إلى أيّ مدى يُمكن الحديث عن تعثّر فلسفي على المستوى التعليمي؟

التصنيف

 

إلى أيّ مدى يُمكن الحديث عن تعثّر  فلسفي على المستوى التعليمي؟


يُراودني سؤال يصُدمني قبل أن يصدُم غيري المسكونين حَصْرا بالدفاع عن الفلسفة حدّ العشق الصوفي في سعيه الاتحاد مع نموذجه الروحي والوجودي، وذاك هو الاختلاف بين العاشق والموظّف، مع العلم أن كل عاشق موظف لكن ليس كل موظف عاشق بالضرورة، وسنعرّج لاحقا على صورة مدرس الفلسفة الحالي، في الواقع وفي مخيال العامة،وما يُشاع عنه، فكرا وسلوكا، وطريقةَ ونمطَ حضوره في مختلف صفحات التواصل الاجتماعي، لنقف عند مدى نكران الذات أو الإفراط في أنانية جارحة مُتسلطة" تُداعش" الرأي الآخر، حقيقة أم افتراضا.مضمون السؤال :هل بالفعل تحضر الفلسفة في  الدرس الفلسفي بالثانويات التأهيلية ؟ هل تُحقّق وجودها من خلال تذوّق حلاوة روحها التي يتميّز الإنسان المفكّر والمتحضّر من خلالها وعبرها عن الأقوام المتوحشين كما اعتقد ديكارت ؟ هل بالفعل يُحافظ الدرس الفلسفي على روح الفلسفة كما مارسها الفلاسفة أنفسهم وجعلونا نعشق تفلسفهم وإن اختلفنا معهم غير ما مرّة، وهذا سبب ترحالنا إلى وعبر متونهم الفلسفية فيِ رِحْلات سندبادية تبحث عن مغامرة الخطأ والحقيقة ،الممكن والمستحيل..لكن إلى أيّ حدّ تستمر روح الفلسفة  والبعض قد يسمّيها "هوية الفلسفة"، بالرغم من أن الفلسفة تنأى عن التصنيفات النمطية والمطلقة، وما مصير " هوية الفلسفة" تلك وهي تتمأسس لتكتسب صفة " فلسفة مدرسية" تخضع لشروط خارجة عن إرادة الفلسفة ذاتها؟ شروط يفرضها منهاج استعان بعُدَدِ وآليات من خارج الفلسفة تحت مُبرّر " انفتاح الفلسفة" على واقع التلاميذ، وعلى  مُختلف أصناف التفكير الأخرى، من دون تقدير أن الفلسفة هي بامتياز أمّ العلوم، أو هكذا كانت، ولم تقطع يوما صلتها بالواقع حتى وهي تُحلّق في سماء المثل، ولكنها عبر الجدل الهابط تُعانق حقيقة ما جرّدته، واقعيا.هذه الازدواجية في التعاطي مع الفلسفة ( الأصل/ التوظيف) يطرح إشكالية مدى التوفيق بين روح الفلسفة وإكراهات المؤسسة؟ دون أن تفقد الفلسفة حقيقة هويتها حتى وإن اختلفنا في تحديد هذه الهوية، آخذين بعين الاعتبار مُبرّرات الطرح الوضعي وطرح فكر الاختلاف من الفلسفة، مع أنهما يتفلسفان حقيقية، بل و كما قال  باسكال :"الاستهزاء بالفلسفة هو في الحقيقة تفلسف."

إذن هل من مُبرّر للتشكيك في منسوب ينبوع الفلسفة نحو المصبّ حيث التحقّق الوجودي للفعل الفلسفي ؟ هل بالفعل " التّقوّل" بالفلسفة ، إن على مستوى الموضوعات أو المفاهيم أو الحجاج والإشكالات، في كتاب التلميذ وعلى السبورة، وفي الجذاذة...دليل على وجود الفلسفة الفلسفية في حدود ما تسمح به إكراهات المؤسسة وبعض العيوب الموضوعية  الممكنة "للفلسفة المدرسية؟ وأخيرا  ما مدى إمكانية تضييع philosophicité لصالح التسطيح والتبسيط وفي حالات أخرى

ومن مظاهر الفساد الفكري، أن بعض " فرسان الفكر " من مدرسي الفلسفة في الثانوي التأهيلي أو الجامعي،إن على مستوى التأليف الورقي أو الإلكتروني يُشاع لدى تلامذتهم، أنهم في الحقيقة غير ما يظهرون به للعامة ووسائل التواصل، فكرا وسلوكا ؟ وهذه مفارقة تضرّ بالفلسفة ،لأنها تُعطي الانطباع بأن البعد القيمي للفلسفة ، قابل للاختراق والاستغلال، وهذا ما كان يخشاه كانط في حديثه عن الفرق بين الغاية والوسيلة.

لهذه الاعتبارات ، أوّد فتح نقاش حول طبيعة حضور الفلسفة في الثانوي التأهيلي، مع الاعتراف، من باب الإنصاف، بمجهودات فئة من مدرسي الفلسفة، من جميع الأجيال، وبالمقابل انكسارها في فصول فئة من مدرسي الفلسفة من جميع الأجيال، حجتنا في ذلك، الكتابات الموازية للدرس الفلسفي ( ذات الطابع التجاري)، والتي أضحت تُركّز اهتمامها على تحويل الدرس الفلسفي إلى خزّان معرفي  للإنشاء الفلسفي( التركيز على التعريف بأطروحات الفلاسفة مفصولة عن سياقها الإشكالي والمفاهيمي وما يشوب هذا النهج من عدة أخطاء وتناقضات)، والرهان في النهاية هو " تحصيل على " نقطة جيّدة" ( أقصد تقويم) في المراقبة المستمرة أو الامتحان الوطني.قد لا نختلف حول الحق في النزوع البراجماتي للتلاميذ، ولكن الخوف كل الخوف من تحويل الفلسفة  إلى مجرد وسيلة تترتب عنها إفراغ الدرس الفلسفي من أهدافه على الأقل المُصرّ بها في المنهاج ( حاليا التوجيهات التربوية ).



والحالة هذه، قد يطلب البعض التدليل على التشكيك في مدى حضور الفلسفة في الدرس الفلسفي بالثانوي التأهيلي.قد نسقط في لحظة التدليل في فخ " المُخابراتية"، علما أن كثيرا من مدرسي الفلسفي يحجمون عن نشر تجاربهم الفصلية على العموم، في الوقت الذي يمارسون فيه نقد تجارب غيرهم. وهذا يجرّنا إلى قضية شائعة بين العموم ولا أحد منّا طرحها على بساط التحقيق والتأكّد من مدى صحتها،يتعلق الأمر بوجود " فرسان الفلسفة" على مستوى التأليف الأكاديمي، لكنهم في ممارستهم الفلسفية أقلّ إقناعا لتلامذتهم، وصورتهم في " الاجتهاد الفكري التجاري" لا يعكس اجتهادهم الفصلي،قد يكون الكثير منهم ممتلئين معرفيا لكنهم فقراء بيداغوجيا وديدكتيكيا، وهذه الظاهرة تنطبق على التدريس بالجامعة أكثر من التدريس بالثانوي التأهيلي.وهناك أمثلة كثيرة، لكن يصعب الإشارة بالواضح تفاديا للقدح أو ما يشبه التجنّي على الغير لمجرّد الإشاعة، علما أن في مثل هذه القضايا كثير من الصحة.
لهذا سأطرح تجربتي الشخصية في تدريس الفلسفة من خلال تجربتي في منتدى فيلوصوفيا ومنتدى الحجاج، حتى نكون عمليين.
للقضية وجه آخر، والمتمثل في تجاوز عقدة " المدرس الضحية" ،علما أن الفساد يُمارس في جميع المهن، وليس المدرس وحده المعصوم من الفساد أو العيوب أو التقصير في أداء الواجب.بدليل أنني أسمع كثرة التشكّي من عدم تجمّل المسؤولية مع قلة الحديث عن النقيض، وغالبا هؤلاء ما يشتغلون في صمت.ومن الطبيعي أن تنصبّ الأنظار على نقد النواقص من أجل الارتقاء بها إلى مستوى حدود المطلوب كمنطلق لتأسيس المصداقية، ضدا على الذين يستهترون، من جميع الأجيال، بالمطلوب منهم، كواجب أولا، وثانيا كاقتناع ذاتي يروم تجويد الفعل الفلسفي وبالنتيجة تحصين الناشئة من " التضبيع" والضياع والفقر الثقافي والبيداغوجي والديداكتيكي في زمن انهارت فيه كثير من القيم، والتي كانت إلى عهد قريب تشكّل منارات استرشدت يها أجيال ، والتزمت بالحق والواجب في تشريف مهنة التدرن وأيضا في زمن تتسيّد فيه التفاهة وكل مشتقاتها من اللامعقول العبثي.



سؤال أخير، ما مدى صحة أن معظم خريجي شعبة الفلسفة من الجامعة ومراكز مهن التربية والتكوين يصرحون بوجود قطيعة بين ما درسوه في تلك المعاهد، وبين تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي؟ من المسؤول عن هذا الخلل؟ وكيف يتم إصلاحه إن وجد فعلا؟

وبالفعل عاينتُ أن بعض مدرسي الجامعات الذين يحاضرون في لقاءات تنظمها بعض الجمعيات حول الدرس الفلسفي بالثانوي، يظهر بالملموس أن ألئك الأستاتذة غير مطلعين على الأطر المرجعية للدرس الفلسفي بالثانوي التأهيلي إضافة إلى الكتب المدرسية، ويكتفون بمعرفة عناوين المجزوءات ليمرحوا في في بحر المعارف الفلسفية وكأنهم يحاضرون في رحاب الجامعة غير عابئين بالمتطلبات البيداغوجية والديداكتيكية.

 



 

 

 

شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: