تفاعلا مع الأستاذ نور الدين الزاهي
بعض رهانات مجزوءة المعرفة. في إطار مواكبة الإنجاز الفصلي للبرنامج الفلسفي.
قراءة من بين قراءات أخرى.....
انطلاقا من حكم الأستاذ نور الدين الزاهي على الدرس الفلسفي بأنه درس اختلافي، سأسجل بعض الملاحظات الخاصة بالعرض القيّم الذي قدمه الأستاذ نور الدين الزاهي الموجود على اليوتوب.
.
ومن بين الإشكالات التي أثارت انتباهي تتعلق بقضية العلاقة بين المنهج والموضوع،
في مجال المعرفة العلمية وأيضا في مجال العلوم الإنسانية.ففي لحظة من اللحظات أجزم
الأستاذ نور الدين بأن الموضوع في العلوم الحقة لا يطرح مشكلات !!!، بينما المنهج
هو " اللّي فيه مشكلة". وكملحوظة، يبدو أنه من الصعب متابعة عرض الأستاذ
الزاهي، بسبب استعماله للهجة الدارجة في التواصل، وهذا في نظري أنقص من قيمة
وأهمية العرض بسبب طبيعته المعقدة ،واللهجة الدارجة في نظري لا تساعد على المقاربة
الفلسفية والبيداغوجية للموضوع.
سيكون تعليقي موجها تحديدا إلى المتعلمين، ومن
خلاله إلى مدرسي الفلسفة.
يبدو جليا من مفاهيم مجزوءة المعرفة ( النظرية
والتجربة، مسألة العلمية في العلوم الإنسانية،ثم الحقيقة) أنها تتعالق فيما بينها
إشكاليا وليس تجاوريا أو تكامليا بالمعنى الكمي. بمعنى إذا كان الرهان من كل علم
هو الوصول إلى حقيقة ما يشتغل عليه، مهما اختلفنا حول طبيعة الحقيقة،فمجزوءة
المعرفة تقدم لنا علمين يسعيان إلى الكشف عن حقيقية موضوعهما، الأول هو العلم
الفيزيائي والثاني هو العلوم الإنسانية. لكن السؤال المسكوت عنه، وباستجلائه نفهم
رهان المجزوءة وتحديد طبيعة المعرفة التي تشتغل لعيها المجزءة، وهو ، عن أية معرفة
نتحدث؟ وما سبب التفكير العلائقي بين مفهوم النظرية والتجربة ومسألة العلمية في
العلوم الإنسانية تحديدا؟ وهل بالفعل التركيز على تحديد المعنى العام للمعرفة ،
كما جاءت في تعاريف ميشال فوكو، هي بالفعل وظيفية في إطار فهم رهانات المجزوءة ؟
في نظري يتعلق الأمر تحديدا بالمعرفة العلمية، وبالمنهج العلمي كرهان في تحقيق
الحقيقة الضائعة في العلوم الإنسانية كما سأبيّن لاحقا ضدا على الدراسات التأملية
سواء كانت مرجعيتها الفلسفات التأملية أو المقاربات الميتافيزيقية. مما يعني أن
الرهان من مجزءة المعرفة هو التفكير في المفهوم الثاني بناء على مكتسبات المفهوم
الأول كنموذج ومن ثمة إمكانية الحسم مع تأخر تحقق الحقيقة في العلوم الإنسانية. من
هذا المنطلق لا أستبعد كون مفهوم النظرية والتجربة هو تكملة لإشكالية معرفة الغير والعلاقة معه، وذلك من خلال
الانفتاح على إشكالية علاقة الذات (أو الشخص ) بالعالم المادي الفيزيائي. فشروط
الوضع البشري لا تتحدد في معرفة الذات لذات أخرى، بل أيضا في معرفة الواقع الطبيعي
الذي تحيا فيه وتجبر قوانيه الذات على
العيش وفق هذه القوانين.
ومع
ذلك في اعتقادي، أن الرهان الحقيقي من مجزوءة المعرفة أو على الأصح المعرفة العلمية،مع
الاحتفاظ طبعا باحتمالية إدراج العلاقة مع الوجود المادي وضرورته معرفته كجزء من
الشرط الإنساني، هو التفكير في إشكالية مدى علمية الدراسات التي تهتم بالإنسان
وتطمح أن تكون علمية على غرار علمية العلوم الحقة. لهذا السبب من الأفضل الحديث عن
" دراسات إنسانية" تطمح إلى أن ترقى إلى " علوم إنسانية". وهذا
له ما يُبرّره في الأطر المرجعية، كل المجزءوات تتقاطع في تحديد ماهية الوجود
البشري، ومجزوءة المعرفة تسعى إلى وضعنا في صلب اهتمامات مفكرين راهنوا على تخليص
الإنسان من شرنقة التفكير التأملي والميتافيزيقي،في أفق دراسته موضوعيا واستجلاء
حقيقته، حتى ولو تطلّب الأمر تشييئه كما هو الأمر مع محاولة دوركايم الذي قال
:" علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية في ذاتها كظواهر مستقلة عن الذات الواعية التي تتمثلها. علينا أن ندرسها من الخارج باعتبارها أشياء"،
وفي نفس الغاية يقول تيوديل ريبو (1839- 1916) :" إن علم
النفس المعني هنا سيكون تجريبيا صرفا، إذ سوف يكون موضوعه الظواهر فحسب وقوانينها وأسبابها المباشرة، ولن نهتم لا بالنفس ولا بماهيتها، لأن
هذه المسألة
بحُكم تعاليها عن التجربة وكونها خارج مجال التحقيق، تنتمي للميتافيزيقا... إذن ينزل المنهج الموضوعي في دراسة الحالات النفسية من الخارج لا من الداخل، من خلال الوقائع المادية التي تُعبّر عنها، لا من خلال الوعي الذي تصدر عنه تلك الحالات
."
إذن محور التفكير يرتكز على مسألة العلمية في
العلوم الإنسانية، والسؤال هو، لماذا قضية العلمية ؟ ومن أن تستمد الدراسات
الإنسانية الطامحة إلى أن تكون علوما إنسانية، مشروعيتها العلمية؟ من هنا نفهم
وظيفة إشكالية مفهوم النظرية والتجربة في سياق المجزوءة، وهي متممة لإشكالات الوضع
البشري، وما دامت العلوم الفيزيائية هي نموذج العلمية، فإذن الدراسات الإنسانية
تطمح أن تكون علوما إنسانية باتخاذها المنهج العلمي كما طبّقته العلوم الحقة (
الفيزياء كنموذج)، وهذا ما يفسره الصيغة المفاهيمية : مسألة
العلمية في العلوم الإنسانية. فلو كانت علمية لما طُرح بحثها عن علميتها من
خلال نموذجية العلوم الفيزيائية. بالمحصلة لا يجب أن يؤخذ المفهوم الأول كإشكالية
مستقلة، ونتيه في التفاصيل العلمية، بل يحضر المفهوم في سياق إثارة مشكلة فلسفية
تتعلق بطموح الدراسات الإنسانية في أن تكون " علوما إنسانية" على غرار
علمية العلوم الحقة. وبرجوعنا إلى التوجيهات التربوية الصفحة 6 سنفهم منهجية كيفية
التعامل فلسفيا مع قضايا علمية حقة تحضر في درس الفلسفة ليس لذاتها بل من أجل
توظيفها في حلّ إشكال فلسفي، والمناسبة هنا تتعلق بإشكالية علمية العلوم الإنسانية
( في أفق تجاوز منهجيتها التأملية والميتافيزيقة).
نأتي اللحظة إلى قضية طبيعة العلاقة بين المنهج
والموضوع، ونضع بين مزدوجتين، الحكم الذي أصدره الأستاذ نور الدين الزاهي بخصوص أن
" الموضوع " في المعرفة الحقة لا يطرح مشكلات، بل المنهج هو المشكلة.
ونطرح السؤال، هل يمكن أن يوجد منهج من دون موضوع ؟ من يُحدد الأخر: المنهج أم
الموضوع؟ بل حتى داخل العلوم الحقة تختلف المناهج باختلاف الموضوعات، فنتحدث عن
الموضوع الرياضي ( هل هو كائنات أم بنيات ؟) ومنهجة الأكسومي...بل يؤثر هذا التميز
حتى على صياغته للإشكالات وبنائه للمفاهيم...ونفس الأمر بالنسبة للموضوع الفيزيائي
ومنهجه، والموضوع البيولوجي ومنهجه...
لهذه الأسباب، تضمن مفهوم النظرية والتجربة
إشكالية الموضوع والمنهج بين الموقف العلمي الاختباري ( التجريبي أو الطبيعي أو
الوضعي..) والموقف العلمي العقلاني التطبيقي . ويبدو أن سبب الخلاف راجع ليس إلى
المنهج، بل إلى طبيعة الموضوع ( أو الواقع
العلمي ) الذي يشتغل عليه كل موقف، أما المنهج فهو نتيجة وليس سببا، لأن الموضوع
هو الذي يحدد المنهج وليس العكس. لندعم هذا التفسير بأحد المفكرين الذين انخرطوا
في خضم هذه القضية الإبستمولوجية، ورهان المجزوءة هو توظيفها فلسفيا في إطار علمية
من عدمها بالنسبة للدراسات أو " العلوم الإنسانية " ( هي تبحث عن
علميتها ونحن حكمنا على أنها علمية وهذه مفارقة) نقدم هنا " جاستون باشلار
" الذي يقول محددا الموضوع وما يترتب عنه من منهج وهو ينتقد موضوع ومنهج
التجريبيين :" يقول جاستون باشلار
:" ليس العلم وصفا لما يظهر أمام الإدراك، بل هو إنشاء
للظواهر الطبيعية وخلقها علميا. إن العلم يخلق موضوعاته ويركبها وليست
تعطاه في الإدراك والخبرة الحسية المباشرة ، إذ بين هذه الأخيرة والتجربة العلمية
توجد قطيعة وانشقاق. وعالم المعرفة الذي يخلقه العلم هو العالم الموضوعي الحقيقي،
إنه زاخر بموضوعات غير موضوعات الوقع، لا يكون العالم محتاجا كي يبنيها وينشئها
إلى انتظار ما تجود به الخبرة والواقع… إننا في العلم لا نكون محتاجين إلى وصف
الشيء و إبداء خواصه، بل إلى تحديد علاقاته ، فتصورات العلم وليدة العلاقات
، وأساسها الواقعي يكتسي موضوعيته بالرجوع إلى أساسها العلاقي وليست بالرجوع إلى
أساسها الاختباري الأنطولوجي، وهذه هي واقعية العلم الحقيقة ، إن مفاهيم العلم
بعيدة جدا عن الخبرة المباشرة .إن مضمون التصورات العلمية، إن جازت المجازفة ،
مضمونا معرفيا وليس مضمونا شيئيا." هنا يبدو واضحا أن باشلار يرد على شيخ
الاختباريين " نيوتن " الذي حدد هو الأخر الموضوع والمنهج الملائم لهذا
الموضوع. يقول :" :" المنهج الحق كما تعرفون لإدراك خواص
الأشياء هو استنباطها من الخبرات ، ولقد سبق أن قلت لكم
بأنني لم أتوصل إلى نظرية الجاذبية عن
طريق مخالفتها أو عدم اتفاقها مع النظريات الأخرى، بل استخلصتها من الخبرات
استخلاصا وضعيا مباشرا.لذا فالكيفية الملائمة للتأكد منها هي ملاحظة ما إذا
كانت التجارب التي أقترحها تؤكدها فعليا..أنا لا
أفترض، بل أبرهن...إني أستنتج الأسباب من النتائج... إن خصائص
الأجسام وكيفياتها لا تُعرف إلا بالتجربة، ويجب أن ننظر إلى الكيفيات التي
توجد في جميع الأجسام والتي لا تقبل النقصان، ككيفيات عامة...يجب أن لا نُعارض التجارب
بالأحلام... في الفلسفة التجريبية أي الفيزياء، يجب النظر إلى القضايا
المستخلصة من الظواهر، على الرغم من الفرضيات المضادة،كقضايا صحيحة." ( وظفه
سالم يفوت في كتابه "مفهوم الواقع في التفكير العلمي.)
بالمحصلة
هناك فرق بين طبيعة منظور العلماء للواقع الفيزيائي، وهذا الاختلاف هو الذي يؤدي
إلى اختلاف المنهج. إن الواقع الذي اشتغل عليه الموقف الاختباري أو التجريبي هو
الواقع المادي كما هو معطى لحواسنا ويحمل حقيقته في وجوده كما هو لما كما نتمثله لأن له خواص مستقلة عن ذاتية العالم، ومن ثمة إمكانية الملاحظة والاختبار.. بينما
واقع الموقف العلمي العقلاني التطبيقي هو واقع لامتناهي في الصغر ( الذرة ) ولامتناهي
في الكبر ( العالم الفضائي بمعناه الكوسمولوجي ) وهذا الواقع لا يُمكن إخضاعه
للتجربة كما يٌمارسها الاختباريون في ظل المنهج التجريبي. وفصل المنهج عن الموضوع
قد يوحي بأن المنهج ذي مصدر ذاتي يُفرض على موضوع، والدليل على ذلك أنه لحظة
مناقشة استحالة تطبيق المنهج التجريبي على الموضوع الإنساني ، سيتبيّن لنا أن
الاستحالة راجعة إلى الاختلاف بين الموضوع الفيزيائي ( المادة) والموضوع الإنساني
( الذات )..وهذا يقتضي منهجا ملائما للموضوع..
إذن
كيف نفهم حكم الأستاذ نور الدين الزاهي التالي: ..القضية تتعلق بمساءلة المنهج، والموضوع
لا يطرح أية مشكلات...الموضوع شيء والمنهج هو اللّي فيه مشكل."ربما يتعلق
الأمر بنظرة سوسيولوجية أحادية . لكن بالمقابل لحظة حديثه عن العلوم الإنسانية،
سيتعلق الأمر بالموضوع وليس بالمنهج. بمعنى كيف يكون الإنسان موضوعا؟ هذا التقابل
إن أُشيع بيت التلاميذ والمدرسين سيعصف برهان التعالق بين مفاهيم مجزوءة المعرفة،
أعني بذلك أن الإشكال المركزي في المجزوءة هو مدى إمكانية تحقق العلمية في "
العلوم " الإنسانية, وهذا الإشكال يستدعي نموذجا للعلمية يكون مثالا بالنسبة
لطموح العلمية ل"العلوم الإنسانية" في سعيها التخلّص من الموروث التأملي
والميتافيزيقي. أما الحقيقة هي كما قال بالفعل الأستاذ نور الدين الزاهي ليست درسا
لأنها رهان كل معرفة وهي محايثة وثاوية في المجزوءات الأربع. وبالرجوع إلى صيغ
الامتحان الوطني،وإن كان يشوب أغلبها خلل في المواءمة مع التدريس بالكفايات إضافة
إلى خلل في إدراكها لطبيعة العلاقة بين مفاهيم المجزوءة والعلاقة بين المجزوءات،
فهذه الصيغ تشير بالخصوص إلى الرهان من وجود دور ووظيفة النظرية والتجربة في
علاقتها بالعلوم الإنسانية، وهذه العلاقة تتحدد بالأساس في كون الأولى تطرح نفسها
تاريخيا كإمكانية لنموذج العلمية بالنسبة لعلوم إنسانية تبحث لها عن وجود مشروع
بعد أن أعيتها المقاربات الفلسفية التأملية، والسؤال هل نجح الموقف الوضعي في
العلوم الإنسانية في استلهام المنهج العلمي من العلوم الفيزيائية ،وجعله من
الوسائل التي من خلال ترتقي العلوم الإنسانية إلى رتبة العلمية بمعناه الخاص في
العلوم الحقة.
من خلال هذا المسار/الرهان، يمكن القول بإمكانية مقاربة مفهوم الحقيقة، مما يعني أن حقيقة العلوم الفيزيائية ليست هي حقيقة الدراسات الإنسانية التي تطمح أن تكون علوما إنسانية بالمعنى الوضعي....
0 التعليقات:
more_vert