الفلسفة والمجتمع التقليدي

التصنيف



الفلسفة والمجتمع التقليدي

د.عبدالله إبراهيم

دولوز وكتاري

حينما يدور الحديث عن الفلسفة، يلزم التفريق بين مادة الفلسفة، وهي المفاهيم، من جهة، وبين تاريخ نشوء الفكر الفلسفي، وهو الوصف التدريجي لأعمال الفلاسفة وجهودهم وعصورهم واتجاهاتهم، من جهة ثانية. والسائد في ثقافتنا العربية، القديمة والحديثة، هو الاقتصار على معرفة جوانب متفرقة من تاريخ تطور الفكر الفلسفي، وتجنب معرفة المفاهيم الفلسفية. وبغياب فعالية المفاهيم غاب التفكير الفلسفي الحقيقي، ولم يتأسس تراث فكري جدير بإثارة السؤال، ولم يبن بعدُ منهج المساءلة في علاقاتنا وفكرنا وتصوراتنا، حتى أن مبدأ الحق شاحب، لا يعرفه أحد، ويُخشى منه، كأن الحق جناية. وبمرور الوقت نمت تبعية ذهنية، فقد وجدنا أنفسنا في منطقة فراغ فكري تتصادم فيها المقولات والمفاهيم بدون ضوابط، فلا يتم هضمها، ولا تدخل في النسيج العام للتداول الفكري، إلى ذلك فإن تواريخ الفكر الفلسفي ظلت مدرسية، ونمطية، وتلقينية، ولم تعتمد على مناهج حديثة تلم بالظاهرة الفكرية وتقاربها من شتى الجوانب، وجرى عزل بين المفاهيم وسياقاتها الثقافية، وهذا الأمر هو الذي جعل الفكر العربي كالعباءة المملوءة بالهواء.
   من الصعب القول بوجود قصدية مسبقة لتثبيت المسار الأعرج لقضية الفلسفة في ثقافتنا، وليس من المفيد الطعن في جهود المشتغلين بالفلسفة وتاريخها، لأنهم جزء من مجتمع تقليدي لا يقر بأهمية التغيرات الكبرى في حياته، ويتمسك بمسلمات لاهوتية متخيلة، ويحوم في دوائر مغلقة تؤمن له أسباب اليقين والحق، ولم يزل دون الرغبة العقلية في إثارة السؤال والشك بالمسلمات المهيمنة، وهو-كما أشرنا في أكثر من مناسبة- محكوم بنسق متماثل من القيم شبه الثابتة أو الثابتة، و يستند في تصوراته عن نفسه وعن غيره من المجتمعات إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، تتحكّم بها روابط عشائرية أو مذهبية، وهذا المجتمع لم يفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسه وعن الآخر، فلجأ إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي يفسّره باعتباره تمسكا بالأصالة، وهو مجتمع أبوي- ذكوري  يتصاعد فيه دور الأب الرمزي من الأسرة، وينتهي بالأمة، ولم تتحقق فيه الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات، ويخشى التغيير في بنيته الاجتماعية، ويعتبره مهددا لقيمه الخاصة؛ فالحذر قائم تجاه كل تحديث فكري، وهو مجتمع تأثيمي مشغول بلوم أفراده وثأثيمهم وتقريعهم، حينما يقدِّمون أفكارا جديدة، ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم، وهو مجتمع  معتصم بهوية ثقافية قارّة لا تعرف التحوّل، ولا تقرّ به، ولا تعرف معناه، وقد لاذ بتفسير ضيق ومغلق للنصوص الدينية، وصار مع الزمن خاضعا لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعه للقيم الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينيةالأصلية.
    وبالإجمال هو مجتمع لم يتمكن بعدُ من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفاسير والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة أخرى، فتوهم بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه، فأضفى قدسيّة عليها، وصار يفكر بها ويتصرّف في ضوئها، وهي تفاسير وتأويلات تختلف باختلاف المذاهب والطوائف اوالأعراق والبلدان والثقافات والأزمان، وأنتج تصورات ضيقة عن مفهوم الحرية والمشاركة، فاعتبرهما ممارستين ينبغي عليهما أن تمتثلا لشروط النسق الثقافي السائد، وأن تتمّا في ولاء كامل لشروط البنية الثقافية التقليدية، فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة والتغيير، إنما هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكل خروج على مبدأ الطاعة والامتثال للنسق الثقافي السائد، مهما كان هدفه، فيعدّ مروقا وضلالا، لا يهدف إلى الاصطلاح إنما التدمير؛ لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهميتها وجدواها مشتقة من تصوّرات مغلقة على الذات، ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير ضيق  للماضي.
      هذا- فيما نرى- هو السياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي يحول دون ظهور التفكير الفلسفي بصورته الحقيقية، فلا قيمة لمفهوم فلسفي في مجتمع راكد حسم علاقته بالفكر، وقطع الصلة بينه وبين مسؤولية التفكير، ولهذا تتزايد الخلاصات المدرسية التعليمية لتاريخ الفلسفة في الجامعات والمكتبات، ولكن أثر المفاهيم الفلسفية يكاد يكون غائبا عن نظام التفكير العام، حتى أن التحولات الكبرى في مصائر المتفلسفين العرب تكشف حالة من اليأس بإزاء مجتمع يبدي صدودا كبيرا عن الانخراط في أية ممارسة تهدف إلى التفكير، فيما يتكالب بالملايين على الوعاظ والدعاة الذين يقدمون له وصفات جاهزة، ومعدّة بمزيج من الوعود والمسلّمات الأفيونية التي تعارض جوهر القيم الدينية الكبرى كالعدالة والحق والصدق والعمل والواجب والمشاركة، فيتوهم بأنه خطا نحو الحقيقة واليقين بوساطتهم، ويعود ذلك إلى أن مجتمعاتنا مازالت رهينة حالة التباس معقدة، وقد وقعت في المنطقة السرابية التي تضخم الوعود، وتنفخ في المطلقات، ولا تلتفت لأي صوت يدعو لإعمال الفكر.
      التفكير الفلسفي لم تتوفر له بعد الشروط والسياقات ليأخذ معناه وقيمته، وليؤدي وظيفته. يخفق الفكر والعاملون في مجالاته حينما يطفون عائمين في سياق ضبابي من الرفض والعداء العام الموجّه ضد زحزحة المسلّمات الكبرى، فتضيع الجهود مهما كانت قيمتها لأنها لا تنخرط في فعالية التغيير المطلوبة. وفي مجتمع صادرته النخب الدينية والسياسية والعسكرية والعشائرية والطائفية ذات الميول التقليدية والمحافظة والطامحة إلى الهيمنة المطلقة على مقدراته، والحيلولة دون انفراط عقد الطاعة العمياء له، لا يمكن السماح بفكر الاختلاف، ولا طرح سؤال الحق، ولا إشاعة مفهوم الشراكة، وبما أن الفلسفة تعتمد على سلطة العقل والتفكير بدلالتها المنفتحة والحرة، فليس لها وجود في فضاء جرى تأميمه لصالح تلك النخب، ودمّرت كل المقومات التي يمكن أن تكون ركائز للفكر الفلسفي الحقيقي.
      من أجل أن تتضح هذه المقاصد، أجد من الطريف أن أعرّج باختصار إلى عرض تصوّر للفلسفة والعلم والفن يعدّ من آخر ما توصلت إليه الفلسفة الغربية في نهاية القرن العشرين، ليس بهدف تقديم ذلك التصور بذاته، إنما من أجل أن نتبين فيما إذا كانت مجتمعاتنا تهتم بهذا التصور وأمثاله، أم أنه يعتبر، بالنسبة لها، ترفا ثقافيا محضا، لا صلة له بالاحتقانات والتوترات الاجتماعية الخاصة بمجتمعاتنا، يقوم به مثقفون يتفلسفون عابثين فحسب. فقد شغل "جيل دولوز"و"فليكس غتّاري" بتقديم تصوّر شامل للأشكال الثلاثة الكبرى للفهم الإنساني، وهي: الفلسفة، والعلم، والفن. الشكل الأول: إنما هو تفكير بالمفاهيم، والثاني: تفكير بالوظائف، والأخير: تفكير بالأحاسيس، وبذلك تظهر ثلاثة أنواع من التفكير، تتقاطع وتتشابك، ولكن بدون تركيب ولا تماثل متماهٍ فيما بينها؛ فالفلسفة تحقّق انبثاق أحداث مرفقة بمفاهيمها، والفن يقيم نُصباً مرفقة باحساساتها، والعلم يبني حالات للأشياء مرفقة بوظائفها، فيمكن إنشاء نسيج غنيّ من الترابطات بين المسطّحات المذكورة، ولكن لشبكة المسطّحات الثلاثة هذه نقاطها الذروية، حيث يصبح الإحساس نفسه مفهوما أو وظيفة، ويصبح المفهوم وظيفة أو إحساسا، والوظيفة إحساسا أو مفهوما، لا يظهر كل عنصر دون أن يتمكّن الآخر من القدرة أيضاً على الحضور، وهو لا يزال بعد غير محدود وغير معروف. كل عنصر مبدع على مسطح يستدعي عناصر أخرى متنافرة يجب إبداعها على المسطّحات الأخرى، ذلك هو الفكر باعتباره تكويناً لا تماثلياً.
    ولكن كيف تتجلّى الفروقات بين هذه الأشكال الكبرى المتقاطعة والمتشابكة والمتوازية في آن دون أن تتداخل في تركيب واحد ؟ إنَّها تتجلّى بنوع علاقتها بالسديم، فالفلسفة تريد إنقاذ اللامتناهي بإعطائه تكثيفاً؛ فهي ترسم مسطّح محايثة، يحمل إلى اللامتناهي أحداثا أو مفاهيم تكثيفية بفعل شخصيات مفهومية. أما العلم فعلى العكس من ذلك، إنَّه يتخلى عن اللامتناهي ليفوز بالمرجع، فهو يرسم مسطّحاً من الإحداثيّات لكنها غير محدّدة، هذا المسطّح يحدّد كلّ مرّة حالات معيّنة للأشياء، وظائف أو قضايا مرجعية، تحت تأثير ملاحظين فرديين. أما الفن فيريد خلق متناه يعيد إعطاء اللامتناهي، وذلك برسم مسطّح تركيب، يحمل بدوره نُصباً أو احساسات مركّبة، بفعل صور جمالية.
   يلاحظ أنَّ "دولوز" و "غتّاري" يشدّدان على الإحساس بجوانبه الانفعالية والإدراكية كلّما دار الحديث عن الفن، ومنه الأدب، ولهذا فالسرد التخيّلي الإبداعي بالنسبة لهما إنما يتشكّل من جملة الأحاسيس التي يثيرها المرجع في نفس المبدع، فهو لا ينقل خبراً ولا ذكرى، إنما تأثيراتهما فيه، فالمبدع هو مُبرز المؤثرات الانفعالية ومخترعها ومبدعها، وذلك بإدراجها في علاقة مع المؤثرات الإدراكية، وهو يشرك المتلقّي فيها، فيصير جزءاً من تركيبها. ففي الرواية ليس المهم آراء الشخصيات وفق نماذجها الاجتماعية وأنماطها، إنما المهم هو ما يصطلح عليه بـ"علاقات الطباق الاختلافي" التي تدخل فيها الآراء، ومركّبات الأحاسيس التي تعانيها هذه الشخصيات نفسها أو تدفع للشعور بها، في صيروراتها وفي رؤاها، فـ" الطباق الاختلافي" لا يستخدم لتقريب المحادثات، الحقيقية أو الوهمية،  وإنما لإبراز الجنون في كل محادثة، في كل حوار،حتى  ولو كا.
     هذا التصور الذي يؤسس لفلسفة الاختلاف كخيار لمستقبل الفكر الإنساني لا مكان له في مجتمعات عُلّمت لتجعل خليان دامن الاختلاف سبّة وخطأ، فغياب الأرضية الثقافية والعلمية والسياسية يجعل من هذا التصور بلا معنى في مجتمعاتنا، في حين أن هذا التصور نفسه في مجتمعات توفرت لها البنية الثقافية المتنوعة يعد كشفا تتضافر فيه الأشكال الكبرى للفكر الإنساني المجرد والتجريبي والرمزي.

شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: