من
الميتوس إلى اللوغوس (عناصر من أجل
الاستئناس بالنسبة للمدرسين والمدرسات المبتدئين)
مختلف
عوامل نشأة التفكير الفلسفي لدى اليونانيين .
لكي نعرف ما هي الفلسفة ينبغي أن نفحص ظروف ظهورها، ونتابع الحركة
التاريخية التي تكونت بفضلها عندما طرحت في أفق الحضارة اليونانية مسائل جديدة
وأقامت الأدوات الذهنية الكفيلة لحل تلك المـــسائل، فـفـتحت بذلك مجالا
للتفــكــير، ورسمت فضاء معرفيا لم يكن ليوجــد فيما قـبل حيث أقامت هي نفــــسها،
كي تتقصى أبعاده... هناك علاقة وثيقة بين نــظام المدينة- الدولة السياسي وبين الأفق
الفكري ليونان القرن السادس ق.م ...فكما هو الحال بالنسبة للحكم في المدينة حيث
يكون عاما مشتركا، فكذلك الثقافة لا تكون امتـــيازا لبعض العائلات أو- كما في
الصين- امتيازا لفـئة من المتعلــمــين. بالطـــبع لقد ساعد على هذه الدمقرطة انتشار
الكتابة الأبجدية التي أصبحت تتيح لعامة الناس تعلم القراءة. إن عمومية الثــقــافـــة
هذه الموازية
لعمومية السلطة السياسية ، كانت لها مضاعفات على تطور الأفكار. إن المــعارف
والتقنيات الذهنـــيــة التي كانت سرية، كامتياز لبعض العائلات أصبحت من الآن
فصاعدا معروضة في واضحة النهار في الــساحـــة العمومية( Agora).إن قواعد اللعبة السياسية : الدعاية، النقاش الحر، المناظرة
بالحجج، ستصبح هي نفسها قواعد اللـــعـبة الفكرية. إن الحقـيقة لم تعد من ميدان الكشف الخفي. وسيتم
نشر المذاهب وإخضاعها للنقد والمناقشة، وإعطاؤها صورة الاستــدلال الــــبرهاني.
جان بيير
فرنان." الأسطورة والمجتمع في اليونان القديمة." ص 96.94.
من الأفيد لفت انتباه التلاميذ إلى أن التفكير الفلسفي لم يولد من
الفراغ ولم يكن نتيجة الصدفة أو عبقرية اختصّ بها فئة من اليونانيين الأحرار
في مجتمع عبودي، بل سبق الفكر الفلسفي فكر آخر كان في الحقيقة تجسيدا للرؤية
القبلية للإنسان وللوجود، من مُنطلق أن الفكر متساوق مع درجة تطور المجتمع. من هذا
الافتراض يُمكن الحديث عن ماقبل الفلسفة حيث كان الشعب اليوناني عبارة عن قبائل
متعددة، بحيث ان لكل قبيلة نظامها وتقاليدها الخاصة بها. المعروف أنه في النظام
القبلي يكون التفكير جماعيا وإن كان زعيم القبيلة في غالب الأحيان يحتكر كلّ
السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية... ما يهمّنا من هذه الوضعية هو معرفة
الفكر السائد في المجتمع القبلي السابق على نظام المدينة/ الدولة في بدايات نشأتها
،على اعتبار أن الإنسان في جميع محطّات حياته يحتاج إلى فهم ذاته وتفسير ظواهر
العالم الذي يعيش فيه وِفق درجة تطوره الاجتماعي والاقتصادي.(نحن هنا بصدد تحقيق
كفاية ثقافية تتمثل في إدراك طبيعة علاقة الفكر بالواقع سواء ما قبل الفلسفة أو
لحظة ولادة التفكير الفلسفي كما سنرى لحظة الاشتغال على نص جان بيير فرنان.وفي نفس
الوقت نحن بصدد تحقيق كفاية منهجية تتعلق بالمقارنة بين شروط إنتاج الحياة في
المجتمع القبلي وفي مجتمع سيعرف لأول مرّة نظام المدينة/ الدولة.ونكون بهذا المنحى
نبتعد عن تبخيس ميلاد الفلسفة كما تقدّمه الكتب المدرسية تحت ذريعة التبسيط !!!
وأخيرا كفاية استراتيجية وهي الأهم وتتمثل في احترام ثقافة الشعوب وعدم تبخيس نمط
حياتها وطريقة تفكيرها ، إذ الرهان هو فهم الشروط الموضوعية لكل أشكال الوعي
الإنساني دون السقوط في المُفاضلة كما سنرى مع التمثل الشائع حول الأسطورة...)
إذن ما قبل الفلسفة هو ما يُطلق عليه - الميتوس أي عصر الأسطورة، وهي طريقة في التفكير تتناسب مع طبيعة المجتمع القبلي الذي سعى إلى فهم ذاته والعالم من خلال حياكة قصص خيالية عن طريقها يفهم الناس واقعهم ولكن بطريقة تبدو لنل اليوم " وهمية أو شبه خرافية" ولكن بالنسبة لمُعتنقيها هي فكر حقيقي يؤصّل وجودهم ويضمن له الاستمرار، إذ بدون التفسير الأسطوري لن يستطيع الناس آنذاك الاستمرار في الوجود.لهذا غالبا ما يتم تفسير الأسطورة كونها موقف معرفي من الذات والعالم ولكنّه مُكيّف في الوهم نتيجة الإيمان بالخوارق في تسيير حياة الناس وفهم أشياء العالم والطبيعة. وهذا النوع من التفكير إنتاج جماعي وليس فرديا، ويتطلّب الايمان به لأنه لا وجود لنقيضه أنذاك بحجة مِصداقيته عند مُعتنقيه.بقول جان بابان :" في مرحلة الأسطورة لا يقع البرهان على أيّ شيء لآنه ليس هناك مناقشة لآي شيئ، كما لا يوجد رأي مُناقض ولا حتى مخالف."
من هذا المنطلق-كون الأسطورة فكر جماعي- يترتّب عنه قبول الأفراد به، وبما تأمر به الجماعة من خلال كُهّانها ..وهذا ما تُجسّده الملاحم اليونانية.وكي يفهم التلميذ حقيقة الأسطورة من الأفيد إطلاعه على نماذج منها .
مثال: كانت بعض القبائل تمنع النساء العاقرات (اللواتي لم ينجبن أطفالا) من بذر الأرض قبل حرثها مخافة أن تُصبح الأرض ذاتها عاقرا.هذا تفسير معقول بالنسبة لمعتنقيه، ولكن بالنسبية لنا حاليا هو تفسير ينبني على الوهم وليس على التفسير السببي بين المرأة العاقر والأرض غير المنتجة.
إن الأسطورة وليدة الحاجة وتُستمد من النظام الاجتماعي السائد.والذي حصل في بلاد اليونان قبل الفلسفة أن القبائل اليونانية ستتحد، ليتكوّن الفكر الميتولوجي اليوناني. ودون الدخول في تفاصيل مضمون الفكر الميتولوجي الذي اعتبر الكون في البداية " كاووس"...انتهاء إلى عالم التنظيم من خلال ميلاد " زوس" الذي سيحكم العالم كله، وكيف أن اليونانيين تصورا تمرحل الكون بناء على واقعهم الاجتماعي من خلال أن الحاكمين هم آخر ما يظهر في السلم الاجتماعي وكذلك " زوس"
السؤال : مالذي استجدّ وساهم في ميلاد تفكير آخر غير التفكير الأسطوري وما مدة تمرحله بالنسبة لمثله لدى الناس؟ وكيف تجرّأت فئة من اليونانيين على مناقشة هذا الفكر الاسطوري الجماعي الذي كان يرقى إلى مستوى القداسة؟
يُجيبنا نص جان بيير فرنان ( في النص أعلاه) من خلال بعض المؤشرات، وتتمثل في ظهور مسائل جديدة لدى اليونانيين الأمر الذي استدعي طريقة مغايرة لفهم الذات والعالم بشكل متساوق مع المُستجدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل استطاع اليونانيون أن يحددوا الأدوات الذهنية لفهم المستجدات.هذه الأخيرة ستفتح بالطبع أفقا جديدا للتفكير، سيسمح بتغيير المنظور للذات وللعالم .االسؤال ما هي هذه المستجدات التي كانت بطريق مباشرة وغير مباشر سببا في ميلاد الفكر الفلسفي؟
1- أول هذه العوامل هي نشأة المدينة/ الدولة كنظام سياسي بديل للنظام القبلي أو نظام إستبدادي...السؤال:ما هي تجليات المدينة/الدولة مقارنة مع مختلف الأنظمة التي سبقتها حتى ولو أخذت شكل دولة (نتحدث عن الحكم الأرسقراطي قبل الحكم الديمقراطي)
أول تجلي أن المدينة/ الدولة "أثينا مثلا " هي من حيث البنية عبارة عن مؤسسات تقتضي القيام بمجموعة وظائف، نقصد تدبير الشأن العام، الأمر الذي يقتضي تسيير هذه المؤسسات بشكل تشاركي ، وبالنتيجة لابد من التنافس حول المناصب والتي كانت الرحم الأول لظهور أو تجربة سياسية في اليونان تمخّض عنا تجربة جنينية للأحزاب السياسية... والمطلوب منها تقديم برامج للفوز بتدبير مؤسسات المدينة/الدولة...وهذا يتطلب قواعد محددة تتمثل باختصار في:
- تقديم برنامج.
- الدعاية له من أجل الاقتناع به.
- وهذا يتطلب المناظرة بالحجج. (وكان للحجاج ، والذي تطور مع النقاشات السياسية ،دور أساسي في تطور الفكر والقطع مع التفكير الأسطوري المرتكز على الإيمان )
- النقاش الحر مادامت أمكانية التدبير السياسي أصبح عاما مشتركا (بخلاف الحكم عند الفراعنة الذي كان حكرا على سلالات معروفة وبدعم من الكهّان، نفس الأمر عند الصينيين والكنعانيين والاشوريين....)
يتقابل مع هذا الوضع:
- المُساءلة.
- المناقشة.
- النقد.
- حق الطعن.(ويتم هذا علانية في ساحة عمومية)
هذه هي قواعد اللعبة السياسية التي كانت تُمارس علانية في الساحة العموميةAGORA .وهذه العمومية السياسية رافقها تعميم الثقافة بسبب حرية النقاش المفتوحة في الساحة العمومية، إذ لم تعد الثقافة امتيازا لبعض العائلات كما في الصين وغيرها.بالمحصّلة نحن أمام مناخ" ديمقراطي مفتوح"(خاص بالمواطن اليونان دون فئة العبيد،وهذا إشكال يمكن مناقشته مع المتعلمين للمشف عن المفا قة بين مجتمع عبودي والديمقراطسة...) إذ لكل من يملك القدرة على الخطاب ممن يملك صفة المواطنة التعبير عن رأيه فيما تطرحه مختلف الفرق المتجادلة حول طبيعة نظام المدينة،في الساحة العمومية، وهذا الدور أتقنه بجدارة حركة السوفسطائيّين الآوائل ليس فقط بدافع التعليم بهدف إتقان فن القول الذي تحتاجه المحاكم وضرورة المناظرات بل أيضا بدافع كون السوقسطائية تحمل تصورا فلسفيا جنينيا لما هو الانسان ودوره في الوجود
.إذن باختصار شديد، من قواعد اللعبة السياسية سيولد التفكير الفلسفي في بداياته، أي لمّا انتقلت قواعد السياسة إلى قواعد الفكر، وسيتم إخضاع كل الظواهر للمساءلة والتعليل والنقد، (كانت بداية منصبه على ظواهر الكون مع ما يطلق عليهم فلاسفة الطبيعة،،،طاليس وأنكسمامس...(طاليس الذي نسب إليه أرسطو قوله :" إن النبات والحيوان يغتذيان بالرطوبة، ومبدأ الرطوبة الماء، فما منه يغتذي الشيء فهو يتكوّن منه بالضرورة.." (يوسف كرم. الفلسفة اليونانية. ط.5.ص 13) وهذا خطاب جديد مقارنة من الخطاب الأسطوري وهو ما اعتبره نيتشه بداية التأسيس الجنيني للتفكير الفلسفي من خلال مبدأ تجريدي " الكل واحد،إجابة على السؤال ما أصل الكون؟ أصله ماء......ثم حركة السوفسطاية الاولى،،،إلى حدود التأسيس الفعلي مع سقراط...) الأمر الذي ساعد على انتشار الكتابة التي سهّلت عملية التواصل وحفظ مضامين التفكير الجديد من الضياع كشكل من التوثيق...أيضا من العوامل المساعدة على نشأة التفكير الفلسفي إضافة إلى قواعد اللعبة السياسية والكتابة، التجارة التي شجّعت على عملية التجريد (بخلاف المُقايضة في الأنظمة القبلية)فبضل التجارة تكوّن فكر منطقي عقلي تجريدي يبحث عن الأسباب الحقيقة لوجود الظواهر...إضافة إلى الاستفادة من ثقافة الشعوب الأخرى والتي أضفى عليها اليونانيون الطابع العقلي، وهذا ما ميّز اليونان عن غيرهم.
بالمحصلة عوامل نشأة الفلسفة كالتالي:المدينة(بأفق تجربتها السياسية ) ، الكتابة، التجارة، الاستفادة من ثقافة الشعوب الأخرى.قد نعتبر الموقع الجغرافي لليونان أيضا سمح لهم بالتجارة عن طريق البحر ومن ثمة التعرف على ثقافة الآخر.)
قد يعترض المتعلمون على خصوصية هذه العوامل بدليل وجود الكتابة والتجارة والتفاعل مع الاخر لدي الحضارات السابقة على اليونانيين.بالفعل كانت هناك تجارة ولكنها كانت تدار من قبل الاسر الحاكمة والكهان وهي تخدم حصريا القصر والمعبد حصريا .نفس الشيء بالنسبة للكتاية،كانت مخصصة لتدوين حكم السلالات والتعاليم الدينية وليس بهدف ثقافي تعميمي.وهذا الوضع كان يمنع عموم الناس من المشاركة في التدبير العمومي .مما يعني الغياب التام للسؤال والمساءلة والنقد كما حصل لدى اليونانيين بحيث ساعدتهم التجربة السياسية في المناظرة والحجاح والتقويض والنقد وتحكيم العقل .في السابق كانت الامور تدار داخل معابد وقصور السلالات الحاكمة بمعزل عن بقية الشعب، لكن مع اليونانيين أصبحت ملكا عموميا بين المواطنين اليونانيين.
إذن ما قبل الفلسفة هو ما يُطلق عليه - الميتوس أي عصر الأسطورة، وهي طريقة في التفكير تتناسب مع طبيعة المجتمع القبلي الذي سعى إلى فهم ذاته والعالم من خلال حياكة قصص خيالية عن طريقها يفهم الناس واقعهم ولكن بطريقة تبدو لنل اليوم " وهمية أو شبه خرافية" ولكن بالنسبة لمُعتنقيها هي فكر حقيقي يؤصّل وجودهم ويضمن له الاستمرار، إذ بدون التفسير الأسطوري لن يستطيع الناس آنذاك الاستمرار في الوجود.لهذا غالبا ما يتم تفسير الأسطورة كونها موقف معرفي من الذات والعالم ولكنّه مُكيّف في الوهم نتيجة الإيمان بالخوارق في تسيير حياة الناس وفهم أشياء العالم والطبيعة. وهذا النوع من التفكير إنتاج جماعي وليس فرديا، ويتطلّب الايمان به لأنه لا وجود لنقيضه أنذاك بحجة مِصداقيته عند مُعتنقيه.بقول جان بابان :" في مرحلة الأسطورة لا يقع البرهان على أيّ شيء لآنه ليس هناك مناقشة لآي شيئ، كما لا يوجد رأي مُناقض ولا حتى مخالف."
من هذا المنطلق-كون الأسطورة فكر جماعي- يترتّب عنه قبول الأفراد به، وبما تأمر به الجماعة من خلال كُهّانها ..وهذا ما تُجسّده الملاحم اليونانية.وكي يفهم التلميذ حقيقة الأسطورة من الأفيد إطلاعه على نماذج منها .
مثال: كانت بعض القبائل تمنع النساء العاقرات (اللواتي لم ينجبن أطفالا) من بذر الأرض قبل حرثها مخافة أن تُصبح الأرض ذاتها عاقرا.هذا تفسير معقول بالنسبة لمعتنقيه، ولكن بالنسبية لنا حاليا هو تفسير ينبني على الوهم وليس على التفسير السببي بين المرأة العاقر والأرض غير المنتجة.
إن الأسطورة وليدة الحاجة وتُستمد من النظام الاجتماعي السائد.والذي حصل في بلاد اليونان قبل الفلسفة أن القبائل اليونانية ستتحد، ليتكوّن الفكر الميتولوجي اليوناني. ودون الدخول في تفاصيل مضمون الفكر الميتولوجي الذي اعتبر الكون في البداية " كاووس"...انتهاء إلى عالم التنظيم من خلال ميلاد " زوس" الذي سيحكم العالم كله، وكيف أن اليونانيين تصورا تمرحل الكون بناء على واقعهم الاجتماعي من خلال أن الحاكمين هم آخر ما يظهر في السلم الاجتماعي وكذلك " زوس"
السؤال : مالذي استجدّ وساهم في ميلاد تفكير آخر غير التفكير الأسطوري وما مدة تمرحله بالنسبة لمثله لدى الناس؟ وكيف تجرّأت فئة من اليونانيين على مناقشة هذا الفكر الاسطوري الجماعي الذي كان يرقى إلى مستوى القداسة؟
يُجيبنا نص جان بيير فرنان ( في النص أعلاه) من خلال بعض المؤشرات، وتتمثل في ظهور مسائل جديدة لدى اليونانيين الأمر الذي استدعي طريقة مغايرة لفهم الذات والعالم بشكل متساوق مع المُستجدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل استطاع اليونانيون أن يحددوا الأدوات الذهنية لفهم المستجدات.هذه الأخيرة ستفتح بالطبع أفقا جديدا للتفكير، سيسمح بتغيير المنظور للذات وللعالم .االسؤال ما هي هذه المستجدات التي كانت بطريق مباشرة وغير مباشر سببا في ميلاد الفكر الفلسفي؟
1- أول هذه العوامل هي نشأة المدينة/ الدولة كنظام سياسي بديل للنظام القبلي أو نظام إستبدادي...السؤال:ما هي تجليات المدينة/الدولة مقارنة مع مختلف الأنظمة التي سبقتها حتى ولو أخذت شكل دولة (نتحدث عن الحكم الأرسقراطي قبل الحكم الديمقراطي)
أول تجلي أن المدينة/ الدولة "أثينا مثلا " هي من حيث البنية عبارة عن مؤسسات تقتضي القيام بمجموعة وظائف، نقصد تدبير الشأن العام، الأمر الذي يقتضي تسيير هذه المؤسسات بشكل تشاركي ، وبالنتيجة لابد من التنافس حول المناصب والتي كانت الرحم الأول لظهور أو تجربة سياسية في اليونان تمخّض عنا تجربة جنينية للأحزاب السياسية... والمطلوب منها تقديم برامج للفوز بتدبير مؤسسات المدينة/الدولة...وهذا يتطلب قواعد محددة تتمثل باختصار في:
- تقديم برنامج.
- الدعاية له من أجل الاقتناع به.
- وهذا يتطلب المناظرة بالحجج. (وكان للحجاج ، والذي تطور مع النقاشات السياسية ،دور أساسي في تطور الفكر والقطع مع التفكير الأسطوري المرتكز على الإيمان )
- النقاش الحر مادامت أمكانية التدبير السياسي أصبح عاما مشتركا (بخلاف الحكم عند الفراعنة الذي كان حكرا على سلالات معروفة وبدعم من الكهّان، نفس الأمر عند الصينيين والكنعانيين والاشوريين....)
يتقابل مع هذا الوضع:
- المُساءلة.
- المناقشة.
- النقد.
- حق الطعن.(ويتم هذا علانية في ساحة عمومية)
هذه هي قواعد اللعبة السياسية التي كانت تُمارس علانية في الساحة العموميةAGORA .وهذه العمومية السياسية رافقها تعميم الثقافة بسبب حرية النقاش المفتوحة في الساحة العمومية، إذ لم تعد الثقافة امتيازا لبعض العائلات كما في الصين وغيرها.بالمحصّلة نحن أمام مناخ" ديمقراطي مفتوح"(خاص بالمواطن اليونان دون فئة العبيد،وهذا إشكال يمكن مناقشته مع المتعلمين للمشف عن المفا قة بين مجتمع عبودي والديمقراطسة...) إذ لكل من يملك القدرة على الخطاب ممن يملك صفة المواطنة التعبير عن رأيه فيما تطرحه مختلف الفرق المتجادلة حول طبيعة نظام المدينة،في الساحة العمومية، وهذا الدور أتقنه بجدارة حركة السوفسطائيّين الآوائل ليس فقط بدافع التعليم بهدف إتقان فن القول الذي تحتاجه المحاكم وضرورة المناظرات بل أيضا بدافع كون السوقسطائية تحمل تصورا فلسفيا جنينيا لما هو الانسان ودوره في الوجود
.إذن باختصار شديد، من قواعد اللعبة السياسية سيولد التفكير الفلسفي في بداياته، أي لمّا انتقلت قواعد السياسة إلى قواعد الفكر، وسيتم إخضاع كل الظواهر للمساءلة والتعليل والنقد، (كانت بداية منصبه على ظواهر الكون مع ما يطلق عليهم فلاسفة الطبيعة،،،طاليس وأنكسمامس...(طاليس الذي نسب إليه أرسطو قوله :" إن النبات والحيوان يغتذيان بالرطوبة، ومبدأ الرطوبة الماء، فما منه يغتذي الشيء فهو يتكوّن منه بالضرورة.." (يوسف كرم. الفلسفة اليونانية. ط.5.ص 13) وهذا خطاب جديد مقارنة من الخطاب الأسطوري وهو ما اعتبره نيتشه بداية التأسيس الجنيني للتفكير الفلسفي من خلال مبدأ تجريدي " الكل واحد،إجابة على السؤال ما أصل الكون؟ أصله ماء......ثم حركة السوفسطاية الاولى،،،إلى حدود التأسيس الفعلي مع سقراط...) الأمر الذي ساعد على انتشار الكتابة التي سهّلت عملية التواصل وحفظ مضامين التفكير الجديد من الضياع كشكل من التوثيق...أيضا من العوامل المساعدة على نشأة التفكير الفلسفي إضافة إلى قواعد اللعبة السياسية والكتابة، التجارة التي شجّعت على عملية التجريد (بخلاف المُقايضة في الأنظمة القبلية)فبضل التجارة تكوّن فكر منطقي عقلي تجريدي يبحث عن الأسباب الحقيقة لوجود الظواهر...إضافة إلى الاستفادة من ثقافة الشعوب الأخرى والتي أضفى عليها اليونانيون الطابع العقلي، وهذا ما ميّز اليونان عن غيرهم.
بالمحصلة عوامل نشأة الفلسفة كالتالي:المدينة(بأفق تجربتها السياسية ) ، الكتابة، التجارة، الاستفادة من ثقافة الشعوب الأخرى.قد نعتبر الموقع الجغرافي لليونان أيضا سمح لهم بالتجارة عن طريق البحر ومن ثمة التعرف على ثقافة الآخر.)
قد يعترض المتعلمون على خصوصية هذه العوامل بدليل وجود الكتابة والتجارة والتفاعل مع الاخر لدي الحضارات السابقة على اليونانيين.بالفعل كانت هناك تجارة ولكنها كانت تدار من قبل الاسر الحاكمة والكهان وهي تخدم حصريا القصر والمعبد حصريا .نفس الشيء بالنسبة للكتاية،كانت مخصصة لتدوين حكم السلالات والتعاليم الدينية وليس بهدف ثقافي تعميمي.وهذا الوضع كان يمنع عموم الناس من المشاركة في التدبير العمومي .مما يعني الغياب التام للسؤال والمساءلة والنقد كما حصل لدى اليونانيين بحيث ساعدتهم التجربة السياسية في المناظرة والحجاح والتقويض والنقد وتحكيم العقل .في السابق كانت الامور تدار داخل معابد وقصور السلالات الحاكمة بمعزل عن بقية الشعب، لكن مع اليونانيين أصبحت ملكا عموميا بين المواطنين اليونانيين.
وهناك من سيعترض على هذه
المقاربة التاريخية في تناول نشأة التفكير الفلسفي من خلال مواجهة المتعلمين مباشرة بنصوص
التفكير الفلسفي من دون الإطلاع على عوامل النشأة.لكن لهذه المقاربة بعض السابيات
وأهمها إغفال أن للفكر عبر التاريخ عوامل موضوعية وذاتية تساعده على
الإنوجاد والتطور ، والفصل بين الفكر وحركية المجتمع والتمرحل التاريخي فيه تجاهل
للشرائط الاجتماعية والتاريخية للفكر، علما أن البرنامج الدراسي في أحد قضاياه
يطرح إشكال تمرحل التفكير الفلسفي بين الثابت والمتحول من خلال قضية " لحظات أساسية
في تطور الفلسفة"بمعنى كيف تفاعل التفكير الفلسفي مع مستجدات كل مجال معرفي ،وهذا التمرحل يطرح إشكال مدى التقدم في الفلسفة ،دون أن ننسى قضية " تاريخ الفلسفة" نفسه،علما
أن تاريخ الفلسفة هو الفلسفة ذاتها كما يقول هيدجر ، إضافة إلى أن الاضاءة التاريخية للنصوص ومسارات الفيلسوف أصبحتا من الطرق المساعدة على التفلسف،وهناك نصوص فلسفية تمتح من الصراعات والنزاعات بين الفلاسفة ( سقراط مع السوفسطائيين، شوبنهاور مع هيجل،سارتر مع فوكو..)
سبق لي نشر مقال حول التفلسف من خلال نشأة الفلسفة وأعيد نشره:
....... نموذج للتفلسف من خلال بعض قضايا مجزوءة الفلسفة. النشأة.
سبق لي نشر مقال حول التفلسف من خلال نشأة الفلسفة وأعيد نشره:
تاريخ الفلسفة" نفسه،علما
أن تاريخ الفلسفة هو الفلسفة ذاتها.
....... نموذج للتفلسف من خلال بعض قضايا مجزوءة الفلسفة. النشأة.
1- ما القيمة الفلسفية / التفلسفية من دراسة
" نشأة الفلسفة"من خلال إطار
النشأة وفعلها؟
2- ماذا
سيتفيد المتعلم فلسفيا من علاقة الفكر بالمكان وبشروطه الاجتماعية والسياسية؟ هل
سيسائل واقعه من منطلق إشكال نشأة الفلسفة؟
3- ما
القيمة الفلسفية من كون الفلسفة لم تظهر، بحسب المعطيات الحالية، إلا عند
اليونانيين؟ ولماذا لم تظهر لدى الشعوب السابقة على اليونانيين بالرغم من أن
التاريخ يشهد أنها كانت حضارات راقية في الهندسة والحساب والفلك....؟ هل يتعلق
الامر بمحددات وشروط قد تحضر في مجال وتغيب في آخر؟ هل المتعلم على وعي بالعلاقات
السببية بين الفكر والواقع؟
هل لكل مجال معرفي
أسباب وجوده ولا يمكن أن يعطي أكثر بما تسمح به مقومات كل مجال في المكان
والزمان؟هل بالفعل هناك فرق بين المتعلم مديني وآخر قروي وهل للظروف المكانية
والحياتية والاجتماعية عم ما دور في هذا الاختلاف؟
4- ما
القيمة الفلسفية بالنسبة للتلميذ حين يقف على أن
عوامل سياسية ( المناظرة،الدعاية، الحجاج،النقد والدحض الذي كان يمارس
في الآغورا بين مختلف الفعاليات.....) باعتبارها في الأصل قواعد اللعبة السياسية ، لتكون حافزا على ظهور نوع
من التفكير سيسمى فلسفة، وستكون هي ذاتها قواعد الفكر الفلسفي في بداياته) إضافة
إلى ظهور الكتابة ( وبالتالي ما مدى
تأثيرها في تغيير العقليات... إضافة إلى دور التجارة ودورها في عملية التجريد وما لها من تواصل
مع باقي الشعوب ،إضافة إلى تمثل تقافات أخرى عبر
ما تحققه التجارة....وعوامل أخرى تختلف أهميتها حسب اختلاف المقاربات.
إذن هل هذه مجرد معلومات إخبارية أم يجب التعامل معها كمحفزات على التفكير
باعتبارها عوامل أساسية في تغيير العقليات والسلوكيات؟.وهل كانت السياسة كما
مارسها اليونانيون هي ذاتها السياسية في الحضارات الأخرى أو المعاصرة لليونانيين
كالحضارة المصرية؟ هل بالفعل كانت الكتابة منتشرة بنفس التعميم لدى باقي الحضارات
وهل كان لها نفس الدور عند اليونانيين؟ ما اللمسة التي تميز بها اليونانيين
ليبدعوا التفكير الفلسفي؟وفيما تفيدنا هذه اللمسة في عصرنا الحاضرة وكيف تكون
محفزا على التفكير؟
5- هذه
العوامل موجودة في العصر الراهن ومتوفرة بشكل واضح، فهل ساهمت في تغيير العقليات
كأن تقضي على الخرافة والدجل وتؤسس للعقلنة والتحرر من الأساطير؟ وما مبررات
الحاجة إلى الفلسفة وهل دراستها كافية لتملك فعل التفلسف؟ وما قيمة الإخبار
الفلسفي إن لم يفتح الافاق للعدوى الفلسفية وممارسة فعل التفلسف؟
6- إذن
هل نحن بصدد إشكال العلاقة بين الفكر والواقع؟ وما طبيعة هذه العلاقة في الوقت
الراهن؟ مثلا ما الاختلاف بين واقع المدينة وواقع البادية كأمكنة على عقلية
وتمثلات ساكنيها؟هل يمكن نسخ التجربة اليونانية أم لكل عصر محددات لطريقة تفكيره
وإعماله للعقل؟ مثلا هل ساعدت الثورة الرقمية في
الارتقاء بالوعي الفلسفي والثقافي عموما؟علما أنها سهلت ولوج مواقع تنشر المعرفة
بكل ألوانها وصنوفها وتتيح فرصة الارتقاء بالوعي والسلوك أم حدث العكس، ولماذا؟
أين تكمن المشكلة؟
7- في
ظروف جد محدودة أنشأ اليونانيون أنساقا فلسفية جد معقدة، ولكن الألفية الثالثة
تسمح بكل شروط الارتقاء لكن لم ينتج المفكرون في ظروفهم الراهنة مثل أنساق فلسفية
زاد عمرها عن ستة وعشرين قرنا ولا زالت تُدهشنا ؟ لماذا؟ وهل تصح هذه المقارنة؟
لماذا لازالت الفلسفة السقراطية والأفلاطونية والأرسطة وألأبيقورية والرواقية....تشع
فلسفيا وتُبهرنا وتحثنا على التفكير بالرغم من أن عوامل نشأتها زالت وبقي فكرها
يشع فلسفة من دون كلل؟ هل المشكلة في فكرنا أم في واقعه ام أن القدامى لم يتركوا
لنا فرصة لصناعة السؤال الفلسفي في ظرفيتنا الراهنة ؟
من المطلوب أن يكتب المتعلم تقريرا منزليا يحلل فيه مدى استفادته من
نشأة الفلسفة وما شروط ميلاد فكر وما مقتضيات إشعاعه......
هذه عينة من التساؤلات
التي من شأنهالا أن تخلخل بعضا من تمثلات المتعلمين حول نشأة الفلسفة من خلال
طبيعة علاقة الفكر بالواقع وبالتمرحل الزمني للفكر وباحتفاظه على وهجه.
0 التعليقات:
more_vert