.الكفاءة عامة هي استجابة لاندماج قدرات ومهارات ومكتسبات لحل المشكلات حسب “ذي كيتل” و”لويس دينو”، طابعها العام البيداغوجي هو التوظيف المدرسي والمهني. في ذات الوقت الملكة توصيفها التاريخي يمتد الى التحصيل الموسوعي والمتخصص نظرا لفردانيتها وخصوصياتها. فلا يمكنك تجميع افراد كثر لاستنطاق ملكاتهم. وهي في الصميم مغايرة ومتضاربة ومختلفة. لان ذلك سيحتاج منك الى منهج انطباعي وانتقائي له كلفة انسانية ومادية عسيرة التحقيق.الذين خاضوا في الكشف عن مستور ولامنطوق التراث في صناعة بيداغوجيا علمية ماضوية هم أحوج الى الوسائل والادوات الابستمولوجية والواقعية في اعادة نماذج معطلة تتفق والتوجه الروحي والحضاري وهو تبرير تاريخي لا يخلو من الكيدية الايديولوجية والعذر الاجتماعي المهيب .لا يمكن صناعة المفاهيم التربوية ببناء إستعاري وفهم وهمي لامتلاك قوة التأثير في بناء جيل جديد لأجيال التربوية اي فلسفة واي غاية’؟.

تتجه علوم التربية وفنون التدريس او بالأحرى طرائقه اليوم او ما ينعت بالاسم الدخيل الوافد من الثقافة الاثينية ديداكتيك. اننا نوفر في الاجيال المنهاجية والطرائق والوسائل دون التفكير في جوهر المضامين والمتون ويبدو ان الاستلاب والالينة التي نعانيها مع تأثير الحواشي والهوامش بات صفة جبرية لصيقة بتراثنا. يقول الروائي الشهير تولستوي”اذا وجد المضمون انصاع الشكل”.فالقابليات المعرفية هي اساس التحديدات المنهجية.في مقال لمحمد الدريج حول “ديداكتيك المعايير” ان كل الدول تراجع مقوماتها العلمية او تعيد انتاج التنظير المدروس بتحديث البنية العلمية وما يتفق مع المرحلة ومطالب السوق في بعدها الاقتصادي والتقني والمهني  .كلما صعد صاروخ للصينيين والروس كان الامريكان يعيدون النظر في فلسفة المعرفة التربوية ويجددون مقارباتهم الابستيمولوجية بطرح سؤالين: ماذا ندرس ؟ بماذا يجب ان ندرس؟ وسؤال الماذا حاضر في الثقافة الانجلوساكسونية.؟ الفراغ الديداكتيكي الذي اصابنا جعل القوالب البيداغوجية في حركة اهتزاز وعدم استقرار ما إنجر عنه بلبلة في معارف التلميذ الذي نريد ان نسحق عظامه بتوفير منهجيات لاتتفق بتاتا مع المضامين.المقاربة اذن لا تبدأ من تحديث الاجيال السكولائية،  بل من ثورة كسموبوليتية على غرار ما قام به كانط في الثقافة الالمانية بتحديث ما نريد ان نعرفه مع تجديد  الية النقل والتلقي. لأنه في غياب احد الطرفين في المعادلة التربوية نحن نشتري الوهن .لان اوهن البيوت هو بيت العنكبوت واسميها العنكبوتية التربوية.البيداغوجيون اليوم يؤكدون ان ديداكتيك الاهداف والجيل الثاني المستنسخ والرديء للمدرسة السلوكية: اي (الكفاءات) الى انقراض والى متاحف الخشب.بالمقابل نشأة اجيال جديدة من التدريس على غرار التدريس بالتقويم والتدريس بالمعايير وبالمفاهيم حسب الكتل المعرفية الموجودة نحن في مناهجنا نجيد جر العربة من الخلف بل قلبها وسحبها لتترك خدوش وجروح في الطريق ستعاني منها اجيال وأجيال في زمن تحديث الاجيال التربوية.

سؤال مالجدوى ؟؟؟؟

الأجدى ديداكتيكيا، حتى يبلغ الدرس الفلسفي الاول غاياته السكولائية والمدرسية البحثة، ان يبين معنى الفلسفة /ماهية الفلسفة/ موضوعات الفلسفة/ تعاريف الفكر الفلسفي واختلافه عن انظمة التفكير الاخرى، اي كيف يختلف عن الخطاب الديني ؟كيف يختلف عن الخطاب العلمي؟ كيف يختلف عن الخطاب الاسطوري؟ تتخلل ذلك وضعيات تشكل مسارات تنتهي باسئلة تعطي التلميذ فرصته في التوثيق والتماهي مع مايفكربه وفيه   بصورة رمزية.هذا هو المأمول الذي يدخل في هندسة الدرس الفلسفي  او قل جغرافياه التي غابت عنا محدداته ومعالمه المنطقية

 غربة الدرس الفلسفي

اعتقد ان الفلسفة لا تصنع كفاءات بالقدر ما تنتج سلوكات وهي اقرب الى الغائية منها الى الذاتية والتطويع البرغماتي .ويصعب الامر اكثر في هذه السنوات من الزمن الديداكتيكي الضائع اخضاعها بصورة جبرية لمنهج الكفاءاتي او تنميطها وفق سيرورة اضطرارية الى مقاربة الكفاءات لان ازمة الدرس الفلسفي باتت مقلقة عربيا واكثر ازعاجا محليا على مستويات شتى وأصعدة كثيرة منهجيا ومعرفيا وبيداغوجيا وتنظيميا ايضا.في مقال حري بالقراءة لباحث المغربي محمد مزوز: يرى ان تدريس المادة شهد عوائق كثير اثرت عميقا في التمشي الحقيقي لبيداغوجيا الدرس الفلسفي وجعلته اكثر تكلسا من اي وقت اخر وهي عائق اللغة والتبليغ حيث يتفاجأ المتمدرسون بلون جديد من الخطاب غير المألوف تغلب علبه الصنمية والثبات والتوتر اللفظي فيتحول مخيال التلميذ من خطاب مألوف في مواد اخرى كالعربية والتاريخ والعلوم الى لغة غير مألوفة عصية احيانا على الاستيعاب، رغم ان المواضيع التي يتم تناولها كما يقول الباحث واقعية وموضوعية هي العدالة والقانون والاقتصاد والاسرة.العائق الاكثر ضبابية وتجدرا هو التطور الحاصل في انتقال التدريس الفلسفي من بيداغوجيا عتيقة خطابية وتلقينية الى بيداغوجية حركية استجوابية هي الكفاءات وان كان العمر البيداغوجي لهذه الانماط لا ينتبه الى الصلاحية بالقدر ما ينزع الى ترابطها واتساقها .فما اعتقده شخصيا ان الكفاءات هي الابنة المدللة لبيداغوجيا الاهداف والمتمردة عليها ،لكن مع الاسف لم تضف جديدا في الدرس المأزوم ولم تحرك شيئا اللهم إلا فتح نوافذ ابستيمية جديدة تستدعي نقاشا جادا لانقاد ما يمكن انقاده بيداغوجيا.لان الخطاب الذي اسسته المناهج الحالية وعمقته اكثر هو التمكين للمزاجية ” الدرس الفلسفي المزاجي “بدل الايديولوجيا التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات والتي طغى عليها انذاك السجال والتزمت النقابي فكان استاذ الفلسفة اقرب الى خطيب ومحامي يجيد المرافعات ويتفنن في المحاججة والاستعراض التاريخي المنتصر” لهيغل” ولتواتر النظريات الفلسفية التاريخة رغم تشعباتها.اليوم اضحى الدرس سجين مقاربة افقدته مرجعياته وغاياته الطموحة والمركزية والمتمثلة في الاشكلة والمفهمة والمحاججة.وانتصرت الشوفينية المدرسية التي تقدم الشكل عن المضمون على المساءلة والنقاش وتحول مدرس  الفلسفة الى عراف يتلو تعاويد يكررها يوميا وسنويا ليتمثلها التلاميذ في امتحاناتهم واصبحت الفلسفة نمطية وجاهزة تخاطب الذاكرة والحافظة .مما جعل اصواتا تعلو للتمرد الديدياكتيكي دشنها ميشال توزي بدعواه الخاصة ان “ان تصنع الفلسفة بيداغوجيا خاصة بها.؟؟ لكن السؤال متى يصنع الدرس الفلسفي بيداغوجيا خاصة به ويتخلص من كآبة الرق والسخرة التي فرضتها نزعات و مقارباتية  فوقية ؟؟؟؟

 

قلم: محمد بصري

 مفتش التربية الوطنية فلسفة / القنادسة  الجزائر

 

         يتعين على أي دارس في التعليمية ان يتخلص من أوهامه النظرية المجردة. ليحيل منتوجه الدراسي إلى توصيف تقني صرف. خاصة وهو يقايس الطابع المضاميني الى ما يقابله من نماذج سكولائية في علوم التربية، أي يحيله من سكونيته الفكرية وطابعه المعرفي الشبه سردي إلى مبادئه الاولى التي تتحكم في إنتاجه . والمقابلة  بهذه الصورة تشبه حالة الولادة العسيرة  لان الاشتغال في حقول التربية وتكييف ما هو واقعي علمي أو حتى أدبي، اي كل ما ينتمي لأنواع الثقافة والعلم مع أسس بيداغوجية يحتاج إلى دهن متوقد وإرادة واعية وقدرة عقلية على التصنيف والترتيب .

المنهاج او المناهج مفاهيم حية قائمة بذاتها حسب المعجم الفلسفي ” المنهاج هو الطريق الواضح “. جميع الكتب العربية سميت بهذا الاسم تشير الى أن المنهج او المنهاج هو الطريق الواضح, و السلوك البين ، والسبيل المستقيم.

       المنهاج بتصو عام هو خبرات وأفكار وموارد ومصطلحات ومركبات معرفية ومفاهيم تربوية تعمل الفلسفة التربوية لمدرسة ما لتقديمه حتى ينعكس في السلوك العام للمتعلمين . حيث تتجه المدرس الحديثة إلى وضع قواعد منهاجية،هي بمثابة معايير للسلوك الذي يجب أن تتبناه الخطط التربوية حيث يمتزج ما هو نظري بما هو عملي على مستوى الفعل التربوي.

      عناصر المنهاج حسب فؤاد موسى هي الاهداف والغايات والمحتوى الطرائق والوسائل والتقويم . وهي اليات تقنية ضابطة لكل منهاج كيف ما كان اتجاهه وتوجهه العقدي أو حتى  الاديولوجي أو السياسي.2

          لا يمكن ان يكون الافق التربوي السياسي لكل منهاج محايدا كما يقول جون مينيكل في كتابه “المنهاج المعاصر في  الفكر والفعل” حيث السياسة الموجهة لمسار المدرسة  هي صورة لنمط الضغط  الوظيفي المؤثر في الايقاع  البيداغوجي للمنهاج والذي يقوم على اساس التوقع كما يفيد جون منيكل .الثقافة السائدة والبيئة السوسيوثقافية للمتمدرسين تلعب دورا في تزكية البرامج وتحديد الغايات والأهداف المتوخاة، باعتبار ان الخصوصية الاجتماعية والتاريخية والدينية ضرورة لتمشي أهداف أي منهاج .

    المنهاج بصورة عامة في المواد لا يكون إلا الصورة القصوى للمقررات حسب  الشعب و المواد بحيث الطبيعة الابستيمولوجية للمادة هي من يفرض نوعية الطرائق الديداكتيكية  في تمرير المعارف والمطالب النظرية، فقد تتفق الرياضيات مع الفيزياء في نمط الحمولا ت المعرفية، لكن تختلفان في مستوى التجريد وفي المرامي المعرفية التي تتخصص كل معرفة بها. فالنمط الرياضي التدريسي  يقتضي نماذج نظرية برهانية يميل فيها المُدرس الى اساليب الاستنباط والتحليل والتركيب بالمقابل المعلم في الفيزياء يكرس قدراته التجريبية والتمثيلية في التبليغ، حيث يتماهى المجرد العقلي مع الواقع المحسوس في الفيزياء.هذا التمثل يقودنا الى الحديث عن الفلسفة كمادة وكمحتوى من الموارد وكبيداغوجيا لها تعليمتيها الخاصة حيث تدريسها لا يتوقف عند حدود نماذج معينة من الديداكتيك، بل وفق بيداغوجيا خاصة تصنعها الفلسفة كما يؤكد ميشيل توزي . ربما هذا التميز راجع الى ضعف الدراسات النظرية في الديداكتيك والى إغفال المخابر التعليمية التفاعل مع الدرس الفلسفي كنموذج سكولائي أو إلى تاريخية الديداكتيك الذي مازال حديث العهد بالمدرسة العمومية. الفلسفة كمنحى وفضاء عام لا تتحراك إلا داخل  أفق المطالب النظرية التي تشتغل عليها الحقول الفلسفية وهي تاريخيا تنقسم الى مباحث الوجود ومباحث المعرفة ومباحث القيم.

       المنهاج الجزائري ورسالة المقاصد.قراءة مختصرة في رسالة بوكلي حسن:

الاطلاع المبدئي في رسالة المقاصد ومخرجاتها التربوية والتي أعتمدها الاستاذ بوكلي حسن وهو المفتش والبيداغوجي القدير المتمرس والخبير الذي أُوكلت له هندسة برامج المقررات ورئاسة اللجنة الوطنية لإعادة كتابة منهاج الفلسفة.حيث تم بلورة تصورات جديدة حول ملمح المنهاج وبنيته الجديدة بناءا على معطيات ماضية وماضوية، تم فيها إنتاج مناهج معينة تتعامد وطبيعة المراحل التربوية التي مرت بها المنظومة الجزائرية منذ الاستقلال حتى مرحلة إعادة افراز الأمريات المتعلقة  بالإصلاح الوطني للبرامج والانسقة التربوية. الهاجس المعرفي والثقافي والمنهجي هو ما طبع المنهاج الجديد خاصة المطلب السياسي الذي يروم خصائص عميقة معينة في التلميذ رجل و مواطن المستقبل.حيث صقل ميزات وشروط المواطنة القائمة على الجدل بين الحقوق والواجبات هي غاية أذاتية ضرورية للمنهاج.

             رسم ملامح التربية الفلسفية في المنهاج تم تعليقه على أسس وغايات ومبادئ بيداغوجية غائية، تُعول على إنوجاد أهداف للفلسفة تنقسم حسب رسالة المقاصد الى شق نظري وأخر عملي، حيث يظفر التلميذ عبر برنامج قيمي معرفي ووجودي بجملة من المقومات العقلية والأخلاقية يمكنه من خلالها تركيب الحقائق وتحليلها، علما ان المقصد الاساسي للمنهاج يجب ان يكون قيميا أخلاقيا بامتياز.فالترسانة النظرية التي يقدمها المُدرس للتلاميذ يجب ان تقفز بوعي التلميذ إلى تمثلات أهمها الروح الموضوعية والنقدية والعلمية وهو ما تنشده  الفلسفة في أفاقها الكونية، ثم بعد ذلك تحويل هذه المبادئ القيمية الى سلوك وممارسة، اذ يستبعد البرنامج في تكوينه الناشئة  التشدد و الاحكام المسبقة والانضواء تحت مذاهب وأفكار وافدة او اجنبية .أدوات النقل القيمي نفسية و أكسيولوجية على مستوى الاجرأة، تحويل الغايات الى وسائل فعل عن طريق تكييف المجهود الديداكتيكي بالمسلك البيداغوجي بجعل القيم تتماهى والواقع الذي تعيشه الناشئة.

         الجانب التقني هو تمكين التلاميذ من أحجام ساعية اضافية وتنزيل التدريس الى السنوات الثانية واقتراح برامج الفلسفة للشعب العلمية بدل اقتصارها على الشعب الانسانية الادبية في الجذوع المشتركة.مع إمكانية تخصيص حصص للسنوات الاولى ثانوي، من شأنها تعويدهم  إستشكال وتحصيل المفاهيم التي  يقتصر دورها فقط على الاعداد الدهني والثقافي لخوض غمار الدرس الفلسفي.

         الرسالة أكدت على تدشين عهد تربوي يكون فيه للفلسفة شأن تغييري على مستوى الشخصية الوطنية يرتقي بالذوق الفني والثقافي والجمالي والحضاري بإحياء النزعات التراثية المعتدلة بما يتماشى وأمال الامة الجزائرية.

الرسالة لم تغفل الدور المحوري التكويني لشخصية المعلم والُمكون باعتباره جسر التلاقي الديداكتيكي والتربوي بين االمتمدرسين الناشئين ومطالب  معرفية فكرية.وذلك برسم اعتبارين نافذين هما 1- كون مدرس الفلسفة ناقل ومنفذ للمنهاج تحت سقف عام هو التمرير المعرفي البيداغوجي التربوي.  ثانيا 2- كونه موظف يخضع لمعايير إدارية وتشريعية له مهمة رسمية لتحويل فلسفة تربوية للدولة.خاصة وان تدريس الفلسفة في الماضي كان مثار جدل عميق  بين امكانيات حرية المدرس في تحديد المعطيات المنهاجية والنظرية في تقديم الدرس الفلسفي وبين عملية تأطير رسمي اداري له قوالب وخصوصيات تشريعية تحددها الادارة الوصية، تتقاطع ابستيمولوجيا مع تدريس كل المواد التعليمية.اعتبارا من الدرس الفلسفي كان حقلا للتجاذبات الايديولوجية والسياسية.ومطية للشحن العقائدي المؤدلج.

         من المقاربات اللطيفة التي طرحها محمد غانم  في كتابه “الايديولوجي والمعرفي في الكتاب المدرسي” سؤال جد مهم في العمل التربوي يعكس قلقا وتوترا بيداغوجيا وابستيمولوجيا  يكمن في إمكانية تملص وتخليص المشرفين على التأليف وتأطير الكتابة المعرفية والمنهاجية للكتاب المدرسي من النزعات الثقافية والبيئة الاجتماعية التي نشأوا  فيها؟ هل الادوات اللاواعية التي تحكم فعل التأليف ايديولوجية ام بيداغوجية؟

    الاطلاع على الاشكاليات ووفرة المشكلات في الكتاب المدرسي يبين بجلاء حضور المذكرات التوجيهية رقم 08- 04 المؤرخ في 23 جانفي 2008. القانون التوجيهي الذي  يراعي خصوصيات المجتمع الجزائري وتركيبته الدينية والاجتماعية.خاصة القيمتين الاساسيتين التاليتين :

    1-التشبع بمبادئ الإسلام وقيمه الروحية والأخلاقية والثقافية والحضارية.

    2 – ترقية قيم الجمهورية ودولة القانون

بناء عليه تم توظيف مطالب نظرية تدخل في اطار إعادة انتاج الوعي بالماضي والتاريخ الحضاري والثقافي الاسلامي.وان كانت هناك اعتراضات على طريقة التمثلات الفلسفية التي تم بها إدماج هذه العناصر المعرفية حتى يتم التمكن الديداكتيكي في تمريرها مدرسيا وسكولائيا.اي عندما تم توظيف المشكلات الوضعية لم يتم احترام السياقات التي نادى بها المنهاج وأعلنت عليها رسالة المقاصد.

في مقال يرجع تاريخ كتابته الى 2012 يتحدث  المفتش الذي اوكلت له مهمة بناء المنهاج “حسن بوكلي” عن الوضعيات المشكلة  في الفلسفة والحقول المعرفية التي يجب ان توظف فيها هذا فضلا عن انواعها التي تتراوح بين الوضعيات المشكلات والوضعيات التعليمية ووضعيات حسية واقعية وأخرى تأخذ شكلا نصانيا.أي في صورة نصوص فلسفية. الغرض منها إدماجي، حيث تصب في الكفاءات القاعدية  التي تتوق الى تمهير التلميذ على الكتابة والتحليل الفلسفيين.هذا ناهيك عن مطالب اخرى منها التعزيز التراثي والارتباط بالثوابت والمقاصد التاريخية العميقة للأمة بالإضافة الى تنمية القدرات الذاتية من ابداع واشتغال فكري ونقدي يروم بناء الشخصية.

الملاحظ ان بنية الوضعيات في الكتاب المدرسي الموجه لكل الشعب لا تحترم الخط المبدئي الذي رسمته رسالة المقاصد او حتى المقالات التي اوضحت  خرائط الطريق و التي تحدد بنية العناوين والعناصر المكونة للوضعية . حتى تفسح المجال للتأليف والإخراج التقني والديداكتيكي للوضعيات.حيث نجد اغلبها لا تميز بين ماهو تعلمي وماهو حسي وماهو اشكالي بل لا تحترم الحقول والفضاءات المعرفية  التي وُضعت فيها.

لاشك ان نبل الرؤى و أمل الانتظارات  المنسجمة مع تحيين جيد للمنهاج والكتاب المدرسي لم تكن منسجمة مع حركة التأليف والاختيار المنظم والمنضبط للوضعيات  والمعارف التي تشكل مواد خام للتفلسف الصحيح او التدريس الهادف الدقيق للفلسفة. هذا التناقض اثر بجلاء على المكونات الثلاثة للعملية التعلمية التعليمة “(مدرس _تلميذ_ معرفة).لسنا بصدد تحليل ارثودوكسي للمنهاج من شأنه هدم غير مؤسس للبنية التربوية والديداكتيكية للمقررات في ألفلسفة بل توضيح افكار ورؤى  مصدرها إحراجات يمليها راهن الدرس الفلسفي والصعوبات التي يتعرض لها في زمن الاصلاح.جل الاعتراضات تمثلت في تناقضات بيداغوجية أدت الى استحالة تحقيق المقاربة الكفاءاتية وفق منتوج كثيف من المعارف والنظريات التي مازالت سجينة المقاربات الكلاسيكية الهدفية والسلوكية  والتي ترعي المضامين فقط .بمعنى بنية الكتاب الموجه للتلميذ يخدم عقيدة تربوية يقينية وليس إستراتيجية عملية كما ترمي اليها بيداغوجيا الكفاءات.تفكيك ونسف الوحدات النظرية في  الكتاب المدرسي إلى إشكاليات تضم مشكلات هو نقلة بيداغوجية جادة ومثمرة لو أحترمت هذه الاشكاليات الحقول العامة والمباحث الفلسفية الكبرى للفلسفة وهي تتدثر بغطاء سكولائي كما هي التجربة الفرنسية مع فكتور كوزان الذي فرضها في مدارس الدولة الفرنسية وكوندورسيه كوندرسيه (1Condorcet/ (1794-174 الذي حقق امكانيات  تعميم الدرس الفلسفي المجاني والعمومي.

الكتاب المدرسي يغفل جزئيات هامة دقيقة، قد تكون عابرة اذا نحن تناولناها بصورة ارتجالية غير مؤسسة، لكن عميقة اذا وقفنا عندها بصورة نقدية إجرائية .إغفاله خطة تُوضح المسارات الصحيحة للمجزوءات الفلسفية والتي تحدد توجه المضامين والفضاء الفكري الذي تسير وفقه.بالإضافة الى فقدانه الجانب التوثيقي العملي الذي يجعل الدارس ينتقل من توجهات عامة فكرية وفلسفية منضبطة منظمة الى جانب عملي تربوي، ما يجعله فقط مرجع متغير لاكتساب التفلسف وليس مصدر سكولائي بإمكانه تثبيت المعارف وتعزيزها لدي المتعلم.

بعيدا عن التأويل التقليدي الذي يقحم الكتب المدرسية في الادلجة والعقدية أو يحوم حول إمكانية الوقوع في التصورات الدوغمائية العقيمة للدرس الفلسفي التي تُسيطر على الوعي الجماعي ومخيال المؤسسة الثقافية الاجتماعية والمدرسية وهو تصور قديم مازالت تردده دوائر اكاديمية  معتقدة بوهم الانفصال بين الخطاب الفلسفي  المدرسي وبين المؤسسة التربوية كما لو كان عائقا ودوغما، تُعقد من مهام مدرس الفلسفة .والواقع ان هناك برغماتية سكولائية متنامية تنظر الى المحتوى التعليمي الفلسفي كإمكانية آنية للنجاح والارتقاء وليس كخطاب عام ضروري حول الانسان والواقع والكون.

الكتاب المدرسي الحالي لم يحرر التلميذ من هواجسه الخفية المتمثلة في فوبيا الدرس الفلسفي بل عمق شرخا كبيرا بينه وبين استلهام التجربة الصفية كما يقدمها الدرس .هذا الانفصام جعل المتمدرسين يتجنبون في كثير من الحالات الاستئناس بمضامين وعناصر وخلاصات الكتاب ويفرون الى نماذج اجتهادية تفرضها مدرسة ربيبة فرضها واقع الدرس ألخصوصي، التخمة في المحتوى وأحيانا الاسهاب اللامعقول ضيع فرصة ان يكون هذا الكتاب منفذا ومنقذا ومرجعا للطلبة.والأخطر من ذلك نشأة تجارب نسبية في استيضاح وفهم المقررات  تختلف باختلاف المراجع التي تفرضها الكتب التجارية التي تعطي ذاتها وهم الفهم الكلي للبرامج الفلسفية ومضامينها.بات الخطاب الفلسفي السكولائي رهين المراحل التقويمية وسجين ذرائعية مقيتة.تنتهي صلاحيته بإعلان نتائج الامتحانات العامة والشاملة.ومنه فقدت الفلسفة غاياتها الكبرى في التربية والتنشئة والتوجيه.

يجب اعادة تشكيل الخطاب حول الفلسفة المدرسية بإصلاح عميق  للمقرر والمنهاج والكتاب المدرسي بما يتماشى مع راهنية التطور السريع للحضارة والفكر الانسانوي

 

الثقافة بين الأكاديمي والرسمي والسلطوي

قلم بصري محمد

 

مفتش التربية الوطنية (فلسفة) – الجزائر

    ليس من السهل ان يتغلب المبدأ المثالي على  الواقع. لا يوجد ما يسمى حلولا وسطى أو منطقة وسطى، الثقافة الحقة والوظيفية ان تبقى مصمما واثقا متشبتا بمفاهيم الحياة، محترما لقيم الانسانية مناضلا عازفا عن كل ما يخل بتوازنك الثقافي والعلمي …ان الانتماء لا يصح إلا لقلعة المبادئ والمفاهيم بعدما تهاوت كل القلاع وتصدعت جذران النفاق الايديولوجي ، فالسلطة والمال والرفاه واكتناز الفضة والذهب لا يصنع مجدا ..لقد امضى “انتونيو غرامشي “ثلث عمره في السجن، مقتنعا بأفكاره مدافعا عن أرائه في الاصلاح والثورة والسياسة كتب خلالها اكثر من ثلاثة ألاف صفحة، مدونا أروع الدفاتر رغم إصابته ومرضه المزمن، لم يهتز أو يتوارى. جمع بين الميكيافيلية و الهيغيلة والنبرة الثورية القاسية والصلبة ليعترف  ويسجل أمام فلسفة التاريخ انه لا مكان إلا للمثقف العضوي الذي يؤمن ان التغيير حتمية وليست هبة ..

قبله باع الروائي العملاق كل ثروته وماله ألضخم. انه الكونت “نيكولاي تولستوي” ابن سليلة الامبراطورية الروسية الاميرة “ماريا فولكونسي” والمربية  “الكونتيسة اكسندرا  اوستن ” بعد يتمه المبكر وفقدانه جل أقاربه انخرط في الجامعة لكن سرعان ما أصابه الضجر من التقاليد الاكاديمية والحياة العلمية الموجهة والملفقة لينزوي بكتبه زاهدا فقيرا، يقرأ بشغف و إندفاع غريزي عارم وزع ثروته على المعوزين  وأنضم الى عالم التشرد فالثقافة والأدب الواقعي لا يوجد في دهاليز الجامعات ورفوف  المكتبات المزخرفة ولا في تصنُع الالفاظ واستمالة المعنى وتفجير وتطويع المصطلحات .عندما تقرأ له رواية ” الحرب والسلام ” تؤمن بان قضية الانسان اسمى القضايا وان جوهر الحياة وهبة الله ان ندرك سيدة الملكات  اي ان نكون إنسانويين ..لم يترك الرجل قصورا او اطيانا ولا  بنوكا، بل أورثنا هموم ألكلمات لم يترك اسماءا  وتشريفات ومكرمات فخرية أو شهادات تثبت انتماءه لعالم الفكر بل كتابات وروايات لم يستطع انفاق طباعتها لقلة حيلته وماله بعدما القى بها في بطون الفقراء ….

القائمة لا تنتهي رفض سارتر جائزة نوبل للآداب اكتوبر سنة  1964.  حين اتصلت به صحفية سويدية من فرنس اكسبريس وهو يرتشف قهوة الظهيرة في مقهى باريسي عتيق اجاب بحدس الفيلسوف المتمرد الساخر من الرسميات “مدام لن اقبل بهذه الجائزة واحتفظ بأسبابي وأكمل  قهوته ….لن اخوض في فضاء سارتر وترحاله الفلسفي بين الثورة والإلحاد والوجودية والنضال من اجل الحرية والإنسانية ومظاهرات 1968 و 1969 لأن الرجل كان يحضر لاشتباك كبير مع السلطة كان يجسد حريته بروح برومتيوسية وهي تترفع عن آفة شراء الذمم  وتراهن على مستقبل مشرق لفلسفة الرفض .الرفض هو التجلي الازلي لليومي والممكن.

ناضل سارتر ضد حركة القمع البوليسي للطلبة وسجل التاريخ المعاصر وقوفه الشهم مع المجاهدين في ثورة التحرير الجزائرية والتي كانت في حد ذاتها خيانة عظمى في حق الجمهورية الفرنسية الخامسة، لكن دعوني أقول أن حركة الثقافة والتثاقف التي أشعلها الادباء والفلاسفة وعلّبها الاكادميون وسدنة المعبد وكهنة آمون اغتصابا. فالحقيقة عندما تتجلى في ثوبها الاكاديمي المعولم ووالعلموي تسبح في وديان السلطة والرسمية والتوظيف الاداري ، مع أن نضال سقراط المحنك كان ضد تلك الطغمة السوفسطائية التي كانت  تتفيأ بضلال العرش الاثيني وتصدّر الاباطيل وفق الهوى السياسي للحاكم المبجل والمللك المقدس الاقنوم الوحيد …….

 

 الحكاية  النضالية الشريفة تتجدد مع ايقونة الثورات وصانع الحلم الشعبوي محرك امال الكادحين والبرولتاريا الارستقراطي الاصل الارجنتيني المولد،  نبي الكادحين ارنستو تشيغيفارا الابن العاق للأسرة الثرية، صديق الفقراء، ملهم التوتر الطبقي . ترك الجامعة والطب وتفرغ للمد الاشتراكي وثورة العمال العالمية، ليتم اغتياله في اصقاع وأدغال بوليفيا من طرف المخابرات المركزية الامريكية لينتصر المال والبترول والامبريالية على الثورة والمثل ….قتل غيلة صاحب القول الشهير”الثوار يملؤون العالم ضجيجا حتى لاينام العالم بثقله على اجساد الفقراء” أُعيد دفن رفاته سنة 1997 في مدينة سانا كلارك مع مرتبة الشرف العسكري بعدما كان مصنفا الى وقت قريب في ادبيات النفاق الاكاديمي والرسمي زعيم عصابة.لم يعد الثوار من يقود العالم ولا المثقفون لأنهم لا يملكون عضوية وتشريف رسمي بل اصبحوا مضطهدين في ألتاريخ ادارت لهم الدوائر الرسمية ظهرها، لكن تلقفته الذاكرة الجماعية للشعوب ..الثوار لا يضيعون في متاهات الدجل والسقم الفكري، فمفارقة التأسيس هي من تضع لهم مكارم البدايات، إنهم يعيدون إنتاج ذواتهم في كل فترات الوجود، هم حراس الدزاين وجينالوجيا البدء والتدشين. هم هنا وفي الهنالك في الماضي في الذاكرة وفي بطون الكتب وأرحام التاريخ ….ان التاريخ عذراء داومت الانجاب مع احتفاظها بعذريتها .ان سقراط يسكننا وتسكننا احلام واوهام نيتشه وصلابة ابن المقفع وهو يقطع ويصلب مغمظ العينين. إن الثقافة فن وضريبة وحراك وثورة ورفض للجاهز المبتذل وكفر بالرسمي المؤدلج انها صراع اللامنتمي وهو يعانق احضان المنتمي .الثقافة الصحيحة القاعدية بالتوصيف الغرامشي ليست اكتساب عدد ثقيل من الالفاظ المتفجرة والألغام الاصطلاحية وليست طنينا معرفيا يفزع ويؤلم الاذن اليسرى بوابة الدماغ ان القافة هي الانسان والانسة بعيدا عن تحاريف التزلف السلطوي والاكاديمي …اسعدتم مساءا ايها المثقفون.

 


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: