غربة الدرس الفلسفي.
لأجيال التربوية اي فلسفة واي غاية’؟
بقلم: محمد بصري
مفتش التربية الوطنية فلسفة / القنادسة الجزائر
بين الملكة والكفاءة
تساءلت دائما لماذا جيراننا عن اليمين وعن الشمال الأشقاء.
عن تونس والمغرب أتحدث يلتزمون بالقواعد اللغوية وجينالوجيا المفهوم خاصة عندما
يتعلق الامر بحقول التربية .فالنظام البيداغوجي ينطلق من منظومة الكفايات “اي
القدرات ” واستراتيجيات التمهير الدراسي بينما انظمتنا التربوية لا تتردد في
إستخدام مفهوم الكفاءة رغم ان لسان العرب وصاحبه ابن منظور يقر ان “الكفاءة هي
التماثل والتساوي والتشابه قياسا الى لغة المعايير. بينما الكفاية هي القدرة وهي
اقرب الى الصواب .رغم ان اللغة العربية حبلى بالمفاهيم والاشتقاقات، فنحن نصر على
الترجمة البائسة لمصطلحات اللغات الافرنجية والاعجمية .la compétence هي القدرة وليست الكفاءة .ربما الترجمة خائنة وكاذبة وعاقر
لا تلد فلا يجب ان نفتش عن مستودع مذاهبنا البيداغوجية في الافق الثقافي للغير
.لان ذلك من اوهام المسرح والسوق.
نتحدث عن الفرق بين الكفاءة والملكة جزافا، باستنطاق منظومة
مفاهيم معقدة وبعرضها على التحليل البنيوي للتاريخ او تأسيس منهج يرتد سقفه
المعرفي والمنهجي الى التراث وينهل اسسه البيداغوجية من تحديات العصر والعولمة.
وهو ما دعاه محمد الدريج ببراديغم جديد، موظفا المقولات الفلسفية والابستيمولوجية
للراحل د.محمد الجابري، من خلال اعادة انتاج انظمة لغوية وفكرية وإنسانية تستأنس
بالنموذج الرشدي والعقل الفقهي الاندلسي وقراءة الحاضر على اساس الماضي ومكوناته
المتكثرة والمكوثرة. قد يطول الشرح في هذا لكن الاستبدال التقني لمفهوم الكفاءة
كإستراتيجية تعليمية ديداكتيكية بمفهوم الملكة يكتنفه الغموض فليست النائحة
كالثكلى كما يقول التراث الشعبي العربي، لان البناء القيمي والفكري والمفاهيمي
للملكة معقد يتداخل فيه المكتسب بالفطري وهي قريبة للتناغم النفسي مع الذكاءات
المتعددة التي اشار اليها غارنر تتطلب عدة فيزيولوجية وتسلسل جيني تتداول فيه
الاجيال مكامن الابداع وتخريجاته، كما انها ميزة يتعالى فيها الرسوخ في النفس مع
قوة الصنعة وحبكتها. انظر مثلا اسرة “باخ ” والخمسين موسيقي او اسرة “زنكي
“الايوبية التي ورثت الشرف العسكري وقس ذلك على الاسر العلمية التي ورثت
الاستعدادات لتقبل انظمة المعرفة، لكن حسب المسوغات والإحراجات التي تفرضها راهنية
الواقع وهو توصيف وتنميط اشار اليه الفيلسوف التونسي “فتحي المسكيني” حين راهن على
استنفاذ العقل كل معاركه الاخيرة باعتباره جدارا وملاذا روحيا ليس إلا.حيث لم يعد
العقل زيوس zeusكبير
الالهة وحارس القوى اللامرئية والحيوية التي تحرك القدرات .فهو بالنسبة اليه نتاج
نظام رمزي من المعارف المكتسبة “العقل يفكر لكنه لا يعرف”وبالتالي لا يُعول عليه
في ضخ شبكة الملكات الاخرى.الكفاءة عامة هي استجابة لاندماج قدرات ومهارات
ومكتسبات لحل المشكلات حسب “ذي كيتل” و”لويس دينو”، طابعها العام البيداغوجي هو
التوظيف المدرسي والمهني. في ذات الوقت الملكة توصيفها التاريخي يمتد الى التحصيل
الموسوعي والمتخصص نظرا لفردانيتها وخصوصياتها. فلا يمكنك تجميع افراد كثر
لاستنطاق ملكاتهم. وهي في الصميم مغايرة ومتضاربة ومختلفة. لان ذلك سيحتاج منك الى
منهج انطباعي وانتقائي له كلفة انسانية ومادية عسيرة التحقيق.الذين خاضوا في الكشف
عن مستور ولامنطوق التراث في صناعة بيداغوجيا علمية ماضوية هم أحوج الى الوسائل
والادوات الابستمولوجية والواقعية في اعادة نماذج معطلة تتفق والتوجه الروحي
والحضاري وهو تبرير تاريخي لا يخلو من الكيدية الايديولوجية والعذر الاجتماعي
المهيب .لا يمكن صناعة المفاهيم التربوية ببناء إستعاري وفهم وهمي لامتلاك قوة
التأثير في بناء جيل جديد.
لأجيال التربوية اي فلسفة واي غاية’؟؟
تتجه علوم التربية وفنون التدريس او بالأحرى طرائقه اليوم
او ما ينعت بالاسم الدخيل الوافد من الثقافة الاثينية ديداكتيك. اننا نوفر في
الاجيال المنهاجية والطرائق والوسائل دون التفكير في جوهر المضامين والمتون ويبدو
ان الاستلاب والالينة التي نعانيها مع تأثير الحواشي والهوامش بات صفة جبرية لصيقة
بتراثنا. يقول الروائي الشهير تولستوي”اذا وجد المضمون انصاع الشكل”.فالقابليات
المعرفية هي اساس التحديدات المنهجية.في مقال لمحمد الدريج حول “ديداكتيك
المعايير” ان كل الدول تراجع مقوماتها العلمية او تعيد انتاج التنظير المدروس
بتحديث البنية العلمية وما يتفق مع المرحلة ومطالب السوق في بعدها الاقتصادي
والتقني والمهني .كلما صعد صاروخ للصينيين والروس كان الامريكان يعيدون
النظر في فلسفة المعرفة التربوية ويجددون مقارباتهم الابستيمولوجية بطرح سؤالين:
ماذا ندرس ؟ بماذا يجب ان ندرس؟ وسؤال الماذا حاضر في الثقافة الانجلوساكسونية.؟
الفراغ الديداكتيكي الذي اصابنا جعل القوالب البيداغوجية في حركة اهتزاز وعدم
استقرار ما إنجر عنه بلبلة في معارف التلميذ الذي نريد ان نسحق عظامه بتوفير
منهجيات لاتتفق بتاتا مع المضامين.المقاربة اذن لا تبدأ من تحديث الاجيال
السكولائية، بل من ثورة كسموبوليتية على غرار ما قام به كانط في
الثقافة الالمانية بتحديث ما نريد ان نعرفه مع تجديد الية النقل
والتلقي. لأنه في غياب احد الطرفين في المعادلة التربوية نحن نشتري الوهن .لان
اوهن البيوت هو بيت العنكبوت واسميها العنكبوتية التربوية.البيداغوجيون اليوم
يؤكدون ان ديداكتيك الاهداف والجيل الثاني المستنسخ والرديء للمدرسة السلوكية: اي (الكفاءات)
الى انقراض والى متاحف الخشب.بالمقابل نشأة اجيال جديدة من التدريس على غرار
التدريس بالتقويم والتدريس بالمعايير وبالمفاهيم حسب الكتل المعرفية الموجودة نحن
في مناهجنا نجيد جر العربة من الخلف بل قلبها وسحبها لتترك خدوش وجروح في الطريق
ستعاني منها اجيال وأجيال في زمن تحديث الاجيال التربوية.
سؤال مالجدوى ؟؟؟؟
الأجدى ديداكتيكيا، حتى يبلغ الدرس الفلسفي الاول غاياته
السكولائية والمدرسية البحثة، ان يبين معنى الفلسفة /ماهية الفلسفة/ موضوعات
الفلسفة/ تعاريف الفكر الفلسفي واختلافه عن انظمة التفكير الاخرى، اي كيف يختلف عن
الخطاب الديني ؟كيف يختلف عن الخطاب العلمي؟ كيف يختلف عن الخطاب الاسطوري؟ تتخلل
ذلك وضعيات تشكل مسارات تنتهي باسئلة تعطي التلميذ فرصته في التوثيق والتماهي مع
مايفكربه وفيه بصورة رمزية.هذا هو المأمول الذي يدخل في هندسة الدرس
الفلسفي او قل جغرافياه التي غابت عنا محدداته ومعالمه المنطقية.
غربة الدرس الفلسفي…
اعتقد ان الفلسفة لا تصنع كفاءات بالقدر ما تنتج سلوكات وهي
اقرب الى الغائية منها الى الذاتية والتطويع البرغماتي .ويصعب الامر اكثر في هذه
السنوات من الزمن الديداكتيكي الضائع اخضاعها بصورة جبرية لمنهج الكفاءاتي او
تنميطها وفق سيرورة اضطرارية الى مقاربة الكفاءات لان ازمة الدرس الفلسفي باتت
مقلقة عربيا واكثر ازعاجا محليا على مستويات شتى وأصعدة كثيرة منهجيا ومعرفيا
وبيداغوجيا وتنظيميا ايضا.في مقال حري بالقراءة لباحث المغربي محمد مزوز: يرى ان
تدريس المادة شهد عوائق كثير اثرت عميقا في التمشي الحقيقي لبيداغوجيا الدرس
الفلسفي وجعلته اكثر تكلسا من اي وقت اخر وهي عائق اللغة والتبليغ حيث يتفاجأ
المتمدرسون بلون جديد من الخطاب غير المألوف تغلب علبه الصنمية والثبات والتوتر
اللفظي فيتحول مخيال التلميذ من خطاب مألوف في مواد اخرى كالعربية والتاريخ
والعلوم الى لغة غير مألوفة عصية احيانا على الاستيعاب، رغم ان المواضيع التي يتم
تناولها كما يقول الباحث واقعية وموضوعية هي العدالة والقانون والاقتصاد
والاسرة.العائق الاكثر ضبابية وتجدرا هو التطور الحاصل في انتقال التدريس الفلسفي
من بيداغوجيا عتيقة خطابية وتلقينية الى بيداغوجية حركية استجوابية هي الكفاءات
وان كان العمر البيداغوجي لهذه الانماط لا ينتبه الى الصلاحية بالقدر ما ينزع الى
ترابطها واتساقها .فما اعتقده شخصيا ان الكفاءات هي الابنة المدللة لبيداغوجيا
الاهداف والمتمردة عليها ،لكن مع الاسف لم تضف جديدا في الدرس المأزوم ولم تحرك
شيئا اللهم إلا فتح نوافذ ابستيمية جديدة تستدعي نقاشا جادا لانقاد ما يمكن انقاده
بيداغوجيا.لان الخطاب الذي اسسته المناهج الحالية وعمقته اكثر هو التمكين للمزاجية
” الدرس الفلسفي المزاجي “بدل الايديولوجيا التي كانت سائدة في السبعينات
والثمانينات والتي طغى عليها انذاك السجال والتزمت النقابي فكان استاذ الفلسفة
اقرب الى خطيب ومحامي يجيد المرافعات ويتفنن في المحاججة والاستعراض التاريخي
المنتصر” لهيغل” ولتواتر النظريات الفلسفية التاريخة رغم تشعباتها.اليوم اضحى
الدرس سجين مقاربة افقدته مرجعياته وغاياته الطموحة والمركزية والمتمثلة في الاشكلة
والمفهمة والمحاججة.وانتصرت الشوفينية المدرسية التي تقدم الشكل عن المضمون على
المساءلة والنقاش وتحول مدرس الفلسفة الى عراف يتلو تعاويد يكررها
يوميا وسنويا ليتمثلها التلاميذ في امتحاناتهم واصبحت الفلسفة نمطية وجاهزة تخاطب
الذاكرة والحافظة .مما جعل اصواتا تعلو للتمرد الديدياكتيكي دشنها ميشال توزي
بدعواه الخاصة ان “ان تصنع الفلسفة بيداغوجيا خاصة بها.؟؟ لكن السؤال متى يصنع
الدرس الفلسفي بيداغوجيا خاصة به ويتخلص من كآبة الرق والسخرة التي فرضتها نزعات و
مقارباتية فوقية ؟؟؟؟
0 التعليقات:
more_vert