الفلسفة وانهيار السلطة التربوية

التصنيف


الفلسفة وانهيار السلطة التربوية
" حنا آرنت "، " ألان رونو "، " ألان فانكييلكروت "
من أجل بعث جديد للسلطة التربوية
من إنجاز 

ترى " حنا آرنت " HANNAH ARENDT" هذه الفيلسوفة الابنة لأسرة " بول " و "مارتا"، المزدادة سنة 1906، والمتشربة للانتماء السياسي اليساري لأسرتها الصغيرة، وهي الطفلة الحاضرة في مظاهرات الشوارع، و المتأثرة لاغتيال "روزا لوكسمبورغ"، والمتتلمذة على فلسفة "إدموند هوسرل" ، و " كارل ياسبرز"،  و"مارتن هيدجر" و المتعلقة بحب هذا الأخير، والمفكرة الخلاقة لعلاقة جديدة بين الفلسفة و السياسة، والمثقفة ذات النزعة الكونية والمواطنة العالمية، المحبة للعالم، الألمانية الأصل و الأمريكية الجنسية، واليهودية الديانة، و المنتقدة للصهيونية ، والمغيبة بموتها سنة 1975 (1) غيابا  فادحا لخسارة الفكر البشري والفكر الفلسفي السياسي في مواقفها وإبداعاتها الفكرية، وهي الفيلسوفة المحتفى بتكريمها في اليوم العالمي للفلسفة الذي أقامته منظمة اليونيسكو بالمغرب – أن أزمة التربية تتحدد في غياب السلطة و أن هذا الغياب له آثاره على العالم المعاصر، وأن انهيار السلطة ينبغي أن لا يطال المدرسة. ففي تصور " حنا آرنت " أن الراشدين يتعين    عليهم الاستمرار في تحمل مسؤولياتهم اتجاه العالم، و تجنيب الأطفال السقوط في فخ استبداد الأغلبية في تحديد مصير تفكيرهم وسلوكهم وقيمهم.

"حنا آرنت HANNAH ARENDT

وتحليلا لذلك تقول " حنا آرنت " بما أن التلميذ في المدرسة لا يعرف بعد حقيقة العالم، فيتعين علينا أن نقربه من هذه الحقيقة شيئا فشيئا، وبما أنه كائن جديد في هذا العالم، فالواجب هو الحرص على إنضاج الأفكار في ذهنه، والعمل على إدماجه في العالم كما هو، وأن المربين في علاقتهم مع الأطفال و الشباب، يقومون بدور ممثلي هذا العالم المطوقين بمسؤولية التعريف به والدفاع عن قيمه، رغم أنهم صراحة أو ضمنيا يتمنون أن يكون العالم مختلفا عما هو عليه. فما يجعل مسؤولية المربين صعبة هو كون الأطفال والشباب يدخلون من طرف الراشدين إلى عالم هو في تغيير مستمر، وأن الذي يرفض تحمل مسؤوليته اتجاه العالم لا ينبغي أن يكون له أطفال، كما لا يجوز أن يكون له الحق في المساهمة في التربية.
فمسؤولية المربي اتجاه العالم هي مسؤولية تتخذ شكل السلطة، وبعبارة أخرى فإن مسؤولية المربي هذه تتطلب منه أن يجعل الأطفال يتقبلون العالم كما هو، وأن سلطة المربي وكفاءته ليسا شيئا واحدا، رغم أنه ليست هناك سلطة بدون نوع من الكفاءة، فالكفاءة مهما ارتقى مستواها لا يمكن أن تقود تلقائيا إلى منح المربي سلطة على تلاميذه، فكفاءة المربي تتمثل في معرفته للعالم، وقدرته على نقل هذه المعرفة إلى الغير ، بينما سلطته تقوم على دوره كمسؤول اتجاه العالم، ففي علاقة المربي بالأطفال و الشباب يلعب المربي دور كل الراشدين الذين يحدثون المتعلمين قائلين: "هذا هو عالمنا".
غير أننا نعرف جميعا واقع السلطة التربوية اليوم، فكيفما كان موقف كل واحد منا من السلطة،    فمن البدهي أن السلطة لم يعد لها أي دور في الحياة العامة و السياسية، أو على الأقل لم تعد تلعب سوى دور يواجه بكثير من الطعن و الاحتجاج، و هذا يعني بكل بساطة وعمق أننا لم نعد نطلب  أو نكلف أحدا بتحمل أية مسؤولية، ذلك أنه حيثما وجدت سلطة حقيقية، فإن هذه السلطة تكون مقترنة بالمسؤولية اتجاه سير العالم، فإذا نحن أزلنا السلطة من الحياة السياسية والعمومية، فهذا يمكن أن يعني أننا نريد أن تصبح المسؤولية اتجاه سير العالم مهمة مطلوبة من كل واحد منا، كما يمكن أن يعني بأننا نتجه إلى الرفض بوعي أو بغير وعي لمتطلبات العالم وحاجته إلى النظام، أي الاتجاه إلى رفض كل مسؤولية من أجل العالم، مسؤولية إعطاء أوامر، ومسؤولية الالتزام بها.
ففي الاختفاء المعاصر للسلطة ، ليس هناك شك في أن للمعنيين دورا في توجيه أفكارنا ، واختياراتنا، ومعنى ذلك أن بعضنا اختار المشاركة و الالتزام بتحمل المسؤولية اتجاه العالم، بينما اختار بعضنا الآخر التحلل من كل المسؤولية.
وإذا كان واقع حياتنا العمومية والسياسية يعرف هذين الاختيارين المتناقضين، فإن حياتنا التربوية لا ينبغي أن تعرف هذا التناقض في المواقف، وهذا معناه أنه لا يجوز لنا قبول زوال السلطة من المؤسسات التربوية، فالأطفال لا يمكنهم أن يضعوا سلطة المربي موضع تساؤل، كما لا ينبغي أن نسمح بالحديث عنهم، كما لو كانوا مقهورين من طرف أغلبية من الراشدين، رغم أن المناهج التربوية المعاصرة حاولت أن تصورهم كأقلية مقهورة في حاجة إلى التحرر. إن هدم السلطة التربوية من طرف الراشدين لا يمكن أن يعني إلا شيئا واحدا ، هو أن الراشدين يرفضون تحمل مسؤوليتهم اتجاه العالم الذي وضعوا أبناءهم فيه (2) .
"حنا آرنت HANNAH ARENDT
ولعل الجدير بالإشارة هنا أن "حنا آرنت " لما فقدت وهي بعد طفلة والدها الذي أثار لديها شغف  ولذة القراءة، ربتها والدتها المرأة السياسية اليسارية تربية ثورية، هذا فضلا عما عرفته آنذاك ألمانيا من انتشار وعي جديد يعترف للطفل بفردانيته.
لقد عاشت "حنا آرنت " مرحلة طفولتها وكأن من حقها أن تفعل ما تشاء، وهو ما تحقق لها ، إذ تعلمت القراءة و الكتابة قبل دخولها المدرسة، كما نالت شهادة البكالوريا كمترشحة حرة بعد طردها من الثانوية لعدم قبولها بالضغوطات التربوية التي كان يفرضها نظام الثانوية بكل صرامة، كما أنها انشغلت بالتربية منذ سنها السابع عشر، وذلك انطلاقا من قراءتها "لأفلاطون" و "أرسطو" و"كانط"، وعبر هذه القراءة كانت تتساءل عن من هو المعلم؟ ومن هو التلميذ؟ رغم أن التربية لا تختزل في هذه العلاقة (3).
وفي الجامعة الألمانية تتلمذت "حنا آرنت" على" إدمون هوسول " 1859-1938، و" مارتن هيدجر" 1889-1976 " وكارل ياسبرز " 1883-1969، وعرفت اجتهاداتها بعد تخرجها إغناء لفلسفتهم بإبداعها لفلسفة أصيلة غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، كتلك المتضمنة على سبيل المثال في كتابها :   " ما السياسة ؟ " وفي كتابها " أزمة الثقافة " وفصله المتميز حول السؤال : ما السلطة ؟
وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الأحداث من حياة طفولة "حنا آرنت " قد أثرت ولا شك على حياتها الفكرية بشكل عام، وعلى استلهام تصورها للتربية، وإبداعها لمفهوم متميز لمعنى السلطة، و السلطة التربوية بشكل خاص، وهو ما يفسر تعاملها مع تاريخها الشخصي بكيفية نقدية، إذ أنها انتقدت التربية التي تلقتها عن أسرتها نقدا ينم عن غياب كل تربية في حياتها .
ولكن إذا كان صحيحا أن فلسفة "حنا آرنت "  تعتبر نتيجة لتأثرها بحياة طفولتها وشخصيتها المتميزة، فإن ذلك لا ينفي عنها كذلك كون فلسفتها هي نتيجة أيضا لإعمالها للعقل، وبذلها للمجهود العقلي، واستلهامها لتاريخ الفلسفة وروحه التساؤلية، و الاستشكالية، والتفكيكية و النقدية، والتركيبية الشمولية، و الحجاجية، و المفهمية، وغيرها، وذلك ما يجد تجلياته في أطروحتها التربوية الداعية  إلى السلطة التربوية كمسؤولية ، وهي أطروحة مخالفة للنظرية التربوية ذات النزعات التحررية السائدة آنذاك في عصرها، والتي كان يقول بها المفكر التربوي والفيلسوف الأمريكي "جون ديوي" (1859-1952).
واضح أن الأمر يتعلق بفيلسوفة منطلقها كغيرها من الفلاسفة هو فحص المفاهيم و التصورات الشائعة ، و العمل على إزاحتها عند الضرورة، وتأسيس مفاهيم وتصورات جديدة بناء على تصور الفلاسفة للعالم، ومضمون موقفهم من الإنسان و القيم، وهو ما شكل تصور "حنا آرنت " لواقع السلطة ومصيرها في المؤسسات التربوية مثالا فلسفيا له. فليست السلطة في مفهومها هي مجرد الحق في التسيير، وفي الأمر و النهي، وفي إصدار الأوامر ووجوب خضوع الآخرين لها، والحق     في السيادة و القوة ، كما أن التصنيفات المتداولة للسلطة : من سلطة مدنية وسلطة عسكرية وسلطة دينية، إلى سلطة تنفيذية، وسلطة الوزن و المركز، والسلطة المرجعية بالاستحقاق المعترف به،      هي كلها مفاهيم وتصنيفات معجمية، أي تحديدات للمفهوم سبق لغير "حنا آرنت "  الاشتغال بها ،  من أجل ذلك وجدت موقعا لها في المعجم.
أما المفهوم الجديد الذي وضعته "حنا آرنت" لمفهوم السلطة، واشتغلت به في معالجتها لإشكال مشروعية قبول غياب السلطة في المؤسسة المدرسية التربوية، فهو مفهوم يقرن السلطة بالمسؤولية ، ومعناه أن ما ينبغي أن يمنحنا السلطة على غيرنا ليس هو القوة ولا العنف، ولا المكانة و لا الجاه، ولا الإغراء ، ولا الثقة العمياء، ولا الكفاءة نفسها، وإنما هو المسؤولية التي تكون لدينا اتجاه العالم ، بالمعنى العام، وبمعناه الخاص عندما نتحدث عن السلطة التربوية.
ويستفاد من ذلك أن السلطة لا ينبغي أن تكون ، ولا يتعين أن تسند إلا إلى الأفراد و الجماعات          التي تؤمن إيمانا راسخا بأن للعالم متطلبات وأنه في حاجة إلى نظام، وأن هؤلاء الأفراد والجماعات مهيؤون لتحمل مسؤولية المساهمة في تحقيق تلك المتطلبات وإقامة ذلك النظام، فبدون هذه المسؤولية لا يجوز أن تسند لنا سلطة، ولا يحق لنا أن نضع أبناءنا في هذا العالم.
ومعنى، ذلك أن استحقاق السلطة لا ينبغي أن يكون أساسه اعتبارات أخرى غير معرفة حقيقة العالم، وما يترتب عنها من مسؤولية أخلاقية واجتماعية وحضارية، زد على ذلك أن ممارسة السلطة لا ينبغي أن يكون أساسها أهواء ومصالح ذاتية أو اجتماعية ضيقة محددة في الزمان و المكان،وإنما يجب أن يكون أساسها استعداد لتحمل المسؤولية  اتجاه العالم، وقبل ذلك ينتظر أن نكون على بينة من حقيقة العالم، ومن واقع العالم، ومستقبله ، لنساهم بمسؤولية في بناء الحاضر والمستقبل، وكذلك في قراءة الماضي نفسه، لأن الفكر البشري لا يكف عن قراءة هذا الماضي، وينعكس ذلك على الدلالات التي يضفيها على الحاضر و المستقبل، وهي كلها أسس لا يمكن أن يوفرها ويوضحها ويغنيها ويعيد النظر فيها بكيفية متجددة إلا فلسفة تسترشد بكل ما انتهى إليه الفكر البشري، وهذا هو واقع الفلسفة المعاصرة، ومعناه أن المشروع الذي ينبغي أن يكون لصاحب السلطة يتعين  أن يكون قائما على فلسفة من هذا العيار. صحيح أنه ليس هناك تصور فلسفي نهائي عن العالم،  وليس هناك الموقف بالألف واللام الذي ينبغي أن يكون لدينا اتجاه العالم، وصحيح كذلك   أن هذا الموقف حتى  وإن كان من وضع "حنا آرنت "  نفسها، فإنه لا يمكن أن يكون نهائيا. إلا أن الوعي بكل هذا لا ينبغي أن يقعسنا عن تحديد موقفنا اتجاه العالم وعن المساهمة في تكوين تصورنا له تكوينا نستثمر فيه كل ما انتهى إليه الفكر البشري، مع الوعي بأن مفهوم المواطنة العالمية - وهو مفهوم تحدثت عنه الفيلسوفة "حنا أرنت " في كتابات أخرى لها- ليس شعارا وإنما هو مطلب تقتضيه المواكبة، ومتطلبات الاندماج والمساهمة والتواجد والحضور، وغيرها من أفعال التفاعل      التي تدخل ضمن هذه المسؤولية.
كل ذلك يقتضي إزاحة المفاهيم التي تجعل السلطة مرادفة للتسلط و القهر و القوة المباشرة و الضغط، لأنه لا ينبغي أن نجرؤ على تقلد السلطة في غياب مسؤولية معرفية وأخلاقية وحضارية وكونية.
بهذا المعنى نفهم  كيف أنه لا يجوز لنا من الناحية الأخلاقية وضع أبناء لنا في هذا العالم، ما لم نكن مسؤولين اتجاه هذا العالم، مسؤولية تمنحنا واجب التوجيه، أي تمنحنا السلطة المعرفية والأخلاقية والحضارية و الكونية.
إلا أن تصورا من هذا القبيل بالرغم من أهمية قيمته الفلسفية و الأخلاقية يصطدم بإشكال سوسيولوجي يمكن صياغته كالآتي:
إذا كان المنطق السوسيولوجي يرى في انهيار السلطة في المدرسة وداخل الأسرة هو نتيجة لقيام الديموقراطية داخل المجتمع، لأن ما يحدث في المدرسة و الأسرة باعتبارهما من مؤسسات المجتمع، لا يبقى في معزل عما يحدث في المجتمع ككل، أي أن انهيار السلطة على المستويين المدرسي و الأسري، هو نتيجة منطقية لانهيار السلطة على المستوى السياسي و الاجتماعي ، فهل بإمكان التربية أن لا تخضع للمنطق الديموقراطي التكافؤي الذي يتجه في امتداده المستمر على مستوى السياسة، وعلى مستوى الأسرة نفسها؟وهل نستطيع أمام هذا المد الديموقراطي أن نتعامل مع المدرسة كاستثناء بالنسبة إلى السلطة؟ ثم كيف يتحقق النظام داخل المؤسسة التربوية؟ وما هو المصدر الذي ينبغي أن يصبح للسلطة التربوية في الفترة الراهنة التي أصبح الحديث فيها عن الأزمة الجديدة للتربية ؟
حول هذه الأسئلة ، ومن منطلق تحليل ومناقشة أطروحة الفيلسوفة "حنا آرنت "  يجيب كل من " ألان رونوALAIN RENAUT" و" ألان كانكييلكروت ALAIN  FINKIELKRAUT" وذلك كالتالي : يقول "ألان رونو" – الفيلسوف الفرنسي المعاصر المزداد سنة 1948 مؤلف كتاب نهاية السلطة      (سنة 2004) – مجيبا عن تلك الأسئلة : ((إن بعث السلطة بالمعنى التقليدي لمفهوم السلطة لم يعد ممكنا سواء أعلى المستوى النظري، أم على المستوى العملي، وأنه يجب البحث عن أشكال أخرى للسلطة ينتظر ابتكارها داخل المدرسة التي لا ينبغي أن تظل في معزل عن المنطق الديموقراطي، وأن "حنا آرنت " في أطروحتها عن السلطة سبق أن أثارت ملاحظة في غاية الخطور وهي أن السلطة في طريقها إلى الزوال (...) وأن الذي يملك السلطة ينبغي أن  يتعالى بعالم ذلك الذي تمارس عليه السلطة، وأننا في حاجة إلى تقوية علاقة السلطة بين من يملكها ومن تمارس عليه، وأن هذا الارتقاء يتحقق عبر علاقة ثلاثية بين السلطة و التقاليد والدين، وأن تقوية علاقة السلطة مع من تمارس عليه كانت ممكنة في الماضي ، لأنه ليست هناك سلطة بدون تقاليد، كما أنه ليست هناك تقاليد بدون دين، ذلك أن التقاليد تتجسد فيما ينقله الدين، وما يبرر قيمته. غير أن المجتمعات في نظر "حنا آرنت" تعرف ظاهرة إهمال تساهم في إضعاف المجال الديني، وعليه فإن مجتمعا من النوع المعاصر لم يعرف السلطة، فحتى الأساتذة المربون يواجهون بعد انهيار السلطة صعوبات في علاقتهم مع التلاميذ رغم كفاءتهم التي لا يشك فيها أحد)).(4)
" ALAIN RENAUT"
أما " ألان فانكييلكروت" – الفيلسوف المعاصر البولوني الأصل و الفرنسي الجنسية المزداد سنة 1949، صاحب كتاب "تفكير القرن الواحد و العشرين" (سنة 2000) – ((فيجيب عن نفس الأسئلة السابقة مذكرا في البداية بمفهوم "حنا أرنت " للسلطة باعتباره الشكل الذي تتخذه مسؤوليتنا عن العالم، وهي مسؤولية تنمحي بفعل عاملين هما :
الثقافة المشتركة أولا، وهي الثقافة التي يحتاج إليها الشباب ليعيشوا حياتهم في مجتمعهم كما هو،  فهذه الثقافة المشتركة قد حلت محل الثقافة العامة.
" ALAIN  FINKIELKRAUT"
وثانيا، الطابع المخيف للسلطة ، فقد تساءل الفيلسوف "أرسطو" قديما عن كيفية إدماج الأطفال        في عالم العقل و المنطق، والحال أن الأطفال لا يفكرون بكيفية منطقية من تلقاء أنفسهم، وكان جوابه أن ذاك يتحقق عبر العفة و التحفظ و تقمص نظرة الغير ، وأن الطفل الذي يملك هذه العفة يهمه الصورة المرئية التي يكونها الغير عنه، من أجل هذا ينصت عادة لما يقال له ، غير أن القوة هي بدورها اختفت في وقتنا الراهن، ذلك أن الراشدين لم يعودوا مصدر خوف أو خجل للطفل.
وفي هذا الصدد ينبغي أن ننتبه إلى أن نظاما جديدا للخجل قد استقر، وهو نظام جعل من الرفاق         والأصدقاء وجماعات الشباب المرجع و القدوة والحكم، وهكذا فإن استبداد الأغلبية قد ساد بكيفية لم نعرف لها مثيلا من قبل ، بالإضافة إلى سيادة التقنية على الثقافة. فالثقافة العامة كانت من دون شك الأثر الأخير لما يسميه القدماء الثقافة الليبرالية، فقد كان هذا المصطلح عند القدماء يفيد ما هو متحرر من ضغوط وضرورات الحياة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المكان الذي كانت تمارس فيه السلطة في المجتمعات القديمة كان يملؤه الذين يملكون السلطة بحكم التقاليد، أما في المجتمعات المعاصرة فإن المكان الذي كانت تمارس  فيه السلطة فارغ، وليس هناك أي أحد مؤهل ليشغله. وهكذا فإن الأطفال معرضون للخضوع لسلطة أي كان(...) ، وحتى إذا افترضنا بأن تحرر المدرسة من قيم المجتمع ممكن، فإن السؤال يطرح عن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه السلطة اليوم في العالم المدرسي طبعا، والحال أن علاقة القدوة بين الأستاذ والتلميذ قد اختفت، أي أن التلميذ لم يعد يتطلع إلى أن يصبح كما تريده المدرسة مجتهدا، منضبطا، يمتلك ثقافة عامة ويجيد لغة الأدباء و العلماء، ويلتزم بالقيم التي تسعى إلى ترسيخها،       و يعتبر أساتذته ومربيه مثله الأعلى )).(5)
ويرى "ألان فانكييلكروت" إضافة إلى ذلك أن ((مدرسة الماضي لا مستقبل لها ردا على أحد وزراء التربية و التعليم ، الذي حاول إدخال مادة الإملاء من جديد في التعليم المدرسي، وفي مقابل ذلك يقول الفيلسوف"ألان فانكييلكروت" : " بأن مدرسة المستقبل لا ماضي لها"، إذ لم يعد للثقافة في عصرنا هذا ما كان لها من أهمية، فلم يبق لكبار الأدباء و المفكرين ما كان لهم من تقدير.فحسب دراسة أجريت على مئة  من المستجوبين الفرنسيين لمعرفة الناس الأكثر قيمة في فرنسا في كل زمان، تبين أنه لم يعد هناك مكان ضمن لائحة هذه المائة ، "لباسكال" و "راسين" وغيرهما في رأي المستجوبين، كما أظهرت نتائج هذه الدراسة أن هناك شيئا وقع في الثقافة، فالراشدون لم يعودوا يصارعون من أجل الثقافة، بل إنهم أصبحوا سعداء بالانسحاب من عالم الثقافة، وباتباع أبنائهم في ميدان التقنية (...) فقد أصبح  أولياء التلاميذ أكثر فأكثر أولياء وتلاميذ في نفس الوقت، وذلك بفعل علم التكنولوجيا، وبفعل نزعة المساواة التي أصبحت تعتبر كل تمييز بين الطفل والراشد تمييزا عنصريا، وكل تراتبية  مسا بالديموقراطية)) (6)
أما الفيلسوف " ألان رونو "، فيرى بأن ((السؤال الذي ينبغي طرحه في مواجهة هذا المشكل المتعلق بعدم اهتمام الإنسان المعاصر بالثقافة و انسحابه من عالمها ، هو : ما العمل ؟ ما الذي ينبغي فعله  بعد تقرير كل هذا ؟ ويجيب عن ذلك مذكرا بأن أطروحة "حنا أرنت" تتضمن دعوة إلى تعبئة الأفراد من أجل تحمل مسؤوليتهم اتجاه العالم، إلا أنه يضيف بأن التفكير في الشروط الضرورية من أجل نقل المعرفة والثقافة لم يتحقق انطلاقا من رفض الحاضر، واستدعاء الماضي، والاعتقاد بأن هذا الماضي سيعود، وأن عودته تتوقف على المربين وأولياء التلاميذ.
والمطلوب في هذا الصدد هو التفكير في الشروط الجديدة لنقل المعرفة، في غياب جهاز يشتغل  على أساس السلطة، ففي مواجهة أستاذ الفلسفة الذي يشتكي خاصة من صعوبة التدريس في القسم النهائي شعبة التكنولوجيا مثلا، سيكون من العبث إلزامه بفرض سلطته بشكل أفضل، وسيكون من العبث أيضا تحسيسه بالذنب لعجزه عن تحقيق ذلك، وكأن هذا يتوقف على إرادته.
فهناك شروط حضارية هي المسؤولة عن وضعية الأستاذ هذه ، وهي وضعية تتعلق في الغرب  على الأقل، بنهاية الثالوث: دين، سلطة ، تقاليد، وهو ثالوث تحدثت عنه الفيلسوفة "حنا آرنت"  كما أن هناك شروطا سياسية لتلك الوضعية  لأنه لن يكلف شيئا القول بأنه ينبغي بعث السلطة من جديد لوزير التربية و التعليم مثلا، غير أن ذلك يقتضي منح الوسائل لتقوية  لا السلطة، وإنما قدرة الأساتذة في القسم (...).
لكن إذا كان هذا صحيحا، هل ينبغي إعادة إقامة شروط إمكانية نقل المعارف و القيم كالصمت والإنصات و الانتباه والتركيز ، وغيرها من طقوس التعليم؟)).(7)


" ALAIN  FINKIELKRAUT"

يجيب الفيلسوف "ألان فانكييلكروت" عن ذلك بالقول : ((بأن المشكل لم يعد خاصا بأطفال الأحياء الهامشية، أو بالمراهقين، ذلك أن الفقر اللغوي، و التعسف اللغوي (أي التشويه الكلامي) يوجدان  لدى الجميع، فإن أراد أستاذ اللغة الفرنسية تعليم تلاميذه الكلام بكيفية جيدة، فيتيعن عليه التخلص من كل أشكال التساهل، وعندها يكفي لتلاميذه أن يفتحوا التلفاز ليتبينوا أن اللغة  التي يحاول الأستاذ أن يعلمها لهم تكاد تكون منقرضة، فالصراع من أجل لغة أكاديمية هو صراع غير متكافئ مع وسائل التعليم الأخرى)) .(8)

وهنا يؤكد الفيلسوف" ألان رونو " (( بأن ما ينبغي التفكير فيه هو الوسائل التي نحول بها المعرفة إلى ثقافة، فليست المعرفة كما هي، هي التي تصل إلى القسم حيث يتعلم التلاميذ. وإنما صيغة مدرسية لهذه الثقافة، صيغة ينبغي إنتاجها، ويكون من مسؤولية ممثلين بارزين العمل على بنائها، وتكون مهمة الأساتذة تقديم مادتهم ، غير أن ما يلاحظ هو وجود شرخ بين التعليم الجامعي و التعليم الثانوي، فالجامعيون لا يهتمون بتحويل المعارف التي ينتجونها إلى ثقافة مدرسية، فهم يواصلون أعمالهم العالمة بعيدا عن كل تفكير في كيفية نقلها، وإنه سيكون من المستعجل القيام بتفكير مركز حول ما يمكن للمدرسة تعليمه وبأية كيفية. فنحن لا يمكن أن نعيد الاهتمام بالفيلسوف "ألان " و لا بالأديب "راسين" وغيرهما من رموز الثقافة الفرنسية، إذا نحن اكتفينا بالشكوى من غياب كل اهتمام بالثقافة. بدل التفكير في الشروط التي تجعل نقلها ممكنا )) (9)
ويضيف الفيلسوف "ألان فانكييلكروت " إلى هذا التأكيد قوله : (( بأن لهذه الوضعية سوابق، فقد سبق أن وصفها الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" في مقطع من محاورته الجمهورية، عندما قام بفضح المخاطرة الديموقراطية التي سيتعود معها الأب على أن يصبح شبيها بالطفل، وعندها لن يكن الطفل أي مشاعر خجل أو خوف أمام الذين يقومون بتربيته.
إن وضعية الآباء وأولياء التلاميذ في مجتمعنا المعاصر تختلف كثيرا في رأي الفيلسوف " ألان رونو " عن الوضعية التي كان عليها أطفال عصر " أفلاطون" ، لقد أصبح مجتمعنا المعاصر أخرس، ونحن معرضون لأن نصبح صيدا لمضاعفات سيادة النزعة النسبية، التي تتساوى تبعا لمنطقها كل القيم، فلم يعد العالم يقول لنا شيئا، ولم يعد لنا ما نتمسك به لتجنب الانحرافات التي حذر منها " أفلاطون " وهذا أمر لا يسرنا. وانطلاقا من هذه الوضعية ينبغي أن نشتغل ونواصل الاشتغال كما يقول : " ألان رونو " )) .(10)



إن معالجة كل من الفيلسوفين " ألان رونو " و" ألان فانكييلكروت " لإشكال إمكانية بعث جديد للسلطة التربوية، بالرغم من توسع انتشار النظام الديموقراطي ، تؤكد عدم تسليمهما بمنطق فكر سوسيولوجي يجعل من انهيار السلطة التربوية، بفعل سيادة الديموقراطية ، حتمية سوسيولوجية ، وهو ما يؤكد أن الفلسفة بخلاف التصورات الميكانيكية للظاهرة الإنسانية تنطلق من أن نفس الأسباب لا تؤدي بالضرورة لا إلى نفس النتائج، وان تأثيرها يتوقف على الدلالات التي تضفيها الذات على تلك الأسباب، وان الفلسفة بتنبيهنا  إلى مخاطر الديموقراطية ، ومخاطر سيادة النزعة النسبية في المدرسة تحديدا، يمكن ان تساهم في التعامل مع التأثيرات الاجتماعية بكيفية نقدية، وهو ما نلمسه بوضوح لدى "حنا أرنت" ومن خلال معطيات مناقشة الفيلسوفين "ألان رونو" و" ألان فانكييلكروت" لأطروحتها حول مستقبل السلطة التربوية في العالم المدرسي،  الأمر الذي يجعلنا أمام مفاهيم مختلفة عن تلك التي سادت خلال القرن الماضي، كمفهوم استبداد الأغلبية، و المقصود به في سياق تلك المعطيات، أغلبية الأطفال و الشباب الذين أصبحوا المرجع والقدوة و الحكم لبعضهم البعض، ثم مفهوم مخاطر الديموقراطية، ومفهوم سيادة النزعة النسبية، ومفهوم فراغ المكان من مسؤول تربوي يكون المرجع و القدوة و الحكم، ومفهوم الانسحاب الثقافي للراشدين واتباعهم لأبنائهم، ومفهوم المجتمع الأخرس، وهي كلها مفاهيم نقدية لوضع راهن يتميز بتراجع المسؤولية اتجاه العالم، ويدخل ضمن هذه المسؤولية الانتباه إلى أخطار تصوراتنا المعرفية النظرية، ومخاطر اختياراتنا الاجتماعية و التربوية.
صحيح أن الوثوقية  تؤدي إلى العقم الفكري، وتقود إلى التعصب، وربما حتى إلى العنف الفكري والاجتماعي، ولكن النزعة النسبية نفسها رغم ما يدعمها من حجج نظرية قد تؤدي في غياب المسؤولية إلى الصمت، وإلى المكان الفارغ من المسؤولية ، وإلى الانسحاب الثقافي و الأخلاقي، وإلى غياب كل روح نقدية، غياب يبيح لنا أن نفعل كل شيء بحجة أن كل شيء نسبي.
يتعلق الأمر إذن، بمراجعة نقدية لقيم القرن الماضي بناء على النتائج  الاجتماعية لسيادة هذه القيم، مراجعة نقدية انطلاقا من مفهوم مركزي هو مفهوم المسؤولية اتجاه العالم، وهي مسؤولية تفرض علينا - رغم التسليم بحتمية التغيير و بضرورته وأهميته – اعتماد منطق نقدي وقائي توقعي يتكشف لنا معه، أنه قد يكون لبعض قناعاتنا واختياراتنا مخاطر ينتظر الانتباه إليها في تفكيرنا وخلال ممارستنا حتى لا نسقط في وثوقيات جديدة.

الهوامش :

1- «Le Magazine Littéraire », Octobre 1999, France , P :49
2- (2.3.4.5.6.7.8.9.10)le monde de l’éducation », Juillet 2005, France , PP: 35 ,36,37,38,39,40





شاركها على حسابك في :

مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

مواضيع ذات الصلة: