الفلسفة والحاجة إلى نقد أخطاء إصلاحات المدرسة.

التصنيف
التصنيف



 الفلسفة والحاجة إلى نقد أخطاء إصلاحات المدرسة
ولكن من هم قتلة المدرسة ؟ 
بحث في التجربة الفرنسية
من إنجاز الباحثين


أكدت "كارول بارجون 
CAROLE BARJON"- الباحثة الفرنسية والصحفية السياسية بمجلة Le Nouvel Observateur في كتابها الصادر بعنوان " ?   Mais qui sont les assassins de l’école " " ولكن من هم قتلة المدرسة ؟ "- بأن الأبناء يؤدون ثمن عشرين سنة من إصلاحات وصفتها بالعبثية، وهي تقرر بأن المدرسة الفرنسية للتربية والتعليم في وضع سيء للغاية، وهذا أمر يعرفه الفرنسيون، كما أن الترتيب الدولي للمدارس عبر العالم يؤكد ذلك، وأولياء التلاميذ يلاحظو هذا كل يوم.



CAROLE BARJON



وفي رأي هذه الباحثة والصحفية، أن وزارة التربية والتعليم في فرنسا قد فشلت في نقل المعارف الأساس الأكثر أولية، كما أن خطابها غير مفهوم إلى درجة الحمق، وهي لا تهتم بمصير نسبة مهمة من التلاميذ الذين عندما أصبحوا راشدين، تبين الجميع أنهم غير متمكنين لا من اللغة الفرنسية ولا من الحساب ولا يتوفرون إلا على معطيات قليلة عن التاريخ.
من البدهي – تقول " كارول بارجون " – بأن الدخول المدرسي يتم فيه رفع تقارير عن مستوى المدرسة، لكنها تبقى تقارير لا تشير إلى المسؤول الحقيقي عن إفلاس المدرسة بعد وزير التربية والتعليم بفرنسا.
وحتى يتحدد من هم المسؤولون عن ذلك تقرر " كارول بارجون " بأنه ينبغي البحث عنهم في صفوف مدراء التعليم المدرسي، وأعضاء لجن وضع البرامج، والمفتشين العامين، والمستشارين الخاصين بوازرة التربية والتعليم، وحتى الأساتذة الجامعيين وكذا الأكاديميين الذين ساهموا في مشاريع إصلاح التعليم المعتمد منذ عشرين سنة في الكواليس، كواليس الإصلاح الذي لم يفض إلى إصلاح – في رأيها – وإنما إلى فوضى عارمة.
ولتحديد هؤلاء المسؤولين الحقيقيين عن إفلاس المدرسة بفرنسا بحثت "كارول بارجون" طويلا مركزة على تدريس اللغة الفرنسية، وقد تبين لها بفعل ذلك أن 20%من التلاميذ تلج القسم السادس غيرمتمكنة من اللغة الفرنسية، مع العلم أنها تتبعت القرارات المتخذة في هذا الأمر، وبحثت عن الشخصيات المؤثرة، والتي ألهمت من قاموا بالإصلاح غير المفضي إلى إصلاح، وانتهت إلى تحديد وتسمية المسؤولين المتسببين في أخطاء الإصلاح، وقد كانت لائحة مجموعهم مثيرة جدا لتضمنها أسماء وازنة في تخصصاتها العلمية.


وفي هذا الصدد تؤكد " كارول بارجون " بأن هدفها لم يكن الإساءة إلى هؤلاء الذين كانوا من المقررين في أمر الإصلاح، بعضهم معروف ، وبعضهم الآخر أقل شهرة لدى الرأي العام الفرنسي خاصة التربوي التعليمي منه ، وإنما كان هدفها أن تبين أن المسؤولين عن الإصلاح، حتى وإن كانت لديهم أنبل المقاصد، يمكن أن يسقطوا في الأخطاء أو يقوموا بأسوإ الاختيارات. فلا أحد - تقول " كارول بارجون " - يسعى في فرنسا إلى التضحية ب 20%من التلاميذ. هذا مع العلم أن أولئك الذين قتلوا المدرسة في فرنسا من خلال اختياراتهم الفكرية، وتطبيقاتها على مستوى الواقع، والذين قابلت " كارول بارجون" بعضهم، كانوا يسعون إلى إقرار المساواة في التعليم، وجودة الحياة المدرسية،ونجاح التلاميذ، وكانوا يعتقدون أن مناهجهم وطرقهم ومحتويات مقرراتهم، والبيداغوجيا التي يدافعون عنها لا يمكنها إلا أن تساهم في تحقيق الإصلاح، إلا أن المثير في هذا الأمر أن بعضهم اليوم يسلمون بدون تردد بأنهم أخطأوا، وأن خطأهم يرجع إلى أنهم قرروا ما قرروه في دائرة مغلقة، وانهم لم ينصتوا إلى وجهات نظر مخالفة، وإلى الذين وجهوا إليهم تحذيرات حول مزاعمهم الإصلاحية، وإلى كونهم تصرفوا تحت تأثير إيديولوجي في مجال كان ينبغي أن يكون محميا من هذا النوع من التأثير.
تشير " كارول بارجون " إلى كل هذا، لتستخلص بأن تاريخ الإصلاح في مجال التربية والتعليم في فرنسا تضمن أخطاء لا ينبغي إعادة ارتكابها، ومن هذه الأخطاء :
-      أولا : خطأ "Alain Boissinot " و "Alain viala " : إذ شكلا معا ثنائيا- خلال فترة تواجد "Claude Allègre" بالوزارة الفرنسية للتربية والتعليم - قلب رأسا على عقب مجموع تدريس اللغة الفرنسية تحت تأثير إعجابهما المشترك بعالم الاجتماع الفرنسي " بيير بورديو"، وقد كان يجمعهما قاسم مشترك ثان غير تدريس اللغة، وهو الوقوف ضد التواطؤ الثقافي للنخب في إطار جمعية مدرسي اللغة الفرنسية (AFEF) التي كانت جمعية مؤثرة في وقتها، والتي تزعمها " بواسينو " سنة 1979، والتي تأسست في الستينيات من القرن الماضي، وكانت تضم آنذاك أساتذة الثانوي والإعدادي.
هذا، مع العلم أن إصلاح تعليم اللغة الفرنسية كان هو موضوع السنة التي أصبح فيها " بواسينو " الكاتب العام للتفاعل بين المواد التعليمية، إذ أبان عن عناده في تفكيك هذا الموضوع تقليدا للفيلسوف "جاك دريدا" ولعالم اللغة "رولان بارت" الأمر الذي أفضى إلى تخريب ما لم يستطع إرجاعه إلى أصله.
ومن فرط التفكيك أدى ذلك " بألان بواسينو " وبألان فيالا " إلى خلط العلامات فكانت النتيجة أن أصبح الأساتذة والتلاميذ وأولياء أمورهم غير قادرين على التفاهم، وقد عمقت اللغة المعتمدة القطيعة بين المدرسة وعالم الأسر كما بين ذلك عالم الاجتماع "Jean Pierre le Goff  " حيث يقول :
" إن اللغة الجديدة التي أصبح يستعملها المدرسون بعد استفادتهم من تداريب بيداغوجية عمقت سوء التفاهم، ولم يعد أولياء أمور التلاميذ والمدرسون يتحدثون نفس اللغة "، والأسوأ من ذلك أنهم استبدلوا اللغة النخبوية بلغة مغرقة في النخبوية حسب رأي الأستاذ الجامعي والعميد السابق "Alain Morvan ".
والجدير بالإشارة هنا، أن " ألان بواسينو " اشتغل في مديرية الإعداديات والثانويات تحت رئاسة "Bayrou"، وكان مديرا للتعليم المدرسي وكذلك تحت رئاسة "Allègre " مدير مكتب "Ferry" سنة 2002، وأيضا رئيسا للمجلس الأعلى للبرامج، ومعجبا بعالم الاجتماع "بييربورديو" .                     أما "ألان فيالا " فقد كان هو كذلك معجبا " ببيير بورديو" ، كما كان مكلفا بتجديد برامج اللغة الفرنسية من طرف "Claude Allégre" المدافع عن تداخل المواد التعليمية في النظام الفرنسي.
-       ثانيا : خطأ "Roland Goigoux "، وهو بطل المنهج الشموليMéthode Globale، والذي تحت تأثيره استمر تطبيقه رغم التوجيهات الوزارية، والتقارير الكارثية حول نتائج ذلك التطبيق.
أكد " رولان غواغو " وأصدقاؤه أنهم في الثمانينيات من القرن الماضي استمروا خلال عشر سنوات يطبقون منهجهم الشمولي دون أخذ بعين الاعتبار شهادات أساتذة الإعدادي، الذين لاحظوا سنوات بعد ذلك أخطاء هذا المنهج.

يؤكد "Cicile Revert"أستاذ اللغة الفرنسية في الإعدادي - وهو اليوم متقاعد منذ مدة قصيرة -إننا عندما نسمع التلاميذ يقرأون بصوت مرتفع، نتعرف على التو على التلاميذ الذي تعلموا بواسطة المنهج الشمولي دون غيرهم.فالأولون لهم قراءة متقطعة ومترددة، وغيرهم يقرأون بكيفية إنسيابية، ولكن لا شيء يمكن فعله مع المفتش " رولان غواغو "؛ فهذه الحجج تغذي في رأيه نقاشا خاطئا.
-      ثالثا : تطرف" François Dubet " الذي وصفه الفيلسوف " مارسيل غوشي " بأنه المفكر العضوي لوزارة التربية والتعليم بفرنسا، فبتأثير منه تم وضع قانون جوسبان سنة 1989 الأساس المشترك الذي عنه صدرت أغلب إصلاحات التربية والتعليم الكبرى في العشرين سنة الأخيرة. فمنذ سنوات الثمانينيات من القرن الماضي كانت أفكار "Dubet" نهائية وغير منفتحة ، فلم يكن يتوقف عند الدفاع عن المؤسسة الإعدادية الوحيدة الموحدة التي ينبغي أن تعلم ثقافة مشتركة، فهو يرفض أن يتلقى بعض التلاميذ ثقافة مشتركة خاصة بهم أكثر من غيرهم،لقد كان يرافع من أجل مدرسة تقدم حدا أدنى من الثقافة، وهو يرفض الاستحقاق، وتكافؤالفرص اللذين لا يؤديان إلا إلى منافسة خالصة لا توقف التفاوتات المدرسية .
لقد كان "Dubet"يدافع دائما عن مساواة التلاميذ في الحصول على النتائج، كما كان يقول بأن تلاميذ اليوم هم في حاجة إلى مقررات متواضعة، لأن المهم ليس هو ما يتوقع من التلاميذ تعلمه فحسب، ولكن الأهم في نظره هو انفتاحهم، حتى يتوقفوا عن الخوف من المدرسة، ولا يهم إن انخفض مستوى التعليم . وفي نفس السياق وقبل سنوات قال"Dubet"متسائلا : " هل يتخيل أولئك الذين يشتكون من انخفاض المستوى بأن المدرسة ستفتح أبوابها للجميع، وتحتفظ في نفس الوقت بمستواها " ؟ ! 
وكان هذا إقرارا منه بانخفاض المستوى التعليمي بالمدرسة الإعدادية بفرنسا، والذي كان يحرص على التأكيد على نفيه. علما أنه كان يتوقع انخفاضا في المستوى التعليمي، وفي اعتقاده أن محتوى البرامج في مرحلة التعليم الإعدادي بفرنسا ينبغي أن يكون متلائما مع ما ينبغي أن يعرفه أضعف تلميذ عندما ينهي تعليمه الإعدادي (1).

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ما كشفت عنه الباحثة " كارول بارجون " من أخطاء، وأسماء من تسببوا في ارتكابها، هو فقط يتعلق بالإصلاح المتعلق باللغة الفرنسية . أما ما شاب الإصلاح ككل من أخطاء فإنها ، أي " كارول بارجون " ، لم تغفل عن ذكر أسماء أخرى تسببت  في ذلك، ومن أبرزها – إلى جانب أعضاء من وزارة التربية والتعليم بفرنسا – قديس البيداغوجيين " فليب ميريو " الذي حظي بمنصب مستشار وزارة التربية والتعليم الفرنسية طيلة خمس وعشرين سنة.
على هذا النهج سارت الباحثة والصحفية الفرنسية "كارول بارجون " في كتابها الصادر بعنوان    "ولكن من هم قتلة المدرسة ؟ " وقد قدمت له بالعبارات الآتية : " عشرون في المائة من الشباب الفرنسي يعرفون بالكاد القراءة . كيف وصلنا إلى هذا الوضع التعليمي في فرنسا ذات النظام الديموقراطي، والتي كانت تغبط على قيمة ونوعية نظامها التعليمي ؟ ومن هم المسؤولون عن هذه الكارثة التي يمكن تسميتها " بجريمة ضد المجتمع " نظرا لفداحة الضرر وخطورته ومضاعفاته التي أقرت بها كل الحكومات اليمينية منها واليسارية المتعاقبة منذ أزيد من عشرين سنة إقرارا جماعيا وبالعجز عن الإصلاح ؟
وتضيف " كارول بارجون " بأنها لمعرفة وتفسير مصدر هذه الكارثة التي حلت بالمدرسة الفرنسية، أرادت أن تعرف واضعي السياسات التربوية التعليمية الفرنسية، التي أدت إلى ذلك،       أي أرادت التعرف عليهم، للوقوف على ما كان في أذهانهم لحظات تصور وتطبيق إصلاح نظام التربية والتعليم الفرنسي بما يعنيه ذلك من تطبيق المحتويات والعمليات التربوية الجديدة، وما تتضمنه من مناهج وقواعد جديدة كذلك، أرادت أن تعرف كيف تسبب أشخاص، يفترض فيهم سلامة العقل، في فظاعات إفلاس مدمر أصاب المدرسة في فرنسا، كما أرادت أن تعرف رأيهم في مبادرات الإصلاح التي أطلقوها، وما يشعرون به، بعد تبين فشلها ، من أسف وحسرة وهم يجدون أنفسهم أمام مفارقة مرعبة ملخصها أن من أرادوا أن تصبح المدرسة أكثر عدلا، هم الذين جعلوا منها، بمبادرات إصلاحهم المفلس، أكثر جورا.
إن ما هو مميز وجديد في كتاب " كارول بارجون " هو فرضيته القائلة بأن مشاريع الإصلاح التي اعتمدت في النهوض بتعليم وتعلم اللغة الفرنسية هي نفسها التي تسببت في تعثر إصلاح المدرسة في فرنسا، وإن ما طبع هذه المشاريع من انغلاق وفردانية، وعدم انصات للأصوات المحذرة والتقارير المنبهة، والاقتراحات المقدمة للتعديل والتصحيح والتجاوز، يمكن أن يكون مصدر أخطاء وعوائق دون تحقيق الإصلاح المنشود.
تقوم " كارول بارجون " بهذا البحث في كتابها المشار إليه، وهي تحرص في مضمونه على التأكيد بأنها لا تقصد إدانة المتسببين في إفلاس ذلك الإصلاح المزعوم، وإنما غرضها كان هو بيان مصادر الأخطاء لتجنب الوقوع فيها مجددا.
هكذا تختلف " كارول بارجون " بما قامت به في بحثها عن دارسين آخرين، بحثوا عن الأخطاء سواء أعلى مستوى تطبيق التصورات أم المناهج أم البرامج الجديدة ، أم على مستوى الوسائل ونوعيتها ومدى توفرها، أم على مستوى المكتسبات المتدنية للتلاميذ، أم على مستوى التكوين البيداغوجي والأكاديمي للفاعلين التربويين أنفسهم ، أم على مستوى الحصص المقررة للتدريس  وغيرها . لقد أرادت " كارول بارجون " التركيز على برامج الإصلاح نفسها التي شمل بحثها النقدي لها مجموع التصورات والمناهج والطرق الجديدة التي تم إعدادها من أجل الإصلاح، فهي لم تبحث عن الخلل على مستوى الأستاذ أو التلميذ أو أولياء التلاميذ، وإنما بحثت عن ذلك على مستوى من هم أكثر اختصاصا، وفي ذلك تعميق للإحساس بالمسؤولية لدى الجميع .
يتعلق الأمر إذن، بنقد شمولي لتجارب تربوية، ورغم أن تعليم اللغة الفرنسية في فرنسا يخطط له من طرف مختصين فرنسيين، فقد كان للباحثة " كارول بارجون " " الجرأة " على الفحص النقدي للطرق المعتمدة في تدريس اللغة الفرنسية نفسها؛ ولم تستبعد هذه الباحثة الجريئة ألا يخطئ خبراء أكاديميون وباحثون جامعيون، ومفتشون عامون للوزارة، ومدراء تعليم، وأعضاء لجن مختصة، في تصوراتهم التربوية، إذ اعتمدت في استحضارها لذلك على التقارير المرفوعة في موضوع الإصلاح، وتحذيرات المهتمين بالشأن التعليمي، كما اعتمدت أيضا على تقارير جمعيات الآباء وأولياء التلاميذ، وعلى نتائج تقويم إنجازات التلاميذ المدرسية ، وعلى مقابلات مباشرة مع المسؤولين عن الإصلاح أنفسهم، بعد أن تكشفت نتائج مقترحاتهم مع مرور الوقت.
إن الباحثة " كارول بارجون " من خلال بحثها النقدي الجريء لإصلاح اللغة الفرنسية، تقدم درسا مهما في تقويم مشاريع إصلاحات التربية والتعليم تقويما لا يستثنى منه خبراء ومنظروا الإصلاح أنفسهم.

La journaliste Carole Barjon dresse un diagnostic effrayant de l’enseignement du français à l’école. En cause le rejet de la méthode syllabique.


    المفيد في مثل هذه الأبحاث كما هو الشأن بالنسبة إلى بحث " كارول بارجون " – حول إصلاح التربية والتعليم في فرنسا، اللغة الفرنسية خاصة – أن مساحات التساؤل تتسع بكيفية مستمرة، وأن الدروس المستخلصة تفيد المهتم بموضوع الإصلاح وغيره، والمفيد كذلك في مثل هذه الأبحاث هو تنوع المعالجة، وجدة الأطروحات خصوصا عندما يتم تناول الموضوع من طرف فيلسوف "ك/ Marcel Gauchet" صاحب وجهة نظر عبر عنها في استجواب أجرته معه مجلةSciences Humaines الفرنسية، إذ يرى من خلالها بأن البيداغوجيا قد تطورت ابتداء من ستينيات القرن الماضي، ولكنها لم تتمكن من تصحيح آثار الحتميات الاجتماعية وهو ما يطرح السؤال  عن النموذج الفرنسي للتربية والتعليم ، وفي نظر الفيلسوف " مارسيل غوشي " أن هذا النموذج موجود، وهو نموذج المدرسة الجمهورية، وهي المدرسة التي يفترض فيها العمل على تحقيق قيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية، ومنها احترام الحريات وقبول الاختلاف، وغير ذلك مما تنص عليه مواثيق وحقوق الانسان والمواطن . وبتعبير آخر، فإن مشروع المدرسة الفرنسية يفترض  فيه تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق المدرسة، وذلك بخلق سياق يتميز بتكافؤ الفرص بين المتعلمين بغض النظر عن أصولهم الأسرية والاجتماعية. يتعلق الأمر نظريا بالنسبة إلى الفيلسوف " مارسيل غوشي " بطموح يميز المدرسة، ويستهدف إبطال المفعول السلبي للإرث الأسري والاجتماعي عن طريق الفعل التربوي داخل المدرسة . وهذا النموذج يسعى في نفس الوقت إلى إبراز نخبة من التلاميذ على أساس مبدإ الاستحقاق . وهذه النخبة ينتظر منها ان تشتغل داخل مستويات النظام الاجتماعي بغض النظر عن الأصول الاجتماعية لأفراد هذه النخبة الاجتماعية، وهو ما يسمى " بالميريتوقراطية " " Meritocratie "، أي " الحكم بالاستحقاق "،وهي إحدى نتائج هذا النظام، الأمر الذي يفسر الحديث عن النزعة الانتقائية الجمهورية أو النخبوية الجمهورية.

    يتعلق الأمر بنموذج لمدرسة فرنسية يستهدف العدالة الاجتماعية، ويجعل الاستحقاق أساس التميز والحكم. وبهذا يقرر الفيلسوف " مارسيل غوشي" أن النتائج المتحققة للمدرسة الفرنسية أبانت أن الإرث الأسري والاجتماعي يظل له تأثيره الكبير، وأن هناك فرقا بين مبادئ النموذج الجمهوي الفرنسي كمشروع نظري وبين التطلعات الاجتماعية الفعلية للفرنسيين، والتي يتم فيها تعبئة كل الفروق الأسرية والاجتماعية لتحقيق التمييز داخل المدرسة والمجتمع، وهو ما انعكس على مفعول الطرق التربوية المعتمدة نفسها في نظر الفيلسوف " مارسيل غوشي" . ففي تأليف مشترك لكتابه عن " نقل المعارف والتعلم " الصادر سنة 2014 يقيم مقارنة بين النقل المرتكز على المعارف المقدمة من طرف المدرسين، وبين نموذج المعرفة الذي تبلور ونما ابتداء من السبعينيات من القرن الماضي والمؤسس على أنشطة الطفل، وهو بذلك يرى أن الانتقال من نموذج نقل المعارف إلى نموذج التعلم قد تحقق بكيفية سيئة.
    MARCEL GAUCHET



    وفي نفس هذا السياق يرى الفيلسوف "مارسيل غوشي" أن النموذج التربوي الفرنسي يقوم على مسلمة ساذجة مفادها أن إعطاء حرية أكبر للتلاميذ في القسم، يعادله تحقيق فعالية أكبر، وهو يلاحظ أن التلاميذ إذا كانوا نشطين داخل القسم، فهذا لا يعني في نظره أنهم يتوفرون على قدرات معرفية غاية في التطور، فبالرغم من كل المناهج التي اعتمدت من أجل جعل التلاميذ أكثر نشاطا، فإن أغلبيتهم تظل سلبية، أي منفعلة بدل أن تصبح فاعلة ، فقد تبين أن التلاميذ الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية ميسورة يكون تأثير تلك المناهج جيدا عليهم، بينما يكون أقل جودة مع التلاميذ الذين ينحدرون من طبقات اجتماعية معوزة، والذين يجدون صعوبة في التجاوب مع تلك المناهج، ويستخلص من ذلك الفيلسوف " مارسيل غوشي " أن النموذج الفرداني الأناني  لا يسمح بتصحيح الآثار السلبية للأسرة والمجتمع.
    يقرر الفيلسوف " مارسيل غوشي " أن المتعلم كان منفعلا غير نشيط، وغير فاعل داخل القسم    في أنظمة تربوية سابقة، إلا أنه يلاحظ أن التأطير المضبوط لاستعمال الزمن المدرسي كان العمود الفقري للنظام التعليمي ، وأن تحديد حصة لكل مادة تعليمية لم تكن معه سلبية المتعلمين ملحوظة.
    وفضلا عن هذا، يرى " مارسيل غوشي " أنه عندما يتم التركيز على القدرات الفردية للتلاميذ، فإن الفرق بين التلاميذ المحفزين والتلاميذ الأقل تحفيزا يظهر للعيان بكيفية مكشوفة أو مثيرة،  وفي هذه الحالة يكون المدرسون مضطرين – من أجل إدماج المتخلفين من التلاميذ –              إلى اعتماد بيداغوجيا أكثر تقليدية وتوجيهية وناقلة للمعارف، وهي بيداغوجيا لم تنجح إلا بكيفية جزئية، وذلك لتجاهلها للكيفيات التي بها يتعلم التلاميذ، ولعدم حرصها على مساهمة التلاميذ في بنائها واكتشافها.
    ويرى الفيلسوف " مارسيل غوشي " إضافة إلى ذلك أنه ليس صحيحا أن كل واحد يستطيع وحده أن يبني معارفه، وأننا عندما نركز على نشاط التلاميذ وحده فإننا نفرق بينهم أكثر مما لو أننا وضعناهم على نفس المستوى، وذلك بالحرص على تمكينهم من مكتسبات متشابهة.
    يخلص الفيلسوف " مارسيل غوشي " مما تقدم إلى أننا لم نحقق بعد على مستوى الواقع مشروع المدرسة الجمهورية، ولكننا مستمرون في البحث عن السبل المؤدية إلى تحقيق مبادئ هذا المشروع، وهي مبادئ نعتمدها في تقويمنا لتجاربنا المختلفة، وفي بنائنا لتصورات بيداغوجية مختلفة.
    وكل رهاننا هو أن نجد توازنا بين بيداغوجيا تعبئ الأطفال داخل إطار لنقل مضبوط بكيفية جيدة للمعارف؛ فكلما كان التلاميذ غير مؤطرين أسريا واجتماعيا وغير مهيئين للتعلم ، وجدوا أنفسهم في صعوبات أمام المتطلبات المدرسية.
    وإن الخطأ البيداغوجي الأكبر هو القول بأن الأمر سهل، فقد نسي الراشدون بكيفية تامة ما عانوه خلال تعلمهم للقراءة والحساب (2).
    إن ما يمكن استخلاصه من مقاربة كل من الباحثة والصحفية " كارول بارجون " والأكاديمي الفيلسوف " مارسيل غوشي " لموضوع إصلاح التربية والتعليم في فرنسا يتحدد كالآتي :
    -      أولا : إن مساحة التساؤل حول عوامل إخفاق المدرسة الجمهورية الفرنسية شاسعة : فمن مشاريع الإصلاح إلى غاية التأثير السلبي للأسرة والمجتمع ، وحدود المناهج والطرق التربوية المختلفة، وأنه لا شيء من كل هذه المستويات يستثني في عمليات التشخيص والتقييم والتصحيح.
    -      ثانيا : إن كل مشروع لا يتم فيه الإنصات للتصورات المخالفة والمختلفة أو قراءتها ، مرشح للوقوع في كثير من الأخطاء المقترنة عادة بالتصور الأحادي للموضوع.
    -      ثالثا : إن تعبئة القوى التربوية المختلفة، والفاعلة في الحقل التربوي، رهين بإشراكها على مستوى البناء والتقييم والتصحيح، أو على الأقل التعريف والإقناع أولا، والإشراك على مستوى التقويم والتتبع ثانيا.
    -      رابعا: التمييز بين الأمر الواقع وبين الأمر الواجب، فالأثر السلبي للامتيازات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية أمر واقع، ووجوب سعي المدرسة إلى إبطال مفعول الآثار السلبية للأسرة والمجتمع أمر واجب وجوب سعي كل مؤسسة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
    -      خامسا : إن المساهمة في التعريف بوجهة نظر كل من الباحثة " كارول بارجون " والفيلسوف " مارسيل غوشي " لا يمكن أن تدعي لنفسها القدرة على الكشف عن خلل مشاريع إصلاح التربية والتعليم المتلاحقة في المغرب – إذا صحت تسميتها بذلك – فتلك غاية لا يمكن الوصول إليها عبر عمل فردي، فحسبنا أن نساهم في بناء تصور منهجي لمقاربة الموضوع نستحضر فيه مشاريع الإصلاحات نفسها، ونعتمد فيه مبادئ وأهداف المدرسة المغربية على مستوى البناء والتقويم، ونستحضر فيه الآخر المختلف تجاوزا للتصورات الأحادية للموضوع، وهو ما يقتضي إعادة النظر في أدوار واختصاصات الفاعلين التربويين بكيفيات أكثر إيجابية.

    الهوامش :
    (1)               Revue « Le point » - N° 2297 – 15/09/2016, France . PP : 54,55.
    (2)     Revue « Sciences Humaines » N° 263, Octobre 2014, France . PP : 34,35.








    شاركها على حسابك في :

    مدرس مادة الفلسفة مُتقاعد .

    مواضيع ذات الصلة: