الإبداع الفلسفي هو إعادة ما تعرفه بطريقة تقود لمعرفة ما لاتعرفه.

التصنيف



نصيحة الكندي

هل صحيح أن: الإبداع الفلسفي هو إعادة ما تعرفه بطريقة تقود لمعرفة ما لاتعرفه.

   أعجب لبعض الباحثين  المغاربة في مجال الفلسفة، يستحون من الاستشهاد بفيلسوف عربي ، في الوقت الذي يتسابقون فيه على التجمّل بطابور من الفلاسفة منذ ما قبل أفلاطون إلى ميشال أونفراي، قافزين على ما أنتجته الحضارة العربية في مجال الفكر والأدب والفن...، وكأنها " نشاز " في سيرورة تطور الحضارة الإنسانية أو كأنها نسخة مشوهة تفتقر إلى التأصيل والأحقية في الوجود !!!
  وأعجب أكثر كيف يحكمون على الفلسفة العربية بالذات بانتهاء صلاحيتها بزعم انتهاء أسباب وجودها، بينما لا ينطبق نفس الحكم على فلسفات سابقة على الفلسفة العربية بقرون خلت،أو مابعدها لكن بالنسبة إلينا يُعدّ أيضا بالقرون. ومن المرجح أن لعدد من المستشرقين الترويج لفكرة تبخيس ما أنتج الفكر العربي في القرن الثاني الهجري وما بعده وصولا إلى مفكري الأندلس وما أنتجوه من مختلف الحقول المعرفية المتنوعة.
    وأستغرب أكثر حينما فاجأني صديق مدرس لمادة الفلسفة وينسبُ لنفسه أنه كاتب فلسفي أو باحث، لا فرق عندي،بالقول إنه لاداعي لتدريس المتعلمين "لحظة الفلسفة الإسلامية" ضمن قضية " لحظات أساسية قي تطور الفلسفة".وعلّل قفزه على تلك اللحظة بالقول إنها غير مفيدة وإشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين لم تعد قائمة._ وهذه أسطورة روّجها عدد من المستشريقين، وانتقدها المفكر فتحي المسكيني، وفي أحد الأشرطة المصورة يبيّن جدّة الفلسفة العربية وإبداعاتها المتميزة )..وعليه بدل تضييع الوقت في قضايا تقليدية وميتافيزيقة، من الأفضل  تسليط الاهتمام على لحظة الفلسفة الغربية الحديثة والفلسفة المعاصرة، وبرر موقفه هذا بكون الفلسفة الاسلامية قد  توقظ في المتعلمين ما يسعى إليه المتشددون في الدين، ويخاف أن تؤدي دراسة هذه اللحظة إلى ما يتناقض مع الفلسفة. استغربتُ من هذا الخلط بين الفلسفة والدين، وسألته ، ليس من باب ما أجهله لأنه بدا لي جاهل بما يدعي معرفته، ولكن لغرض إحراجه.فسألته : هل من مبرر لاختزال الفلسفة الإسلامية في الدين الإسلامي؟وهل الفلسفة الإسلامية توصيف ديني حصريا أم هو توصيف تاريخي لمرحلة من تطور الفلسفة بمثل التوصيف :الفلسفة اليونانية والفلسفة اليهودية والفلسفة الهندية والفلسفة الغربية....؟لم يتنازل عن موقفه وبقيت القضية معلقة وكل " محارب" إلتزم قلعته،وانتهى النقاش من دون نتيجة.
    أحالتني هذه الواقعة إلى يومياتي مع الدرس الفلسفي، أيام كان تلاميذ البكالوريا مُحاربون بمعنى الكلمة، يقظون، متشوقون للتفكير والنقاش والجدال.أحالتني إلى نصوص ونقاشات ومواقف تتعلق بلحظة الفلسفة الإسلامية مع تلاميذ يقفون على باب " عصر المراهقة" ليلجوا عالما جديدا سينتزعهم من طفولتهم، ومن أريحية اللعب،إلى عصر الرشد الفكري وتحمل المسؤولية، والاعتماد على الذات من خلال طبيعة المرحلة التي تجعل المراهَق ( بفتح الهاء وليس كسرها وبينهما فرق ليس هذا مكان تفسيره) يجعل من ذاته موضوعا للتفكير، وهذا مدخل أساسي لبداية ممارسة الفعل الفلسفي بالتدريج.
   كانت لحظة الفلسفة الإسلامية تأتي بعد مرحلة الفلسفة اليونانية.وكان من الطبيعي تبرير هذا التمرحل والكشف عن رهانه الخفي. كان الرهان هو الوقوف على " الثابت والمتحول" في تطور الفلسفة اليونانية وسفرها عبر مختلف الحضارات.إذن ما هو الثابث وما هو المتحول في لحظة الفلسفة الإسلامية؟
    هنا أرجع إلى ما بدأتُ به، وأتساءل، هل الفلاسفة العرب والمسلمون (من غير العرب كالفرس مثلا) لم يُبدعوا وظلوا حبيسي وتكرار الثابث اليوناني ؟ ما سبب شيوع هذه الصورة  الاختزالية والتحقيرية للحظة الفلسفة الاسلامية؟ المفكرون والمؤرخون الغربيون أنفسهم يعترفون ،حديثا، لها بأهميتها وبما أبدعته من رؤى وما طرحته من إشكالات...بينما غالبية باحثينا في مجال الفلسفة يتحرّجون من هذه اللحظة ويُقبلون على " موضة " اقتحام قلاع  فلاسفة الغرب منذ القرن السابع عشر إلى اللحظة الراهنة.
    أتذكر بخصوص تجربتي الفصلية، كنتُ أراهن على  إنصاف تاريخ الفلسفة من دون انتقاء أو اختيار تفضيلي كما  لدى من لهم " نزعة بحثية" لأغراض هم يعلمون ماهيتها.وهنا كنتُ دائما أتساءل، لماذا لا يتكامل عمل الباحث الفلسفي الأكاديمي مع عمل مدرس الفلسفة في الفصل  الدراسي؟
    من بين النصوص الفلسفية العربية  التي تؤسس للإعتراف بالآخر المختلف حضاريا والاستفادة من علمه وفلسفته ، نصا للفيلسوف أبو يوسف بن أسحق الكندي،، من كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. يقول يفه الكندي :" ...وينبغي لنا اقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المُباينة لنا،فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق...فحّسُن  بنا أن نلزم إحضار ما قاله القدماء....وتتميم ما لم يقولوا فيه قولا تاما على مجرى اللسان وسنن الزمان.."
    كان الهدف من توظيف هذا النص هو الوقوف على منهجية الإبداع الفلسفي ضمن قضية الثابت والمتحول في تطور الفلسفة.ويبدو من خلال النص،أن الكندي يعترف بالأخذ من الأمم السابقة وهذا هو الثابث، لكن في نفس الوقت " تتميم" ما يُسعفهم عصرهم على التفكير فيه، بسبب العلاقة بين الفكر والواقع وهذا هو المتحوّل، ولا يمكن للفكر أن يعلو على واقعه....
هنا أطرح السؤال على الباحثبن الفلسفيين الأكاديميين، بعد اقتناء ما تعتبروه حقا فلسفيا ومشروعا من خلال الانفتاح  على فلسفات من فترات مختلفة من تاريخ الفلسفة،أين هو تتميم الرسالة الفلسفية؟ أين المتحوّل؟ببمعنى أوجه السؤال لمن يعتبر نفسه فيلسوفا أو كاتبا فلسفيا...ماذا قال ما لم يقله ديكارت وكانط وهوسيرل ونيتشه....في إطار المتحول المنشود بدل شرح وتفسير وتأويل ما أبدعه تاريخ الفلسفة القديم والحديث؟بمعنى آخر ما المانع من إتمام ما بدأه رواد الفلسفة في مختلف الحضارات، وتحقيق استقلالية فلسفية لا يُعيقها تملّك وفهم واستيعاب تاريخ الفلسفة؟ متى تتحول فلسفة تاريخ الفلسفة إلى دافع للإبداع الفلسفي بدل فلسفة الشروحات والتفسيرات والتحقيقات وتحقيق التحقيقات وتأول المتأول وتفسير المفسّر في حلقة لاتنتهي....؟ليس المقصود إعادة أنتاج أنساق فلسفية، فهذا لم يعدد ممكنا، ولكن إبداع فلسفي ضمن المتحول ليس مستحيلا، والحالة هذه ما هي عوائق الإيداع الفلسفي؟وهل انشطار الفلسفة في ساحة الثقافة الواسعة يعفينا من سؤال الإبداع الفلسفي بسبب تداخل الحقول المعرفية وطغيان فن المقالة الفلسفية الشذراتية على التأليف الفلسفي الطويل النفس؟
    إن الكندي يتحدى مفكرينا اليوم، ويُطالبهم بتحقيق الشطر الثاني بعد تحقق الشرط الأول، أي بعد اقتناء الحق من المُختلف السابق ،وجب إتمام ما لم يقل فيه قولا تاما.
     وهذا يطرح قضية غير مفكّر فيها، هل من الفلسفي أن أبقى أسير فلسفة فيلسوف معين( تبجيلا وتعظيما وتقديسا...والغريب هناك من يزعم أنه ديكارتي أو سبينوزي أو نيتشوي أو فوكوي...)، أم أنطلق كما انطلق هو ،من شروطي التي يسمح لي بها واقعي كما سمحت له ظروفه بالتفلسف.؟ كيف نعاتب مدرس الفلسفة على إهماله للتفلسف لصالح الحفظ والتكرار، وكثير من الباحثين الأكاديميين ومن يزعمون أنفسهم فلاسفة أنهم لم يبرحوا ساحة التفسير والشرح وتكرار ما قاله سلفهم من الفلاسفة ؟



شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: