الفلسفة في الميزان.

التصنيف

الفلسفة في الميزان.


بين الفينة والأخرى تطالعنا نقاشات بين مدرسي مادة الفلسفة حول حقيقة الرهان من تدريس الفلسفة في المؤسسات التعليمية،بحيث يبدو أن تعليمها يخضع لسجال لم ولن ينته منذ ميلاد تدريس الفلسفة بالمغرب في نسخته الفرنسية قبل تعريبه.ولا يخرج ذاك السجال عن الخلاف بين هيجل وكانط حول الغرض من تدريس الفلسفة ورهان ممارسة التفلسف.الأمر الذي يجسد أن المهتمين بالشأن الفلسفي يدورون في حلقة مفرغة ، كل طرف يعيد نفس الأسطوانة من دون التقدم في التنظير والممارسة.
لكن ، من النادر أن تجد موقفا نقديا من داخل الحقل الفلسفي يسائل أسباب تضخيم دور الفلسفة دون بقية الحقول المعرفية الأخرى في صناعة شخص يتميز بالحس النقدي وإعمال العقل في الموضوعات بكل شروط التفكير الفلسفي والتي يتلقاها المتعلمون المبتدئون من خلال موضوعة ما الفلسفة ولماذا الفلسفة وما هي خصائص التفكير الفلسفي...؟بحيث يبدو أن الفلسفة تتربع على عرش كل المعارف، لكن من النادر تعرّض هذا "الزعم" للتمحيص والتحليل والنقد... وقد انتقد شاييم بيرلمان إدعاء كون الفلسفة مختصة بالحجاج دون غيرها من بقية أنماط الوعي والمعرفة، وبين في كتابه  مُصنّفٌ في الحِجاج. الخَطابة الجديدة (Traité de l’argumentation. La nouvelle rhéto rique)»، أن عددا من الحقول المعرفية تعتمد الحجاج في إقناعها بأطاريحها في معرض حديثه عن البداهة الديكارتية المُعطّلة للفعل الحجاجي.......لكن المسكوت عنه أو تجاهله هو إشكال هل تتقدم الفلسفة كما يتقدم العلم؟ هل يوجد فلاسفة قادرين على متابعة مثلا التقدم الحاصل في الثورة البيولوجية، وخاصة علم الهندسة الوراثية والتخليق الجيني والاستنساخ وتحسين النسل، والتلاعب بطبيعة المخلوقات جينيا...؟ هل لازال للسؤال " ما الإنسان " ضمن المنظومات الفلسفة الثلاث " الوجود والمعرفة والآخلاق" ، مصداقيته أمام الانفجار العلمي أو على الأقل تكييفها مع المستجدات كي يكون للمقاربة الفلسفية قيمة مضافة؟ هل من أدلة في الوضع الراهن على تتبع الفلسفة لمختلف الانقلابات العلمية التي تكشف بشكل متسارع عن أسرار الإنسان ، بمعنى هل المقولة الهيجلية المتعلقة بميلاد الفلسفة في المساء بعد استكمال العلم وجوده صباحا  ، لازالت لها راهنيتها وتتحمل الفلسفة مسؤولية إعمال العقل في الموضوعات المستجدة والتي تعتبر مفصلية في تغيير مفهومنا للوجود بمختلف موجوداته؟
ما تأثير أبحاث الهندسة الوراثية والتخليق الجيني على الوضع البشري؟ وهل الفلسفة تواكب هذا الانفجار النوعي في المعرفة العلمية  للإنسان؟ نفس السؤال موجه للدين، ما موقف الأديان السماوية من اكتشاف الخريطة الجينية للإنسان وإمكانية تغيير طبيعة الإنسان وإعادة "خلقها" بمواصفات غير طبيعية؟ نستحضر مغامرة " الكائن " أوجلينا " Euglina،( نبات في حيوان أو حيوان في نبات والذي يعيش بطريقتين خلال النهار والليل، والتفكيرأ والرغبة في خلق الإنسان الأخضر من جينات أوجلينا. ...؟؟؟؟؟لماذا تغيب هذه الإشكالية في مجزوءة المعرفة والأخلاق وتأثيرها على رهانات مجزوءة الوضع البشري، بل وعلى قرارات الطبقة الحاكمة لما للسياسة من علاقة مباشرة بتدبير الإنسان وما موقف السياسية من الشخص المعدل جينيا؟ أتساءل لماذا يغلب على التفكير الفلسفي العربي عموما وفي الغرب خاصة البحث الفلسفي التقليدي والتراثي والفلسفة السياسية تحديدا،كما  أتساءل لماذا ليس لدينا إبستمولوجيين يقومون بالدراسة النقدية للمستجدات العلمية وعلى ضوئها يتم تحديد الوضع الشري والمساهمة في النقاش الكوني حول ظاهرة الانقلاب البيولوجي بدل التفلاج أو على أقل تقدير ترجمة اجتهادات الآخرين؟ كيف نفسر ضمور الاهتمام بالإشكالات التي يطرحها التقدم العلمي؟ أجاب محمد عابد الجابري عن هذا الإشكال بقوله أن " الإشكالية العربية الراهنة إشكالية سياسية وليست علمية "وطبيعي أن يتطابق الخطاب الفلسفي مع وضعه التاريخي وشروطه الاجتماعية؟ لكن متى سنتستمر في البحث عن الخروج من التأخر لمسايرة الركب الحضاري اجتهادا وإبداعا؟



 في أطار الابتعاد عن نرجسية مزعومة وإنصاف كل حقل معرفي يمكن أن يساهم في تكوين إنسان متعدد الأبعاد بتعدد أنماط الوعي الإنساني، والتفكير الفلسفي شكل من أشكال الوعي الإنساني، له مجاله وحدوده، ومن الإجحاف توهّم تفاضل يُعلي من شأن التفكير الفلسفي عن بقية الحقول المعرفية الأخرى، علما أن الواقع يُظهر حياة الفلسفة في التنظير وتعطّلها في التطبيق والممارسة أة على أقل تقدير الإهتمام،تسجل حضورها في رحاب الثانوي التأهيلي الجامعات كمادة دراسيةوفي  والصالوناتالخاصة والندوات للتأمل وتجريب البحث الفلسفي بعيدا عن أية فاعلية حقيقية في الواقع الاجتماعي بحجة غيابها الفاعل في الفضاء العمومي، بل حتى لدى المشتغلين في الحقل الفلسفي عدد منهم لا تظهر عليهم تشربهم للقيم الفلسفية في حياتهم اليومية في مقابل تحميل الفلسفة حل مشكلات كل أمراض العالم، وهذا ما يساهم في الزج بالفلسفة فيما لا تستطيع تحمل مسؤولية الاهتمام به تحليلا ونقدا ومفهمة.وقد ناقش هذه الوضعية كل من ألان باديو وسلافوي جيجيك في كتابهما " الفلسفة في الحاضر".
السؤال، ألم يحن الوقت لتخليص الفلسفة ودورها من العديد من الأوهام التي أصبغت على الفلسفة أساطير تفوق قدرات الفلسفة ، فكرا وممارسة،وإعادة مُساءلة أسباب تضخم الخطاب حول الفلسفة والزجّ بها في معارك أنهكتها وضيّقت من احتمال مساهمتها إلى جانب بقية الحقول المعرفية في التنوير والإرتقاء الفكري والسلوكي.
ويبدو من الحديث عن الفلسفة وخاصة في المدرسة، أنها المخلّص الوحيد من الدوكسا والتفاهة والبلاهة ...علما أن تحقق تقدم عددا من البلدان لم يكن عبر التفكير الفلسفي بل عبر وسائط معرفية أخرى معروفة.
الدفع بالفلسفة إلى الخوض في كل شيء، هو توفير شروط إنتحار الفلسفة وهي تواجه كل شيء، لكنها لا تقوم بأي شيء في الواقع، وهذا ما يعيه أعداء وخصوم الفلسفة، بحث يعمّقون جراحها بذريعة تضخمها في الخطاب وتواضعها الشديد في تغيير عقليات الناس في الواقع، يُضاف إلى هذا تفطّن المشرع للأهمية الفلسفة في تغيير العقليات في حدود معينة لدى المتعلمين، فقام بتقليم مخالف الفلسفة وهو يقوم بتحويلها ديداكتيكيا بحيث تم إغراق المقررات بالكم وأصبح هاجس المدرسين هو إتمام المقررات لضرور الامتحان الوطني، وقد يتم تحقيق إتمام المقررات بالإملاء من دون تحليل أو فتح نقاش مع المتعلمين بل يُطلب منهم في كثير من الأحيان اعتماد الحفظ وهذا موقف طبيعي ينسجم مع طبيعة المقررات ووسيلة الإملاء...حتى في الجامعات يخضع تدريس الفلسفة لمزاج المدرسين، كل مدرس يحشر المتعلمين فيما هو متخصص فيه حصريا، فهذا قومي يهتم بعلاقة الفلسفة بالسياسية، وهذا أبستمولوجي يُطل بخجل على اهتمامات الآخرين كمفسر وشارح، وهذا ديكارتي أو كانطي مروج للعقلانية والتنوير وهذا.......بحيث تُنجز الدروس والأبحاث وفق مزاجية المدرس وليس وفق الرهان الفلسفي المتعالي على المزاجية.كذلك التأليف الفلسفي لا يأتي بجديد، وأغلبه تكرار لما تم البحث فيه واجترار لما تم التفكير فيه، من دون مراعاة القصد من الحاجة إلى الفلسفة ليس بغاية التكرار والاجترار بل بغاية فتح آفاق جديدة للسؤال الفلسفي والمقاربة الفلسفية الإبداعية وهي من شروط مفكرين فلاسفة وليس مفسّرين وشراح وتراجمة لأهداف شخصية وتجارية. ويكفي البحث عن مدى تحقق الوعي الفلسفي بشروطه التي يتم التنظير لها، في وعي وسلوك تلامذة الثانوي التأهيلي وطلبة الجامعات، بل والمستوي المعرفي والمنهجي لأطروحات الماستر والدكتوراه مع استثناء الأجود منها بالرغم من قلته، والطامة الكبرى أن عددا من المشرفين على الأطروحات ولجان المناقشة لا تطلع على الأطروحات بالمعايير العلمية وهناك من يطلب من الطالب الباحث تقديم ملخص !!!! للأطروحته.....

إذن ليس المشكل في الفلسفة، بل في فهم مدرسيها والباحثين  وانتظاراتهم منها.وحان الوقت لتقييم تجربة تقديم الفلسفة كعصا سحرية تُخلص محبيها من كل الأوهام وإعادة النظر ، بكل تواضع، في مهمة الفلسفة وحدودها في الفعل على مستوى الفكر والسلوك،والتخلص عن عقيدة التبجيل المبالغ فيه حدّتبخيس بقية المعارف بدعوى أن الفلسفة أمّ العلوم.
نعم مطلب الحاجة إلى الفلسفة مطلب مشروع، لكن في حدود ما تستطيعه الفلسفة وضمن سياق تاريخي واجتماعي يتغير كل يوم ، الأمر الذي يجعل الفلسفة عبر الفلاسفة،أن يدركوا جدلية الثابت والمحرك في التفكير الفلسفي،في أفق جعل هذا الثابث يتكيف مع المستجدات على مستوى آليات التفكير الفلسفي ذاتها خاصة وأن عددا من المعارف والعلوم المستحدثة، تتأسس على مطلب المفهمة والحجاج والنقد والمساءلة والعقلنة..بمعنى لم تعد الفلسفة هي الحقل الوحيد الذي يستأثر بتلك الأفعال، وهذا ما نلمسه لدى هئة المحامين، والمستثمرين،والأطباء والمهندسين المعماريين...لكل من هذه الميادين مفاهيمها الخاصة وحجاجها...لغرض الإقناع وتغيير حياة الناس في واقعهم اليومي، قولا وفعلا.



السؤال ما المطلوب فعله أمام هذه المفارقات؟كيف نُنصف الفلسفة من خلال إعطائها الوجود الذي تستحقه حتى لا يتم الزج بها في متاهات تفوق قدرات الوعي الفلسفي ورهانه إلى جانب بقية الحقول المعرفية. وقد تكون البداية في تقييم تجربة تعليم الفلسفة بالثانوي التأهيلي باعتبار هذه التجربة هي البوابة التي يدخلها المتعلمون لعوالم التفكير الفلسفي.


شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: