يبين الفينة والأخرى تُطرح قضية اللسان بين القداسة والتواضع، وهي إشكالية
قديمة عرفها المجتمع العربي بمعرفته للسان العربي، دليلنا على هذا التذكير بموقف
ابن حزم الأندلسي في كتابه الأحكام في أصول الأحكام ،أنه نقض قدسية اللسان العربي
وتفنيد "وهْم" أن العربية أفضل الألسن لأنه بها نزل كلام الله
تعالى". يقول ابن حزم
:" وقد
توهّم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة،
وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة وقد قال
تعالى( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّن لهم) وقال تعالى ( فإنّما
يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون) فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا
ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك. وقد غلط في ذلك جالينوس فقال : إن لغة
اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلب أو نقيق
الضفادع. قال علي : وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده
في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق. وقال قوم " العربية أفضل اللغات لأنه
بها نزل كلام الله تعالى.وقال عليّ هذا لا معنى له،لأن الله قد أخبرنا أنه لم يرسل
رسولا إلا بلسان قومه..وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى بالعبرانية
وأنزل الصحف على إبراهيم بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا." ( انتهى كلام ابن حزم) إذن نحن بصدد إشكال قديم وسيظل لأسباب قد يطول شرحها كما
هو الأمر مع " المُحرمات اللغوية" كما سنرى فيما بعد والمنبثقة من ما يُصطلح
عليه ب " اللهجة الزنقاوية"!!!
هذا الموضوع عالجه
المفكر محمد عابد الجابري بالتفصيل في كتابه
" تكوين العقل العربي" ضمن الفصل الرابع"
الأعرابي صانع العالم العربي" ص 75...بحيث ينتقد دور النحاة العرب من
حيث ما قام به النحاة في قولبة اللغة العربية في قوالب منطقية فرضوها عليها
فرضا كثرة الشواذ... وأما الجانب الصناعي في الخطاب النحوي فيكفي في إبرازه
التذكير بقولة الأعرابي الذي سمع حديث النحاة فقال مُخاطبا لجماعة منهم:" إنكم تتكلمون في كلامنا
بكلام ليس من كلامنا." وهذا يدل على"إحداث لغة في لغة مُقرّرة بين أهلها..".
لكن يجب التمييز بين لسان التواصل اليومي، والذي
يعتمد على لهجة الدارجة، وهي تخضع لمراتب في القيمة والمعنى، وتركيبها المعجمي
والنحوي والصرفي يختلف عن اللسان العربي المُقعّد بضوابط معروفة،وبين اللسان
المُقعّد، الأمر الذي يجعل من اللغة ، كما بيّن رولان بارت " أن كل لسان هو تصنيف قمعي" يُمارس سلطته
على المتكلم. .." فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة. بيد أن اللغة البشرية، من
سوء الحظ، لا خارج لها: إنها انغلاق..ولا يتبقى لنا إلا مُراوغة اللغة وخيانتها.
هذه الخيانة الملائمة، وهذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح
بإدراك اللغة خارج سلطتها، في ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدبا."( درس السيميولوجيا.ص 13-14) يقصد التحرر
والخيانة بواسطة الاستعارة والكناية والمجاز والتشبيه والتشكيل...أي
كل الترسانة المؤسسة للإبداعية.
يتعلق الأمر هنا بنفس
اللغة، بينما نحن في العالم العربي، نصطدم بتعدد لساني يتضايف مع اللسان العربي،
وعلى رأس هذا المُناظر للسان العربي " اللهجة الدارجة" والتي تستقي مجمل
معجمها من اللسان العربي المُسمّى " فصيح".لا أريد الدخول في جدال (
مناظرة العروي مع عيوش) ولكن أود طرح إشكال المداخل الممكنة للاعتراف باللهجة
الدارجة كإحدى مستتبعات اللسان العربي الفصيح. ومن بين العوائق المطروحة لتحقيق
هذا المطلب ما يسميه الأنتروبولوجيون وعلما الاجتماع اللغوي ب" المُحرمات اللغوية"، والتي لاتخضع لنظام القواعد الأخلاقية في التداول اللغوي.كما نجد
هذه المحرمات اللغوية في اللسان الأمازيغي أيضا. وهي توجد عند كل للشعوب بما
فيها الأكثر ليبرالية، بحيث أن كل جماعة لغوية تعاقدت أو تواطأت على أن هذا
التوصيف " مُحرّم " تداوليا ،ويُجوّز بدله توصيف بديل أو أكثر. مثال " قحبة " مقارنة مع ، مومس أو باغية، أو بائعة هوى...وفي اللسان الفرنسي، من
المحرمات اللغوية " (بيتان.Putaine) ومقابلها المسموح به "Prostituée. يقول أ. ديكرو:" كثيرا
ما يحتاج الفرد إلى قول بعض الأشياء، مع القدرة في نفس الوقت على التظاهر بعدم
قولها، أي على قولها، ولكن بكيفية يمكن معها رفض تحمل مسؤولية النطق بها...وتعود
ضرورة الإضمار ، داخل العلاقات المجتمعية، ..أو إلى وجود مجموعة من المحرّمات
اللغوية في كل جماعة بشرية، حتى في أكثرها لبيرالية..ولا ينبغي أن يفهم من ذلك فقط
أن ثمة كلمات – بالمعنى المعجمي- يُمنع النطق بها،ولا يُسمح بذلك إل في ظروف
محددة بدقة.ويرجع الإضمار ، ثاتنيا إلى أن كل توكيد صريح يُصبح ، بسبب كونه كذلك
موضوعا لمناقشات ممكنة، فكل ما يقال قابل للإعتراض عليه O. Ducrot. Dire et ne pa dire
من هذا المنطلق يمكن فهم العلاقة الملتبسة بين اللهجة الدارجة واللسان العربي الفصيح، وأترك للقراء إغناء المقال من المحرمات اللغوية الأمازيغية المغربية سواء التي تتفارق مع اللسان العربي أو من داخل اللسان الأمازيغي. يُمكن للهجة الدارجة كما اللسان الأمازيغي ،أن تغني اللسان العربي بسبب أنها منفتحة على اليومي وانفتاح هذا الأخير على مستجدات العصر، ولكن قد نختلف في ما يُصطلح عليه " اللهجة الزنقاوية" وهذه عادة ما تخضع لتقييم قواعد أخلاقية صارمة تُدخل بعضا في بعض تعابيرها ضمن المحرمات اللغوية.
وهذا المشكل أثاره نور الدين الخماري في
فيلمه " كازانيكرا" ، وطرحه نبيل عيوش في فيلمه " الزين اللي فيك" وأثار ضجة كبرى، ونستحضر أيضا المسرحية المُثيرة الجدل " الطبّون ديالي"للفرقة المسرحية أكواريوم..( نعيمة زيطان ) وتقارعت الآرء كل له حججه في مشروعية أو عدم مشروعية هذا المصطلح أو
ذاك وما مدى مشروعية تداوله فنّيا واجتماعيا..السؤال لماذا أغلب المحرمات اللغوية
من طبيعة وتصنيف جنسيين ؟
نعود إلى تجربة الأديب
محمد شكري في كتابه " الخبز الحافي" حيث أدمج اللهجة الدارجة الزنقاوية في التعبير الأدبي، ضمن
رهان الواقعية في التوصيف يقول في الصفحة 8 ( مطبعة ألطوبريس- طنحة) "..يقول لأمي :" أنت قحبة بنت قحبة" وهو نفس التعير الذي
استعمله الشاعر مظفر النواب في هجائه للطغاة " يأولاد القحبة إنني لأعرّيكم.." .كلنا يتذكر الكتاب
الظاهرة " الروض
العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي، والذي كشف عن عالم مسكوت عنه من الأسماء
والمصطلحات الجنسية باللسان العربي، وقام المفكر عبد الكبير الخطيبي بدراسة هذه
الظاهرة في كتابه " الاسم العربي الجريح".
لقد حرص الشيخ النفزاوي على مُفاجتنا بأسماء كنا نعتقد أنها
من مجال اللهجة الزنقاوية ولكنها في الحقيقة من صميم اللسان العربي، وبها
كانت النخب تُدبّر علاقاتها الجنسية، أنقل لكم بعضا من ما قاله في مقدمة الكتاب، مع كامل احترامي لذوي
الضمائر الحسّاسة والخجولة:" الحمد
لله الذي جعل اللذة الكبرى للرجال في فروج النساء وجعلها للنساء في أيور الرجال
فلا يرتاح الفرج و لا يهدأ و لا يقر له قرار إلا إذا دخله الأيروالأير إلا بالفرج..." حين نعرف أن مثل هذه التوصيفات كان الهدف
منها محاربة الخيانة الزوجية من خلال توعية الرجل والمرأة جنسيا حتى يجد
الرجل في زوجته ما كان يبحث عنه في امرأة أخرى والعكس بالعكس....نشفع للشيخ
النفزاوي مثل هذه التعابير اللسانية المباشرة التي تشكل صدمة لأول وهلة أكثر من المحرمات الزنقاوية،
لكن ورودها كان لضرورة بيداغوجية وإصلاحية للعلاقة الزوجية.
بالمحصلة، من الصعب الفصل في إشكالية مدى التضايف الممكن بين اللهجة الدارجة ( عربية أو من معين اللغة الأمازيغية أو الإسبانية، مثلا في مدينة آسفي نقول : السكويلة، البِلوطا، ألفالطا، الباركو.الكوزينا ، الماريو ... وهي من أصول إسبانية) .وتامحلبت، تقواديت، تاعرابت، وهي أوزان أمازيغية.لكن المشكل في ما يعتبره البعض من المحرمات اللغوية. وهي غير موحدة بين الشعوب العربية. مثلا من ،غير المقبول في بلاد الشام أن نقول نحن المغاربة " هيّأت والدتي الكُسْ كُسْ للغذاء" لأن الكُسْ في بلاد الشام هو " الفرْج". كما قال أحدهم في برنامج شامي/ لبناني مُتهكّما على استعمال المغاربة للفظة الكس كس " أستمتعت اليوم بوليمة من الكس كس.في الشام لها معنى وفي المغرب لها معنى آخر بالطبع. وفرق بين الجنس والأكلة المحبوبة لدى المغاربة والمرتبطة بالمقدس" يوم الجمعة ".
0 التعليقات:
more_vert