دروس فلسفية في مبحث الوجود للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي.ديكارت وهيجل

التصنيف

 



 

دروس فلسفية في مبحث الوجود للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي.



أقدّم للقراء دروسا فلسفية للدكتور المحترم عبد السلام بنعبد العالي، حول مبحث الوجود عند كل من أرسطو وديكارت وهيجل وأخيرا بين هيجل وكيركغارد. قدم الدكتور عبد السلام بنعبد العالي هذه الدروس القيمة الموسم الدراسي 1978-1979 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وألفت نظر القراء إلى أن هذه الدروس مأخوذة من الدفتر الذي كنت أدون فيه كل ما يقدمه لنا الأستاذ بنعبد العالي.
وأستأذن أستاذي المحترم في أن نُطلع الجيل الجديد على ما كان يُدرّس في رحاب الجامعة أواسط السبعينات، باعتباره وثيقة فلسفية قيمة. أكيد أن الأستاذ بنعبد العالي طوّر قراءته للفلسفة الغربية ،وغيّر منظوره من خلال قراءته الحالية واجتهاداته المتطورة، وهو في أوج عطائه الفلسفي. وبالتي يحق لنا أن نعتبر مبحث الوجود الذي قدم في رحاب الجامعة(أي ما يقارب 30 سنة) من كتابات الشباب التي لا زالت لها راهنيتها الجادة ، ونقدمها من منطلق أنها وثيقة بيداغوجية ومعرفية، من حق أساتذة الفلسفة وطلبتها اليوم أن يطلعوا عليها، و سيكتشفون مدى عمق وجدّّة مقاربة الأستاذ بنعبد العالي لمشكلة الميتافيزيقا.

يقول الأستاذ بنعبد العالي:
مقدمة عامة
نحن مقبلين على دراسة ما يسمى في الفكر الغربي بالميتافيزيقا. وقد يتساءل كل منا، ما جدوى هاته الدراسة؟يبدو لنا أن هذا السؤال لا يخلو من أهمية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الوزن الذي أصبحت تحتله البحوث الميتافيزيقية في الفلسفة المعاصرة، والمعنى القدحي الإنتقاصي الذي تتخذه لفظة الميتافيزيقا ذاتها. ذلك أن المعنى الذي أخذ يشيع منذ أواخر القرن الماضي ( ق19 ) إلا أننا بالرغم من كل هذا لا نستطيع إلا أن نؤكد أهمية هذه الدراسة، لأننا لا نستطيع كما يقول هيدجر:" أن نتخلّص من الميتافيزيقا مثلما نغيّر رأيا من آرائنا". فلا يكفينا كمنا سنرى أن ندّعي العلموية أو نعتنق الروح الوضعية، كي نجد أنفسنا خارج الميتافيزيقا وعلى هامشها، فحتى الأسس التي يقوم عليها العلم والتقنية تظل متجذرة في الميتافيزيقا وقائمة عليها. فالعلوم كما يرى هيدجرHeidegger، ليست إلا الميتافيزيقا وقد بلغت أوجها. العلم هو البعد الميتافيزيقي للعالم المعاصر. هذا العالم الذي يسعى لأن يجعل من الإنسان كائنا يتوقف على الإنسان، بل إن هناك من المفكرين المعاصرين من يرى بعد نيتشه Nietzsche أن الميتافيزيقا ليست مجرد جهة من جهات الفكر، وليست فرعا من فروع الأبحاث الفلسفية، وإنما هي حاضرة في مختلف الأشكال التي عرفها الإنسان الغربي.وربما الإنسان عامة.وبهذا المعنى ليست الميتافيزيقا مبحثا في الوجود فحسب، بل هي نمط من أنماط الوجود، وكذلك:" سيتضح لنا عندما سيتبين أن الميتافيزيقا تخلق عالما وهميا تعتبر أنه العالم الحقيقي، وأنها حياة تحاول فيها أنواع من القيم أن تؤكد ذاتها."
لا بد إذن من دراسة الميتافيزيقا، إلا أن هذه الدراسة لا ينبغي أن تكون استعراضا لمختلف مباحث الوجود ابتداء من أفلاطون، كما لا يجب أن يكون إحياء للميتافيزيقا وغرقا في بحرها، وإنما عليه أن يكون عرضا انتقاديا. بل إننا سننطلق من هذا الانتقاد ذاته، وسنحاول من هذه المقدمة أن نُبيّن الأسباب التي تدعونا إلى مجاوزة الميتافيزيقا لا كمبحث قي الوجود فحسب، بل كشكل من أشكاله، وستعتمد في عرضنا الانتقادي هذا على مفكريْن أساسيْن يمكن اعتبارهما إلى جانب فرويد Freud مفتاحيْ الفكر الغربي المعاصر بمختلف تياراته .هذان المفكران هما ماركس Marx ونيتشه Nietzsche ، وسنحاول أن نتابعهما في عرض الدواعي التي يريان أنها تبرر انتقاد الميتافيزيقا ومجاوزتها. يتضمن هذا العرض ثلاث نقاط
1- ازدواجية الوجود في الميتافيزيقا.
2- إرجاع الوجود إلى المنطق.
3- هاتان النقطتان ناتجتان عن ثالثة وهي إيمان الميتافيزيقا بوجود انسجام بين الواقع والرغبات البشرية:
أ‌- الميتافيزيقا والأخلاق عند نيتشه Nietzsche .
ب‌- الإيديولوجيا والميتافيزيقا عند ماركس Marx .

أولاازدواجية الوجود.

يقول نيتشه Nietzsche :" ليس هذا العالم إلا مجرد مظهر، إذن هناك عالم حقيقي. هذا العالم نسبي، إذن هناك عالم مطلق. هذا العالم متناقض، إذن هناك عالم لا يشوبه أدنى تناقض. هذا العالم خاضع للصيرورة، إذن هنالك عالم وجودي ثابت (...)إن حقد الميتافيزيقي وتصوره للواقع الميتافيزيقي هو الذي يجعله يُبدع عالما آخر".
إن الوجود الذي تتحدث عنه الميتافيزيقا هو وجود متعال، وهو يوافق عالما آخر يتصف بكل الأوصاف التي يرتضيها الفكر ويتطلبها، من منطلق يُريد أن يحفظه من عدوى المحسوس. هذا الوجود المتعالي في نظر الميتافيزيقا هو الواقع الثابت والدائم الذي لا يعرف التغير ولا الصيرورة ولا الصراع ولا الألم... ينتج هذا التعالي عن فكر ازدواجي Dualisme، يفصل ويميز بين الخير والشر، الإيجاب والسلب، الصدق والخطأ، المعقول والمحسوس، الأصيل والمشتق. هاهنا لا تكون الحياة العينية إلا عرضا وتدهورا للوجود الحقيقي، ويكون على الميتافيزيقا أن تُصلح هذا التدهور بفصلها بين ما هو أعلى وما هو أدنى، ما هو ورائي ميتافيزيقي، وما هو ظاهر جليّ.
لا ينبغي أن يُفهم من هذا أننا ندعو إلى فكر لا يقول بالاختلاف والتناقض، ولكن فرق بين أن ننظر إلى التمايز والاختلاف انطلاقا من افتراض ذاتية ووحدة مُسبقة ، وبين أن نعتبر التشابه والوحدة يتولّدان عن الاختلاف، وأن هذا الاختلاف والتمايز والتناقض هو ما يشكل الديناميكية الحقيقية لوجود الذاتية والوحدة. النظرة الأولى تعبر عن وجهة النظر الميتافيزيقية، وتفترض أن معنى العالم سابق عليه، أما الثانية فترى أن المعنى وليد فعّالية . لا عجب إذن أن تُكثر الميتافيزيقا من الحديث عن الأصل الحقيقي والمصدر والجوهر( وسنرى أن هذا راجع إلى الصبغة اللاهوتية). هذا الوجود الحق الذي تفترضه الميتافيزيقا والذي تعتبر أنه مجالها الحقيقي، هو ما أطلق عليه اسم الجوهر مهما اختلفت الأسماء من فيلسوف إلى آخر، سواء أكان مثال أفلاطون أو الماهية الأرسطية أو الشيء الديكارتي Descartes عندما يقول ديكارت:" أنا شيء مُفكّر". أو الشيء في ذاته الكانطي Kant.إن الوجود الظاهر ليس هو الوجود الحق في نظر الميتافيزيقا، إنه غيّاب كل عمق. يرى نيتشه Nietzsche أن الفلسفة منذ عهد اليونان كانت عبارة عن انطولوجيا ميتافيزيقية، ومعنى ذلك أنها تسعى لأن تثبت المحمولات التي تُحمل على الوجود فينظر إلى الوجود على أنه النموذج الأمثل، وعلى أنه الخير الأسمى. بهذا المعنى يصف نيتشه هذه الانطولوجيا بأنها مثالية. وبما أن هذه الانطولوجيا تفترض وجودا يتجاوز الواقع المحسوس في انطولوجيا ما ورائية وميتا طبيعية، وبما أنه لا وجود إلا لهذا الواقع الذي تتشبث الميتافيزيقا بالتنقيب عنه ونعته بأنه مجرد مظهر، كانت الميتافيزيقا في نظر نيتشه مجرّد وهم. إنها هواء حول ما لا وجود له، حول العدم، وما الوجود الذي تتحدث عنه والنموذج الذي تُقيمه سوى وثن من الأوثان. يقول نيتشه:" الميتافيزيقا هي العلم الذي يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، فينظر إليها كما لو كانت هي الحقائق الأساسية.فالإنسان يبحث في الميتافيزيقا عن مبدأ يحتقر الإنسان بمقتضاه. إنه يخلق عالما كي ينعث هذا العالم بالسّخط، غير أن الإنسان لا يدرك من هذا البحث إلا الخواء ، فيجعل منه مطلقا وحقيقة كحكم على هذا الوجود وتنتقص منه.و يقول دولوز Deleuze في كتابه حول نيتشه:" عوضا عن اتحاد حياة فعالة بفكر يستجيب استجابة إيجابية، نجد أن الفكر الميتافيزيقي يجعل من مهمته أن يحكم على الحياة وأن يعترض طريقها بواسطة قيّم تدعي أنها قيّم عُليا، ويقيسها بمقياس هذه القيم فيحدّدها ويقضي عليها". يثبت ماركس نفس الازدواجية التي تخلق إلى جانب الواقع واقعا أفضل، يصبح هو الواقع. الواقع فيما يطلق عليه في كتاب العائلة المقدسة: البناء التأملي. يقول ماركس:" إذا شكلت من الوقائع: التفاح والكمثرى واللوز التمثل العام فاكهة ، وإذا مضيت بعد ذلك وتصورت أن تمثّلي الذي جرّدته عن الفواكه الواقعية هو ماهية توجد خارج عيني وتشكل الماهية الحقيقية للتفاح والكمثرى واللوز، ثم قلت بلغة الفلسفة التأملية : إن الفاكهة هي جوهر التفاح والكمثرى واللوز، أكون قد جزمت أن ما يشكل ماهية الكمثرى والتفاح ليس في كونها كمثرى وتفاحا بل إن ماهية هذه الأشياء لا تقوم في كونها تتمتع بوجود فعلي وتؤثر في حواسي ، بل تقوم في كيانها الذي جرّدته عنها، فوضعته مكان تلك الفواكه. إنها مجرد أحوال لوجود الفاكهة، وليس من شك في أن فهمي سيميز بمعرفة حواسي تفاحة عن كمثرى. لكن عقلي التأملي سيقول بأن هذا الاختلاف الحسي ليس اختلافا جوهريا ولا قيمة له (... ) فليست الفاكهة الفعلية جزئية إلا فواكه ظاهرية، وجوهرها الحقيقي هو الفاكهة (... ) أما وقد انحدرت الفواكه الفعلية المختلفة إلى فاكهة تجريدية واحدة، فإن على التأمل للحصول على بعض مظاهر المضمون الحقيقي أن يُجادل بطريقة ما في أن يجد طريق العودة من الفاكهة، أي من الجوهر،إلى الفاكهة المختلفة، ولمن بمقدار ما يكون الانتقال من الفواكه الفعلية إلى التمثل المجرد فاكهة، يكون صعبا عسيرا، بل يكون مستحيل الفهم إذا أردنا أن نتخلى عن التجريد.
لدى فإن الفيلسوف التأملي يتخلى عن تجريد الفاكهة ، ولكن بطريقة تأملية صوفية، لدى فهو لا يتخلى عنه إلا ظاهريا، وهو يطرح كما يلي: إذا لم تكن التفاحة والكمثرى واللوز إلا الجوهر فاكهة فكيف يحدث أن تظهر لي الفاكهة مرة في شكل تفاح وأخرى تتخذ مظهر كمثرى وأخرى لوزا؟ ما مصدر هذا التنوع الظاهر الذي يُخالف تمثلي التأملي عن الوحدة والجوهر فاكهة؟ يُجيب الفيلسوف التأملي بأن هذا راجع إلى أن الفاكهة ليست عبارة عن كيان ميّت لا حياة فيه، بل إن ماهيته حيّة تتنوع وتتحرك(... )إن الفواكه الدنيوية المتنوعة هي تجليات مختلفة للفاكهة ذاتها. فالفاكهة إذن ليست كيانا خاليا من المحتوى والتنوع. فبينما لا تعرف الديانة المسيحية إلا تجسيدا واحدا للإله، فإن الفلسفة التأملية تؤمن بتجسيدات تساوي من عددها عدد الأشياء.إن ما يهم الفيلسوف التأملي وما يشغل باله هو أن يستخلص وجود الفاكهة الفعلية كي يعكس بطريقة غامضة أن هناك تفاحا ولوزا وكمثرى".
هل ينبغي أن نفهم من ذلك أن المعرفة التي لا تريد أن تكون ميتافيزيقية ، لا يمكن أن تجد نفسها إلا أمام هذا التباين الحسي أي أمام تفاحات ومختلف الفواكه. وبصفة أعم هل يعني محو الازدواجية التي تطبع التفكير الميتافيزيقي، بالقضاء على أحد الأطراف دون الآخر، القضاء على الصدق لحفظ الخطأ ، والخير لحفظ الشر، وعلى المعقول لحفظ المحسوس، وعلى الأصل لحفظ المشتقات؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه نيتشه، لكنه يرُدّ قائلا:" لقد محونا عالم الحقيقة فماذا تبقّى لنا؟ أهو عالم المظاهر؟ كلاّ، فعندما قضينا على عالم الحقيقة، فقد محونا كذلك عالم المظاهر."
ليس إذن المقصود مهاجمة طرف واحد من أطراف الازدواجية، إذ أن بقاء الطرف الآخر سيضمن حتما وجود أطراف مماثلة. المقصود هنا هو القضاء على الازدواجية ذاتها. فإذا قلنا لا وجود لعالم المثال يتمتع بوجود ذاتي في ذاته، كذلك يعني أيضا لا وجود لمادة في ذاتها.
يريد نيتشه إذن أن يفضح مختلف الأنساق التأملية التي تصطنع عالما تدعي أنه العالم الحق، فتكون بذلك موضع استلاب بالنسبة للإنسان. هذا التأمل ذاته هو ما قام ضده ماركس من قبل. فنحن نقرأ في (الإيديولوجية الألمانية) حيثما ينقطع التأمل وتظهر الحياة الحقيقية الواقعية، حينذاك تبدأ المعرفة الإيجابية، ويشرع عرض الفعالية العملية، ومجرى التطور الفعلي للبشر. عندما تكف العبارات الجوفاء حول الوعي ، يكون على المعرفة الحقة أن تأخذ مكانها. وبمجرد ما تعرف الفلسفة الواقع ، فإنها تفقد ذلك المكان الذي تتمتع فيه بوجود مستقل.
إن الأنساق التأملية التي شيدتها الميتافيزيقا الغربية تكون بالنسبة للإنسان نوعا من الضياع والتشويه. لدى فماركس مثل نيتشه يرى فيها نوعا من الاستلاب. يقول ماركس في مقدمة نقد الفلسفة:" إن مهمة التاريخ إذن بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة هي أن نقيم حقيقة هذا العالم. تلك هي بالدرجة الأولى مهمة الفلسفة التي تخدم التاريخ، وذلك بعد أن يجري فضح الشكل المقدّس للاستلاب الذاتي للإنسان.

ثانياإرجاع الوجود للمنطق 

يقول ماركس:"وهكذا فإن الميتافيزيقيين الذين يتوهمون أنهم يقومون بعملية تحليل عندما يخوضون في هذه التجريدات والذين يحسبون أنهم يقتربون من الموضوعات كلما ازداد بعدهم عنها، إن هؤلاء الميتافيزيقيين يكونون على حق عندما يعتقدون بأن أشياء هذا العالم يحكمها نسيج المقولات المنطقية. وهذا ما يميز الفيلسوف عن المسيحي. فالمسيحي لا يؤمن إلا بتجسيد واحد للعقل هو المسيح، أما الفيلسوف فتجسيداته لا حصر لها، فلا عجب إذن أن يؤول كل ما هو موجود، وكل ما يحيا على الأرض وتحت الماء... لا عجب أن يغرق العالم الواقعي الحقيقي بكامله في عالم التجريدات، عالم المقولات المنطقية".
يرى نيتشه أن هذا التوحيد بين الوجود الذي توهمته الميتافيزيقا، وبين مقولات المنطق هو نتيجة طبيعية للوهم الميتافيزيقي بوجود عالم دائم متعال لا يلحقه التغير.": فالمنطق مثله مثل الهندسة والحساب، لا ينطبق إلا على كيانات وهمية من خلقنا نحن. إن المنطق محاولة لفهم الوجود الحقيقي الواقعي، ولكن عن طريق مقولات وجود أنشأناه نحن إنشاء".
فمنذ العصور الإغريقية، قبل أفلاطون، رُدّ الوجود عند بارمنيدس إلى التصوّر، واعتبر مبدأ الذاتية لا مجرد مبدأ منطقي بمقتضاه تكون القضية الصادقة دائمة الصدق، بل مبدأ وجوديا، يهيمن على الكائن . وعند سقراط امتزجت مقتضيات المنطق بالاهتمامات الأخلاقية، وأدى الأمر إلى ابتداع مفهوم عن العقل والعقلانية، سيسود الفكر الغربي خلال قرون. يقول نيتشه:" إذا ما حالفنا التوفيق سنستخلص من الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه ذلك الأساس الذي امتد إلى لغتنا ومقولاتنا النحوية فسكنها، وأصبح بذلك من الضرورة بحيث يبدو لنا أننا ننفك عن التفكير إذا ما تخلينا عن هاته الميتافيزيقا. إن الفلاسفة يجدون صعوبة شديدة في التخلص من هذا الاعتقاد، لأن مفاهيم العقل الأساسية ومقولاته، تنتمي بطبيعتها إلى الميدان الذي تهيمن عله حقائق الميتافيزيقا.فهم يؤمنون بالعقل إيمانهم بجزء من العالم الميتافيزيقي ذاته".
هذا الفضح لمفهوم العقل والعقلانية الذي نما داخل الفكر الغربي منذ ميلاد الميتافيزيقا، ربما وجب البحث عنه في الانتقادات التي قامت بها الدراسات الأنتروبولوجية لما سمي بالمجتمعات البدائية أو المتوحشة. لكن من شأن هذا أن يخرجنا من ميدان بحثنا. ولا بد أن نشير مع ذلك إلى الهزّة التي أصابت مفهوم العقل والعقلانية على يد الأبحاث الابستمولوجية المعاصرة، وخصوصا عند باشلار.إن الابستمولوجية المعاصرة تضع أسس عقلانية جديدة بعيدة عن العقلية الفلسفية التقليدية التي عرضتها الميتافيزيقا. فلم يعد العقل مجموعة من المبادئ الثابتة، وظهر أن له طابعا حركيا باعتباره أداة إجرائية opératoire تتغير بتغير الواقع الذي تتعامل معه. يقول باشلار Bachelard :"إذا ما مثُل أمامكم فكر يتمسّك بالعقلانية المتحجرة، ويردّد بلا كلل ذلك المثال الأبدي الذي تعطيه جميع الكتب الفلسفية المدرسية، ويكرّره الفلاسفة الذين يحجرون العقلانية ويحصرونها داخل الثقافة العلمية التقليدية،ذلك المثال هو أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين.إذا ما مثُل أمامكم هذا الفكر وردد هذا المثال ، فأجيبوه بأنكم لا تستطيعون أن تحسموا في الأمر. وبالفعل فإن ذلك يتوقف على اختيار الأوليات. وحينئذ فإنكم ستخيبون ظن هذا العقل الساذج الذي يعطي لنفسه حق التّمسّك بالخصائص المطلقة. لأنكم ستجعلون هذا العقل الدوغمائي أكثر ليونة، عندما تفتحون له مثل هذه الأبواب، وستلقنونه أنه لكي يفهم ويتعلّم ، مضطر بأن يتخلى عن معلوماته".
...وإذا ما جزمنا بأن للمعرفة تاريخا، فإن الفكر يصبح ذا بنية متغيرة، وأن الفكر العلمي في جوهره هو تعديل للمعرفة وتوسيع لأطرها. إنه يحكم على ماضيه التاريخي فيلعنه، ولذا فإن بنيته هي وعيه بأخطائه التاريخية. فالحقيقة بالمعنى العلمي تعديل تاريخي لخطأ عمّر طويلا".
يردّنا هذا إلى ما قلناه سابقا عن المعنى. فالميتافيزيقا تعتبر أن معنى العالم سابق عليه وأنه مبدأ وأصل. هذا في حين أنه حاصل ومنتوج" لا يكون علينا أن نكشف عن معنى وأن نقيم فيه ونغير بناءه واستخدامه، بل يكون علينا إنتاجه وصياغته بطرق متجددة. إن المعنى لا يوجد في الأعالي ولا في الأعماق، بل إنه منتوج يطفو على السطح.(لم يتم ذكر صاحب النص، أعتقد أنه لنيتشه.( ك ص)) هاهنا نحن نرى إشكالية المعنى كما حددتها الفلسفة الأفلاطونية، فطبعت بها الفكر الميتافيزيقي، تلك الإشكالية التي ترى أن المعنى هو الفكرة أو الماهية التي تعطي الأسبقية الوجودية للحقيقة على الخطأ، بحيث يُعتبر الخطأ تدهورا للحقيقة التي قيلت واكتشفت. ها نحن نرى أن هته الإشكالية تنهار عندما يصبح المعنى معلولا لا علة، ومفعولا لا فاعلا. إن تلك المعاني التي طالما سعت الميتافيزيقا إلى إقامتها وحفظها في العالم الماورائي، والتي طالما نشرتها في أعماق الأشياء وبواطنها... إن تلك المعاني مجرد وهم. يقول نيتشه:" إن ما يفصلنا عن فلسفة أفلاطون ولايبنتز هو أننا لم نعد نؤمن بقيم خالدة ، بقيم سرمدية، وأشكال أزلية، ونفوس أبدية. لقد علّمتنا اشتقاقات الألفاظ وتاريخ اللغة أن ننظر إلى جميع المفاهيم في صيرورتها، وأن تعتبر أن مُعظمها في طريق التكوّن. فألفاظ مثل الجوهر والمطلق والذاتية والشيء، هي عبارة عن أطر ابتدعها الفكر فجمّد فيها عالم الصيرورة". يذكرنا هذا بما قلناه عن التعاريف الإجرائية، عندما أكّدنا بأن اللفظ لا يحمل معناه في ذاته وإنما في الوظيفة التي يشغلها.وباستطاعتنا أن نقول مع الدراسات اللسانية المعاصرة، إن كل ما يدلّ سواء كان كلاما أو شيئا آخر، إن كل ما يعني ...لا نفترض مطلقا موضوعات تعرض نفسها للتأويل، و إنما نفترض تأويلا لدلائل وعلامات أخرى. فلا يكون هنالك موضوع من موضوعات التأويل إلا وقد أُوّل من قبل. يقول نيتشه:" ليس هناك حادث في ذاته، فكل ما يحصل ويتم ليس إلا مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها كائن مُؤول". هذا ما عبُر عنه ميشال فوكو عندما قال بأن الدلائل والعلامات تتوفُر على نوع من الخُبث وسوء النية. فلا ينبغي لنا أن ننظر إليها على أنها تدل، بل على أنها تُخفي وتُضمر. فالكلمات كما هي عند نيتشه عبارة عن أقنعة.

الميتافيزيقا والأخلاق عند نيتشه

يقول نيتشه:" إذا ما نحن أردنا أن نُفسّر ميلاد الإثباتات الميتافيزيقية لهذا الفيلسوف أو ذاك، من الأفضل والمعقول أن نتساءل عن أي نوع من الأخلاق ستقودنا تلك الإثباتات." لا ينظر نيتشه إلى الميتافيزيقا من وجهة نظر أنطولوجية بقدر ما ينظر إليها من الوجهة الأخلاقية.فهي تبدو له بمثابة سباق حياة تحاول فيه أنواع من القيم أن تؤكد ذاتها، وبالضبط بمثابة حركة تصل بها إلى إعطاء الأسبقية لقيم تعمل على اضمحلال الحياة وإذلالها. فالازدواجية التي تحدثنا عنها- التمييز بين المظاهر والعالم الحق- يفسره نيتشه على أنه الظاهرة التي تعبر بها حياة عن ذاتها ولا تجد نفسها بين كل ما لا يقع تحت الحواس، فتستنبط عالما ما ورائيا. ينظر نيتشه إذن إلى مبحث الوجود على أنه حلول لمشاكل أخلاقية. يقول : إن الجواب الحقيقي هو أن جميع الفلسفات قد شيّدت صرحها تحت إعجاب الأخلاق... كان يظهر أن مقصد هؤلاء هو اليقين، وأن مرماه هو الحقيقي، ولكن سعيهم في الواقع ينصبّ على الصّرح الأخلاقي السّامي. هاته السمة الأخلاقية التي تفسّر الازدواجية الميتافيزيقية ، تفسّر أيضا حسب نيتشه إرجاعها الوجود إلى المنطق. فهو يكشف أن وراء مفهوم الحقيقة يكمن مفهوم المنفعة.
لقد سبق أن قلنا إن الميتافيزيقا عند نيتشه هي عبارة عن أنطولوجية ميتافيزيقية، ويظهر الآن أنها أنطولوجية أخلاقية . وبعد أن قلنا إنه ينعتها بصفة المثالية لأنها تنصبّ على عالم آخر كأنموذج مثالي . يبدو أن معنى المثالية عنده يعني أيضا:" كون الأخلاق تُشكّل ماهية العالم."
هذا النوع من الانطولوجيا لابدّ أن ينزلق نحو اللاّهوت، فسرعان ما يصبح المثال هو العالم العلوي اللاّهوتي. بهذا المعنى ليست الميتافيزيقا مصدر الأديان كما كان يعتقد شوبنهاور. إن الحاجة الميتافيزيقية ليست صنيعا للأديان كما يريد شوبنهاور، بل إنها وليدة تلك الأديان . ففي عالم يسود فيه فكر لاهوتي اعتاد الناس تصور عالم أخروي. هذا العالم الذي يحل محلّه عند الميتافيزيقا إيمان بعالم مثالي.بل التوحيد بين المنطق والوجود هو الآخر يجد تبريره في هذا الطابع اللاهوتي للميتافيزيقا. يقول نيتشه:" إن الاعتقاد بأن كل ما يتم في الكون يحدث وفق مقتضيات العقل البشري، هو اعتقاد ناتج عن الثقة في الصدق اللاهوتي". تظهر إذن أمامنا الخصائص الجوهرية لمبحث الوجود، فهو مبحث ميتافيزيقي لاهوتي أخلاقي.

الميتافيزيقا والايديولوجيا عند ماركس.

إذا كان نيتشه يُفسر الميتافيزيقا بردها إلى الأخلاق والدين،فإن ماركس يعتبرها شكلا من الأشكال الإيديولوجيا. نقرأ في كتاب الإيديولوجيا الألمانية:" خلافا للفلسفة الألمانية التي تنزل من السماء نحو الأرض، فنحن نرقى من الأرض نحو السماء. وبعبارة أخرى إننا لا ننطلق هنا من ما يقوله الناس أو يتخيلونه أو يتمثلونه. كما أننا لا ننطلق مما يقولون عنه في كلام الآخرين، وفكرهم وخيالهم وتمثلهم كي نصل بعد ذلك إلى البشر الذين هم من لحم ودم. كلاّ إننا ننطلق من الناس في فعّاليتهم الحقيقية، كما أننا نتصور تطور الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لمجرى حياتهم الواقعية انطلاقا من مجرى الحياة ذاك. وحتى الأشباح التي تتولّد في الدماغ البشري ( الأوهام الإيديولوجية) ما هي إلا إعلاءات تنتج بالضرورة عن مجرى حياتهم المادية. تلك الحياة التي بإمكاننا أن ندركها عن طريق التجربة، والتي تستند :إلى أسس مادية. وبفعل ذلك، فالأخلاق والديانة والميتافيزيقا، إلى غير ذلك من أشكال الإيديولوجية، وكذا أشكال الوعي التي توافق تلك كلها، هاته تفقد حينئذ كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي. إنها لا تملك تاريخا، وهي لا تتبع أي نمو أو تطور." لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الأجوبة الميتافيزيقية أجوبة مُشوَّهة ومُشوِّهة
غير مطابقة لواقع الأمور. ذلك أننا لا يكفي أن نرفض الأجوبة التي جاءت بها الميتافيزيقا كي نطرح هاته جانبا ، بل ينبغي- حسب ماركس- رفض الميتافيزيقا ككل، كنوع من التفكير. هذا ما يعنيه ماركس عندما يرد على اليسار الهيجيلي في بداية نفس الكتاب:" إن النقد الألماني حتى في أحدث أشكاله ومساعيه الجديدة، لم يغادر عقل الفلسفة. فكل الأسئلة التي وضعها قد نشأت على أرض فلسفة مُعينة هي الفلسفة الهيجيلية. فلم يلحق التشويه الأجوبة وحدها، وإنما أصاب الأسئلة كذلك."
إن الحلول التي اقترحتها الميتافيزيقا كانت حلولا إيديولوجية، لأنها لم تكن حلولا حقيقية بل إنها لم تكن حتى أسئلة، وإنما كانت أسئلة تُـقـدُّه على، حلول موجودة جاهزة تمليها المصالح الاجتماعية. بهذا المعنى يقول ماركس في النص السابق بأن الإيديولوجيا لا تاريخ لها، وأن تاريخها يتم خارجا عنها. لأن طرح الأسئلة وبالتالي الإجابة عنها، لا ينبع من صميم التفكير الإيديولوجي، وإنما من الظروف المادية. فحركة سير الفكر الميتافيزيقي ... آت من الخارج، من حركة التاريخ المادية. لذا فإن مشاكل الميتافيزيقا تتم انطلاقا من الجواب عليها كانعكاس المضمون للجواب. يقول ألتوسير Althusser :" أعني أنها لم توضع كمشكل حقيقي، بل وُضعت على أنها المشكل الذي كان ينبغي طرحه لكي يكون الحل الذي يريده أن يعطيه إياه هو حل ذلك المشكل".
يدعونا ماركس إذن كما يقول هو ذاته في الإيديولوجية الألمانية:" أن نتساءل عن العلاقة التي تربط الفلسفة بالواقع، والتي تربط انتقادنا بوسطها المادي." « فإذا كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا( يقصد الميتافيزيقا) فذلك يعني أننا أن علينا أن نتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى أوهام." إنه يدعونا أيضا إلى طرح الميتافيزيقا ككل، كأجوبة وأسئلة، بانتقادها لا من الداخل بل من الخارج، وذلك بربطها بالمصالح الاجتماعية وتقسيم الشغل وتوزيع الإنتاج. يظهر أن هذا الانتقال مخالف لما رأيناه عند نيتشه، حيث يتم الأمر داخل الميتافيزيقا بالبحث عن طبيعة أسئلتها وردها إلى مشكل القيمة.
غير أننا نستطيع أن نجد مع ذلك قاسما مشتركا بين هذين الانتقادين إن نحن رجعنا إلى ما سبق أن قلناه عن المعنى . فقد أكدنا أن كل ما يدل على معنى هو عند نيتشه عبارة عن قناع يُغلف تأويلات سابقة. وباستطاعتنا أن نقول نفس الشيء لدى ماركس. فلو نحن تجاوزنا مفهوم الإيديولوجيا كما يُعرض سنة 1845 ، حيث تُعتبر مختلف الأشكال الإيديولوجية بما فيها الميتافيزيقا لغة تُعبّر عن الواقع وانعكاسا له نحو مفهوم سيظهر في مؤلفات النضج حيث ستُعتبر الإيديولوجيا علاقة من الدرجة الثانية، علاقة كما يقول ألتوسير Althusser " لا تظهر بسيطة إلا بشرط أن تكون مُعقّدة مُركّبة. فهي ليست علاقة بسيطة، وإنما علاقة بالعلاقات. إنها علاقة من الدرجة الثانية . فالناس لا يُعبّرون في الإيديولوجية عن علاقاتهم مع ظروف عيشهم، بل عن الكيفية التي يعيشون بها علاقاتهم مع تلك الظروف، الشيء الذي يفترض في ذات الوقت، علاقة حقيقية واقعية، وعلاقة مُعاناة، وخيال ووهم. فحينئذ تكون الإيديولوجيا هي التعبير عن علاقة الناس بعالمهم، أي بوحدة تلتحم فيها علاقتهم الواقعية بظروف عيشهم مع علاقاتهم الوهمية بتلك الظروف. ففي الإيديولوجيا توضع العلاقة الواقعية الحقيقية داخل العلاقة الوهمية، هاته العلاقة التي تُعبّر عن إرادة وأمل أو حنين أكثر ممّا تصف واقعا بعينه." لو نحن أخذنا الإيديولوجيا بهذا المفهوم ستصبح الميتافيزيقا لغة اللغة، لا لغة للحياة الواقعية، وإنما تأويلات لتأويل، تأويل لواقع معيشي. هاهنا أيضا ستصبح المعاني لا تحيل مباشرة إلى الموضوعات وإنما إلى تأويل سبق أن أُعطي لتلك الموضوعات، وحينئذ ستصبح الأوهام ( الميتافيزيقا) كما هي عند نيتشه أقنعة ينبغي تأويلها أو تأويل تأويلها لفضح بعدها الإيديولوجي.

خاتمة

يدعون كل من ماركس ونيتشه إلى انتقاد الميتافيزيقا بفضح بعدها الإيديولوجي، وهذا يعني أن الميتافيزيقا كتفكير ووجود ليست مرحلة سهلة التجاوز، بحيث يكون حلول مرحلة الوضعية قضاء عليها. إن الأوهام الميتافيزيقية ، ككل الأوهام ( الإيديولوجية) تظل دوما قابلة لأن تُعدّل من نفسها وتتلاءم مع الظروف . هذا ما جعلنا نغفل انتقاد مختلف التيارات الوضعية للفكر الميتافيزيقي ، لأننا نعتبر مع هيدجرHeidegger أن الميتافيزيقا عسيرة التجاوز بحيث لا يمكن أن نتخلص منها مثلما نُعدّل رأيا من آرائنا.

مبحث الوجود عند ديكارت: ثنائية الوجود

مقدمــــــة

ينتمي ديكارت- بحكم نشأته الاجتماعية، شأنه في هذا شأن أغلب كتاب فرنسا في هذا العصر- إلى تلك الفئة الجديدة التي ستعرف الوجود مع نهاية عصر النهضة والتي سيطلق على أعضائها نبلاء الثوب ، مقابل فئة النبلاء الأصلية التي كانت تعرف بنبلاء السيف.برز نبلاء السيف كقوة اجتماعية عندما أخذ الانحلال يذبّ في جسم فئة النبلاء السابقة ( نبلاء السيف). فقد اضطر هؤلاء النبلاء إلى خوض معارك الحروب الدينية التي عرفتها فرنسا في أعقاب حركة الإصلاح الديني ، الأمر الذي دفعهم إلى صرف أموالهم وبيع ممتلكاتهم لسدّ نفقات الحروب ، فأصبحوا عالة على البلاط، بعد أن كانوا عُمدته وسنده القوي. وحين برز نبلاء الثوب كقوة اجتماعية، استطاعت بجهدها الخاص جمع المال ، وشراء الأراضي والمساهمة في الحياة التجارية، وإنشاء المصارف والأبناك ، فاضطر البلاط إلى الالتجاء إلى هاته الفئة ، الشيء الذي مكّنها فيما بعد أن تصبح عُمدته الأساسية. وتجدر الإشارة إلى أن لويس الرابع عشر سينتقي خُدّام القصر ومستخدميه من هاته الفئة. يقول لوسيان كولدمان:" لقد كانت البرجوازية تُزوّد الملك بالوسائل المادية لكي يُسدّد مصاريف القصر، وخصوصا المصاريف العسكرية التي كان يقتضيها الارتزاق. وفي مقابل هذا كانت الملكية تحمي البرجوازية من خطورة نبلاء السيف، وبالتالي فهي كانت تساعدها مساعدات اقتصادية، وتسهر على مصالحها. وحينما عمل ازدهار الملكية ونموها على التعجيل بأفول فئة نبلاء السيف، فإن هذه البرجوازية قد أصبحت تستولي على الجهاز السياسي والإداري للدولة، وذلك عن طريق شراء الأسماء والألقاب، وعن طريق خلق فئة جديدة في البلاد، وهي فئة نبلاء الثوب. "
ذلك أن هذه الفئة لم تكن لتتعارض أشدّ التعارض مع البلاط، ولم تكن حياتها الاقتصادية لتتنافر مع ما يهدف إليه حُكّام فرنسا آنئذ. فهي لم تكن فئة ثورية بالمعنى الصحيح، ولم تكن تحِنّ إلى تغيير حقيقي يقلب الأوضاع في فرنسا. يقول لوسيان كولدمان :" إن نبلاء الثوب في فرنسا خلال القرن السابع عشر كانوا بحكم أصلهم البرجوازي ولوعيهم بأنهم يقومون بدور اجتماعي حقيقي. كانوا ينظرون نظرة ملؤها الاحتقار الممزوج بالحسد والغيرة لنبلاء السيف السابقين. وبصفة عامة، فإنهم كانوا ينظرون هاته النظرة لحياة الفراغ التي كان يعرفها ( قصر الفرساي) ، لقد كانت هذه الفئة تحِنّ إلى التغيير والتجديد، كما أنها كانت بفعل أساسها الاجتماعي أشدّ التصاقا بالعهد القديم، مما جعلها عاجزة عن اتخاذ موقف اجتماعي واضح في صالح تغيير جذري." هذا ما يُفسّر التناقض الذي ساد هذه الفئة ، وترددها بين نزعة إلى التفاؤل والإيمان بالعقل وقدرته على المعرفة والحماس للعلم ، ونجاحه، وبين سقوط في الشك واليأس والقلق ( راسين وباسكال). فنحن لا ينبغي أن نتذكر فحسب عند ذكرنا لعصر ديكارت وما سبقه، لا ينبغي أن نذكر حماس كوبرنيك وبرونو و جاليليو وديكارت نفسه، أي حماس هؤلاء للعلم والسيادة على الطبيعة، وفهم قوانينها الميكانيكية، وإنما لا يجب كذلك أن ننسى شكّ مونتانيي Montaigne وباسكال. هذا التردد بين التحمّس للمستقبل والحنين إلى التغيير، وبين عقلية تتشبث بالتراث الوسيطي الطوماوي. ربما تبنّاه فيما بعد ديكارت نفسه. ولعلّ هذا ما يفسّر التناقض الذي نلفيه عند شُرّاح ديكارت، إذ أن منهم من يجعله فيلسوفا دينيا يُشكّل فكره امتدادا للقرون الوسطى، ومنهم من يجعله عدو التراث والتقليد، ومؤسس العقلانية الحديثة. ولا يهمنا الآن إثبات أي الرأيين أكثر صوابا، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن ديكارت كان على وعي تام بحدّة العصر الذي يعيش فيه، وأنه كان يدرك أهمّية الانقلاب المعرفي الذي سمح بظهور الفيزياء الجاليلية ( نسبة لجاليليو)، تلك الفيزياء التي وضع هو نفسه أسسها الفلسفية ودعائمها المنهجية.
ولا عجب في ذلك، فديكارت قد أطلّ على عصره من أحسن نوافذه. إنه خبر عصره وجال في أوروباليقرأ كتاب العالم الكبير". ثم إنه وإن كان ينتمي بحكم مولده إلى فرنسا، فقد أقام ما يزيد على عشرين سنة في هولاندة Hollande ، وفي هذا البلد سيكتب جميع مؤلفاته الفلسفية. هولاندا التي كانت في هذا القرنالممثل الحقيقي للدولة الرأسمالية" كما يقول ماركس. كانت هولاندا آنئذ تعرف ازدهارا تجاريا كبيرا ، وقد كان من بعض العوامل التي ساعدت على نشأة المصارف وازدهار الحياة البنكية. وقد كان بنك أمستردام يلعب دورا عالميا في التبادل . ثم إن موقع الموانئ الهولندية كان من العوامل التي ساعدت على تقدم القطاع الملاحي، وفتح الأسواق الخارجية في وجه المُتاجرين، حتى أن الملاحة التجارية الهولندية بين 1660و1670 كانت تشكل ربع ملاحة العالم. ثم إن وفرة الأيدي العاملة وانخفاض أثمان مواد الخام، كانت وسيلة لهذا الازدهار التجاري. فالباخرة في هولندة مثلا لم تكن تتطلب إلا ثلث المصاريف التي كانت تقتضيها في فرنسا مثلا.
كان من الطبيعي إذن أن يزدهر الاقتصاد الهولندي ، وأن تسيطر البرجوازية الهولندية الناشئة على أهم الأسواق الأوروبية، حتى أن هولاندا أصبحت من المستعمرين الأساسيين. صحيح أن استعمارها لم يكن استيطانيا، إلا أنها استطاعت غزو الأسواق والسيطرة على المبادلات التجارية.
كل هذا يفسّر قوة هذه البرجوازية الهولندية، تلك القوة التي مكّنتها من أن تقاوم الاحتلال الاسباني ، وتنفتح على المثقفين من العالم ، وتتبنى الإصلاح الديني، وتعتنق الكلفانية. وكان من الطبيعي إذن أن يتفتّح الأفق العلمي والثقافي لهذه البرجوازية، ولعل هذا هو ما يبرر كون هولاندا أصبحت ملجأ المثقفين الأوروبيين، فإليها ستحجّ أسرة إسبينوزا Spinoza من البرتغال، وإليها سيلجأ بعض المثقفين الفرنسيين في عهد ساد فيه في فرنسا، ردّ فعل عنيف ضد الإصلاح الديني . وقد كان ديكارت من بين هؤلاء الذين وفدوا إلى هولاندا سعيا وراء حياة حُرّة. يقول في إحدى رسائله:" إنني أعتبر هذه الجمهورية حُرّة، خصوصا وأن الجميع فيها متساوون في الحقوق." فإذا كنا لا نستطيع أن نفسر لجوء ديكارت إلى هذا البلد تفسيرا دينيا، باعتبار أنه كان يسوعيا ، بينما كان النظام الهولندي كالفانيا، فربما كانت هذه الحرية التي يتكلم عنها هي التي جندته نحو معقل الثقافة الغربية خلال القرن السابع عشر، أي نحو ملتقى الناشرين لحرية الفكر، ونحو مركز الاختراعات آنئذ، إذ أن اختراع المنظار الفلكي والمجهر قد تم هنا في هولاندا.
رغم كل هذا، فلا ينبغي أن نفهم مما سبق أن عصر ازدهار مطلق قد جاء مع هذه البرجوازية الهولندية، وأن عقلية جديدة ستحُلّ بصفة نهائية محل العقلية التقليدية، وأن هذه البرجوازية ستعتنق العقلانية، وستتحمّس للعلم الطبيعي دون أن تولي للماضي أدنى اهتمام. هاهنا أيضا ينبغي أن نلاحظ نفس التردد الذي ألفيناه عند نبلاء الثوب الفرنسيين، ذلك أن البرجوازية الأوروبية في بداية نشأتها لم تستطع في أي بلد أن تفرض نفسها منذ الوهلة الأولى كقوة اجتماعية حقيقية، وهي لم تحمل معها عند مولدها كل دعائمها الثقافية، وركائزها الإيديولوجية. فالتغنّي بحرية المبادرة وتمجيد العقل والفردانية، والخروج واكتساح الأسواق ونشدان الديمقراطية السياسية... فهذه العقائد وتلك الشعارات لن تتبلور بالفعل إلا عشية قيام الثورة الفرنسية، وهي ستنمو وتولد تدريجيا بنمو البرجوازية نفسها. فهاته البرجوازية لم تنتزع عنها أثواب الماضي دفعة واحدة. يقول هنري لوفيفر:" إن هذه البرجوازية الناشئة التي استطاعت أن تجد وسائل تعديل عند نهاية القرن السادس عشر في فئة المعتدلين، والتي ساندت هنري الرابع ، هاته البرجوازية لم تستطع فرض نفسها على المستوى السياسي، لقد ظلت خلال فترة طويلة سجينة الأطر الاجتماعية الإقطاعية، فعوضا عن استغلال الرساميل المتوفرة ، فإنها كانت تُكدّس الأموال بجشع كبير. وهذا ما سيطلق عليه ماركس التراكم البدائي للرأسمال. ومن هنا جاء زُهد هذه البرجوازية الناشئة واعتناقها البروتستانتية والكلفانية، كما أنها ظلت تشتري الأراضي .. ولم يولد الوعي الحقيقي لهذه الفئة إلا خلال القرن الثامن عشر ( عشية الثورة الفرنسية) ، فقد ظلت القوة المتحدّرة عن الإقطاع هي القوة المهيمنة."
لا يعني هذا طبعا أن هاته البرجوازية الناشئة ظلت غارقة في القرون الوسطى. فمهما كان حُكمنا على هذه القرون، و سواء أطلقنا عليها مع المؤرخين التقليديين عصور الظلام، أو سميناها مع بعض المؤرخين عصورا غامضة، فلا بد أن نعترف أن تحوّلا جذريا قد يظهر في أوروبا مع إطلالة القرن السابع عشر، حملت لواءه تلك الفئات الناشئة الصاعدة، والتي نزعت عن الأرض والسماء حُلّتها القديمة، فأصبحتا مجالا للغزوات والاكتشافات الجغرافية والفلكية، وميدانا للأسواق التجارية وسبل للمواصلات. فقد عرفت جميع البلدان التي كانت سبّاقة نحو التنظيم التجاري والحرفي، كانجلترا وهولندا وفرنسا، تقدما للعلوم كان يسير بخطى سريعة، فوضع كوبرنيك تركيبا هندسيا للسماء مكان النظام الفلكي البطليموسي، وألح كيبلر على أن السماء لا تختلف عن الأرض، فأظهر أن لها قوانين كليّة منظمة، وأن حركاتها ليست دائرية كاملة . وقد كان برونوBruno Giordano( الذي أُحرق) أول من أدرك المغزى الكامل لعلم الفلك، وتبيّت أهمية الثورة الكوبرنيكية: لم يعد يُنظر للأجرام السماوية نظرة الكائنات الإلهية، التي لا تقبل التغير، والتي تُخالف مادتها مادة العالم، كما أنBruno ألحّ على لانهائية الكون، وعلى انسجام المكان، لذا أصبحت الفيزياء السماوية امتدادا للفيزياء الأرضية، وهذا بالضبط ما سيدافع عنه جاليليو الذي سيهاجم التصور الأرسطي، وسيقضي على تعلّق الفكر بالماضي، وسيتشبث بفكرة الثبات constance والسكون التي لمحناها عند أرسطو. يقول جاليليو :"إنّي لأصغي باستغراب كبير عندما تؤخذ صفة الثبات كأمر مُبجّل مكتمل، يُميّز عن التغيّر الذي يُنعت بأنه عكس ذلك. وأنا أأكد أن أكثر ما يميّز الأرض هو بالضبط التغيرات التي تتم على سطحها."اعتمد جاليليو على الرياضيات في وضع الفرض العلمي ، والبرهنة عليه. ووضع بذلك أسس المذهب الميكانيكي ( ضد الغائي ) واتخذ الطريق إلى الفلسفة الآلية التي سيتحمّس لها ديكارت وسيدافع عنها أشد دفاع.
وهكذا لم تعد المعرفة مجرّد تأمل ونشاط باطني، يتم في قلب العقل كما كانت عند اليونانيين. فعوضا عن المفهوم الإغريقي الذي يُعلي من قيمة النظر، أصبحت المعرفة مع الفئات الجديدة وسيلة تغيير يجعلنا:"سادة على الطبيعة وممتلكين لها". كما يقول ديكارت نفسه في الفصل الأخير من المقال.فمع هذه القوة الجديدة ستقوم نظرة مغايرة إلى الفكر، وسيُنظر إلى المعرفة في قيمتها التطبيقية. فهي لم تعد تستمد قيمتها من الموضوع الذي تنصبّ عليه، بل أصبحت تُقاس بالوظيفة التي تقوم بها.فإذا كانت المعارف عند اليونان بصفة عامة تتفاضل وتتمايز حسب الموضوع الذي تنصبّ عليه، فإن المعرفة هنا أصبحت تُقاس بمدى يقينيتها ومدى إفادتها، أي بالمنهج الذي تتبعه والفائدة التي تُجنى منها.
كان طبيعيا أن يحدُث صراع بين فئات أصبحت تدعو إلى نوع جديد من المعارف، وإلى معايير جديدة لقياس المعارف، وبين تلك التي كانت تتشبث بالمعارف المتجمدة لعقلية القرون الوسطى. لذا فإن مشكل العلاقة بين العلم الناشئ والتصور العقلاني الجديد من جهة، وبين التصورات الأرسطية التقليدية. إن هذا المشكل وضع أيام ديكارت بحدّة كبيرة تجلّت في تلك الصراعات التي نشبت بين المعرفة العقلانية والتفكير اللاّهوتي ، تلك الصراعات التي كانت محاكمات مفكرين أمثال Bruno وجاليليو دلالة عليها. يقول الأستاذ Alquiée عن ديكارت:" هذا التعارض بين التقنيات الموضوعية وبين عدم اليقين الذي تتصف به المعرفة بالغايات الحيوية، هذا التعارض هو الخاصيّة التي ميّزت هذه الحقبة، حيث ظهر أن اكتشافات العلم كانت تقضي على رؤية مسيحية طوماوية للعالم، دون أن تضع موضعها أخلاق مُغايرة، وقدرا جديدا للإنسان. "
لقد خلّفت الفلسفة الأرسطية الطوماوية مفاهيم لم تكن لتتناسب نع العلم الناشئ ، بل إنها كانت حاجزا من الحواجز المعرفية التي تقوم ضد تلك النشأة. كان أرسطو يُفرّق بين علل متعددة مُتعددة ونفوس مُتباينة، وعوالم متفاضلة ومواد مُتمايزة، وكان على ديكارت ، كما سنرى، أن يُوحّد مفهوم العلة ( سيحتفظ بالعلة الفاعلة) ومفهوم النفس ( سيحتفظ بالنفس العاقلة المفكرة التي تُكتشف في الكوجيتو ). كما كان عليه أن يُوحّد مفهوم العالم الطبيعي. فهو عاصر كما قلنا ميكانيكا جاليليو حيث كان هذه الفيزياء الناشئة أن تنشئ تصوراتها على أنقاض مفاهيم فيزياء أرسطو.كان على ديكارت أن يُقيم المفهوم الجديد للطبيعة، وأن يمُدّ العلم بما يحتاج إليه من تصورات جديدة. كان عليه أن يضع خطّا فاصلا بين المفاهيم الإيديولوجية التي خلقتها الإشكالية الأرسطية ، وبين التصورات العلمية التي كانت تقتضيها الإشكالية الجاليلية. يقول ديكارت :" يجب أن تعلموا في البداية أنني لا أعني بالطبيعة إلـــها(Dieu) بين الآلهة، كما لا أقصد بها أية قوة وهمية. إنني أستخدم هذه الكلمة لأعني بها المادة ذاتها من حيث أني أعتبرها مجموع الخصائص التي ننسبها إليها.
وسنرى أن هذه الخصائص ليست عبارة عن صفات ثابتة ، وهي ما كان يُشكّل الماهية الأرسطية، بل إنها عبارة عن تحديدات هندسية ميكانيكية. هذا المفهوم الجديد عن الطبيعة ، كان يُعبّر بالضبط عن المتطلبات التي يقتضيها العلم الميكانيكي، كما كان يناسب الوسيلة الجديدة لتحقيق ذلك العلم، وأقصد الهندسة التحليلية التي هي اكتشاف ديكارتي.إن هذا المفهوم إذن لم يكن ليتواجد مع المفاهيم الأرسطية يقول F.Alquiée :" إن مفاهيم النفس والصورة والحياة، تلك المفاهيم التي كانت تفسر عن طريقها الحركات، قد فقدت قيمتها ، وإن ذلك التمييز الذي كان يضعه المذهب الطوماوي بين الكائنات الطبيعية التي تمتلك في ذاتها المبدأ الباطني لتغيّرها، وبين الكائنات الصناعية التي يصنعها الإنسان. إن هذا التمييز قد أُهمل وتُرك جانبا. "
وقد سبق أن رأينا أن أرسطو يعتبر أن غاية الموجود هي صورته وعلّته الفاعلة (سأعمل على كتابة مبحث الوجود عند أرسطو فيما بعد .ك.ص)وأن مفهوم الحركة يقوم على مفهوم العلة الغائية، وبالتالي التفسيرات الغائية. فكل كائن طبيعي حسب أرسطو يتضمّن في ذاته غاية وجوده، لذا فهو يسعى لتحقيق تلك الغاية.ها هنا إذن يكون نظام العالم سابق على العالم ذاته، وها هنا ينظر إلى الطبيعة كقوة ذاتية، وتعتبر الكائنات الطبيعية حاملة لشُحنة أنطولوجية. هذا الأمر مُخالف أشدّ المُخالفة للمبدأ الذي ستقوم عليه الفيزياء الجاليلية، وهو مبدأ العطالة، الذي يقضي بأن الجسم عاجز عن تغيير حركته ما لم تؤثر عليه قوة خارجية. يقول ديكارت في المبادئ:" لا يتغيّر الشيء في الطبيعة إلا بفعل أشياء أخرى. وهذا ما يُوضحه ألكيي Alquiée :" لقد وُلد عالم ديكارت وهو عالم تتكون فيه الكواكب والأجسام البشرية وفق نفس القوانين، وعن طريق أشكال وحركات داخل هذا الامتداد المُتصل اللامحدود،والقابل للانقسام. وسيكون الإنسان في هذا العالم آلة داخل آلة."
إن الفيزياء الجاليلية الديكارتية هي فيزياء ميكانيكية آلية، تعتبر أن كل ظاهرة كونية بالإمكان تفسيرها عن طريق قوانين الحركة المادية . يقول ديكارت:" إن فلسفتي لا تأخذ بعين الاعتبار إلا المقادير والأشكال والحركات، مثلما يفعل علم الميكانيكا." إذن سنرى أن القوانين العلمية عند ديكارت تشمل أيضا الجسم البشري، بحيث يصبح الطبّ ذلك العلم الذي كانت تُحاربه مدرسة لافليش التي درس بها ديكارت، نقول سيصبح هو كذلك علما تكون فيه السيادة للعلة المادية بدلا من القوة الخفيّة الغيبيّة والحقائق اللآمرئية. يقول ديكارت:" ليس الجسم شيئا آخر سوى تمثال أو آلة طينية. أريدكم أن تعتبروا وظائفه ناتجة فحسب عن الكيفية التي تنتظم بها أعضاؤه لا أقل ولا أكثر، مثلما تفعل حركات الساعة أو أية آلة أخرى، بحيث إنه يجب علينا أن لا نفترض فيما يتعلق بالجسم الحي أية نفس غاذية أو حسية ولا أي مبدأ آخر للحركة وللحياة. فليس هناك سوى الدم الذي يتحرك بفعل حرارة النار التي تحترق في قلبنا باستمرار".
كان على ديكارت إذن لكي يُقيم مفهوما آليا ميكانيكيا عن العالم الطبيعي، كان عليه أن يقضي على التصور الأرسطي ، وخصوصا على التصور الغائي. يقول ألكـــيــي:" فإذا أردنا إخضاع الأشياء لأهدافنا وغاياتنا، ينبغي أن لا نعتبر أن الأشياء تتمتع بغايات خاصة بها."هذا ما حدا بديكارت أن يُجدّد مفهوم المعرفة ، والمعرفة الرياضية على الخصوص، ويُغيّر من الدور الذي كانت تلعبه فيما سبق. سيعمل ديكارت على إنزال الرياضيات من سماء المثل الأفلاطونية. ذلك أن علم الميكانيكا الناشئ كان يتطلب اكتشاف علاقات هندسية تتجسّد في الطبيعة ولا تسكن سماء المثل.لم تعد الطبيعة تُبنى وفق نموذج رياضي مُسبق، بل أصبحت الرياضيات هي التي تُعدّل وفق مُقتضيات العلم الناشىء. يقول ألكـــيـــي:" كانت القرون الوسطى تضع الإنسان في مكانته داخل عالم يُقدمه الإيمان الديني. أما فلسفة ديكارت فقد أرادت أن تضعه في موضعه داخل عالم يصوغه العلم."كانت هناك إذن ضرورة لتفكير انتقادي يُخلّص المعرفة من الأفكار المُسبّقة، ويُذيب المعتقدات التي جمّدتها البرودة الفكرية للقرون الوسطى، ويؤسس المفهوم العقلاني للطبيعة. ويجب أن يُميّز المُفكر بين مستويات مختلفة، ويفصل بينها، يفصل بين ما هو بشري وما هو طبيعي، ما هو حيوي وما هو ميكانيكي ما هو نفس وما هو امتداد. لقد أعلن ديكارت أن في مقدور العقل أن ينفُذ إلى الحقيقة.فبينما كانت هذه الحقيقة خلال القرون الوسطى تنزل من السماء، أصبحت مع ديكارت على الأقل في جزء منها في حوزة الإنسان. فهو يعتقد كما يعتقد ألــكــيــي أن في استطاعة الفكر البشري أن يبلغ مباشرة الوجود والحقيقة بوسائله الخاصة وحدها.
ولكن ما حدود هذا الحماس، سواء للنزعة العقلانية أو النزعة الميكانيكية ، وأين ذلك التردّد الذي أشرنا إليه عندما قلنا بأن الفكر الديكارتي يعكس أزمة فئات اجتماعية أصبحت مصالحها متوقفة على المستقبل دون أن تستطيع التخلص من الماضي؟ وعندما قلنا بأننا سنلحظ في موقف ديكارت، بل وحتى في شخصيته ثنائية وتساكنا بين حماس إلى التجديد وتعلّق بالقديم. فهل باستطاعتنا كما يتساءل ألــكـيـــي:" هل باستطاعتنا أن نؤمن بأن الطبيعة بكاملها تعبير عن تركيب آلي ، وهل يجب أن نفترض أن وراء كل حياة وكل غائية حركات آلية. وهل في صالح العلم دوما أن يتمسّك بذلك الاحتراس الانتقادي ، وذلك الحذر من الوقوع ضحية الانخداع. إن مثل هذه الصعوبات ستدفع بديكارت فيما بعد إلى البحث عن المبادئ المفسرة لوحدة الفكر، وفيما يتجاوز العالم . تلك المبادئ التي تعجز موضوعات الطبيعة عن تقديمها." سنرى إذن أن ذلك الحماس للعلم سرعان ما سيخفت، وسيُصرّح ديكارت ابتداء من 1630 بأن العالِم عاجز وحده بأن يُدعّم حقائقه، وأنه مُحتاج إلى ضمان خارجي . يقول في إحدى رسائله:" ولن يفوتني أن أذكر في دراساتي الفيزيائية عدة مسائل ميتافيزيقية وخاصة هاته: إن الحقائق الرياضية، تلك التي تعتبرونها أبديّة قد أنشأها الله وهي مُتوقفة عليه كليا مثلها في ذلك مثل سائر المخلوقات(...) وأناشدك أن لا تتردد في القول في كل مكان أن الله هو الذي أنشأ هذه القوانين في الطبيعة، كما ينشىء تلك القوانين في مملكته (...) وإذا قيل لك إن الله هو الذي كان يُنشئ تلك الحقائق لكان في استطاعته تغييرها كما يُعدل الملك قوانينه، وجب الردّ بأن هذا يجوز لو كانت إرادة الله مُتغيّرة. أما إذا اعترض بأن الحقائق أبدية ثابتة فإني أُجيب بأن الله أيضا كذلك".
هذا ما سيتبيّن لنا بوضوح عند عرض النقط الأساسية في الميتافيزيقا الديكارتية، وسيظهر لنا أن الفلسفة ليست تأمّلا يجيء بعد دراسة الطبيعة، بل إنها ستقوم كأساس لتلك الدراسة. إنها ما يبرر إيماننا بالعلم، فالفلسفة كما يقول في تمهيد كتاب المبادئ:" هي بأسرها شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الطبيعة والفروع التي تتفرّع عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى..." التي تؤول إلى ثلاثة رئيسية وهي الطب والميكانيكا والأخلاق.
هاته المفارقات التي تطبع الفكر الديكارتي، وهذا التردد بين حماس إلى تفسير عقلاني ميكانيكي وبين التشبّث بما يتجاوز العقل هو ما يسميه ألـــكــيـــي قدرة على الاحتفاظ على التوازن داخل الفواصل والتمايزات ": إن مهمته البطولية كانت داخل التمييز والفصل بين الأفكار والواقع، لأن الأفكار بإمكانها أن تكون صادقة دون أن يوفقها أي موضوع والفصل بين الإنسان العيني والإنسان المفكر، بين الجسم وبين النفسلا تهمّنا هنا التسميّة التي يجب أن نطلقها على هذا الفصل، فسواء قلنا مع ألكيي أنها قدرة على الاحتفاظ بالتوازن أو قلنا بكل بساطة هو تناقض قائم في الفلسفة الديكارتية، فيكفينا أن نؤكد على طابع التردد الذي قلنا أنه يطبع العصر بكامله. وهذا التأرجح بين تعلّق بالقديم وتفتح نحو الجديد، بين التغيّر والاستكانة ، شيء يعترف به ألكيي نفسه :" ذلك أن عصر ديكارت لم يكن فحسب ذلك العصر الذي ساد فيه الحماس والتعطّش للمعرفة، والذي يلِذّ للبعض أن يتصوره كذلك. فإذا كان عالم ابتدأ في هذا العصر، فقد انتهى عنده عالم آخر، عالم كان يضمن لكثير من الناس الاطمئنان واليقين، ولكنه كان أيضا يضمن الثروات والحقائق. لذا لم يلق العلم في هذا العصر الإجماع على أنه وسيلة للكشف عن عالم جديد، بل كان يعتبر أيضا وسيلة للقضاء على العالم والإنسان". 
وبإمكاننا أن نُلخّص هذا الأمر بصفة أوضح إذا نحن فحصنا موقف ديكارت من قيم عصره جميعها، لا القيم المعرفية فحسب. فبينما لاحظنا رفضه للتراث الثقافي الذي حملته القرون الوسطى ، سنلاحظ تقبّلا للقيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي حملتها نفس القرون. وهذا ما نتلمّسه بالضبط عندما نقرأ في المقال في المنهج، ذلك الكتاب الذي يُعطينا تلك المواقف المتعددة لوعي ديكارت أمام الواقع، ففي كل فصل من فصوله الستة يُدرك العالم إدراكا مُختلفا عن الكيفية التي يدرك بها في الفصول الأخرى. فإذا كنا نلمس رفضا لعلم ملقن وروح فردانية، واعتمادا على الذات في الفصل الأول ، فنحن نلمس خنوعا وتقبّلا في الفصل الثاني. بهذا المعنى يكون المقال تعبيرا عن موقف العصر لا عن موقف ديكارت فحسب. يقول ألكيي:" في المقال يجتمع موقف الخضوع والغرور، هذان الموقفان المتعارضان يضمان بعضهما إلى بعض دون توفيق حقيقي. فديكارت يُفضل الخضوع فيما يتعلق بالعمل والممارسة، وينهج نحو التجديد فيما يتعلق بالفكر. والشيء الذي يرفضه النظر سيقبل به العمل، ولن يكون التحرر إلا على مستوى الفكر."
رفض الثقافة الوسيطية معناه رفض محتوى الدروس التي أسسها اليسوعيون في مكان وهبه إياهم الملك هنري الرابع، لذا كانت المدرسة تحمل اسم الثانوية الملكية . لقد كانت هذه المدرسة من أحسن مدارس العصر، ولهذا كانت تعكس عقلية الآباء اليسوعيين وتخوّفهم من الإصلاح البروتستانتي، الأمر الذي جعلهم يسنون مقررات المدرسة، بحيث يتجنّب العقل الخضوع في جميع المسائل التي كانت تعتبر رسمية، وخصوصا أسس المذهب اليسوعي. كان الأساس هو تعويد الطلاب على طاعة رؤساء الكنيسة، ذلك أن المذهب اليسوعي يُلحّ على أن الإنسان خُلق لتمجيد الله، لا الخوض في مسائل الدين. هذا ما دفع المدرسة إلى أن تُخضع جميع الكتب التي كانت تقع بين أيدي الطلبة إلى مراقبة صارمة، وتُحرّم تدريس بعض المواد مثل الطب والقانون، هذا الطب الذي قلنا إن ديكارت جعله غصنا من أغصان شجرة المعرفة..
والظاهر أن هته التربية في مدرسة la Flèche استطاعت أن تغرس في ديكارت روح الخنوع، وتجعله يتجنّب الخوض في بعض المشكلات. يقول:" وقد أعدت النظر في لاهوتنا وطمعت أن أبلغ السماء أكثر من غيري، غير أنني تيقّنت أن الطريق ليس أكثر تمهيدا للعارف منه بالنسبة للجاهل، وأن حقائق الوحي فوق فهمنا، فلم أجرؤ على إخضاعها لتفكيري الضعيف".

وهكذا سنرى أن ديكارت الذي يؤكد في المقال حدود العقل البشري، سيؤكد في " التأمّلات " و"المبادئ" حدود الشك، فلن يمتد الشك الذي سبق الكوجيتو إلى حقائق الإيمان ، ما دامت هاته لا تنتمي إلى نفس المستوى الذي تنتمي إليه حقائق الفلسفة، وما دامت هذه تستمد تبريرها من العناية الإلهية لا من عقلنا السليم. يقول في الجزء الأول من المبادئ :" لكن يجب أن يُلاحظ أنني لا أقصد أن أستخدم هذه الطريقة الشاملة في الشك إلا عند النظر في الحقيقة، إذ من المؤكد أنه فيما يتعلق بتوجيه حياتنا كثيرا ما يلزمنا إتباع آراء راجحة فقط، وذلك لأننا لو حاولنا التغلّب على جميع شكوكنا لكان في ذلك ما يكاد يفوّت علينا فرص العمل.
إن الدور الذي يقوم به العقل السليم في مستوى الطبيعيات والميتافيزيقا، تقوم به العناية الإلهية في مستوى الخوارق. يقول في إحدى رسائله:" بما أنني أشدّ الإيمان بنزاهة الكنيسة، وبما أنني لا أشك مطلقا في أفكاري، فلست أخاف أن تتعارض الحقيقتان". فرغم أن اللاهوت والإيمان لا يتوقفان على وضوح الفكر الذي تقوم عليه المعارف الواضحة المتميزة ، فإن ديكارت لا يشعر بتناقض الأمر وخطورته ، ولا عجب في ذلك، فلقد رأينا أن التربية اليسوعية التي تلقاها تمنعه أن يؤمن بإمكانية إصلاح ديني، وتُلقّنه بأن ذلك الإصلاح هو مصدر اضطراب وحروب، لذلك كتب يوما إلى أحد الوزراء الهولنديين البروتستانت:" إنني أتبع دين ملكي كما أخضع لدين مرضعتي".
لن يمتد الشك إذن خارج الذات، ولن يلحق بالقيم التي تخرج عن المعرفة، يقول:" إن الإصلاح الذي أهدف إليه لا يخصّني إلا أنا وأنا فحسب، وهذا الإصلاح هو إصلاح رجل يريد أن يٌقوّم نظام معارفه".لا إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية. وسنلاحظ في الميتافيزيقا الديكارتية غياب كل عنصر من شأنه أن يقذف بهذا الأنا إلى الخارج بين الموضوعات أو داخل الزمان التاريخي. يقول ألكيي :" من البيّن أن ديكارت لا يريد إقحام نفسه داخل الاضطرابات السياسية. لقد كان شغله الشاغل هو اضطراب فكر عصر كانت مفاهيمه وسيطية، وكانت فيه أفكار نابعة عن عصر النهضة واكتشافات تتجدّد دون انقطاع، وكانت كل هذه الأمور قائمة في تعارض فيما بينها.لذا فحتى عندما يهتم ديكارت بذاته فإنه يلجأ إلى نفس الخضوع، وهذا ما تعبّر عنه القاعدة الثالثة من قواعد الأخلاق ...:"أن أطيع قوانين بلادي وعاداتها، وأن أحافظ على الدين الذي منّ الله علي بتطبيقه منذ حداثتي ، وأن أسير سير الاعتدال في كل شيء. لا عجب إذن أن يحتفظ ديكارت بفلسفة أخلاقية تعتبر الحرية في الخضوع للضرورة، ولا عجب أن نلمس عنده نفحة رواقية، إذ ليس البعد شاسعا بين القاعدة التي أشرنا إليها، وبين ما يقوله الفيلسوف الرواقي إبكتاتوس:" لا ترجو أن تتم الأمور حسب ما ترغب ، ولكن ارغب أن تحصل كما تحصل بالفعل ، وبذلك تكون سعيدا. "
وهكذا فإن ديكارت سليل الأخلاق الرواقية، تلك الأخلاق التي ظلت سائدة خلال العصور الوسطى. يقول جلسون :" لقد ظل ديكارت في الميدان الأخلاقي سليل المثل الأعلى الإغريقي الذي نقلته المدارس الوسيطية والرواقية المسيحية إلى العصور الحديثة. لذا فإن هدف الأخلاق ظل بالنسبة إليه هو الخير الأسمى الذي لا يمكنه أن تزودنا به إلا الحكمة...فأخلاقي لا تترك المجال طبقا لفكري في الميدان النظري، ولكنها تحول بيني وبين كل تجديد في ميدان السياسة والدين. ونستطيع أن نقول مع جولدمان إن هذا الإهمال في التفكير الأخلاقي الذي نلحظه عند ديكارت، يُشكّل إحدى السمات الأساسية في الفكر الفرنسي إلى حدود القرن العشرين. فالفلسفة الفرنسية لم تكن لتهتم بالمشكل العملي بمقدار اهتمامها بالمشاكل العلمية والإبستيمولوجية
ولكن سيكون علينا إزاء هذا الفشل العملي وعدم تدخل النقد للمسّ بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، سيكون علينا إثبات أهميّة النقد النظري لإنقاد الميتافيزيقا من أخطار العلم الناشئ ، تلك الميتافيزيقا التي لم تعد في شكلها الأرسطي الطوماويي تستطيع مواجهة ذلك العلم، حيث إن مقولاتها الأساسية لمفهوم العلة ومفهوم الطبيعة ومفهوم النفس والمادة والجوهر، إن هذه المفاهيم لم تعد تستطيع الاحتفاظ بمعانيها أمام الفيزياء الناشئة ، تلك الميتافيزيقا التي لم تكن فيها وسيلة تُجنّب الإنسان الخطأ وتمكّنه من تثبيت أقدامه فيما يتعلّق بالمعرفة. إن تلك الميتافيزيقا لم تكن لتُرضي ديكارت وهو كما يقول :" توّاق إلى أن يُميّز الصحة من الكذب ليرى بوضوح ويسير في ثبات.لذا فهو سيرفض مثل هته الميتافيزيقا ، بل وسيرفض كل علم مُلقّن:" إننا لن نصبح قط رياضيين حتى لو حفظنا عن ظهر قلب جميع البراهين التي قام بها الآخرون، ما لم يصبح فكرنا قادرا بدوره على حلّ جميع أنواع المشاكل التي تطرحها الرياضيات. وهكذا فإننا لن نصبح قط فلاسفة إذا اطلعنا على فكر أفلاطون وأرسطو ، وإذا لم يكن بإمكاننا أن نُصدر حكما يقوم على أساس متين فيما يتعلّق بمشاكل معينة، إذ أننا حينئذ سنبدو حفظة للتاريخ والعلوم."
يشير ديكارت إلى أن ما يمنعه من التقليد وتقبّل علم مُلقن ، وتبنّي الفلسفة التقليدية ، هو ذلك الخلاف الشديد والجدال الذي طبع تلك الفلسفة فحجّرها. فحينما يكون هنالك جدال فلا وضوح ولا يقين، إذ أن الوضوح لا بد أن يفرض نفسه علينا، وأن يجرّ إلى الإجماع. فالبلبلة هي علامة على الغموض. يقول:" كان بإمكاني أن أقتصر على إتباع آراء الآخرين لو لم يكن لي استنادا واحدا، أو لم أكن عرفت الخلاف الذي كان في كل زمان بين أكبر العلماء . وإذن لم أكن لأستطيع أن أختار رجلا كانت تبدو لي أفكاره واجبة التفضيل على آراء الآخرين ، ووجدتني كأني مضطر أن أتولّى توجيه نفسي بنفسي، ولكن كان مثلي كمثل رجل يسير وحده في الظلمات، فلو لم أتقدم إلا قليلا جدا، كنت على الأقل قد سلمت من الذبل."
لذا سيتوجه ديكارت بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها، بل إنه سيطرح تلك المعارف جانبا وسينطلق من الشك.
لاحظ ديكارت أن مُعظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلّق به، وأن معارفنا تتكون من آراء تتعارض فيما بينها. لذا يقول:"إذا ما أردت البحث عن معرفة يقينية، فلا بد لي مرّة في الحياة من الشروع الجديد في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقّيتها في اعتقادي من قبل، ولابد من إقامة بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أبني من العلوم شيئا وطيدا مُستقرا.. هكذا يُخيّل لديكارت أنه يعيش بين الأشياء( لكنني لست على يقين من وجودها الظاهر، إذ لا دليل قويا لدي على ذلك ما دمت لا أستطيع الخروج عن ذاتي، وما دام العالم يؤول إلى إحساساتي المتقلبة ، أي أنه يؤول إلى ما تمدني به الحواس، غير أن حواسي تخدعني في بعض الأحيان، وأنني لا أستطيع أن أميز عالم الحلم عن عالم اليقظة، فعلي إذن أن أشك في وجود المحسوسات." 
لكن هل يستطيع الشك بلوغ المعقولات ذاتها، هل أستطيع الشك في الأعداد والأشكال وفي مبادئ العلم والبراهين الرياضية؟ الأمر المؤكد هو أنني أخطأ بصدد هذه المعقولات مثلما أخطأ بصدد المحسوسات، ثم لأنه هناك أناس ضلوا وهم يعملون فكرهم قي مثل هذه الموضوعات. والأهم من كل هذا أن هذه التمثلات قد في نفسي عن قدرة الله:" فإن معتقدا قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أنه هناك إله قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود . فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك لا أرض و لا سماء ولا جسم ممتد، وشكل ولا مقدار ولا مكان، ودبّر مع ذلك أن أُحسّ هته الأشياء جميعا وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراد، بل لما كنت أرى أحيانا غيري يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها. فما يدريني لعله قدّر أن أغلط أنا أيضا كلما جمعت إثنين وثلاثة أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكما على شيء أسهل من ذلك، لو أمكن أن نتصورها كذلك. ما يبرر الشك إذن هو أنني لا أملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله، ولست أدري الآن ما إذا كان الله غير خادع:" وإذن فلأفترض لا أن الله- وهو أرحم الراحمين، وهو المصدر الأعلى للحقيقة- بل أن شيطانا خبيثا ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل كل ما أوتي من مهارة لتضليلي، وسأرفض أن السماء والهواء والأرض والألوان والأشكال والأصوات ، وسائر الأشياء الخارجية لا تعدو أن تكون أوهاما وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخا لاقتناص سذاجتي في التصديق، وسأعُدّ نفسي خُلوا من اليدين والعينين واللحم والدم، وأن الوهم هو الذي يخيل لي أني مالك لهذه الأشياء كلها."
لا يبدو إذن أن هذا الشيطان الماكر من الأسباب الداعية إلى الشك بقدر ما يبدو وسيلة للشك. إن عقلي يفترض أنه يخدع نفسه، وتكلّف الخداع هذا يدل على مدى إصرار ديكارت على الحصول على معارف أكيدة، كما يدل على أن فلسفة ديكارت إن كانت تنطلق من الشك فهي لا تنطلق منه كما لو كان يعكس أزمة وجدانية ناتجة عن اضطراب النفس، بل إنها تنطلق منه فقط كحالة انتقالية ناتجة عن سبق إصرار، حالة تريد أن تقهر جميع الأفكار المُسبقة . إذن فالشك صادر عن إرادة وطواعية، فهو ليس شكا مطلقا وإنما هو وسيلة إلى اليقين، ذلك أنني عندما أتوقف عند الحكم أحفظ نفسي بمنأى عن الضغوطات الخارجية التي تفرضها الحساسية والخيال. إنني بافتراض الشيطان الماكر قد تعمّدتُ الخطأ، وأرى أن كلما أعتقده ربما كان وهما.صحيح يمكن أن يكون كل ذلك وهما، ولكن لا يمكنني إلا أن أكون أنا الذي أفكر:" أفكر أنا موجود (1). هته إذن حقيقة أولى ويقين أول، نتيجة الشك المباشر لاكتشاف حقيقة أولى وهي الذات المُفكرة:" ولكنني اقتنعت من قبل بأن لا شيء في العالم موجود على الإطلاق. لا توجد سماء ولا أرض ولا نفوس ولا أجسام، وإذن فهل اقتنعت بأنني لست موجودا كذلك. هيهات فإنني أكون موجودا ولا أشك إن أنا اقتنعت بشيء أو فكرت في شيء... ينبغي علي وقد روّيت الفكر ودقّقت النظر في جميع الأمور أن أنتهي إلى نتيجة وأن أخلص إلى أن هذه القضية أنا كائن وأنا موجود، قضية صحيحة بالضرورة كلّما نطقت بها وكلّما تصوّرتها في ذهني.
ولكن ما هذا الأنا الذي يُثبته الكوجيتو ، هل أنا هو الكائن الذي له يدان ورجلان، والذي له جسم، وأنا الذي أحس وأتذكر وأفكر: أنا واجد هنا أن الفكر هو الصفة الني تخصني، وأنه وحده لا ينفصل عني . أنا كائن وأنا موجود، وهذا أمر يقيني ، ولكن إلى متى؟ أنا موجود ما دمت أفكر. إن فكري هو الذي يجعلني موجودا ، هو الذي يشكل ماهيتي. فالكوجيتو يسمح لي بأن أأكد أسبقية الفكر على أي موضوع معرفة، بل إن إدراكي للموضوعات الخارجية يرتد في النهاية إلى عمليات حكم أقوم بها. فالأجسام لا تُعرف بالحواس أو بالخيال وإنما بالفكر وحده، وما قطعة الشمع التي أدركها إلا ثمرة أحكام... فلا يمكنني إذن معرفة أي شيء ما لم أعرف نفسي ، وإن معرفتي لنفسي هي شرط لمعرفتي لغيرها."

1- ترجم الأستاذ طه عبد الرحمان الكوجيتو ب : أُنظر تجد( كمال صدقي)

يُعلن الكوجيتو إذن ذلك التمييز والفصل الذي سنثبته فيما بعد عند متابعة التأمل الأخير، وهو التمييز بين النفس والجسد ... ولكنني لحد الساعة متأكد من وجود نفس مفكرة، وأجهل كل شيء عن الجسم، بل أجهل حتى ما إذا كان موجودا . ما أنا متأكد منه هو أن معرفتي لنفسي ليست متوقفة على معرفتي لجسمي، لذا فربما كانت نفسي متميزة عن الجسد.
ها أنا الذي أبعد ما أكون عن الشك، لدي حقيقة أولى، بل إن باستطاعتي أن أستخرج من تلك الحقيقة علامات اليقين. فالكوجيتو لا يقدم لي فحسب يقينا أولا بل إنه نموذج كل يقين، وبالتالي فهو يُمكّنني من قاعدة تُمهّدني إلى حقائق جديدة ، هاته القاعدة هي كل ما أدركه بصفة يقينية. فهو واضح متميز، والإدراك الواضح هو ما كان موضوعه حاضرا في ذهن منتبه، والتمايز ما كان موضوعه غير مختلط مع أي موضوع آخر.
ولكن علي أن لا أنسى أنني أشرت إلى إله قادر في استطاعته أن يوهمني و يجعلني أعتقد صدقا ما ليس كذلك، فلا يمكنني أن أجزم أن هذه القضية ( أفكر أنا موجود) هاته القضية التي لا أريد فقط أن أعتبرها يقينا فحسب ، بل أعتبرها نموذج اليقين، ولا يمكنني أن أجزم أنها قضية يقينية ما لم أجد الضمان وما لم أعرف أن الله الذي خلقني ليس خدّاعا ولا موهما.
يجهل الأنا المفكر ما إذا كانت هناك موضوعات خارجية. فإذا كان الشك قد أفضى بي إلى معرفة نفسي من حيث هي تفكير( لا من حيث هي مبدأ حياة ) إذا كان الشك قد أفضى بي إلى معرفة ذاتي، فهو ما يزال يمنعني من الخروج عن ذاتي والاتجاه نحو الموضوعات.
بالرغم من ذلك فإن هذا اليقين لا يغلق النفس على ذاتها، وإنما يعيد فتحها على غيرها من الموضوعات التي لم يثبت وجودها بعد. إن فكري يقتضي الخروج من الذات، ويبدو أن أفكاري كلها تدل على الخارج وتحيلني إليه، فلأمتحن إذن هذه الأفكار، ذلك أن الأفكار ليست أحولا لنفسي فحسب، بل إنها تعني موضوعات . فإن كانت هذه الأفكار لا تتفاضل فيما بينها من حيث هي أفكاري، فهي متمايزة من حيث أنها تحيل إلى الخارج. إذا كانت لا تتفاضل في جانبها الذاتي ، فهي متمايزة في جانبها الموضوعي. يقول:" التفكير فيما لدى النفس من معاني مختلفة يُعيننا على ملاحظة عدم وجود فارق بينها من حيث أننا نعتبرها تابعة لنفسنا وعقلنا، ووجود فارق كبير من حيث إن الواحد منها يمثل شيئا والآخر يمثل شيئا آخر، وهو يعيننا في الوقت ذاته على أن نلاحظ أن علية الأفكار لابد أن تكون أكثر كمالا بقدر ما هناك من كمال في ما تمثله من موضوعها.فإذا كانت هناك أفكار فطرية idées innés صادرة عن نفسي وليست مستفادة من الحواس و لا من الخيال، فهناك أيضا أفكار حادثة وصادرة عن أشياء غير نفسي. وأخيرا هناك أفكار أُكوّنها وأصنعها و أركّبها بمُقتضى هاته الأفكار الحادثة."
يبدو من السهل علي أن أخرج من(عن) ذاتي نحو الموضوعات عن طريق تحليل الأفكار الحادثة. غير أنه كما سبق أن قلت كم من شيء سيتراءى لي وأنا في النوم، ومع ذلك لا يكون له وجود فعلي.
فبدل أن أنظر إلى هته الأفكار( الحادثة ) من حيث ما تمثله من موضوعات لأعتبرها في- قيمة الموضوعات التي تمثلها، ذلك أن الموضوعات التي تردّنا إليها الأفكار تتفاضل فيما بينها في القيمة ( أو قيمة) ففكرة الملائكة أفضل من فكرة الإنسان، وهاته أفضل من فكرة الجماد، وفكرة الله أفضلها جميعا.
وأنا أقصد بلفظ الله جوهرا لا مُتناهيا أزليا مُنزها عن التغيّر ، قائما بذاته ، محيطا بكل بشيء، قد خلقني أنا وجميع الأشياء الموجودة. إن صحّ أن هناك أشياء موجودة، وهته الصفات الحُسنى قد بلغت الجلال والشرف حدّا يجعلني كلما أمعنت النظر فيها قلّ ميلي إلى الاعتقاد بأن الفكرة الني لدي عنها يمكن أن أكون أنا وحدي مصدرها. فلابد إذن أن أستخلص من كل ما قلته من قبل أن الله موجود، إذ أنه – وإن كانت فكرة الجوهر موجودة في نفسي من حيث إنني جوهر، إلا أن فكرة جوهر لا متناه ما كانت لتوجد لدي أنا الموجود المتناهي إذا لم يكن قد أودعها في نفسي جوهر لامتناه حقا. "
وأنا الكائن المحدود المتناهي عاجز عن تكوين هذه الفكرة بنفسي أو بفضل الأفكار الأخرى التي لدي، ذلك أن مبدأ العلية يقتضي أن يكون المعلول حاملا لوجود أقوى من العلة، وإلا فسيكون ذلك الوجود الزائد غير عائد للعلة وصادر عن العدم." إذ لا يتضح فقط بالنور الطبيعي أ ن العدم لا يمكن أن يكون علة شيء ما، وأن الأكمل لا يمكن أن يكون تابعا لما كان أقل كمالا ومتوقفا عليه". لابد إذن من وجود كائن هو علة هذه الفكرة التي لدي عليه، هو الذي وضعها في نفسي. إنني كائن محدود ولست علة وجودي. " وكذلك فإننا نجد في أنفسنا فكرة الله أو الكائن التام ، فباستطاعتنا أن نبحث عن علة وجود تلك الفكرة فينا ، وأننا بعد اعتبارنا لما تمثله تلك الفكرة من كمالات عظيمة نجد أنفسنا مضطرين للإقرار بأنها غير صادرة فينا إلا عن كائن كامل جدّا، أي عن إله موجود بالحقيقة".
يكشف لي الكوجيتو عن وجود لحظي، لكن وجود مستمر. فإذا كان وجودي وجودا مستمرا، فذلك لأن الله يخلقه باستمرار." ولا أعتقد أنه من الممكن أن يشك المرء في صحة هذا البرهان إذا انتبه إلى طبيعة زمن حياتنا أو ديمومتها durée فمن شأن هذه أن لا تتوقف أجزاؤها على بعضها البعض، وأن لا توجد معها بحيث أن وجودنا في الوقت الحاضر لا يستتبع وجودنا بعد ذلك ما لم تكن تلك العلة التي خلقتنا مستمرة في خلقنا أي حافظة لنا".
إن المفهوم الديكارتي عن زمن متقطع لا حول له ولا قوة، جعله يعتبر أن الله يحفظ وجود العالم في كل لحظة، فيعيد خلقه دون انقطاع . فإذا كانت كل لحظة منفصلة انفصالا مطلقا عن سابقتها، فإنها لا يمكن أن تشكل ديمومة إلا إذا كان هناك تدخل خارجي. إن ديكارت قد نقل مبدأ العطالة الذي يهيمن على ميكانيكا جاليلي ، والذي يجعل المادة قاصرة وعاجزة أن تغير من طبيعة حركتها وسرعتها واتجاهها- إن ديكارت نقل هذا المبدأ الذي يطبع الحركة في المكان، نقله إلى هذا النوع من الحركة والتغير الذي يسمى الزمن. وبهذا يقضي على مفهوم روحاني عن الطبيعة، وعلى الطبيعة كإله، وعلى كل نزعة طبيعية. يقول Alquié :" مع حلول النزعة الديكارتية قضت على ما تبقى مما خلّفه المفهوم الوسيطي من نزعة طبيعية من إيمان بأن للأشياء دواخل غير شفافة، ومن اعتقاد في العلل غير المباشرة التي كانت تدع للمخلوقات فعالية خلاّقة. إن الزمن أصبح متقطعا، مركبا من لحظات لا رابط بينها يشدها. لم يعد استمرار الأشياء ودوامها يتوقف على الأشياء ذاتها، بل إن جميع الأشياء تستدعي في كل لحظة إلها(Dieu) يخلقها، وليست هي الآلهة نفسها.غير أني باستطاعتي كذلك أن أستنتج وجود الله إذا أنا قمت بتحليل فكرته. فكما أن باستطاعتي عند تحليل فكرة كائن رياضي أن أستنتج خصائصه، فباستطاعتي تحليل فكرة الله أن أستنتج أنه موجود:" فعندما تستعرض النفس ما لديها من أفكار أو معاني مختلفة، فتجد بينها فكرة كائن عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، وفي غاية الكمال، يدعوها ذلك إلى الحكم بوجود الله، وهو الكائن الحائز لتمام الكمال، إذ بالرغم ما لديها من أفكار متمايزة عن عدة أشياء أخرى فهي لا تلحظ فيها ما يؤكد وجود موضوعها، بل إنها هي ترى في هذه الفكرة لا وجودا ممكنا فحسب كما هو الأمر في سائر الأفكار، بل وجودا ضروريا أبديا لا وجودا ممكنا."
وكما نقتنع النفس اقتناعا كاملا بمساواة زوايا المثلث القائمتين لكونها ترى تلك المساواة متضمنة بالضرورة في فكرتها عن المثلث، كذلك تستنتج وجود الكائن الكامل، ذلك أنها بمجرد رؤيتها لهته الفكرة، ترى أن الوجود الضروري الأبدي مُتضمن في فكرتها عن هذا الكائن.
يؤكد هذا الدليل ما قلته حينما أثبتت أن تفكيري في هذا الكائن الكامل إنما هو تفكيري في كائن هو من الضروري بحيث لا أستطيع إلا أن أُقرّ بوجوده.حاول البعض تقريب هذه الأدلة على وجود الله من بعض ما جاء عند فلاسفة القرون الوسطى، إلا أننا ينبغي أن نؤكد من جديد ما سبق التنبيه إليه من كون ديكارت مؤسسا للفلسفة الحديثة، ومن جدّة الإشكالية الديكارتية، بل وجدّة الممارسة الفلسفية عند ديكارت، التي أصبحت تتم في لحظة سياسية وعلمية مغايرة لما سبق. فديكارت معاصر لنشأة الدولة كقوة مجهزة،ومعاصر للفيزياء الجاليلية. وهذا أمر جديد كل الجدة في تاريخ أوروبا، بالإضافة إلى هذا فإن المفاهيم المستعملة هنا مفاهيم مُغايرة- كما رأينا- للاستعمال الذي كانت تؤخذ به سواء في الفلسفة القديمة أو خلال القرون الوسطى. فالنفس الإنسانية عنده ليست تلك التي تأخذ تدخل التجربة السياسية كما كان الأمر عند اليونان والتي اهتمت أساسا بالمشكل الأخلاقي السياسي، كما أن النفس ليست مبدأ حياة ، إنها النفس المفكرة ... ثم إن هذه الأدلة على وجود الله لا ترمي إلى الحجاج على الحقائق النقلية، ولا ترمي إلى تدعيم عقلي لما جاء به الإيمان، بل إنها تهدف قبل كل شيء إلى تأسيس ضامن للعلم ودعامة للمنهج العلمي. إنها تهدف إلى توطيد دعائم اليقين. وهذا ما سبق أن أشرنا إليه لما قلنا إن المشروع الفلسفي عند ديكارت لا يرمي إلى تأسيس الإيمان الديني، لأن هذا الإيمان قائم ولم يلحقه الشك.
الآن وقد تأكدت من وجود الله، أي من وجود كائن لا متناهي، فأنا متأكد أنه لا يخدعني ما دمت لا أقبل إلا الأفكار الواضحة المتميزة، فإني سأكون على يقين مما أعرفه عن الله وهو ضامن اليقين، والميتافيزيقا هي سند العلم، ولكن هذا العلم لم يؤسس بعد، إذ أن تأسيس العلم هو قبل كل شيء إثبات لوجود الأجسام. فالفلسفة تؤسس العلوم لأنها تحاول الإجابة عن السؤال : ما الذي تدرسه العلوم؟ فتحاول أن تثبت موضوع العلوم، أي الموضوعات الخارجية.
أمر مؤكد أن الموضوعات الخارجية لم توجد حتى الآن. إنها حاضرة في تأملاتي، فعلى الأقل وجودها وجود ممكن، على الأقل في صفتها الهندسية التي يدركها عقلي، ولكن توجد إلى جانب هذا أسباب تؤكد وجود تلك الموضوعات، تلك الموضوعات التي لدي إحساسي بها وأنا أعلم أن قوتي الحاسة هي قوة منفعلة، ولا يمكن أن تستثار وأن تخرج إلى الفعل إلا بفضل قوة خارجية. ثم إنني إذا أرجعت الأفكار التي لدي عن الموضوعات الخارجية إلى فكري أو إلى الله ذاته، فإن من شأن ذلك أن يُناقض ما لدي من شعور بأن فكري ليس هو الذي يُولّد هذه الأفكار، كما يتعارض مع ميلي إلى الاعتقاد بأن هذه الأفكار تصدر عن موضوعات محسوسة.وإذا كان الله غير خادع ولا مضلل فهو لم يبعث فيّ هذا الميل اعتباطا، لذا فإن لتلك الموضوعات وجودا حقيقيا. يقول ديكارت في المبادئ- الجزء الثاني:" بالرغم من اقتناعنا اقتناعا كاملا بوجود الأجزاء في العالم، إلا أنه نظرا لأننا شككنا فيها من قبل، ووضعنا وجودها في عداد تلك الأحكام التي كوناها منذ بداية حياتنا ، وجب علينا الآن أ ن نبحث عن الأسباب التي تعطينا علما يقينيا بهذا الوجود. إن تجربتنا الداخلية تفيدنا بأن كل ما نحس به صادر من شيء غيرنا، بما أنه ليس في مقدورنا أن نحصل على هذا الإحساس وأن الأمر يتوقف على الشيء الذي يؤثر في حواسنا... وبما أننا نحس وأن حواسنا تدفعنا إلى أن ندرك بإدراك واضح ومتميز مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا، لها أجزاء مختلفة الشكل والحركة، وعنها تصدر إحساساتنا باللون والرائحة والألم وما إلى ذلك، نقول إنه إذا كان الله قد أظهر لنا مباشرة فكرة هذه المادة الممتدة، أو حتى إذا كان قد سمح بصدور هذه الفكرة فينا عن شيء لا امتداد له ولا شكل ولا حركة، لما كان هناك مانع من الاعتقاد بأنه يلذّ له خداعنا، فإننا نتصور هاته المادة شيئا مختلفا عنه الله وعن عقلنا. ويبدو لنا أن فكرتنا عنها تنشأ في النفس بمناسبة أجزاء خارجية تشابهها كل المشابهة، ولما كان الله لا يخدعنا في هذا، لما في هذا من منافاة لطبيعته، وجب علينا أن نستنتج وجود جوهر ممتد طولا وعرضا، جوهر قائم الآن في العالم، وحاصل على كل ما نعرفه له من خصائص. هذا الجوهر هو ما يصح تسميته بالجسم أو جوهر الأشياء المادية
هناك إذن أجسام مادية، وهي تبعث في انطباعات، ولم أكترث الآن لخداعات الحواس وخيالات الأحلام. ومع ذلك فقد لا تكون هذه الأشياء تماما على نحو ما ندركها بالحواس، لأن أحوالا كثيرة تجعل هذا الإدراك للحواس شبيها بالغموض والإبهام. ولكن لابد على الأقل من أن أسلّم بأن جميع ما أتصوره في الأجزاء بوضوح وتميز، أعني على العموم جميع ما يشتمل عليه موضوع علم الهندسة النظرية، موجود فيها حقا، أما الأشياء الأخرى التي إما أن تكون جزئية فقط، كأن تكون الشمس ذات مقدار بعينه أو شكل بعينه، أو أن تكون مُتصورة بقدر أقل من الوضوح والتميّز كالضوء والصوت والألم وما شابه ذلك. فمن المحقق أنها وإن كان يشويها شك وارتياب، إلا أن كون الله غير خادع، وكونه لم يسمح لذلك بوقوع أي زيف في آرائي وأعطاني أيضا قوة كفيلة بتصحيحه، ويدعوني إلى أن أخلص إلى القول بأنه عندي في نفسي الوسائل لمعرفتها بيقين.
ولكن سبق أن أشرنا في نهاية التأمل الثاني أن ما أعرفه بوضوح وتميز هو النفس المفكرة. وما يؤكده التأمل السادس هو أن ما يمكننا معرفته بوضوح عن الأشياء الخارجية هو الامتداد ، أي معرفتها من حيث هي موضوع للفيزياء الجاليلية، أي الهندسة النظرية وتطبيقاتها. فما يهمني إذن هو أنني أسست المعرفة اليقينية وأنني أثبتت إمكانية إدراك العالم الخارجي، ومعرفته من حيث هو امتداد، أي من حيث هو موضوع الميكانيكية الجاليلية. هذا العلم الذي يدرس حركة الأجسام، وهته الحركة التي قلنا أنها تتم في الزمن وتستمر بفعل الله وخلقه المستمر. هناك إذن إلى جانب الله وهو جوهر غير مخلوق ، مخلوقان، هما الجوهر المفكر والجوهر المادي، هناك النفوس ثم الأجسام، ونحن بإمكاننا أن نعرف النفس في استقلالها عن الأجسام كما أن بإمكاننا معرفة الأجسام المادية مستقلة عن النفوس والأرواح."وهذه النفس التي أنا بها ما أنا عليه متميزة تمام التميز عن البدن، وهي أيسر معرفة منه، وحتى لو لم يكن هذا البدن فإن هذا لا يمنعها من أن تكون ما هي عليه."
لدينا إذن فكرتان متمايزتان عن النفس والجسم ، وبما أن الصدق الإلهي يضمن لنا التوافق بين تمايز الأفكار وتمايز الموضوعات ، فباستطاعتنا أن نستنتج أن النفس لا تحتاج في وجودها إلى الجسم، بمعنى أن النفس والجسم لا يتمايزان من حيث هما فكرتان فحسب، بل من حيث هما موجودان.
تقتضي منا معرفة العالم المادي كما أصبحت تقيمها الفيزياء الناشئة أن نقحم فيها النفوس والأرواح، وأن نرده فحسب إلى القوانين الهندسية للحركة. وحتى الحياة ذاتها حياة الأجسام العضوية يمكن أن تؤول إلى تلك القوانين. والحيوان لا نفس له، وإن النفس كما قلنا سابقا ليست مبدأ حياة وإنما هي جوهر مفكر، إنها قوة على الفهم تستطيع أن تتمثل الأفكار وهي إرادة قادرة على أن تكون، وكل ذلك ناتج عن الفصل بين عالمين. ولكن ما القول في الإنسان هذا الكائن الذي يبدو أنه مكون من اتحاد جسم ونفس " وكذلك يجب أن نستنتج وجود جسم متحد بنفسنا اتحادا أوثق من سائر أجزاء العالم، وذلك لأننا ندرك إدراكا واضحا حدوث الألم لنا وغيره من الإحساسات دون تنبؤنا بذلك ، لأننا نحكم بفضل علم قائم في النفس بطبيعتها. إن هذه الإحساسات لا تصدر في النفس باعتبارها شيئا مفكرا فحسب بل باعتبارها متحدة بشيء متميز يتحرك بما له من أعضاء، وهو الذي يصح تسميته بالجسم الإنساني." ولذا فإن النفس لا تعمل كفكر فحسب وهي وإن كانت متميزة عن الجسد إلا أنها مرتبطة به، بالرغم من ذلك فإن طبيعتها تظل متميزة عن طبيعة الحسم، والجوهر المادي يظل متميزا عن الجوهر الروحي.

خـــــاتــــمــــــة

ها نحن نضع أيدينا على نفس الازدواجية التي أثبتناها في مقدمة هاته الدراسة. فحتى على المستوى الأنطولوجي تواجهنا نفس الثنائية التي أشرنا إليها. وتنتهي انطولوجيا ديكارت بأن تقرر بأن هناك عالمين متمايزين : عالم الفكر، وهو عالم تسوده الحرية، تم عالم المادة التي تحتل مكانا وتخضع للقياس وقوانين الحركة الآلية. وما ينبغي أن ننبه إليه، هو أن ديكارت وهو يثبت إمكانية التفسيرات المادية فيضعها بدل التأثيرات الروحانية، إلا أنه وهو يفعل ذلك لم يرتبط بالمادية كفلسفة. يقول ماركس:" منذ إشراق ميتافيزيقا القرن السابع عشر، والتي كان ديكارت ممثلها على الخصوص ، منذ إشراق هته الميتافيزيقا وهي تجد عدوها أساسا في النزعة المادية. فديكارت لم يرتبط بالمادية كفلسفة، بل على العكس من ذلك، إنه يؤكد سمو الفكر على الجسم . فالفكر كما رأينا هو الحقيقة الأولى، وكل الصّرح الميتافيزيقي يقوم على هاته الحقيقة الأولى التي تُعطى في معرفة مباشرة، بل إن هاته المعرفة تكون أكثر سهولة ويقينا من معرفة الموضوعات الخارجية، هذا بالإضافة إلى أن تلك المعرفة تتم في استقلال عن تلك الموضوعات، فانفصل ديكارت بفيزيائه فصلا تما عن ميتافيزيقاه. فداخل فيزيائه تشكل المادة الجوهر الوحيد والأساس الأوحد للوجود والمعرفة، وإن النزعة المادية الميكانيكية الفرنسية قد ارتبطت بفيزياء ديكارت وليس بميتافيزقاه. والأمر على خلاف ذلك فيما يتعلق بميتافيزيقاه، لأن تلامذة ديكارت قد كانوا أعداء حقيقيين لميتافيزيقاه، أي أنهم كانوا فيزيائيين. ومع كل هذا لا يمكن أن ننكر أهمية التدخل الديكارتي في وقت أصبحت فيه الميتافيزيقا الأرسطية عاجزة أمام الفيزياء الناشئة، كما لا يمكننا أن ننكر النتائج الإيجابية لهاته الثنائية، فهي من جهة وبدون شك إرساء لأسس الفيزياء. إنها جعلت الفيزياء ممكنة الوجود في عالم كان لا يزال يستند إلى الخرافات ويؤمن بالنفوس والأرواح، ويدخل المقاصد الإلهية في الشؤون البشرية. غير أن هته الثنائية غيّرت مجرى الميتافيزيقا سواء كما كانت عند اليونان أو في الصورة اللاهوتية التي عرفتها خلال العصور الوسطى. إن هته الميتافيزيقا أدخلت قُطبا كان مجهولا إلى حدّ الآن وهو الذات المفكرة التي تُكتشف في الكوجيتو. لقد أصبحت المعرفة عند ديكارت كما يقول هيدجر" في وضع شيء ما أمام الذات وانطلاقا من الذات. وبهذا خرجت الميتافيزيقا عن العصر الوسيط ليصبح ميتافيزيقا الذاتية ، بحيث يكون الوجود عندها يُعطى لذات أو تصبح الذاتية هي أساس الوجود. وبالرغم من كل هذا فإن الثنائية الديكارتية من جهة أخرى قد جعلت الميتافيزيقا الغربية تؤدي الثمن غاليا، وتسقط ضحية فصل وتمييز سيغرق الفلسفة الغربية في مثالية تقوم أولا على تمجيد المعرفة المباشرة، بل وتجعل من المباشرة شرط كل يقين في المعرفة، بحيث تنتفي لحظة التوسّط وخروج الأنا لمعانقة التجربة الخارجية وتوسط الطبيعة بين الفكر وذاته، ونتيجة هذا يقول هيجل :" بما أنها لا تضع محكّ الصدق في طبيعة مضمون المعرفة، وإنما في واقع شعوري، فإن أساس المعرفة لن يكون عندها إلا في يقين ذاتي.هذا اليقين الذي كما سنرى مع هيجل لا قيمة له إلا بخروج الذات إلى الموضوعات واتحاده مع يقين خارجي. نتيجة هذا هو أن هاته الميتافيزيقا ظلت قائمة على " أنا " مُستقل عن الموضوعات بعيد عن التحديدات التاريخية.


مبحث الوجود عند هيجل


لم يخرجنا ديكارت إلى الحديث عن عصره الذي عاش فيه. صحيح أننا حاولنا أن نتعرض لبعض السمات التي طبعت ذلك العصر، إلا أننا لم نكن نهدف وضع الميتافيزيقا الديكارتية في موضعها التاريخي سعيا وراء فهم أفضل، ولكن تلك الميتافيزيقا لم تُخرجنا هي ذاتها من الحديث عن العصر الذي ظهرت فيه.
الأمر مُخالف لهذا فيما يتعلق بهيجل، فنحن الآن أمام فكر يعي تجدّره التاريخي. نحن في عصر واكب الثورة الفرنسية وأعقبها عصر أصبحت فيه الأفكار فعّالة تُساهم في تطوير المجتمعات وتحويلها. وبلغة هيجل عصر أصبح الفكر فيه يُعانق الواقع . وما هو أهم من ذلك فنحن بصدد الحديث عن فيلسوف كان يعيش في بلد له مكانة خاصة ومتميزة. يقول لوسيان جولدمان :" 
في وقت كانت فيه البرجوازية الانجليزية قد استولت على السلطة الاقتصادية والسياسية خلال ما يقرب من قرن ونصف، فأنشأت دولة ديمقراطية، وفي وقت كان فيه النقد الفكري والاجتماعي في فرنسا يُحرز نصرا كبيرا، وكانت البرجوازية قد أوشكت القضاء على الحكم المطلق، في هذا الوقت كان التطور الاقتصادي متأخرا في ألمانيا، الشيء الذي أدى إلى إنشاء جهاز سياسي واجتماعي شاذ. بيد أن هذا الشذوذ وذلك الداء الذي أصاب جسم المجتمع، قد أتاح في ذات الوقت للعناصر التقدمية من البرجوازية الألمانية أن ترقى إلى وعي فلسفي أكثر وضوحا وعمقا مما عرفته باقي البلدان الأوروبية."
كانت ألمانيا تعيش تخلفا retard اقتصاديا واجتماعيا ملحوظا. لقد تراكمت عوامل متعددة حالت دون ظهور دولة قومية لها جيش مُوحد ولغة واحدة وسلطة مركزية. وقد كان تراكم هذه الأسباب من العوامل التي جعلت البرجوازية في ألمانيا متخلفة وعاجزة عن أن تقوم بثورتها على غرار البرجوازية الغربية الأخرى. ولم تستطع ألمانيا أهن تظهر إلى الوجود كوحدة قومية إلا في نهاية القرن 19. والأهم من ذلكط أن هاته الدولة القومية لم تكن من عمل الفئات الوسطى،إذ لم تناصب هذه الفئات أي عداء لطبقة النبلاء. يقول ماركوز:"
وخلاف على ما كان عله الحال في فرنسا لم تكن توجد في ألمانيا طبقة وسطى واعية ومستنيرة سياسيا لكي تقود الكفاح ضد النزعة الاستبدادية. لقد كانت هاته الطبقة مشتتة بين مناطق المدن الكبرى التي كانت لكل منها حكومتها ومصالحها الخاصة." أدى كل هذا إلى عزلة المثقف الألماني وإلى ابتعاد عن ماجريات الأمور. يقول غولدمان:" لقد كان الوضع في ألمانيا عكس ما كان عليه في فرنسا، فالأخر الذي كان يعرفه التطور الاجتماعي في هاته البلاد، وانعدام برجوازية تجارية أو صناعية لمدة قرنين، كل هذا حال دون ظهور تيارات فكرية ذات نزعة إنسانية أو عقلانية. ولذا فإن ألمانيا ظلّت مُتفتحة قبل كل شيء على التيارات الصوفية، كما ظل فيها إفراط في الاعتناء بالحياة الوجدانيبة."
لم ينصب النقد إذن على المؤسسات الاجتماعية، ولم يكن المفكرون الألمان يرون التحرّر في قهر مؤسسات الاستبداد بقدر ما كانوا يرونه في الاعتكاف على الذات والصفاء الروحي كما تقول بذلك " اللّوترية " وفي الخضوع لقوانين العقل كما تقوق بذلك الأخلاق الكانطية، حيث يًُصبح الإنسان مُشرّعا لذاته وخاضعا للأمر المطلق الذي يُمليه العقل، وحيثُ تقوم الحياة الفاضلة في طاعة الواجب لا في تغيير المجتمع وتحويل مؤسساته.

لم يُعانق الفكر إذن الواقع، ولم ينكبّ عليه في ألمانيا . لم يظهر هذا مُناقضا لما قلناه عن طبيعة العصر، هذا التناقض بالضبط هو ما سيُدركه المُثقّفون الألمان ابتداء منكانط". إنّهم سيُدكون فعالية الفكر وسينتبهون إلى حركة التاريخ وأهميّته ، ولكنهم سيُدركون في ذات الوقت أن التاريخ لم يكُن يدُور ويجري داخل بلادهم بل خارجها.
وبالفعل فقد كانت عجلة التاريخ قد توقّفت في بلد شُلّ فيه تطور البرجوازية، وظلّت تتحرك في بلدان تطوّرت فيها تلك الطبقة.صحيح أن هذه البرجوازية لم تقُم بثورة في ألمانيا، ولكن تطوّر الأُمور جعلها تعمل إلى جانب طبقة النبلاء ةتتحالف معها، بل إننا سنلاحظ ظهور فكر ليبيرالي وسط النبلاء ذاتهم. التاريخ الفعلي الحقيقي réel كان يدور إذن خارج ألمانيا، وما ستقوم به البرجوازية الألمانية هو أنّها ستعمل على تحويل عجلة تاريخ الفكر، وستعرف الفلسفة مُستقرّها في ما قامت به فرنسا سياسيا وما حقّقته انجلترا صناعيا. ولكن هذا ما سيُخرج الفكر الألماني عن صمته، وسيُخرج النقد من سجنه. يقول غولدمان:" لما كان الوضع في ألمانيا أبعد ما يكون عن النضال الجدّي من أجل تحقيق الديمقراطية، فقد أمكن الحفاظ على روح النقد. لم يسقط المفكرون ضحية التفاؤل المُفرط الذي يخلقه النضال عادة، فمقابل النزعة العقلانية المتفائلة التي عرفها الفرنسيون، يُمكن أن نجد في ألمانيا رؤية واضحة واعية بالنقائص والعيوب الحقيقية للنظام الاجتماعي البرجوازي الفرداني الذي كان يعرف الضغوط في أوروبا بأسرها. لكن بما أن الواقع الألماني لم يكن يعرف إلا الفقر والبؤس، فلم يكن باستطاعة الفكر أن يرضى عنه ويقنع به على غرار الاختباريين الانجليز الذين يقبّلوا واقعهم. ففي ألمانيا كان من الضروري أن يظهر أمل في مستقبل أفضل."
سيجيئ وقت إذن يُدرك في المفكرون الألمان شقاء الوعي، وبُعد الفكر عما يصبو إليه وعما يمكن أن يحققهه أو ما هو بصدد تحقيقه في البلدان المُجاورة. وسيكون هيجل من بين هؤلاء المفكرين إن لم يكن شيخهم. فهو لم يكن ليجهل بؤس ألمانيا، وهو المفكر الذي كان يعتقد أن قوة الجرائد تُعادل صلوات الصبح. يقول ماركوز:" كتب هيجل فيما ألّفه عن الدستور الألماني سنة 1802 أن الدولة الألمانية في العقد الأخير لم تكن دولة إذ أن مُخلفات الاستبداد الإقطاعي كانت ما تزال تضربُ أطنابها في ألمانيا."

كان من الطبيعي إذن أن يكون وعي هيجل لنفسه مُخالف للوعي الذي رأيناه عند ديكارت. فهذا الوعي الغارق في التاريخ لم يكن يُدرك ذاته في تجربة الكوجيتو ولا في انعزال عن الأحداث وبعيدا عن الآخرين
لقد رأينا أن ديكارت يتساءل بعد إثبات الكوجيتو: فمن هو أنا ؟ ويُجيب أنا جوهر مُفكر. لكن الظروف التي عاشها هيجل لم تكن لتسمح بمثل هذا الجواب. لذا كان هيجل يرفض هذه الإجابة السريعة. ذلك أنه إذ يُفكّر في نفسه ، سرعان ما ينزلق به التفكير إلى تلك اللحظة التاريخية التي لم يعُد فيها الفكرتأمّلا مُنعزلا، مُنفعلا، وإنما أصبح مُتغلغلا في الواقع مُحوّلا له، سرعان ما ينزلق به التفكير إلى تلك اللحظة التاريخية التي كانت تعيشها ألمانيا، وإلى الخصوصية التي كان يعرفها الفكر في ذاك البلد، وإلى تلك المناسبة التي تندفع فيها جيوشنابليون " 1807 نحو مدينة " يينا " وبالضبط في وقت كان فيه هيجل يكتبُفينو مينولوجيا الروح " ويُؤسس نظرية جديدة عن الوعي.
لا ينبغي أن نفهم من هذا الانتقاد أن هيجل يعيب على ديكارت غيوبا شخصية فردية، كعدم كفاءته الفلسفية، أو تعجّله في الحكم، بل إن ديكارت في نظر هيجل وُجد في عصر إو في مناسبة تاريخية لم يكن ليستطيع معها أن يُدرك ذاته على ما هي عليه. إنه لم يعش في هذا الوقت الذي بلغه هيجل والذي جاء بعد الثورة الفرنسية، والذي يعاصر حروب نابليون، هذا الوقت الذي سمح له بأن يكون مُمثّل الفلسفة والتاريخ، وبأن يٌقيم معرفة مطلقة تستطيع فهم حركة التاريخ في كليته ، وإدراك حقيقة الفلسفة في امتدادها التاريخي بل ومعرفة الوجود ومنطقه.
حاول ديكارت أن يعرف ذاته من خلال تفكيره، وبالضبط في عملية تفكيره في فعل التفكير ( الكوجيتو)، بيد أن الفكر كما يقول هيجل ليس من شأنه أن يرُدّ إلى الذات بقدر ما يغرق الأنا في الموضوعات الخارجية، وعيب الفكر عند ديكارت في نظر هيغل هو أنه فكر مجرّد ، عازل ومُنعزل لم يغتَن بالواقع ولم يقترب من التجربة. يقول هيجل :" إن المبدأ عند ديكارت هو الفكر، غير أن هذا الفكر ما زال مجردا بسيطا، وما زال الواقع بعيدا عنه. إنه في حاجة إلى التجربة ليحصُل على مُحتوى واقعي."
لا يُمكنني إذن أن أعيَ ذاتي، لا يمكن للفكر أن يرتدّ إلى الذات في مجرّد فعل الفكر وعملية التفكير، بل لابد من حالة أعود فيها إلى نفسي، بحيثُ لا أكون مجرد كائن مُنفعل غارق في الموضوعات. في فعل الفكر أكون في الحقيقة خارجا عن نفسي، هناك حالة إرجع فيها إلى نفسي وهي حالة الرغبة ، أي شعوري ورغبتي في حاجة ما، كالجوع مثلا. نعم إن الرغبة هي الأخرى لا توجّهني نحو ذاتي، وإنما نحو الموضوع الذي يُشبعها. فالجوع يُوجّهني نحو المأكل، لكن الرغبة تُرجعني وتردّني من الموضوع نحو احتياجي نحو نفسي. ولكن الحيوان يرغب أيضا ويحتاج، وما هو أدهى من ذلك، هو أن الرغبة ترجع إلى مستوى موضوعها، فإذا كانت الرغبة تقع على شيء ما فإنها عند حيازتها له تُصبح هي هذا الشيء.ولكني أعلم أنني عندما أرغبُ لا أكون شيئا، فإن كنتُ لا أرغبُ فيما يُقرّبني من الشيء، فيجب أن أرغب لاشيئا، أن أرغب لاوجودا مثلي، أن أرغب رغبات أخرى. رغبة الرغبات هاته تجعل وجودي الذي قُلنا إنه لا يتم في مستوى الحياة البولوجية،لا يتم أيضا إلا ضمن مستوى الكثرة. لكي أعي ذاتي يجبُ أن أكون بين آخرين. إن الرغبة تجعل من وجودي وجودا حيوانيا جماعيا.إذن لا يمكن للوعي إن يولد إلاّ في مجتمع. وبهذا الصدد يُردّد هيغل قولة Maine de Biran :" إن الإنسان لا يفرض ذاته إلاّ في مُعارضة الآخر." لكي تكون الرغبة إذن رغبة إنسانية، يجب أن لا تكون في مجتمع موضوعات بل في مجتمع رغبات. وما هو أهم من هذا هو أن الرغبة لا يقف بي مُنفعلا أمام موضوعها، وإنما تدفعني إلى تحويله، إلى صناعته، أرغبُ في السكن فأبني منزلا. الرغبة إذن بدفع نحو العمل ،إذ لم يعد العمل مع هيجل علامة على التعذيب، بل أصبح من صميم الوجود الواعي، أي من صميم الوجود البشري.الوجود البشري إذن وجود حيواني اجتماعي عامل . يقول هيجل:" إن الوجود الحق للإنسان هو عمله"ويصحّ بالتالي أن نقول في هذا الصدد على غرار الكوجيتو الديكارتي، أن " الكوجيتو" الهيغيلي هو :" أنا أعمل أنا موجود"
ولكن ما الذي أقصدُه من رغبة الآخر؟فهل يكون موضوع رغبتي هو الآخر؟ إني عندما أرغب في الرغبة، عندما تقع رغبتي على رغبة الآخر، فأنا أريد أن أكون رغبة بالسبة له، أريده أن يعترف بي كقيمة ،أن يرغبَ فيَّ. تاريخ البشر إذن هو تاريخ اجتماعي يتم في الكثرة،ثمّ هو تاريخ العمل المُحوّل للطبيعة والمجتمع، ثمّ هو أيضا تاريخ صراع من أجل الاعتراف .إنه تاريخ الرغبات التي ترغبُ في بعضها البغض، وتدخل الطبيعة كواسطة بين الرغبات. إنّه تاريخ مُعتَرَف ( بفتح الراء) ومُعترف ( بكسر الراء)، تاريخ من يُجازف بحياته من أجل الاعتراف ومن يستسلم ويركن إلى الإعتراف.حينما يتم إشباع الرغبات في المستوى الحيواني يتم القضاء على الآخر، لأن المهم في هذا المستوى هو موضوع الرغبة،أما إشباع الرغبات البشرية فيقتضي قيام أطراف مُتعارضة، ويقتضي الطرف المُعتُرِف، لابدّ لكي يكون هناك تاريخ بشري أن يكون هناك عمل يهدف إلى السيطرة على الطبيعة وأن يكون هناك صراع من أجل التحرّر

يفترض الوعي بالذات إذن الحياة الحيوانية، ويفترض العمل والصراع بين الذات والآخر، إلاّ أنّ الوعي مع ذلك لا يتم بصفة تلقائية ونتيجة قرار شخصي، ذلك أن أعمال الأفراد تفلتُ من رقابتهم الشعورية:" إذ ينتج في التاريخ العام عما يقوم به الأفراد من أعمال ، شيئ مُخالف لما سعوا إليه وبلغوه وعلموا به وأرادوه مباشرة. إن الأفراد يُحقّقون مصالحهم لكن يحدث في في ذات الوقت شيء آخر، فبتستّر وراء تلك المصالح فلا يدركه وعيهم، ولا يأخذونه بعين الاعتبار. فالعمل المباشر يمكنه أن يتضمن شيئا أوسع مما يُدركه وعي القائمين به، وأضخم ممّا تصبو إليه إرادتهم."
لا يرقى الوعي مباشرة إلى العمل الذي رأينا أنه من شروطه، إذ لابدّ للوعي من التوسط، لابدّ للأنا أن يمرّ بالآخر، لابدّ للوعي أن يمرّ باللاوعي، إذ ليست هناك شفافية كما زعم ديكارت بين الوعي وبين ذاته، غير أن هذا اللاوعي ليس مُتوقّفا على عوامل فردية سيكولوجية أو أخلاقية، بحيثُ يكفي أن يُقرّر الفرد أنه سيخوض تجربة يُغربل فيها معارفه ويقهر فيها جميع العوائق التي تحول دون معارف يقينية، كأن يحترس من الأحكام المُسبقة وخداعات الخيال وأوهام الذاكرة، ولا داعي في السيّاق الهيجيلي وما صدر عنه من فلسفات..لا داعي في الفلسفة المعاصرة إلى افتراض شيطان ماكر، إذ أن المكر والخداع منذ كانط أصبح من صميم العقل، وعند هيجل أصبح من صميم التاريخ البشري، وعند ماركس من صميم البنيات الاجتماعية الغارقة في التارخ. وعليه فلا ينبغي أن ننتظر حصول وعي بالذات بمجرّد حُسن إرادتنا، وبمجرّد الخوض في الشكّ الذي من شأنه كما زعم ديكارت أن يؤدي إلى يقين أول.

لإدراك اليقين لابدّ إذن من الخروج عن الذات والفرد نحو التاريخ والوجود في كليّته. فما يُميّز مبحث الوجود عند هيجل هو هاته النظرة الكلية ، فهو قد اعتبر الوجود كلا عُضويا مُترابطا يتجلى في التاريخ كتطور لما يطلق عليه هيجل الفكر أو الروح . يقول :" إن الفكر وهو ينمو يظل نسقا عُضويا وكُلاّ يتضمن في ذاته غنى مُتدرّجا يظهر رويدا رويدا "
إن الفكر أو العقل هو الذات الفعّالة في التاريخ، فهو إذ ينمو ويتطوّر يُحقّق مرماه، وذلك بأن ينتقل من وجوده الذاتي إلى وجود موضوعي، وعليه فإن التاريخ في مجموعه هو تاريخ الفكر وهو يُحقّق ذاته:" ليس هناك أسمى من الفكر، وهذا الفكر لا يمكن أن يركُن إلى السلام أو أن ينشغل بأي شيء آخر قبل أن يعرف ذاته. فالفكر يجب أن يتملّك العالم الموضوعي أو على العكس من ذلك إن الفكر يجب أن يُصبح ما هو، وأن يُحقّق مفهومه، وهو بهذا التحقق يعي ذاته ويتحرّر. فعلى الفكر أن يبلغ معرفة ذاته وأن يُحقّق هاته المعرفة ويُحوّلها إلى عالم واقعي، وتلك هي غاية التاريخ العام."
يُحاول هيجل إقامة فلسفة تُتابع الواقع، ولكن هذا لن يحصل ما لم يكن الفكر مُندمجا في هذا الواقع، بحيث يصبح الفصل بينهما مجرّد افتراضفكل ما كان معقولا فهو واقعي، وكل ما كان واقعيا فهو معقول" ولا تعني كلمة واقعي هنا ما هو موجود بالفعل، إذ أن الموجود لكي يكون معقولا ينبغي أن يخضع للضرورة العقلية، ذلك ما كانإنجلز " قد أشار إليه في مؤلفه عن " فيورباخ " حين قال:" ليس كل ما هو موجود عند هيجل يتّخذ مباشرة صفة الواقعي، فهاته الصفة لا تنطبق عنده إلا على ما هو ضروري." .فالصدق والصادق مفهوم ينحقّق في الواقع وليس فقط علامة على الأحكام والقضايا، إنه واقع مفهوم، إنه لحظة من لحظات تطوّر الشيء وهو أيضا فعل لفهمه.فهناك وحدة بين الضرورة العقلية والضرورة الوجودية، وليس الفكر ظاهرة ذاتية، كما كان عند ديكارت، بل إنه واقع موضوعي، وليس المطلق خارجا عن التجربة، ليس شيئا في ذاته كما يقول كانط، فنحن نعلم أن كانط يقول بوجود أشياء في ذاتها يعجز أمامها الفهم. هذا الفصل بين الفهم وبين هاته الأشياء هو ما يرفضُه هيجل. فالوجود عند هيجل معقول، وحقيقة معقوليته هي المقولات الحالّة فيه:" عندما يُصبح الفكر عقلا أي عندما يُصبح واعيا بذاته فإنه يعلم أنه وراء الستار الذي يخصّ الداخل ويُغطّيه، أي ليس هناك شيء يرى اللهمّ إذا توغلنا نحن تحت الستار لنعلم أن لا أحد يرى وأن لاشيء يُرى." ليس هناك إذن ما يُمكن أن يعجز أمامه العقل ، ولا وجود لأشياء في ذاتها، وليست الفلسفة عند هيجل تجريدا، وما موضوعها إلاّ هذا الواقع الحامل للفكر. وهدف الفيلسوف إظهار منطق الواقع ، لذلك يُسمّي هيجل مبحث الوجود منطقا.

فلم يعد المنطق فحسب مثلما كان عند أرسطو دراسة لقوانين الفهم في صورته وانعزاله وتجريده، بل إن التفرقة بين الصور والمادة لا معنى لها حسب هيغل.": إذا كان الفكر المجرّد في البداية لا يهتم بالمبدإ إى بما هو محتوى، فإنه يجد نفسه خلال تطوره مضطرا إلى تطبيق المعرفة، ويعتبر بالتالي هذه الحركة الذاتية كلحظة رئيسية للحقيقة الموضوعية، وهو ما يُبرّر الحاجة إلى توحيد المنهج والموضوع ،الصورة والمبدإ."
منذ البداية إذن يخرج الفكر عن ذاته نحو الموضوع، كما يرتدّ إلى الفكر ، وبهذا تنهار الثنائيات التي وضعتها الفلسفات التقليدية منذ أفلاطون بين المادة والصورة، المنهج والموضوع، الوجود والعقل، الموضوع والذات. بهذا الصدد يقول هيغل:" إن هذا الفصل المزعوم بين محتوى الوعي وصورته كان يُؤدّي بالمناطقة التقليديين إلى أن يفترضوا أن مادة المعرفة توجد في عالم مُكتمل خارج الفكر، وأن الفكر خاو لا يحتوي شيئا، وأنه يأتي بما هو صورة، يأتي لينطبق من خارج على المادة، ويرتوي منها فيحصل بهذا على مُحتواه ويُقيم معرفة."

فمن طبيعة الذاتي حسب هيجل أن يتحوّل إلى موضوعي، كما أن طبيعة العقل أن يتحوّل إلى واقع، خلافا لما كان عليه الأمر في المنطق التقليدي. كتب لينين معلّقا على هتهالنقطة:" في المنطق القديم ليس هناك انتقال.لم يكن هناك نمو للمفاهيم أوالفكر.لم تكن هناك علاقات باطنية ضرورية تربط بين جميع الأجزاء ولم يكن انتقال منبعضها إلى بعض." فالصور كما يقول هيجل:" إذا اعتبرناها من حيث هي صورمتميّزة من المحتوى خارجة عنه،فإنها تكون عاجزة عن اعتناق الحقيقة.إن خواء هتهالصور التي يقول بها المنطق الصوري يجعلها سخيفة لا قيمة لها، وبالتالي لا ينبغيللفكر أن يأخذ بعين الاعتبار الصورة الخارجية فحسب بل إن عليه أن يعتبر المحتوى كذلك."يُعلّق لينين قائلا:" يُريد هيجل منطقا تكون فيه الصور مليئة بالمحتوى. إنهيريد صورا ذات محتوى حقيقي واقعي وحيّ، صورا ترتبط بالمحتوى ارتباطا لا انفصام فيه. فليس المنطقنظرية الصور الخارجية للفكر، وإنما هو نظرية قوانين تطور جميع الأشياء الماديةالطبيعية والروحية، أي قوانين نمو المحتوى الواقعي للعالم وللمعرفة، إنه إذن مُجملتاريخ معارفنا وحصيلته." ليس من حقنا أن نقول على غرارالفلسفة التقليدية إن المنطق يُعلّمنا التفكير السليم، إذ أن قولنا هذا سيكون مثل قولنا إن الفيزيولوجيا تُعلّمنا الهضم. لذا سنجد أنفسنا ونحن نعرض مبحث الوجود،نعرض في ذات الوقت لمنطق هيجل مادام المنطق مُتابعة للوجود في حركته.
كما لا يصح ، في نظر هيجل، أن نقول إن المنطق عبارة عن دراسة للمناهج العلمية،،عبارة عن ميتودولوجيا، إذ أن المنهج في نظره ليس عبارة عن وسيلة خارجية لدراسة الموضوعات، إنه هو العقل ذاته حينما يعي ذاته ويجدها في جميع التعيينات.فالجدل كما سنرى ليس حياة الفكر وحده، وإنما هو حياة الوجود في مختلف تعييناته التاريخية.:"فالمنهج هو الوعي بالكيفية التي تتم بها الحركة الداخلية للمحتوى." وهو كما نعلم منهج جدلي، معنى ذلك أن على المعرفة أن تمر من ثلاث لحظات ضرورية ، عليها أن تنتقل من المباشر أو الكلّي المجرد إلى نقيضه الذي هو توسّط وانتقال. ثم إلى العيني. وإذا كان منهج المعرفة على هاته الحال،وكذلك ناتج عن طبيعة الوجود التي تريد هذه المعرفة أن تكون معرفة له. فالعالم يُشكّل كلاّ عضويا وهو يتحرك وينمو كما ينمو الكائن الحي. يقول هيجل:" إنه نفس التعيين الذي يخترق كل شيء، والذي يظهر في السياسة كما يظهر في مختلف العناصرالأخرى. إنه وضع متجانس في جميع أجزائه ومهما ظهر ت النواحي مختلفة متعددة وعرضية،فإنها لا يمكن أن تحتوي على ما من شأنه أن يُناقض الكلّ." إن المفهوم الأساسي في المنهج الهيجلي هو مفهوم الكلية، وليست الكلية بالمعنى الجدلي عبارة عن انسجام بسيط، بل إنه تركيب بين الوحدة والسلب.بين الذاتية والتمايز، ففيها يتبى الوجود ذاته في هويته بعد أن يكون قد نفاها. وعليه فإن هذه الكلية العضوية لا يمكن أن تكون سكونا وثباثا، وإنما هي حركة وصيرورة وحياة، ولا يعني هذا فحسب أنه يستحيل علينا أن نتصور شيئا ما في حالة انعزال لا تشدّه إلى شيء آخر أية رابطة بل إن هذا الشيء سرعان ما يستدعي وجود نقيض يستدعي وجود ما ليس هو. يقول هيجل:"إن شيئا ما يوجد في ذاته، وهو في نفس الوقت ما يعوزه وما ليس هو."بناء على ذلك فإن كل علاقة هي تناقض وكل جزء لا يمكن أن يعرف إلا في علاقته بالكل، وكل شيء هو كل ماليس هو.يقول :" التناقض أصل كل حركة وكل تجلّ حيوي، ولا يستطيع أي شيء أن يقوم بحركة أو فعالية، لا يستطيع أن يسعى مساعي.......ويندفع نحوها إلا إذا كان يضمّ تناقضات. فالحركة التقائية الباطنية، والاندفاع والسعي، كل هاته الأمور لاتعني إلا أن شيئا ما إذا ما نُظر إليه في نفس العلاقة، فإنه يوجد في ذاته كما يكون في نفس الوقت نفيا وسلبا لها فالقول بالذاتية المجردة (يقصد ديكارت) لا يُقابل أيّ شيء فعلي حيوي، ولكن بما أن الإيجاب يكون هو ذاته سلباـ فإنه يخرج عن ذاته ويخوض حركة التغيير. لا يتمتّع شيء ما بالحياة إلاّ بقدر ما يشمل من تناقضات. فالسلب هوالدافع الباطني للحركة الذاتية التلقائية الحيوية.
لما كان الواقع معقولا فإن الجدل كما قلنا ليس جدل الفكر المُجرّد، وإنماهو منهج وواقع في ذات الوقت. لذا فليس التناقض خاصية الفكر وحده، وليس التناقض وليد عمليات التجربة المعزولة عن الواقع فحسب، بل هو وجود معيش، ووجود الفكر هو وجود متناقض باستمرار، وحياة الفكر تمزّق ما بين مُثل أعلى وواقع أدنى (كيركجارد) بين الشوق إلى الكمال والإغراق في النقصان.
يكون هذا التناقض في المستوى البشري وعيا بثنائية تتوزّع الإنسان، وتُكوّن وعيه الشقي. يقول أحد شُرّح هيجل:" الشعور الشقي الذي يجد في الفينومينولوجيا تجسّده التاريخي في اليهودية، وفي قسم من العصور الوسطى، الشعور الشقيّ هو فيالواقع وعي بالحياة كما هو وعي ببؤس الحياة.لقد ارتفع الإنسان فوق واقعه الأرضيوالفاني، ولم يعد سوى نزاع بين اللامتناهي والمتناهي، بين المطلق الذي وضعه خارجالحياة، وبين الحياة وقد اقتصرت على المتناهي." فالوعي الشقيّ في صورتهالتجريدية، هو وعي تناقضي بين حياة الإنسان المتناهية وتصوّره عن اللامتناهي .يقول هيجل:" عندما أفكر أرتفع إلى المطلق متجاوزا كل ما هو مُتناهي. فأنا إذن وعي لامتناهي ،أنا في نفس الوقت وعي بالذات مُتناه، وذلك بمُقتضى محدوديته في دنيا التجربة. ولكني أيضا وعي لامتناه والحدّان les deux termes يقتبس كل منهما الآخر. أنا العاطفة والحدس،وتصوّر هذه الوحدة وهذا النزاع،واتصالهما بين الحدين المتناضرين ، أنا لستُ أحد هذين الطرفين ولكني الطرفان المتصارعان.أنا الصراع نفسه ، أنا النار والماء اللذان يتلامسان، أنا اتصال ووحدة ما يتنافر وما يهرب من بعضه البعض." ليس التناقض إذن قانونا من قوانين الفكرالمجرد فحسب، إنه ليس تجريدا على عكس ما سيعتقد كيركجارد، بل إنه وعي وحياة. وقد رأينا أنالوعي عند هيجل حياة راغبة، لذا فالتناقض عنده ليس تناقض الفكر وحده، بل هو تناقض وعي مُتمزّق شقيّ. هذا الوعي الذي ما ينفكّ يتجاوز ذاته:" إن الوعي بالحياة والوجود، إن الوعي بعملية الحياة ذاتها ليس سوى التالّم من هذا الوعي،وبفعل هاته العملية ذاتها، ذلك أن له هنا وعيا بنقيضه على أنه الحقيقة، كما أن له وعيا بعدمه هو ذاته." التناقض إذن هو الشرط الضروري للتجلّي التدريجي للمُحتوى. فانطلاقا من سلب حدّ معيّن يُمكن أن يصدر عن طريق التجاوز حدّ ثالث يدخل بدوره في تناقض جديد، وحركة التناقض هذه حركة داخلية والأطراف التي تدخل حركة الجدل ليست مجرد. أطراف متميزة بل إنها أطراف مُتنافية ينفي بعضها البعض. إنها إذن مرتبطة ولكن برباط التصارع والنظام.
لا يمكننا إذن أن نتحدّث الوجود في انعزاله، إنه يتكوّن من اللاتعيين واللاتحديد بحيث يكون خواءا وعدما. فكل شيء يكون أو يوجد ، ولكن الوجود لا يكون شيئا، وما ليس بشيء فهو لا شيء. وهكذا فإن الوجود هو لاتعيين وخواء خالص.إنه ليس شيئا، فإنه إذن عدم، إذ أن فكرة العدم هي بالضبط فكرة غياب جميع التعيينات، يجب إذن أن يمرّ الوجود إلى العدم، إذ يمتص العدم الوجود. فالوجود والعدم نقيضان يُشكّلان زوجا لا ينفصل.

 

 


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: